استخدام وسائل التّواصل الاجتماعي غدا وسواسًا قَهْريّاً قاد إلى غياب الاهتمام بالذّات
ريتا فرج
علي زيعور: الفلسفة الغربية تُعاند الدين لكنّها غالباً ما تعود لتذوب في اللاهوتي المعلمَن
يطرح، علي زيعور، أستاذ التحليل النفسي والفلسفات النفسية، في هذا الحوار قضايا فلسفية شائكة في الفلسفتين العربية/ الإسلامية والغربية، محاولاً تحديد المبادئ العامة التي يجب أن يسير نحوها الفيلسوف “طالب الحكمة”، ومحدداً موقع الفلسفة من زاوية انفتاحها على العالم بكل تعقيداته وهمومه وآفاقه.
يرى صاحب “التحليل النفسي للذات العربية” أن الفلسفة الغربية اليوم لديها معاناتها، لا سيما مع الدين، الذي تعانده ولكنها تتدرج نحو “اللاهوت العلماني” (Secular theology) عند نهاية الشوط. يذكرنا كلامه هذا بالتنظيرات التي أرساها عدد من فلاسفة “ما بعد العلمانية”، الذين باتوا على يقين بأهمية إيلاء الأديان مساحة أرحب في تنظيراتهم، بعدما ظنوا أن الله في الغرب خرج من التاريخ إلى غير رجعة؛ غير أن التحولات في أنماط المنظومات الإيمانية وحضور المتدينين في الفضاء العام، والحديث عمّا يطلق عليه “الأديان البديلة”، يحتم تعميق الفهم الفلسفي حول هذه الظواهر الجديدة.
يعتبر “المعلم” زيعور أن توجه الحضارة الغربية بقفزات كبيرة نحو التكنولوجيا أفقدها “روحها” وأن الفلسفة ستكون السبيل وطريق الخلاص الذي سيواجه “الرَّقمانية”، ملاحظاً من جهة أخرى أن سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي على الأفراد ويومياتهم أدت إلى اضعاف الروابط الاجتماعية وبرود المشاعر الإنسانية وإلى ولادة ما يطلق عليه “الإنسان التكنولوجي” “بخصائصه الجبّارة الاستكبارية والمغطرِسة حيال ما آل إليه موقعه الجبَروتي في الوجود والمعرفة والتكنولوجيا”.
في ما يأتي تفاصيل الحوار:
- من هو الفيلسوف، طالب الحكمة؟
_ الفيلسوف هو في المأنوس المألوف، المُحِبّ للحكمة؛ وقد يَصْلح أن نقول إنّه صديق الحكمة. وفي الفكر العربي الإسلامي، إنّ الفيلسوف طالبٌ للحكمة؛ إنّه يسعى لتحصيلها، وتحقيقها في نفسه؛ وهو يَبْذل الوُسْع بحثاً عنها “وجرياً وراءها”. لكأنَّ هذا المعنى للفلسفة، أي من حيث هي طلبٌ للفلسفة وتعلّمٌ لها واستذوائتها، شأن مَنْسي أو مطمور، متضمَّن أو مستتِر، محمولٌ أو هاجع…
تتّفق المواقف والأحكام، عند الأمم المُعجَبة بتاريخِها، حول ضرورة العناية بالفلسفة، وبخاصةٍ من حيث هي حبُّ الحكمة أو صداقتها؛ أو إيثارها ونشدانها، عند العربي بأجنحته ومواقعيّته داخل الدار العالمية للفكر النفساني الاجتماعي والفلسفيّ؛ ولشتّى أنواع التصوّف… وتتّفق، أيضاً، هذه الأمم، أو الثقافات “المغرومةِ” بالفلسفة، على اعتبار الفيلسوف إنساناً يلتزم الفكر الإنسانوي والحداثاني، أو الأنسنة كما الكينوني، والعقل الكونيَّ؛ وما هو خاصٌّ بالبشريِّ والبرِيَّة، أو مستقبلانيّةٌ (فلسفة المستقبل) ومستقبليات (علوم المستقبل).
يُعتبر الفيلسوف، مبدئياً، إنساناً يلتزم، أيضاً، بكشف الفساد والضلال، ونقد المعهود والنقلي، والاستبداد كما الظلم وتوعّك العدالة الاجتماعية، أو تغييبِ الحرية والتعتيم على كافة المدَنيّات… الغربيّون، في نظريّاتهم “الفلسفية” الأخيرة، قتلوا الحداثة والفلسفة. لم يكفِهم قتلُ مبادئها ثم قِيمها؛ فهم قتلوا أيضًا الحرية والتقدم، القانونَ والتشريع، السياسةَ والسببية والعِلم… وقالوا بموت العقل والمجتمع والعقلانية؛ كما قالوا بموت الإنسان ومعناه، والما يجب أن يكون ويمكن له أن يكون. وفي جميع الأحوالِ، يُسقَط على الفيلسوف رغبات البشرية بتصحيح الطريق المؤدي إلى السَّلاموية والسَّلْماوية، وإلى الخير والعمل الفاضل، وإلى الما يَنْبغي والما يَجب، وإلى قيم التكافل البشري والتضامن والتضافر كما التراحم.
أخيراً، إنّ الفيلسوف بطلُ الإلتزام العام بقضايا الإنسان والمجتمع كما الوطن والفكر. هنا تتلاقى وتتقاطع النظريتان، العربية والغربية، عند القمّة أو حيث القانون القاضي بأنّ الفلسفةَ مَهَمّةٌ أو رسالة، نداءُ الحكمة المسكونيةِ العالمينيةِ، والحضارةِ البشرية المتكافلةِ المتضامنة؛ وبأنّ الفيلسوف ملتزِم بالما يجب أن يكون، أو بالواجب والفضيلة الخُلُقيةِ والكينونةِ البشرية. في ذلك الشأن، تَطرح الفلسفةُ العربية مقولاتٍ إنقاذية من نحو السِّلماوية والسَّلامَوية في الوجود والمستقبل والبَريّة؛ كما تطرح الفلسفة الغربية نظرياتها وممارساتها المزخِّمة للعولمة، والرأسمالية الضّارية والالتهامية، والنُّظم السياسية، كما الدينية، المتحكّمة المتجبِّرة أو الحَرْفانية وغير الإنسانويّة… والذي يعادي أو يُسفِّل موقعها وطِباقاتها، بل حتى الذي يلغي الفلسفة، هو فيلسوفٌ ملتزم بالمجتمع والفكر، وبالدفاع والحِفاظ على الحقوق المدَنيةِ واللُقْموية، وعلى قيم الإنسانيةِ جمعاء.
- الفلسفة ضرورة حضارية، ما هي وظائفها وضروراتها؟
_ يُدرَك فوراً وللتّوِّ المحمودات كالمرذولات الفلسفية ذات وقعٍ؛ وسويّة. في الصفحة عينها، وحتى في المقطع الواحد، يصلُح وينفع مديحُ الفلسفة مع رفضٍ لاعتبارها رطانة وبلا معنى من جهة، ثم تبخيسٌ لها وامتناعٌ عن اعتبارها ضرورةً حضارية، أو ذات وظائف وتأثيراتٍ فاقعة في المجتمع والفكر، وفي المعرفة والسلوك، وتفسيرِ الحياة والوعي أو الفنِّ والقيمة، والمعنى والخير، والتعميرِ والتثميرِ.
ليس هذا تناقضاً؛ حتى وإنْ بدا أنّه خطاب محتواه هو الناقض والمنقوض، المقبولُ والمرذول، السّويّ وغير السّويّ. ذاك أنّ الفلسفة “شخصية” أو تجربةٌ اعتبارية؛ وهي إدراكٌ عامّ كُلّيٌّ لما في الأعيان وما في الأذهان، وفكرٌ تزامنيّ وتعاقبي، أو فكرٌ عقلاني كوني. الفلسفة، في دارها العربية، غنية ومدلَّلة؛ وهي راسخة مترسِّخة، منيعةٌ ومحترمةُ الموقعِ عاليةُ المكانة. إنّها ذات كيانٍ معنويّ مفَخَّم باسق، وقيمة مستقلة، مكرَّسة الموضوعات ومرِنة التخوم. وهي تعدّدية ومتنوّعة، أصيلةٌ ومصقولة وصيروريّة، ضراميةٌ وذات أسسٍ ومبادئ تطورية.
تَتَّسِم الفلسفة بأنّها منفتحة على الفكر في العالم قاطبةً، وخصوصاً على الشريك التقليدي “المعهود”، أي البُعد الذي يَمثُل في الدار الأوروبية للفلسفة التي لا تنفصل أو لا تَنْسى جذورها اليونانيةَ – العربية – اللاتِينية أو مِنصّةَ انطلاقها الشّرْكيّة – الإسلاميّة – المسيحيّة، ثمّ انفتاحها على الهندية – البَيْرونيّة. لا تكون الفلسفة قوميّة؛ ولا تَتَقوْمن. فما للفلسفة من معنىً إنْ لم تكن هي السعي لتحصيل الحكمة الصوفوية نسبةً إلى صوفة الجاهلي؛ أو الحكمة الصوفانيّةِ، نسبةً إلى الصوفا بالمعنى السَّاميِّ (=الأعرابيِّ) العام حيث المشاعية إنْ للنفس وإنْ للدولة والسياسة والسلطة. فالفلسفة ما كانت لِتُقْبَل وتنغرس بيسرٍ وسرعةٍ لو لم تكن هناك أفكارٌ “فلسفية” عربية ممهِّدة، وحكمةٌ مسبقة في الحياة والبشر أو البقاء والتضحية والمعتقدات حتى فيما قبل الرسالة – البعثة المحمّدية.
- ما هو التقسيم المعتمد عندكم في الفلسفة خصوصاً أنكم تميزون بين العقل النظري والعقل العملي داخلها؟
_ قسّمنا، مبدئيّاً أو بوجه عام، الفلسفةَ إلى عقلٍ نظري وعقلٍ عملي؛ منطلِقين أو متغاذين متفاعلين مع الحال في الفلسفة اليونانية العربية اللاتينية، أو الشِّرْكية المسيحية الإسلامية. تلك القراءة هي التي عند ابن سينا، على سبيل الشاهد، وزّعتْ الحكمة (= الفلسفة، العقل) إلى نظرانية محضة، وإلى حكمةٍ أو فلسفة في الفعل والمعيار، في العمل والممارَس كما المعيوشِ والمطبَّق، والسائدِ الشائع في المجتمع والفكر والتواصلية، وشتى مستويات المعيشة في الفرد والعائلة كما في المدُن(= الدساتير، السياسيات) المتنوعة، وفي مدينة الاجتماع البشريِّ العام.
ليس ذلك التقسيم للحكمة، عند طالبيها أو الساعين لتزمينها وتحيينها، سوى أواليةٍ هدفها تسهيلُ النظر وتعجيل الظَّفَر؛ فهي ليست إنْيَةً أو أنْية، أو جوهراً خالداً ثابتاً، أو حقيقةً يقينيّة سَرْمدِية… الأهَم أو المُرام، بات، إذَن، القبولُ بمبدإ إمكان وصلاح الأخذِ، راهناً وظرفياً بالعقلَيْن النظري والعملي داخل متكافئةٍ متفاعلةٍ أو متناذرةٍ ومتلاصقةٍ. هنا نصل إلى الاستنتاج، أو الاستخلاص، لمبدأ إمكانِ بل منفعةِ وضرورةِ متابعة أو إعادةِ اعتماد التقسيم المذكور، غير القَطْعي وغير النهائي أو غير الجازم الحاسم، من أجل الدراسة الراهنة تأرخةً وتحليلاً ومن ثم فهماً وتفسيراً وتأويلاً، لقضايا المدرسة العربية الراهنة في الفلسفة، ولإشكالياتها، ولأسئلتها ومفاهيمها المستجِدّة والراهِنَوية (=المُعادة الرَّهْونةِ، والأشكلةِ، والتسميةِ والمَعْنية). فعلى سبيل العيِّنة، تمركزت المدرسةُ العربية على النظر وإعادة الإدراك في حَقْلَيْن متداعِمَيْن متداخلَيْن متميّزَيْن خصوصاً في المحتوى؛ وهما: أ/ العقل النظري المحض أو الصِّرف؛ الفلسفة الأولى أو الماورائيات (= الميتافيزيقا)؛ ب/ العقل العملي وهو الحاوي والضّامُّ المشتمل على: الأخلاق، القيم، فلسفة الفعل، الاقتصاد، الثقافة – الحضارة، السياسة، التربية، التنمويات للفرد والمجتمع، للفكر واللغة، التبادلية، التداولية، فلسفة المنفعة، النظرية في المصلحة، النظريات المادية في التاريخ والطبيعة البشرية والتطور…
تميّز العقل العملي، عموماً أو في قطاعه التربوي، كشاهد، بأّنَّه ينقل الواقع وما يجري في الواقعِ؛ وهو قياسي وتشبيهي، تكراري ومِنبري، وعظي وتبشيري. وهو ينطلق من ثقةٍ بأنّ الإنتاج المعرفي يكون نتيجة اعتمادٍ لما يقوله القرآن والسنّة أو الحديث؛ ثم لِما يقول الفقيه والمفسِّر للدين، والممارِس أو المتعيِّن المُعاني. سوف نرى، إذن، أنّ التربويات ممثّلٌ بارز للعقل العملي؛ وهنا نقول ليس أبرز من ابن خلدون، ومن ثم ابن الأزرق، بين التربويين والمؤرِّخين، مَن عمِل على تحليل الوقائع والمناهج التربوية في عصره.
وهو قد عالج أساليب التدريس؛ وقارنَ بينها؛ وانتقد بوضوحٍ فالحٍ نافع “آداب التعلّم والتعليم”، وأدب العلم وشرفه وتاريخه؛ وأسّس علم التعليم وتربية الأطفال.
- هل ترون أن ثمة منطلقات مشتركة بين الفلسفتين العربية والغربية؟
_ تنهضُ الفلسفةُ العربية والغربية من انطلاقٍ مشترك على صداقةٍ وتشاركٍ بين قطبَيّ القيمةِ الواحدة… كلُّ الحقّ والسداد كلُّه، في القول إنّه لا دقةَ أو حقيقة في أن تَدْرس الفلسفةُ الغربية حقولها وأخاديدها معزولةً منفصلة عن منطلقاتها الشِّرْكية – الإسلامية – المسيحية. فاستكفاء الفكر الغَرْبي بنفسه، وإبعاد ذاته عن البُعد العربي الإسلامي، نقصٌ أو شأنٌ عطوبٌ غير معافَى ولا يعافي القراءة الكُلّيانيةَ الأنجح والأنفع.
إنّه لصائبٌ سديد أن نقرأ الفلسفَتَيْن العربية والغربية، في هذا الأوان وداخل هذا العالم القائم، مُدركتَيْن في وحدةٍ وكلّ، وتلاقٍ تضافري وتعاونٍ تكاملي للموضوعات الفلسفية الراهنة، أو لعقل البشرية الكوني والمسكوني، وللسياسة العالمية والأنظمة العالمية النافذة. ليس تاريخيّاً أو فلسفياً أن تقول الفلسفةُ الغربية إنها غير معنية بالفلسفة العربية المعاصرة، ثم الراهنة، بذريعة الاكتفاء بالذاتي عند الغربي ومن ثم بنفوره من أن يكون له العَرَبيُّ شريكًا أو شبيهًا، منافسًا قديمًا، أو مستقبلياً وفي القادم من تاريخ الفكر.
- ما هي استراتيجيا الفلسفة الغربية أو خطابها في المعنى والوجود وأين تنفصل عن الفلسفة العربية؟
_ تبدو الفلسفة الغَرْبية أجموعةَ مقولاتِ نظريةٍ عقلانيةٍ، وتنظيريةٍ متماسكة ومتساوقة، متوازنةٍ يتفاعل داخلها الخاصُّ مع العامّ، والمحلّيِ التراثي والواقعي مع الكوني كما المسكوني والعالمينيّ. وتلك نظرية، نسقٌ أو نظام أو كلٌّ يحرِّك ويتحرَّك بحق الاختلاف؛ يكن بغير إسرافٍ، أو رحيلٍ إلى العَدَمانية؛ أي إلى رفض كلِّ نظرٍ في التعاون والتكافل،التآلفِ والتعاطف،الانضمامِ والتواحد…
وهذا، بغير الذهاب، أيضاً، لِتبنّي الأنظمةِ الشموليةِ النزعة أو الاستبداديةِ السيطرية؛ أو لِتبنّي الفردانية المسرفة المنفلِتة، والذاتانيةِ المستغرِقة في الانقفال على الذات أو المستكفية، ومن ثم المبعِدة والبعيدةِ عن العلائقية الإيجابية الإسهامية مع الآخر، أو مع الغير ضمن حقلٍ هو تعاوني وتراحمي، مَحبَّاوي ورحْمَوي، رحماني وغير مستكسِبٍأ ومستنفِع يسعى إلى تحقيق مصالحه ومنافعه، وإشباعِ رغباته المرتجاة، وتحقيقِ دوافعه الحضارية…
الفلسفة الغربية، فلسفة أوروبا الغربيّة، أضحت تُعاند الدين وتبتعِد عن الإيمان عند الابتداء؛ لكنّها غالباً ما تعود لتذوب في اللاهوتي المعلمَن عند نهاية الشوط، عند القمة أو النقطة ياء. إنّ كانط، بما هو حالة ممثِّلة، ينتهي مفكراً لاهوتيَّ المقصَد والمنهجية، والوعيِ كما الرؤيةِ والتأويلية… ذاك ما نقوله أيضاً، بحقٍّ وحقيق، في شأنية النظام أو النسق الفلسفي عند هيغل؛ فهذا قد سُمِّيَ الفيلسوف اللاهوتي أو اللاهوتي الفلسفي؛ ومقولاته المخصوصة، الخاصة به، تَستمدّ وَتمْتح من الأعراف والمعتقدات والظواهر النفسية والاجتماعية العائدة إلى بيئته وشروط مجتمعه وتاريخه، كما ثقافته ولغته وأُمَّته.
العِلْم مختلف عن الاعتقاد، والمدرسة العربية الراهنَة تعتقد، ولا تَظُنّ، أنّ الفلسفة الغربية، الممثَّلةَ بأوروبا الحضارية كما مَرّ، متمَحورةٌ بقسريّةٍ، وشِبه انتحاءٍ بيولوجي أو طبيعي، حول بعض مقولاتٍ “سحريةٍ” أو مقَدْسَنةٍ ومباركة، لاهوتيةٍ أو ماورائية… تلك هي مقولة الإنسان المتفوّق، والرغبةُ بالسيطرة، وإرادةُ القوة والتغلّب، وهوسُ الانتصار والفوز والمنافسة أو النجاح واكتسابِ الأشياء أو تحصيل المال، والتعبّد للمنفعة واللُّهاث وراء المصلحة وما هو رمزي وجاه وهالةٌ مُضيئةٌ وهّاجةٌ، ومبادَرَةٌ أو مُبادأةٌ نفسية اجتماعية، جمعية وفردية…
ترتبط هذه الأفكار، الحقولُ أو الموضوعات العائدةُ إلى الفلسفات والنظريات الأوروبية، بأفكارٍ غدتْ فيما بعد كثيرةَ السلبية، وقاتلةً للروحاني والقيم والمكانةِ المتميّزة للإنسانويِّ والأخلاق، ولما هو روحانيات وكينوني، أو خاصٌّ بالإنسان ومعناه ومصيره. في عبارة أخرى، لقد غدتْ أزمةُ الفكر النفساني الفلسفي، كما الفلسفي النفساني، تُدْرَك عبر مقولة “موت الإله” أو القيم، والفضيلةِ كما العقل، والدولةِ كما الهويةِ والحقيقة… وعلى ذلك، فقد “ملأ” العدم أو اللَّيسُ ما هو غير العدم أو غير اللَّيْس… فقد ثَقُل وسَطَع الفراغُ واللاشيءُ واللاحقيقة، واللامعنى واللاثبات، وزوال كل القيم والعجز عن إثبات قيمةٍ بديلة، أو قيمٍ جديدة وذات وظائف تغييرية.
يُدرَك التشخيصُ والتحليل، كما التطوير والإنتاج المُحاكِم والمتأوِّلُ، في حقول اللسان واللغة والمنطق اللغوي، داخل الفلسفة “الغربية”؛ أو الأوروبيةِ الشماليةِ بحسب ما يرغب بعض المفكّرين الأبطالِ في ألمانيا (نيتشه، هايْدِغِر؛ كخزعةٍ أو شاهد)، إِدراكاً هو، بحسب علم الحال أي في هذا الزمان الحاضر وهذا الوقت أو العصرِ أو الأوان، متعددٌ ومتنوِّع، موزَّعٌ إلى حقولٍ وموضوعات وعلوم كثيرةٍ ومختلفة، نافعةٍ ومفيدة بالرغم من كونها آخذةً بالتفتّت والتشتّت، والالتحاق بعلومٍ نفسيةٍ وتاريخية، اجتماعيةٍ وفكرية ومنطقٍ فلسفي متعدّد القيم. في هذا الحال، لم يَعُد صعباً أو خارج الموضوع قولٌ منصِف يؤكِّد ويدعّم فهماً للفلسفة الغربية يراها، كالحال في الفكر العَرَبي، كثيرةً ومتعدّدة، مختلفةً ومتنوّعةً ضمن إطارٍ عام هو، فِعلاً، ضرامي وعقلاني، منفتح ومرِن، ثَريٌّ ومُربحٌ.
لقد قدّمت الفلسفة، بما هي طلب للحكمة، ولمعرفة النفس البشرية ومن ثم للعقل المتخيّل، نورًا تاريخياً وفكراً متطوراً، وعقلانيةً كونيةً وكينونيةً هدت الإنسان والتاريخ إلى معرفةٍ كانت ترقى وتعظُم، أو إلى حقائق وغايات أو مقاصد رفيعة وإستراتيجية، أخلاقيةٍ وقيمية.
هنا يتبدّى كم كان عميقاً وواسعاً تأثير علوم النفس وعلم النفس الاجتماعي العيادي، وما إلى ذلك، من تنقيب وكشفٍ للخفايا والرغبات عند الإنسان؛ أو لما هو غوري ومطمور، مَنْسي وغير واعٍ، ظِلّي وذو دوافع حضارية، وحاجاتٍ عقلية وثقافية وإنجازات.
والفلسفة الغربية قدّمتْ في صوغٍ إحصافي، أي ثانٍ وجُهديّ، نظريةً حديثةَ الروحية والقوام، والغايةِ كما النِّيَّة في تأويل الحقيقة والعقلِ واللغة، والمعرفة والثورةِ العلمية والعلمِ – من جهة؛ وفي تأويل الإيمان والوجدان، والمتخيَّلِ كما الحدس، والخير كما الفضائل والقيم – من جهةٍ أخرى. بيد أنّ هذا الصوغ الإحصافي، لِقطبَيْ المتكافئة المتناذِرة، لم يُخفِ أو يقنِّع تغليبه للعقل والحقيقة، وللعلم والمعرفة التقنية؛ ولم يَحجُب أيضاً تهميشه وإبعاده أو حتى تخفيف قيمة ما هو لاهوت وروحانيات، ماهياتٌ وثوابت، جوهريٌّ وأَيْسات؛ وكذلك ما هو ماضٍ وتاريخ، تراثٌ ومعهود ونقلي، تقليديُّ النزعةِ والرؤيةِ والقوام، عاطفيٌّ وشاعري، نفساني وذاتاني، تَعَبّدي وتَدَيّني وحدسي، غيبي وأُخْروي أو نُشوري… في جُملةٍ مكثَّفةٍ، لقد حققت الفلسفة الغربية، الفلسفة المدلَّلة المتمأزِقة في “أوروبا الحضارية”، مشروعاً طويلاً عريضاً أو واسعاً وعميقاً شاء وزمَّن إحلال الحق الطبيعي مكان الحق اللاهوتي؛ وكذا الحالُ أيضًا في صدد الخير الطبيعي، والجمال الطبيعي…؛ لقد أراد مشروعهُم أن يكون ما هو طبيعي أساساً وغاية، مقصَداً ونِيّةً فعلاً وواقعاً؛ وبلا مكانٍ لما هو لاهوتي أو مُلهْوَت… وكذا أيضاً هو القولُ في صدد العقل؛ لقد أُريد له أن يكون وحده، ودون غيره، المحوَر والمركز، القلبَ والهدف، كما الغرضَ والمنهج بل المجال للأنا للشأن أو الحيّزِ والحقل العامّ.
وهكذا كان. لقد نُصِّب العقلُ مصدر الفكر والحقيقة، والقيمةِ كما التشريع، والحاكمِ السياسي والهوية؛ واعتبِر أداة التطوير ومعيارَ الفضيلة والتفاضل… لقد جُعِل العقل، في الفلسفة أو الأمم المتغطرسةِ، حَكَماً في الأخلاق، وضوابط أو مِحكّاتٍ في الحرية والتحرر، والنقدِ والتقييم، والتفسيرِ كما الفهم؛ ومن ثم في التأويل وتواصلِ التأويل، والتحليلِ والقراءة، والمحاكَمةِ النقدانية لِما هو روحانياتٌ ومثاليات، متعالياتٌ ويقينيات، مصادراتٌ ومسلَّمات، ثوابت خالدةٌ وجواهر وما ورائياتٌ وزمانيات.
- أشرتم إلى انعكاسات الفلسفة الأوروبية في الوعي العربي وحللتم تجلياتها التاريخية والمعاصرة وتطورها باتجاه مركزية العقل. ماذا عن البُعد الغربي الأوروبي وتمثلاته في الذات العربية؟
– البُعد الغَرْبي، الأوروبي، في الوعي والسلوك عند العربي المعاصر، أو عند العالَمْثالثي (إذا جاز الحِفاظُ على هذه المفردة التقنية) ملحوظٌ وكوّان؛ أي هو مؤثِّر، أسهم في نقل الحضارات المحلية المتهاوية والمتعثِّرة، من حالِ الفقر والجوعِ، والمرضِ والجهل والعتمة، إلى حالٍ تَحيَّن وتزمَّن فيها نجاحٌ ما في التنمويات والتربويات؛ وفي التعلّم وإعادة التعلّم الحضاري؛ وفي الإدراك والمعرفة وإعادةِ الإدراكِ والمعرفة، كما التعضيةِ والضبطِ والأشكلة، والتنظيمِ كما التسمية والمَعْنوَة (= المعْنَية)؛ وفي الاقتصاد والسياسة والتفكيرِ، كما في التفسيرِ والتأويل…
تَطوّرَ، ونجح، البُعد الأوروبي في الذات العربية، وفي الأمم العديدة التي كانت تُدعَى بالأمم السائرة في طريق النمو والإصلاح. فقد كان الغرب سبَّاقًا إلى تطبيق أو توظيف “الرشدية اللاتينية”؛ وفي نزع اللهوتة، ورفضِ الأسطرة؛ ورفضِ الخضوع السياسي للأنظمة الحاكمة المستبدّة؛ وفي النقدانية الحضارية الاستيعابية والتخطَّوية.
وفي الواقع، البُعد الغربي في الحضارة البشرية مميَّز. الغرب سبّاق في الفصل بين الدين والدولة؛ وفي تطوير الفكر والمناهج، المكان والبيئة والزمان؛ وفي وَصْم وإلغاء العِرقانية والعنصرانية معاً، والتوسيعِ التعميقي للمدَنيات والعلمِ؛ وفي محاكمة ونقدِ المسلَّمات والمصادرات كما اليقينيات، وكشفِ المحجوب والمكبوت، الظّلّي واللاواعي؛ وفي التدبّر والتحليل أو التقويض لما هو استبداد وهيمنة، سيطريٌّ وغير عادلٍ، شاقوليٌّ وغير تضامني أو غير تعاطفي غير مَحبّاوي وإنسانوي، عالمينيّ ومسكوني، تراحُمي ولُطفاوي ومن ثم تعاطفيّ وتكافلي، تغايُريّ واستيعابي إسهامي وإيجابي، من هنا يتفسَّر كم كنّا محتاجين إلى نقد بُعدنا الخاصِّ في اليقينيات والمسلَّمات، المقَدْسَنِ والمنرجَس؛ وإلى التدبُّر والاهتمام بالمنجرح والمنغلِب، المهزومِ والمهدور، المستضعَفِ والمطرود، المَنفيّ والمحجوب، المتضمَّن والمكبوت، المقموع والمغدور، المهمَّش والجائع… وذاك نفسُه يفسِّر، أيضًا، أنّ حاجاتنا للتطهّر والتفريغ، والغسلِ كما المحو، والتحصّنِ كما النكوص كانت حاجةً حضارية، ودافعاً أو دوافع عديدةً متزاملةً للتقدّم والتطوّر والتغيُّر.
البُعد المعرفي، عند الغربي، غذاء التكيّفِ الحضاري والتقدم الاستيعابي التجاوزي…، وهو بُعدٌ أفضى إلى ثورات العلم والتكنولوجيا، والمعرفةِ نفسِها كما الصورة والإعلام وشتى مواقع التواصل الاجتماعي المُسيء للإنسان والناس، أو الذي شيّأ الفردَ والتواصليةَ، والمجتمعَ كما الفكر… لقد وظّف الغَرْبيُّ المعرفة لتعميق سيطرته على الشعوب واستبدَّ كما هيمَن وتسلّط، واستغلّ كما التَهَم لغاتٍ، وثقافاتِ الأمم، أو تراثَها وثرواتها، نسغها ومستقبلها، آمالها ورجاءاتها…
- تركزون في تحليلكم لبعض “أمراض” الحضارة الأوروبية على غياب البعد الإنساني التراكمي والتكافلي والتواصلي على مستوى العلاقات البشرية. نحتاج إلى مزيد من التوضيح حول وجهة نظرك هذه التي يتفق معها العديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس في أوروبا؟
_ يُنتقَد في حضارات الأمم الصناعوية سلوكاتٌ معمَّمة رتيبة؛ أي منمَّطة آلوية؛ ومعرفةٌ تقنية أو قطعانية؛ “وحداثةٌ” في التصرّف والحياة اليومية الاستهلاكيةِ والاقتنائية، والاسترباحية والاستكسابية… فما هو عرضةٌ للمحاكمة ومثير للنقد والمحاسبة فردانيةٌ وعزلةٌ واستكفاء يجعل الحياة مستبعِدةً للآخر والتواصل، للثقافة والاهتمام بالشؤون العامة، والمشكلاتِ الاجتماعية الاقتصادية، والحيِّز الوطني كما العالمي، ومستقبلِ الطبيعة والبشرية كما المآل والمصير.
إلى ذلك، تتعرّض للمساءلة وإعادة النظر النقدي، الرؤيةُ العامّةُ للعالم والحضارة، الوجودِ كله واللغة، القيمِ والأخلاق، المدَنياتِ والإنسانوية، الحقيقةِ والمعرفة، “عقلنةِ” الواقع والروابطية والممارَسات… وهكذا صارت هذه الحالة تَنَكّرٌ للمتخيَّل والإيماني، اللامعقولِ والمثالي، النفساني والتقليداني كلّه؛ وتنكُّرٌ رافضٌ للمعهود والماضي والغابر.
في مجال فلسفة الثورة الصِّناعوية، كحالةٍ محلّيةٍ مخصوصةٍ أو لحظة تاريخية أو نمطٍ حياتي، لقد غدا الانشغال الأكبر بعالم الفكر وتاريخ الفكر، وبالزمان والتاريخ، والعصرِ والأوان… وتمَّ الإنشغال أيضاً بمبادئ ترعى الحداثة أو تستولدها وتُحييها، وتتغاذى مع الرأسمالية، والمعرفة التقنية، وتطورِ العلومِ والمدَنيات وشتى القيم الليبرالية والتحولاتِ الحضارية المتسارعة والسريعة التبدّل والتغيّر بالفعل.
العقلية الصناعوية، أي المجتمعاتُ والايديولوجيات التقنوية جدّاً والموقَّدة بالعلوم الثائرة، حالة أو ظواهر قد تكون مغذَّية ومن ثم موقَّدة في مناطق وطبقات أو قطاعات وشرائح موجودة داخل أمم غير صناعوية، غير رقمانية، بعيدة من ثورات التكنولوجيا والإعلام كما الآلة والصورة والإلكترونيات.
لقد اكتسحتِ الظواهرُ الآلويةُ والتكنولوجيا الثائرةُ، والصناعويةُ المعقَّدة، العقولَ والتواصليةَ والمعنى. ففي تلك الحالة، تَسَلْعن الإنسان، وانبهرَ، وعجز عن اللحاق بالمتغيّرات؛ وبذلك فهو قد تَشَيْأن، وغدا أشبه بالبرغي أو المتاع، الآلةِ الصمَّاء أو الكائنِ البِلا معنى وبلا قيمة أو اسمٍ… وذاك ما ألغى الماورائي والعاطفي، المشاعر المتآخية والانفعالات البشرية وما هو ذاتاني ونفساني؛ وسقط أو غاب الكينوني والإنسانوي، وما هو خاصٌّ بالإنسان والكوني فيه أو القيمي والإيماني كما الروحاني والمثالي، المحبّاوي والتراحمي.
وفي الخلاصة، إنّ الفلسفة، المؤْثِرة للحكمة مجاناً ودائماً وكلِّياً قد غدت هي القول الاستراتيجيُّ في الوجودِ القائمِ أمام الرَّقمانية والنظرانيةِ المحضة كما النفسية، وفي الملتقى أو المشترك بين الأنا العَرَبية والأنت الغربيّة، لقد صارت الرقمانية، أو فلسفة التواصل الاجتماعي، تُمثِّل الفلسفةَ وترمزِن القولَ الحِكمَويَّ (= الحِكْميَّ، والحِكْمتيَّ) في الفعل وفي الحقيقة، العملِ والسلوك، الإرادةِ والحرية، الدولةِ والشرائع، المعيارِ والعِلم، اللُّقْموياتِ والمدَنيات والعدالة الاجتماعية، المنطقِ والمنهجيات والثورات العلمية.
في عبارةٍ أخرى، الفلسفة الراهنةُ خطابان:
أ- خطابٌ في اللغة والبلاغيات والألسنية؛ وفي الوعي والسلوك، والعقلِ كما المفاهيم والمصطلحات؛ وفي الروابطية والعلائقية كما في التواصلية والدوائر الاجتماعية؛ وفي الشخصية والمجتمع، وفي الفكر والحكمة أو الثقافةِ والمعرفيات. ذلك الخطاب قوامه، أيضاً، الأيْسِيّاتُ والمعرفيّات، والقيميّاتُ كما الفنيّات. وهي، هذه القولُ العقلاني في الوجود والحياةِ كما في المسكونية، والكينونية والعالمية. وهذا، بقدر ما هي، أخيراً، إعمال العقل في العمل والخير، وفي الفضيلة والقيمة والفنون. وتكون الفلسفة قولًا في اللاعقل وغير العقل كما في المتخيّل والوجدان، والحدسِ والتفكير، والاعتقادِ كما الإيمان والرَّوحنة ودفء التديّن أو الحنين إلى التجربة الطفلية في الفرد والنوع.
ب- أمّا الخطاب الثاني للفلسفة الراهنة فهو ما يَمثُل ويَحضر بواسطة العقل الأنكلو – سكسوني، أو الإنكليزي – الأميركي. إنّه كما صار مألوفاً مأنوساً، القول أو الخطابُ في فلسفات هي من نحو: المصالحية، الذريعانية، المنفعانية، الميميائية والجيننيائية، التطورانية الاجتماعية، الفلسفات النابعة من البيولوجيا أو المادة، التاريخِ أو الطبيعة، ثوراتِ العِلم والصورة والإعلام.
لا يعني هذان الخطابان إلغاء أحدهما لمصلحة الآخر. فهما قابلان للتساكن والتداعُم؛ وهذا، بدون أن يعني ذلك تذكّر الموقف الذي يرى رطانةً أو خفةً وقِلّة نفعٍ في الخطاب الأول، أي السائِد المنرجَس بحسب العينِ الأوروبية. ومن السديد أن نتذكّر، من جهةٍ أخرى، القولَ الإنكليزي الأميركي الذي يرى نفسه صاحب القول الأرفع والأنفع، الأهمّ وغير التأمّلي، غير الغنائي، غير السفساف أو الممجوجِ المرذول. وفي الواقع، إنّ الرقمانية (فلسفة المجتمع الصناعَويّ أو الآلوي وعصرِ الزّرّ والتكنولوجيا المنفلِتة) تغذّت من النظرانية جداً.
ولا منفعةً راهنةً فوريةً من المواقف المنادية بمدّ الجسور بين النظرانية والرَّقمانية داخل المدرسة العربية الراهنة، فذاك فعلٌ نمارسه عند ظهور كل نظريةٍ أو أدروجة في ميادين العلوم الإنسانية. وفي جميع الأحوال، هناك في المدرسة العربية ثلاثة مواقف؛ وهي:
- الرافضون للرقمانية وحجتهم أنّ الأمر هنا ليس فلسفة؛ بل وليس هو فلسفة علم.
- المهجَّنون أو التوفيقانيّون، الإنتقائيون.
- الرافضون أو العقلانيّون الواقعانيون.
- نادى نيتشه بـــ “موت الله”: فعقلنة العالم وفهم خفاياه القديمة والتحرر من الدين تؤدي إلى هدم العالم القديم ونهوض عالم جديد؛ غير أن تطور العقل الأوروبي باتجاه النفعية والتأليل المفرط، أحدث ندوباً جرحية عمقت نرجسية الذات على حساب التشارك والتراحم، وهذا يؤدي إلى اغتراب الإنسان عن ذاته التواقة بفطرتها إلى الفضاء التشاركي والاجتماعي، وأظن أن تمظهرات تشظي الإنساني ستتزايد مع التطور التكنولوجي و”احتلال” وسائل التواصل الحديثة لمبدأ التلاقي البشري، وقد تكون الفرضية المطروحة كالتالي: كائنات بشرية تعيش في عزلة فتحل الآلة مكان الإنسان، أظن أن هذا السيناريو المستقبلي/ المفترض مرعب. ما تعليقكم؟
_ غدا مُلِحّاً جدّاً، بل هو في حكْم الواجب أَنْ يكون، أنْ ينوجد ويدخُل في الحاضر، أنْ يتزمَّن ويتحيَّن، عودُ الإنسان إلى فضيلة التواضع التي يرفضها في وعيه وسلوكه الإنسانُ التكنولوجي بخصائصه الجبّارة الاستكبارية والمغطرِسة حيال ما آل إليه موقعه الجبَروتي في الوجود والمعرفة والتكنولوجيا، وعصر الزرّ والرقم، وتنرجسه المتفاقم اللامحدود. لكأنّ إنجازات البشر في عالم الفضاء أو البيولوجيا، كشاهد، ضخّمت تميّز الإنسانِ العالمي والمجتمعِ الدولي، وفاقمتْ سلطتنا على الطبيعة والنفس، والعلمِ والصورة، والضوء والتواصل.
إلى جانب ما هو متّفقٌ حوله بين الأنا والأنتَ، أي مشتركٌ بينهما بُعداً وفُروقاً أو تشابهاً وتماثُلاً، يتّفق أيضاً ومجرى الاهتمام عند المفكّرين النظريين بمشاكل الكُلِّ والحيّزِ العام، وشؤونِ المجتمع وصراعات الأفكار، وأمراضِ التواصلية، واضطراباتِ مقامات وأجهزةِ الشخصية وأغوارها وقطاعها الأعلى الأخلاقي، وفلسفاتِ السؤال، ومحدوديةِ العُمر والوجود، واستحالةِ التطابق بين اللغة والفكر، التبليغِ والتبلُّغ أو الإرسال والتلقِّي، أو الإرادة والقدرة، الواقع والمعنى، الشيء والكلمة… إلخ.
على كل ضفةٍ لنهر التاريخ والحضارة يقف العقل المتعقِّبُ المنقِّبُ في موضوعاتٍ عالمية البُعد أو الوجه والصعيد: ففي كل فكرٍ أو فلسفةٍ قطاعٌ أو مقولةٌ غرضها البيئة والأنساق البيئية، التصحّر والجفاف، الخوفُ من تبدّلات المناخ ومن الجوع والظلم والجور، ومن مشكلاتِ تناقص المياه وتكاثر السكان وعدم كفاية حملات التشجير أو المحميات الطبيعية. وعلى الضّفّتَيْن، العربية كما الغربية، تتصارع الأفكار، والمواقف، والقيم، والأوطان، والأيديولوجيات، وقضايا السلاح والأمن والغذاء، والتصادم بين أنظمة التنمويات كما التربويات الفردية والجَمعية الجماعية.
ثمّة مَن حَمَل على الفلسفة الغَرْبية، ولا سيّما فلسفة المدلَّل الأوروبي المتنرجِس والعدواني؛ فطالب بطردها أو تغييبها، ونكران الحاجة إليها أو التنوّرِ بخبرتها وتاريخها، وبمنهاجها ورؤيتها على وجهٍ خاصّ. وهذا، في حين أن الموقف المناقِض تجاهها قد نعثر عليه عند أولئك الذين “انْسَبَعوا” وانبهروا بتلك الفلسفةِ؛ فطالبوا بامتصاصها واستذواتها، بتمثُّلها واستدخالها.
أما المطالِبون بمدِّ الجسور والتبادل، وتمهيدِ المعابر المنفتحة المرِنة بين الفلسفتين الغرْبية والعَرَبية، فقد انتفضوا من منطلقٍ فحواه ومفاده أنّ الفلسفة العربية لا تحتاج لخبرة الغربيين، ولا حاجة لأن نسير في الخنادق الفكرية التي أنشئوها، أو لأن نكرر القضايا الفكرية التي بحثوها وحفروها. هنا موقفٌ لا يخلو من الحيرة والحسد، ويُعبّر عن مشاعر الضّيق والكَرْب التي يثيرها. عند العربي، نجاحُ أممٍ”عالمِية”في انتاج نظرياتٍ فلسفية باهرة، وفي اعتماد طرائق ومصانع دقيقة في انتاج الفكر والآلةِ، ومحاكمته وتطويره.
استبداديةُ ظواهر التواصل الاجتماعي مسيطِرةٌ في الضَّفّتَيْن العربية والغرْبية وفي “الدار العالمية”. إنّ استخدام وسائل التواصل الاجتماعي قد غدا هوسًا أو “مانيا”، ووسواسًا قَهْريّاً؛ أو سلوكًا إرغاميّاً، ووعياً محكوماً وغير حُرّ أو غير مسؤول. وذاك استخدام قد أغرق في خِضَمّه، وقاد إلى الإدمان، وأوقع في المضطرب، واللاسويّ، و”الجانح”. وهنا هبط مستوى الثقافي، وانقفل الاهتمام بالذات، وخفّ التأثّر بالمشكلات اليوميّة، والأمور العملية، وبالجوانب “الأخلاقية” والبحث في الانعتاق والتحرر؛ وفي البحث عن معنىً للحياة والعُمر والبشرية، أي عن التحقّق أو المساعي إلى النُّضج وتعزيز الإيجابي والإسهامي، بل والقوى الديناميّةِ في الشخصيّة التواصليّة العقلانيّة، والتضافريّة التكافليةِ والتضامنية.
المصدر: https://www.alawan.org/2019/02/06/%D8%A5%D8%B3%D8%AA%D8%AE%D8%AF%D8%A7%D...