المسالمة والتَّعايش أصل العلاقات في الإسلام
محمد حسين فضل الله
وصلنا في الحلقة الماضية إلى أنّ الجهاد مشروع في حدودٍ شرعيّة خاصّة، وليس هناك من دليل على اعتبار الجهاد أصلاً من الأصول، وقاعدةً في إدارة العلاقة مع الآخرين، بحيث يحتاج المسلم إلى الرخصة لترك الجهاد، بل إنّ الأصل في علاقات المسلمين بغيرهم، هو المسالمة والمهادنة والتعايُش.
مبرّرات مشروعيّة الجهاد
وتؤيّد هذه النتيجة التي توصّلنا إليها، الآيات القرآنية الكريمة التي جاء في بعضها كلمة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}[1]، وفي بعضها الآخر: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ}[2]، وغيرها، حيث جاءت هذه الآيات لتبرّر تشريع الجهاد، والأسلوب المعلّل الذي يفلسف تشريعه بالحالات الطبيعية التي تفرضه وتبرّره، ما يجعل القضية تبحث عن وجود الحالة المبررة، بدلاً من العكس.
ولعلّ هذا ما توحي به، إلى جانب ذلك، الآيات التي تدعو إلى السلم عندما يخلد الآخرون إلى نداء الإسلام، أو يطلبونه ابتداءً، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[3]، وقوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}[4]، ونستوحي ذلك من الآية الكريمة: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[5]، وقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً}[6].
الاستدلال بإطلاقات الأدلّة
أما الاستدلال على ذلك بالمطلقات، فنحسب أنه لا يخضع للحسابات الدقيقة، لأنَّ الأسلوب يطرح القضية في إطار معين، كما في الآية التي تطلق الأمر بعد انسلاخ الأشهر الحُرُم، فإنها تتحدث عن المشركين الذين نكثوا العهد ولم يحفظوه، وترشد المسلمين إلى التوقّف عن القتال في الأشهر الحرم، لتطلق لهم الحرية في معاودته بعد انقضائها، فهي واردة في قتال يجد مبرّراته في واقع الحرب المعلنة آنذاك بين الإسلام والشّرك.
أمّا الآية: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً}[7]، فهي توجِّه المسلمين إلى كيفيَّة القتال وشموله. وأمّا آية قتال أهل الكتاب، فإنها واردة في أصل التّشريع، لا في تفاصيله، فلا مانع من أن يترك القرآن بيان التّفاصيل إلى آيات أخرى أو أحاديث نبويّة، كما هي طريقة التشريع الإسلامي في إطلاق الفكرة أوّلاً لتقرّ المبدأ، ثم يأتي الدخول في التفاصيل من خلال الكتاب والسنّة.
خطأ منهجي
ولعلّ الخطأ الذي يقع فيه كثير من الباحثين والفقهاء والمفسّرين، أنهم ينظرون إلى كلّ آية بمفردها، ويعتمدون في صرف ظواهرها على أخبار غير موثوقة، ويتحدّثون عن نسخ بعضها ببعض، فيما لا مجال فيه للنسخ، لاختلاف الموضوع، ولجهة استناده إلى أخبار آحاد، لا تفيد علماً ولا ظنّاً، ما يجعل الإنسان يفقد الجوّ القرآني المتكامل في التّشريع فيما يقرأه من آيات، لأنه يضيع عن المعنى الأصيل أمام هذا الركام الهائل من الوجوه أو الأحاديث.
إنَّ قيمة القرآن الكريم في القضايا التي يثيرها، هي في هذا التناسق الرائع الذي يمثّل وحدة القضايا في كلّ التفاصيل التي تثيرها الآيات، لتكون كل واحدة منها جزءاً من كلّ، لا قطعة منفردة قد تلتقي بالأخرى وقد لا تلتقي، ولن نستطيع فهم القرآن إلا على هذا الأساس، وبهذه الروح التي أرادنا القرآن أن نتدبّر فيها آياته وأحكامه.
ولعلّ من الطريف أن نجد بعض الفقهاء الكبار يستدلّون على وجوب ابتداء الكفار بالحرب، بسيرة النبي(ص) والتابعين، التي تدلّ على شدة المواظبة والحثّ عليه، حتى تكرّر ذلك منه(ص) وهو في النـزع، وخصوصاً في إنفاذ جيش أسامة بن زيد. وإننا نسجّل على هذا الاستدلال ملاحظة أساسية، وهي أن السيرة لا تدلّ على وجوب الابتداء بالجهاد، كحكم شرعي أصيل، بل كل ما تدلّ عليه، مشروعية الجهاد ضمن الظروف الموضوعية التي كانت موجودة في ذلك العهد، وهذا مما لا شكّ فيه، لأن حديثنا ليس في المبدأ، بل في التفاصيل.
إنَّ كل ما نريده في هذا الحديث، هو إبداء التحفّظات حول الفكرة التي يدعو إليها جمهور فقهاء المسلمين، من اعتبار الحرب أصلاً في الشريعة الإسلامية، بحيث يحتاج السِّلم إلى مبرّر، فربما كانت الفكرة الأكثر قرباً إلى الإسلام، هي اعتبار السِّلم أصلاً، لتكون الحرب قضيّة طارئة تخضع لمبرّراتها، ولهذا، نرجع إليه كلما زالت المبرّرات، أو ربما كانت قضيّة السِّلم والحرب خاضعة لمصلحة الإسلام والمسلمين، فليس أحدهما أصلاً ليكون الآخر أمراً طارئاً، بل كلّ منهما أصلٌ في إطاره، وضرورة في موقعه، تماماً كأيّ أسلوبين يختلف موضوعهما ومجالهما في الحياة، فلكلٍّ موضعه الّذي يستقلّ به، ولا يشاركه فيه شيء آخر.
رفض استنتاجات المستشرقين
وفي ضوء ذلك كلّه، نجد أنَّ من الحقّ لنا أن نرفض الفكرة التي حاول بعض المستشرقين أن يحاربوا بها الإسلام، عندما تحدّثوا عن الروح الحربية التي تحكم القائمين على شؤون الإسلام، من خلال شريعة الجهاد التي تعمل على إشعال نار الحروب الدائمة في العالم، فلا تخمد حرب في مكان إلا لتشتعل في مكان آخر، ولا تهدأ جبهة في جانب إلا لتبرز جبهة أخرى في جانب آخر، ما لا يسمح للعالم بأن يستقرّ أو يخلد إلى طمأنينة أو استقرار.
إنّنا نستطيع أن نقرّر من خلال حديثنا هذا، أنَّ الإسلام لا يختلف عن أيّة عقيدة أخرى في أخذه بعين الاعتبار العوامل الإقليميّة والقوميّة، بل إنّ هذه العقيدة تمتدّ في مجرى الحياة الإنسانية لتشمل العالم كلّه، من موقع المسؤوليّة الشاملة التي ترتبط بحياة الإنسان، بعيداً عن روح الغلبة والسّيطرة والقهر والاستعلاء، فهي تخضع في حربها وسلمها للخطّة العامّة الشّاملة التي تتحرّك في مصلحة الإنسان في أسلوبي النظرية والتطبيق، فقد تتطلّب المصلحة العامّة أن يكون الأسلوب السلمي سبيل العقيدة في الدخول في حياة الناس، وقد يكون العنف هو الأسلوب الأمثل في ذلك كلّه.
فللقائمين على التّخطيط لحركة العقيدة أن يأخذوا بهذا أو ذاك، من دون خوف أو حرج، وعليهم أن ينفّذوا ما يأخذونه وما يختارونه على أساس أمانة الحركة وأمانة العمل في جميع الحالات. وربما كانت قصّة سيادة الإسلام التي تفرض معالجة كثير من المواقف بأسلوب القوّة والعنف، منطلقةً من هذا الخطّ الواسع الشّامل الّذي تتحرّك فيه الدّعوة في الطريق الصّحيح المستقيم.
حال الكافر في الآخرة
هذا هو حال الكافر في الدّنيا في علاقتنا كمسلمين به، في الفرق بين ما إذا كان مسالماً أو محارباً، أما في الآخرة، فقد أعدّ الله للكافرين ناراً وقودها الناس والحجارة، كما جاء في قوله تعالى: {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[8]، وقوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ}[9]، وقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً}[10]، {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً}[11]، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ}[12]، {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}[13]، {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً}[14]، إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ التزام الكافرين بالكفر هو الأساس في عقابهم في الآخرة.
وقد نكون بحاجةٍ إلى أن ندرس السبب الموضوعي في ذلك، فنلاحظ أنَّ الله أقام الحجّة على النّاس في قضيّة الإيمان، ولا سيّما التوحيد، بما لا يبقى لأيّ إنسان حجّة على الكفر والإنكار، بل تصبح المسألة لدى المنكرين، من ملحدين أو مشركين، خاضعةً للعناد والغفلة لدى الملتزمين بالإلحاد، أو للجهل والخضوع لتقليد الآباء لدى المشركين الّذين عبّر الله عنهم بأنهم قوم لا يعلمون، من دون أن يكون للجهل المتخلّف أي أساس للعذر، لأنهم لم يفتحوا عقولهم التي منحهم الله إياها على دراسة الأمور المرتبطة بعناصر التوحيد في الإيمان.
وقد تحدّث القرآن الكريم عن مسألة الحجّة والبرهان والدليل، كأسباب معرفية لتحصيل العلم الذي يؤدي إلى الإيمان بالله وتوحيده ورسله واليوم الآخر، كما جاء في قوله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[15]، وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}[16]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً}[17]، وقوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[18]، وقوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}[19]، وقوله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[20]، وقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[21].
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[22].
وقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ}[23]. وقوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}[24]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}[25]، وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}[26]، إلى غير ذلك من الآيات الّتي تفتح للإنسان عقله، وتقوده إلى الأخذ بأسباب العلم في الانفتاح على عناصر الإيمان، بما يحقّق له الحجَّة والبرهان على ما يلتزمه ويعتقده، ويدعوه إلى المقارنة بين الشركاء الذين يعبدهم ويدعوهم كآلهة من دون الله في طبيعة وجودهم الخالي من كلّ قوّة وكلّ ميزة وكلّ عنصر من عناصر الحياة والفعالية، وبين الله الخالق القادر المهيمن على الأمر كلّه، المبدع للوجود كلّه، بما فيه وجود هؤلاء الشّركاء، ويطلب منهم التطلّع إلى السماوات بكلّ أفلاكها، والأرض بكلّ امتداداتها وأقطارها، وما أودعه الله من سنن كونية وقوانين طبيعية تمنح الإنسان كلّ شروط التقدّم والنموّ والتطوّر والحياة، إذا عرف كيف يتفهّم قوانينها وأسرارها الدقيقة.
وقد جاء بعض ذلك في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[27].
وهكذا، نجد أنَّ هذه الآية تستثير في النّاس عقولهم، ليصلوا إلى حقيقة الإيمان بشكل دقيق وموضوعي وعلمي، من خلال التفكير في الظواهر الكونية الثابتة والمتحركة. ونقرأ في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[28]، فإننا نلاحظ في وحي هذه الآية، أنَّ التفكير في خلق السماوات والأرض بعقل مستقلّ، وبحواسّ منفتحة، لتعرّف أسرارها، يجعل الإنسان يدرك أن وراء كلّ ظاهرة سرّاً، وأنّ في داخلها قانوناً يحرّك وجودها في الاتجاه الصَّحيح، فيقوده ذلك إلى الإيمان بالله في الانفتاح على توحيده، والمعرفة بمواقع عظمته، فيخشع بين يديه، ويتحرّك في خطّ طاعته، ويستجير به من عذابه.
ونقرأ في هذا الاتجاه قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}[29]، ليوجّه الإنسان إلى إدراك طبيعة السرّ في اختلاف الألسن والألوان، من خلال دراسة العناصر الطبيعيّة التي أودعها الله في خلقه.
لا عذر للانحراف
وخلاصة الفكرة، أنَّ الله يعاقب الكفّار على كفرهم، لأنّه أقام الحجَّة عليهم في مسألة الإيمان، ولم يترك لهم أيّ مبرّر أو أيّ عذر في الانحراف عنه، سواء كان ذلك بسبب جهلهم وتخلّفهم الذاتي، أو بسبب تقليدهم للآباء الذين لا يعقلون شيئاً، ولا يعلمون، ولا يهتدون، لأنّ العاقل لا يجوز له أن يقلِّد مَن لا حجّة في الالتزام برأيه، لأنه لا يرتكز على أية قاعدة علميّة أو عقليّة.
وفي ضوء ذلك، فإنَّ الكفر يمثّل مشكلة لأصحابه وللحياة وللناس، لأنهم يبتعدون عن القضايا الحيوية والمصيرية في النظام الذي وضعه الله للإنسان وللحياة، وتلك جريمة كبيرة تستحقّ أكثر العقاب، ولا سيَّما أنَّ المسألة مرتبطة بالله الخالق، الَّذي هو وليّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة، حيث عاش هؤلاء في ساحات نعمته وفيوضات رحمته، لأنه الربّ الكريم الذي يعطي من سأله وآمن به، تحنّناً منه ورحمة، ويفيض نعمه على الجاحدين به والبعيدين عنه، تفضّلاً منه وكرماً.
بين الاستحقاق والتّنفيذ
هذا كلّه من حيث الاستحقاق من الناحية القانونيَّة، ولكنَّ الله حدّثنا أن مسألة التنفيذ قد تختلف بين كافر وكافر، فقد أكّد أنه لا يغفر أن يُشرَك به، لأن مسألة الشرك لا ترتبط بالإساءة والتمرّد على الله، بل تسيء إلى الإنسان نفسه وإلى الحياة كلها، لأنها تجمّد في الإنسان عقله، وتنـزع منه روحه، وتعطّل له حركته الإنسانيّة، وأية إنسانيّة هي في أن يعبد الإنسان حجراً أصمّ لا روح فيه ولا حياة، ولا يحمل أيّ سرّ يقترب به من بعض مواقع القرب من الله، ما يبطل الحجّة التي قدّمها المشركون في عبادتهم للأصنام، وذلك هو قوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}[30]، ولا سيما أنَّ هذه الأحجار الصمّاء هي من مصنوعات هؤلاء الذين أقبلوا على عبادتها جهلاً وتخلّفاً وخضوعاً لعقليّة الآباء والأجداد، وهذا ما أجابوا به النبيّ إبراهيم في سؤاله لهم عن السّبب في عبادتهم للأصنام: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[31]، أما غير المشركين، سواء كانوا من أهل الكتاب، أو من غيرهم، ممّن يؤمنون بالله ويوحّدونه، ولكنهم لا يؤمنون برسله أو باليوم الآخر، فربما يغفر الله لهم انحرافهم في التفاصيل العقيدية، وذلك هو قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}[32].
وفي ضوء ذلك، فالأمر بيد الله، بحسب حكمته ورحمته في الغفران لمن يشاء ممن يؤمن بالله من حيث المبدأ ولا يشرك به غيره، وهذا ما يواجهه الناس يوم القيامة، يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذٍ لله. وقد جاء في قوله تعالى: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[33]، فلنرجع الأمر إلى الله، فهو الذي يملك أمر الناس في يوم المصير.
وفي ضوء ذلك، على الناس أن لا يصدروا الأحكام على الآخرين، بأنّ مصيرهم إلى النار إذا كانوا يختلفون معهم في المذهب أو الدّين، لأنَّ عليهم أن يعرفوا أنَّ القاعدة في أيّ انحراف ينفتح على الكفر في تفاصيل العقيدة، يعرّض الشخص لعذاب الله بعد إقامة الحجَّة عليه، ولكن قد تشمله رحمة الله وغفرانه، بحسب الآية، إذا لم يكن من المشركين.
*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] (الحج: 39).
[2] (البقرة: 190).
[3] (البقرة: 208).
[4] (الأنفال: 61).
[5] (الممتحنة: 8، 9).
[6] (النساء: 90).
[7] (التوبة: 36).
[8] (البقرة: 24).
[9] (البقرة: 90).
[10] (النساء: 37).
[11] (الإسراء: 8).
[12] (العنكبوت: 68).
[13] (لزمر: 71).
[14] (الإنسان: 4).
[15] (البقرة: 111).
[16] (الأنبياء: 24).
[17] (النساء: 174، 175).
[18] (النمل: 64).
[19] (القصص: 75).
[20] (النساء: 165).
[21] (الحديد: 25).
[22] (إبراهيم: 9 ـ 11).
[23] (الرعد: 16).
[24] (الأعراف: 191).
[25] (الحج: 73).
[26] (يونس: 34).
[27] (البقرة: 164).
[28] (آل عمران: 191).
[29] (الروم: 22).
[30] (الزمر: 3).
[31] (الشعراء: 74).
[32] (النساء: 48).
[33] (غافر: 16).
المصدر: http://arabic.bayynat.org.lb/ArticlePage.aspx?id=13096