التربية على قيم التسامح
التربية على قيم التسامح
علي أسعد وطفة*
يرتهن تطور الحضارة الإنسانية كما يرى الفيلسوف الفرنسي, كارل بوبر (Karl Popper), بقدرة المجتمعات على مواجهة العنف الاجتماعي, وتجفيف مصادره, وتقليص آثاره إلى الحدود الدنيا. ويشكل اليوم العمل على مواجهة العنف, ومصادرة قدرته هاجس الحياة الديمقراطية في مختلف مستوياتها, وتجلياتها. فالدول التي تمارس العنف, وتنهج على الاستبداد لن تتمكن أبدا من التقدم خطورة واحدة في مسار الحضارة الإنسانية. ومن أجل بناء الحرية, وتأكيدها يترتب على المجتمعات الإنسانية أن تواجه العنف وتحاصره, وتقلص دوره في المجتمع، لأن ذلك يشكل المنطلق الاستراتيجي في اتجاه بناء السلام, والأمن, والحرية, وتلك هي الشروط الأساسية في بناء الحضارة الإنسانية.
ولكن مواجهة العنف, والتسلط, والاستبداد, لا يمكن أن تأتي عبر القرارات النافذة, والقوانين الضاربة. فالعنف لا يواجه بالعنف, وإنما يتم ذلك عبر بناء الروح الإنسانية المناهضة للعنف, والتسلط, والاستبداد. وهذا ما يؤكد عليه "كارل بوبر", إذ يرى بأن رفض العنف يجب أن ينبع من داخل الأفراد أنفسهم في المستوى الأول، لأن سعي الحكومات لن يفي أبداً بالغاية, وهذا بالتالي يتطلب وجود أيمان كبير من الأفراد برفض العنف في مختلف تجلياته ومظاهره.
وتأسيساً على ما تقدم فإن الدول, والحكومات قد أدركت هذه الحقيقة بأبعادها الإنسانية. فانطلقت تبحث عن ثقافة للتسامح والسلام, عبر تأصيل قيمي لهذه الثقافة في نفوس الصغار وقلوبهم. وأصبحت اليوم التربية على قيم التسامح والسلام, ونبذ العنف أولوية إنسانية, واجتماعية, وحضارية تنادي بها الأمم, وترفع شعارها في مختلف جوانب الحياة المعاصرة. لقد أدركت الأمم والدول بأن التربية على التسامح, وقيمه وتأصيل معانيه سيوفر على الدول الجهود الكبيرة في مواجهة العنف, والتطرف, والإرهاب. ولن تكون الدولة بصدد دفع الفواتير الغالية جداً لاستخدام أساليب العنف في مواجهة العنف عينه من أجل الأمن للمحافظة على الأمن العام, والسلم الاجتماعي.
في مفهوم التسامح
يسجل مفهوم التسامح حضوره في عمق التجربة الإنسانية، ويتبدى في صيغ تتنوع بتنوع المجتمعات الإنسانية في إطار الزمان والمكان, والمراحل التاريخية. حيث عرفت الحضارات الإنسانية مفهوم التسامح, وما يقابله من مفاهيم العنف, والتعصب, والعدوان، وقد تجلى هذا المفهوم في مختلف الآداب الفكرية للأديان السماوية السمحاء والأديان الوضعية.
ومع أهمية الحضور التاريخي لهذا المفهوم، يعلن عدد كبير من المفكرين عن صعوبة كبيرة جدا في تحديده، حيث يعلن "رتشارد مكيون", صراحة هذه الصعوبة بقوله: "إذا لم تسألني عن ماهية التسامح فأنا أعرف (هذه الماهية), وإذا سألتني فأنا لا أعرف"(1). هذا ويؤثر كثير من الفلاسفة عدم استخدام هذا المصطلح مثل الفيلسوف الفرنسي إميل بوترو. فتعريف التسامح أو على الأقل تفسيره إنما يستند إلى موقف الإنسان منه، إذ يمكن للتسامح أن يكون مجرد نية أو فكرة أو قد يتجسد في صورة ممارسة.
وعلى الرغم من الإشكالية الكبيرة التي يطرحها مفهوم التسامح فإن عدداً كبيراً من المفكرين يخوضون في هذه الإشكالية, ويحاولون الغوص في أعماقها، وكثير منهم يرى اليوم بأن مفهوم التسامح يمثل جوهر مفهوم حقوق الإنسان ومنطلقه. وإذا كان التعصب يشكل مظهراً من مظاهر الحياة الاجتماعية في كثير من بلدان العالم، فإن التسامح هو المشهد الإنساني الذي تغيب فيه مظاهر العنف, وتعلو فيه قيم السلام. وهذا يعني أننا أمام مفهومين لا يتعارضان فحسب, وإنما يتنافيان على نحو الإطلاق: فالتسامح يعني غياب العنف والتعصب، والعنف والتعصب يعنيان غياب التسامح وبالتالي غياب السلام.
ومن أجل تقديم صورة موضوعية أكثر عمقا لهذين المفهومين لا بد لنا من رصد الخلفيات الاصطلاحية, واللغوية لهذين المفهومين الذين يشكلان مدخلنا المنهجي إلى رصد واقع التربية, والتسامح في المجتمعات العربية المعاصرة.
يرى بعض المفكرين أن اللغة العربية لا تنطوي على مفهوم واضح للتسامح بالمعنى المعاصر للكلمة. جاء في لسان العرب: سمح-السماح- السماحة-المسامحة، والتَّسميح, وتعني لغة الجود، وأسمح إذ جاد وأعطى بكرم وسخاء، وأسمح وتسامح وافقني على المطلوب، والمسامحة هي المساهلة(2).
وجاء في مختار الصحاح سمح -السّماح, والسّماحة الجود (سمَح) به يسمح بالفتح فيهما سمَاَحا سَماحة أي جاد.
سمح له أي أعطاه. وسمُح من باب ظَرُف صار سمحا بسكون الميم، وقوم سُمَحاء, بوزن فُقهاء، وامرأة سَمِحة, ونسوة سِمَاح, والمُسَامحة المُسَاهلة, وتسامحوا تَسَاهَلوا(3).
فالجذر اللغوي للفظة التسامح المستخدمة كما يتضح في لسان العرب, ومختار الصحاح, وغيرهما من القواميس العربية لا يحيل على المعاني الحديثة للتسامح، مادامت تعني مجرد الكرم والسخاء, والجود والمساهلة. والتسامح في دلالته هذه لا ينطلق من مبدأ المساواة الذي يعتبر شرطاً في الدلالة الحديثة للتسامح.
جاء في قاموس "اللاروس" الفرنسي, أن التسامح (Tolérance) يعني احترام حرية الآخر, وطرق تفكيره وسلوكه, وآرائه السياسية, والدينية. وجاء في قاموس العلوم الاجتماعية أن مفهوم (Tolérance) يعني قبول آراء الآخرين وسلوكهم على مبدأ الاختلاف، وهو يتعارض مع مفهوم التسلط والقهر والعنف، ويعد هذا المفهوم أحد أهم سمات المجتمع الديمقراطي(4).
ويعرّف قاموس "أنسيكلوبيديا بريتانيكا", الموسوعي التسامح أنه "السماح بحرية العقل أو الحكم على الآخرين".
وهذا التعريف يكشف عن إحدى السمات الهامة للتسامح, ونعني بها الحرية(5).
ومن يستعرض تطورات مفهوم التسامح في التاريخ الإنساني يجد بأنه أخذ أشكالاً وصيغاً مختلفة, ومتنوعة من حيث البساطة والتعقيد, والامتداد, والحضور. وسجلت هذه الأشكال والصيغ حضورها بوحي التنوع الحضاري, والثقافي للمجتمعات الإنسانية. لقد وردت قيم التسامح, والحقوق الإنسانية في الحضارات القديمة, ولاسيما في شريعة حمورابي القديمة، كما وردت في الوصايا العشر وسجلت أجمل حضور إنساني لها في الأدب الإسلامي, والعقيدة الإسلامية.
وليس الغرض من بحثنا اليوم عن التحديد العلمي لمفهوم التسامح، أن نغوص في العمق التاريخي لتحولات هذا المفهوم وتطوراته، فبيت القصيد هو أن نبحث عن تحديد علمي معاصر لاستخدام هذا المفهوم, وتوظيفاته في الحضارة الإنسانية المعاصرة، ولاسيما في إطار الثقافة الغربية التي تطرح بثقلها في تعيين دلالة هذا المفهوم المعاصر سياسيا, واجتماعيا, وتربويا. ومع ذلك كله لا بد لنا من إطلالة تاريخية سريعة حول هذا المفهوم تقتضيها ضرورة استيعاب دلالته المعاصرة بصورة موضوعية.
لقد ترجمت لفظة (Tolérance) إلى العربية بـ"التسامح" ومع ذلك فإن مفهوم "تسامح" هو: وليد حركة الإصلاح الديني الأوروبي، وقد نشأ عن تغير في الذهنية ناتج عن علاقة جديدة، هي علاقة الاعتراف المتبادل بين القوى التي استمرت تتصارع طوال القرن السادس عشر، أي خلال الحروب الدينية الأوروبية. لقد حدث انشقاق داخل الدين الواحد، ثم وقع تجاوزه عن طريق الاعتراف بالحق في الاختلاف في الاعتقاد، ثم في حرية التفكير بوجه عام(6).
فحركة الإصلاح الديني في أوروبا ارتبطت أساسا بصراعات داخلية بين قوى اجتماعية معينة. وصحيح أن حركة الإصلاح هذه أوقدت نزاعات, وحروبا بين دول أوروبا أيضا إلا أن النزاع كان أساسا بين قوى اجتماعية داخلية انعكس -على مستوى الرمز- في تباين تصورها لما هو مقدس(7).
إذن لقد ولدت كلمة التسامح (Tolérance) في القرن السادس عشر، إبان الحروب والصراعات الدينية، التي عرفتها أوروبا بين الكاثوليك, والبروتستانت(8), حيث انتهى الكاثوليك إلى التسامح مع البروتستانت، وبشكل متبادل. ثم أصبح التسامح يمارس إزاء كل المعتقدات, والديانات الأخرى. وفي القرن التاسع عشر انتشر هذا المفهوم ليشمل مجال الفكر, وحرية التعبير, وليتضمن جوانب اجتماعية, وثقافية بالغة الغنى والتنوع. إن الحروب والصراعات الدينية الطويلة التي عاشتها أوروبا في ألمانيا, وهولندا, وإنكلترا, وإسبانية، وفرنسا كانت في أصل هذا التحول الذي شهده مفهوم التسامح(9).
ولا بد من الإشارة في هذا الصدد من أن الكاثوليك كانوا خلال هذه الحقبة المظلمة من تاريخ أوروبا يرفضون التسامح, ومختلف الاجتهادات الدينية التي تفضي إليه، وكانوا في سياق رفضهم يعتبرون التسامح بدعة يوظفها المفكرون الملحدون لتسميم عقول العامة, والسيطرة على مقدرات وجودهم.
وقد ولدت مسألة التسامح كما يعتقد "ريمون بولان", من المنازعات الدينية وظلت خلال دهر من الزمان معنية بالمنازعات الدينية حصراً، وقد ظهر بالتدريج خلال قرنين من الخصومات والحروب والمناقشات، قرني "الحروب الدينية"(10).
يعتقد الفلاسفة والمؤرخون الغربيون, وخاصة الأنجلو سكسون، أن فكرة التسامح مصدرها البروتستانية في القرنين السادس والسابع عشر، ويعود أصلها إلى جون لوك(1632-1706م), حيث تتضح الحقيقة التاريخية لتطور مفهوم التسامح في كتابه رسالة في التسامح (Lettre sur la tolérance) سنة 1689م إذ يعلن في طيّات هذه الرسالة: "أن التسامح جاء كرد فعل على الصراعات الدينية المتفجرة في أوروبا، ولم يكن من حل أمام مفكري الإصلاح الديني في هذه المرحلة التاريخية، إلا الدعوة والمناداة بالتسامح المتبادل, والاعتراف بالحق في الاختلاف والاعتقاد.
وهذه الحقيقة يؤكدها عدد كبير من المفكرين، فبعد قرن من الحروب الدينية، والاضطهاد الطائفي الديني في أوروبا، حصل الاعتراف بالحق في الاختلاف الديني، أقرته مراسيم وقوانين ودساتير. وقد قام بالدفاع عن مبدأ "التسامح" كقيمة أساسية، مؤسسو الفكر الليبرالي وأصبح لأفكارهم الجديدة حقاً في الوجود(11).
لم يكن عند اليونان قديما كلمة مرادفة للتسامح، ومع ذلك يبقى التساؤل عما إذا كان اليونانيون متسامحين، وعما إذا كان لدى فلاسفتهم مفهوم التسامح، إنهم لم يرتضوا التعددية الدينية كما كان هو الحال في الإمبراطورية الرومانية، ومن كان يعلم، في اليونان أن "الآلهة كذبة", فمصيره على الأغلب شرب السم، وقد استخدمت أساليب مماثلة فيما بعد للتخلص من الهراطقة، على الرغم من أن اليهود والوثنيين -قديما وحديثا- عاشوا حياة تعسة على هامش المجتمع في أوروبا.
ويذهب كثير من المفكرين إلى الاعتقاد، بأن مفهوم التسامح قد شهد تطوره تحت تأثير الوضعية الجديدة التي أدت إليها حركة الإصلاح الديني الأوروبي بزعامة مارتن لوثر، ومن الواضح أن مفهوم التسامح استطاع تجاوز حدود الدين، واقترن بحرية التفكير, وبدأ ينطوي تدريجيا على منظومة من المضامين الاجتماعية, والثقافية الجديدة، التي أوحت بها العصور المتلاحقة، بما تضمنت عليه هذه العصور من صور جديدة لتصورات اجتماعية متجددة.
لقد تم هذا التحول في مضامين مفهوم التسامح في أواخر القرن الثامن عشر وتبلور في القرن التاسع عشر، وذلك مع بروز ملامح الحداثة الأوروبية ومظاهرها الحضارية، وتحت تأثير منظومة من العوامل الثقافية, والسياسية, ولا سيما ظهور دولة القانون, والمجتمع المدني, والعلمانية، ومن ثم نمو وتطور الفلسفات النقدية، حيث بدأت فلسفة الأنوار مع القرن الثامن عشر بما حملته معها من قيم ومفاهيم وأفكار جديدة حول العقل, والحرية, والمساواة, والحقوق الطبيعية, وحقوق الإنسان(12).
ويعد الفيلسوف الفرنسي فوليتر (François Marie Voltaire 1694-1778), فيلسوف التسامح بحق لأنه ارتفع بالتسامح, واقترب فيه من المفهوم المعاصر، إذ وضعه في صيغة المبدأ الأول لقانون الوجود الطبيعي, وكأساس للقول بحقوق طبيعية للإنسان(13).يقول فولتير في هذا الخصوص: كلنا ضعفاء, وميَّالون لقانون الطبيعة، والمبدأ الأول للطبيعة هو التنوع, وهذا يؤسس للتنوع في مجال الحياة الإنسانية، وقبول هذا التنوع حق أساسي للوجود.
ففي عصر التنوير خلال القرن الثامن عشر أخذت فكرة التسامح تأخذ أبعادها كحقيقة فلسفية, وبدأت تغطي مختلف جوانب الحياة الاجتماعية, والسياسية. وقد تأسست فكرة التسامح على مبدأ إنساني قوامه ألا وجود للحقيقة المطلقة، وهذا أدى إلى الإيمان بالحرية والإيمان بمبدأ الاختلاف, وضرورة التواصل بين البشر إلى أساس من قيم القبول والتسامح (14). وفي هذا الصدد يقول الفيلسوف الفرنسي "فولتير", كلمته المشهورة، التي تعلي من شأن الحرية والتسامح, وقبول الآخر على مبدأ الاختلاف إذ يقول: "إنني لا أوافق على ما تقول، ولكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقوله"(15).
يقوم المفهوم المعاصر للتسامح على مبادئ حقوق الإنسان العالمية، حيث ربطت وثيقة إعلان المبادئ العالمي الصادر في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1995م بين التسامح وحقوق الإنسان, والديمقراطية والسلم, وبالتالي ارتقت بالتسامح إلى صورة قيمة قانونية تتطلب الحماية من قبل المجتمع الدولي(16).
حيث ورد في البند الأول من هذه الوثيقة إعلان المبادئ حول التسامح (Déclaration de Principes sur la Tolérance), الصادرة عن اليونسكو بصدد معنى التسامح أن مفهوم التسامح يتضمن العناصر التالية(17).
أولا: قبول تنوع واختلافات ثقافات عالمنا, واحترام هذا التنوع.
ثانيا: التسامح موقف يقوم على الاعتراف بالحقوق العالمية للشخص الإنساني، والحريات الأساسية للآخر.
ثالثا: التسامح هو مفتاح حقوق الإنسان, والتعددية السياسية, والثقافية, والديمقراطية. رابعا: إن تطبيق التسامح يعني ضرورة الاعتراف لكل واحد بحقه في حرية اختيار معتقداته، والقبول بأن يتمتع الآخر بالحق نفسه، كما يعني بأن لا أحد يفرض آرائه على الآخرين(18).
وواضح أن هذه المعاني الغنية والمتعددة الأبعاد تؤسس التصور الجديد للتسامح الذي تربطه علاقة ضرورية مع حقوق الإنسان، والديمقراطية، والسلم، وهذا يجعل مفهوم التسامح الجديد يتجاوز حدود الدين, والفرد ليصبح حقا يمكن الدفاع عنه, وحمايته في نسق حقوق الإنسان الأخرى.
فالتسامح على حد تعبير "فدريكو مايور" (Mayor F). شرط ضروري للسلم ما بين الأفراد كما بين الشعوب وهو بمثابة "التوابل" اللازمة لكل ثقافة للسلام(19). وفي هذا السياق يعرف محمد جابر الأنصاري, التسامح بأنه: تعايش المختلفين بسلام إذا توافر بينهما حد أدنى من التكافؤ والمساواة أو القَبول بالآخر. كما ولا يوجد تسامح بين أناس مختلفين في الفرص بينهم(20).
فالتسامح هو قبول الآخر على علاّته, وعلى اختلافه, والاعتراف بحقوقه في الوجود والحرية, والسعادة. إن الكواسر يتخطّف بعضها بعضا حينما تندر مبررات الوجود والكل منها آمن إذا توافر لها بعض مقتضياتها. فالإنسان ليس شريرا بطبعه, وإنما هو شرير عندما تقتضي الحاجة إلى الشر، والعنف والغلبة, والقهر أمور ترتبط بالشروط الاجتماعية للوجود الإنساني.
وهذا يعني أن الشروط التاريخية التي تحيط بالإنسان, ولاسيما هذه التي تتصل بأوضاعه الاجتماعية, وطبيعة الحياة الديمقراطية للمجتمع هي التي تحدد طبيعة التسامح في المجتمع. لقد بينت التجربة أن التعصب يظهر عند الفئات الاجتماعية المقهورة أو هذه التي توجد في أدنى السلم الاجتماعي للوجود. فالفئات المنكوبة, والمحرومة هي هذه التي تدمر وتصب جام غضبها على بعض الفئات الاجتماعية الأخرى المنكوبة أيضا. وانطلاقا من هذه الحقيقة يمكن القول بأن شروط العدالة الاجتماعية, والديمقراطية بمختلف مستوياتها تكمن في أصل التعصب, والحق والكراهية.
لقد بينت الدراسات الجارية أن مكونات البيئة الاجتماعية تساعد على تنامي وتائر التعصب والتصلب والعنف ومن هذه المكونات يشار إلى أهمية وسائل الاتصال, ووسائل الإعلام, ولا سيما الأدب السائد مثل القصة, والمسرحيات, والأساطير, والكتب الدينية, والأغاني, والأمثال الشعبية(21).
وبالنتيجة فإن التسامح يعبر عن صيغة احترام مشاعر ومعتقدات الآخرين، أي معاملة الآخرين كبشر بصرف النظر عن ألوانهم, وانتماءاتهم الدينية, والعرقية والمذهبية, أو خلفياتهم الاجتماعية، وعكس التسامح هو التعصب(22).
وتأسيسا على ما تقدم يمكن القول إن عدم التسامح هو رفض الاعتراف بوجود أولئك الذين لا يشاركوننا معتقداتنا(23). فاللاتسامح هو رغبة متسلطة في السيطرة الكاملة سواء أكان ذلك يهدف إلى المحافظة على هوية العشيرة، أو نقاء العنصر، أو من أجل السيطرة الإقليمية أو انتصار مذهب سياسي. فعدم التسامح هو رفض الاختلاف، وهو البحث بأيد مخضبة بالدماء عن التماثل، ورفض أي شكل من أشكال الاستقلال والتنوع. إنه رفض لتبادل الآراء لأن التبادل يبدد الكراهية، ويستبعد التعايش لأن التعايش يعني قبول الاختلاف(24).
وفي هذا السياق يمكن القول بأن عدم التسامح يؤدي إلى موت الفكر وغياب الديمقراطية, وإلغاء حقوق الإنسان، لأن غياب التسامح يؤدي إلى غياب القدرة على الاكتشاف، ويؤدي أيضا إلى قهر إمكانيات الاختراع، وإلى رفض للديمقراطية لأن الديمقراطية تنطوي ضمناً على الحرية, والحوار وتداول السلطة.
وتعد العنصرية والعرقية, والعدوان أشكالاً تتنافى مع مبدأ التسامح، فالنوع البشري يتألف من رجال ونساء، ولكن من الواضح أنهم جميعا آدميون، ومع ذلك فهناك كثيرون ينكرون التنوع الموجود في الطبيعة, ويدعون أن هناك جنساً أسمى, وهو بالطبع جنسهم.
فمفهوم التسامح هو نوع من التجلي الحقيقي لمفهوم حقوق الإنسان, والديمقراطية. وإذا حاولنا أن نقدم تحديداً مانعاً لمفهوم التسامح نقول: بأن مفهوم التسامح يكافئ المفهوم الديمقراطي بأبعاده الاجتماعية لأن كلاهما الديمقراطية الاجتماعية, والتسامح مفهومان يتضمنان قيم الإنسان, وحقوقه التي تسعى إلى تحرير الإنسان من كافة أشكال العبودية والقهر والتسلط. يعني مفهوم التسامح أن المجتمع يتكون من أفراد يقبلون الآخرين على أنهم أنداد لهم، وأن الجميع سواء في نظر الجميع، وأن الانحياز والتمايز إنما هو بالعمل والإبداع، والسعي فيما ينفع الناس(25).
يقول محمد أركون: "إن التسامح ليس فضيلة أساسية تمليها التعاليم الدينية, والفلسفية العظيمة، ولكنه بالأحرى يمثل استجابة للمتطلبات الاجتماعية, والسياسية في أوقات الاضطرابات الإيديولوجية الكبيرة"(26). هذا ومن المألوف إطلاق اسم التسامح على الوضع المتناقض الماثل في قبول أن يعتقد بعض الناس وأن يعملوا على نحو يغاير اعتقاد الآخرين وعملهم، فالتسامح هو الاعتراف المتبادل بأن الآخر مغاير، والقبول بشرعية وضرورة هذا التغاير، وهو اعتراف نظري وعلمي سواء بسواء.
ويعد التسامح من جهة أخرى الصورة التي يخضع فيها الفرد قناعاته الخاصة لضرورات الحياة المشتركة مع أناس يتأكد من أنهم على خطأ أساسي. إن التسامح بالمعنى النبيل لا يستند إلى أساس التساهل, ولا الشهامة والضعف, ولا الحساب النفعي أو الذرائعي، إنه الاعتراف بتعددية المواقف الفلسفية الإنسانية، والاعتراف بتنوع الآراء والقناعات والأفعال, والأخلاق الناجمة عنها وبضرورة التوفيق بين تبايناتها الحاسمة وتنافراتها ضمن نظام مدني سياسي.
فالتسامح فن عيش مشترك مع التطلع دوماً إلى الحفاظ على مسافة صحيحة بين ضرورات الحياة العامة, و ضرورات الحياة الخاصة(27). إن مهمة التسامح هي تأمين التعايش المشترك في نسق التباين، ومن ثم الحفاظ عليهما, وحماية ما تنطويان عليه من قيم أساسية للوجود الإنساني(28). إن التسامح لا يمنع ألوان المعارضة والاختلاف, ولا الصراعات ولكنه يعترف بأن تأكيد الذات يقتضي الاعتراف بالآخر، وهذا يعني الاعتراف بالآخر من حيث مشابهته الأساسية ومخالفته الأساسية سواء بسواء. "فالاعتراف" بالآخرين وبالذات بنزاهة، ذاكم هو التسامح بالمعنى الأنبل، وبالتالي فإن الحفاظ على الفوارق والتعارض، وحتى على الخصومات، يشكل شرط التسامح(29).
فمفهوم التسامح يرتبط ارتباطا عميقا بمفهوم السلام، فالسلام هو لازمة طبيعة لمفهوم التسامح فإذا كان السلام هو غياب الحرب, ووجود الأمن فإن هذا يعني وجود التسامح كضرورة حيوية لمفهوم السلام. وهذا يعني في نهاية المطاف أن التسامح والسلام هما مفهوم واحد بوجهين متشابهين إلى حد كبير. والعنف في النهاية هو الصيغة اللغوية التي تقابل مفهوم التسامح فالعنف التعصبي أو العدواني هو نقيض التسامح، وذلك لأن التسامح هو التصور الذي يتنافى مع أي ممارسة للعنف والقسر, والتسلط والعدوان.
يرى بعض المفكرين في سياق المقارنة بين العدوان والتسامح أن العدوان هو فعل الحيوان في الإنسان، وأن التسامح هو فعل الإنسان في الحيوان. وهذا يفترض أن التسامح فضيلة وأن ممارسة التسامح سلوك أخلاقي. وثمة بدائل معارضة السلوك العدواني مثل المناقشة والحوار، وإذا لم يحدث اتفاق بالتنازل المتبادل، فإن التسامح المتبادل في المجال السياسي هو شرط لممارسة ديمقراطية حقّة(30).
بين العنف والتسامح
كل العادات والتقاليد التي ورثناها عن الماضي تعطي مكانة كبيرة وأهمية خاصة لمفهوم العنف والتسلط, على حساب مفاهيم السلم والسلام. فمفهوم اللاعنف مستحدث في أوروبا والغرب، وهو مفهوم مبهم وغامض.
واللاعنف ليس مفهوما محدود الدلالة وحيد الاتجاه بل هو واحد من المفاهيم التي تتصف بالشمول والتعقيد، وهو يتضمن كل الجهود الممكنة التي تبذل في اتجاه بناء مجتمعات مسالمة تسودها قيم المحبة والوئام والتعاون, ورفض العنف والتسلط والقهر. ومن أجل تعريف مفهوم اللاعنف يتوجب علينا في البداية أن نعرف نقيضه مفهوم العنف.
كتب هاكير (F.Hacker), في هذا الخصوص يقول: "إن العنف الخام هو الشكل المرئي والحر للعدوان ولا يأخذ كل عدوان صورة العنف"(31). فالعدوان هو دائماً عنف ولكن لا يأخذ أي عنف إرادة العدوان. فطبيب الأسنان يلجأ إلى العنف، وبالتالي فإنه مهنته يمكنها أن تكون بالنسبة له طريقة عدوانية، أو فرصة لتأكيد نزعة سادية، ولكن هذه ليست حالة الطبيب بالضرورة. والشيء نفسه ينسحب على المرء الذي يفرض بعض قواعد السلوك على الطفل, ويمارس بعض العنف ضده، ولكن سلوكه هذا ليس عدوانياً بالضرورة. إذ لا يمكن الحديث عن عدوان أو عنف عدواني إلا عندما يؤكد المرء على إيذاء الطفل وضرره.
ويمكن القول في هذا الخصوص أن العنف لا يمكن أن يحدث آلياً, وهو لا يشير إلى صورة سلبية دائما. فالحدود القائمة بين الخير والشر هي دائماً صعبة على التحديد، ويمكنها أن تتغاير وفقا لتباين وجهات النظر التي تحكم. "فنحن لا نستطيع أن نؤدي شيئاً في واقع الأمر دون قليل من الإجرام" هذا ما كتبه فرويد في رسالته إلى باستور فيستر (Pasteur pfister), وذلك في 5 حزيران 1910م. فالنشاطات الإنسانية، حتى هذه الأكثر خصوبة تتطلب نوعا من السلطة والعنف. فالدافع إلى رفض العنف يعمل على إكراه الشعور الأخلاقي لصاحب السلطة السياسية, أو البوليسية. فكل تطور يتطلب خسارة ما وتضحيات. وكل خلق لعمل ما يتطلب الابتعاد إلى حد ما عن المعطيات المباشرة الخاصة بالحزن على الماضي والاعتداء. فهناك عوامل بين العنف, ومجموعة النشاطات الإنسانية. وعندما نحاول أن نصف الطبيعة الإنسانية فإننا سنعثر على تعارضات منها: التعارضات بين الطبيعة والثقافة، بين الفرد والمجتمع، بين الرغبة والمنع، بين العقل واللاعقلانية، بين الهوية و الغيرية... إلخ. ففي كل مكان يوجد المفهوم وضده. وبالتالي فإن العنف بأخذ مكان الهيمنة والصدارة، كما يقول بول ليفي (Paul Levey): السلام الكلي لا يسود إلا داخل المقابر(32).
في الصراع كمبدأ و التسامح كنتيجة
لا يتحدد وجود الإنسان في لحظة الولادة بل في اللحظة التي يوجد فيها في دائرة العلاقة مع الآخر. والآخر كلمة مشبعة بالغموض مثقلة بالمعاني، فالآخر في أكثر تجلياته النفسية حضوراً يأخذ صورة كينونة إنسانية جامعة لمعاني التحدي والخوف والخطر. فالآخر كيان إنساني يشكل مصدراً للخوف والقلق إنه يناهض رغبات الأنا, ويعارض مصالحها ورغباتها, ومشاريعها وطموحاته, وحقوقها وحرياتها. وهذا التصور السلبي للآخر يضفي على العلاقة الجدلية بين الأنا, والآخر صبغة الخوف, والصراع والتحدي.
فالخوف من الآخر يشكل محورا من محاور العلاقة الوجودية بين الإنسان والإنسان، لأن وجود الآخر المختلف يشكل من حيث التصور الأولي خطرا على الأنا، مع أنه قد لا يشكل أي خطر في حقيقة الأمر، ولكن لماذا ينشأ الخوف من الآخر؟ ببساطة لأنه يمثل كائنا مجهول الهوية, والإنسان كما يقال عدو ما يجهل، ولأنه مجهول فإننا لا نعرف ما يريده وما يسعى إليه، فهو ربما يريد إيقاع الأذى بنا والاعتداء على وجودنا وكياننا، وعلى خلاف ذلك قد يريد بنا خيرا كل خير، لكننا وفي حقيقة الأمر وبسبب جهلنا به وبما يريد، نعتبره خطراً يهدد أمننا وحياتنا، حتى لو لم يكن في هذا الآخر شيء من هذا القبيل. وخوفنا من الآخر يزداد تدريجيا عندما يختلف عنا في اللغة التي يتكلمها, والدين الذي يعتنقه, والعرق الذي ينتمي إليه, والثقافة التي يتبناها, وكلما كان الاختلاف كبيرا كان خوفنا أشد وقعا, واضطرابنا أشد حضورا.
فالخصائص الإنسانية التي تتمثل في الغيرة, والخوف والحسد تظهر بقوة في صراع الأنا مع الآخر. فالصغير وعلى الرغم من الألعاب التي تكون بحوزته ينظر دائما إلى ما يمتلك الآخر ويطمع بما لديه، وفي حقيقة الأمر ليست اللعبة ما يهمه وما يسعى للحصول عليه، إنما يكون جل اهتمامه امتلاك ما لدى الآخر، وفي نهاية الأمر يكون هدفه أن يأخذ مكان الطفل الآخر. فالقدرة على سلب ملكية الآخر تشبع إحساس التملك والسيطرة عند الإنسان، وفي حقيقة الأمر، عندما يتصارع الأفراد بين بعضهم لامتلاك أي شيء هم في الأساس يناضلون بين بعضهم لتأكيد قدرتهم ونفوذهم.
فالرغبة في الامتلاك والقدرة على الامتلاك شرعية في المقياس الذي يسمح للفرد أن يكون مستقلا في حياته. إن الصراع بين الأفراد لا يمكن أن يتوقف إلا انطلاقا من اللحظة التي يحدد فيها كل شخص رغباته المحددة لأن الرغبات المنتهية غير موجودة.
فالصراع هو المجابهة بين الرغبة والواقع بين الرغبة والممكن. وعندما يريد الفرد إشباع حاجاته على حساب الآخر يولد الصراع والتحدي, وينشأ العنف. ويمكن في هذا السياق البحث عن علاقة السلام والمحبة, والتوافق مع الآخر. فالفرد لا يستطيع أن يتجنب حالة الصراع والعنف ما لم يتنازل عن بعض رغباته وحاجاته. وهنا يجب عليه العدول عن إشباع حاجاته على حساب حاجات الآخرين. فالعنف والصراع يمكن أن يكون هداما، لكن يمكن له أن يكون إيجابيا أيضا عندما يحفزنا على المودة والسلام، فوظيفة الصراع هي إنشاء وإقامة عقد، ميثاق وعهد واتفاق بين المتنافسين والمتخاصمين الذين يسعون إلى إشباع حقوقهم وحاجاتهم، وإلى بناء علاقات قائمة على الإنصاف والعدل والعدالة بين الأفراد داخل مجتمع واحد, وجماعة واحدة.
ومثال ذلك طفلان يتصارعان للحصول على اللعبة نفسها، ولا يحل صراعهما هذا إلا بتدخل أحد الراشدين الذي يقيم بينهما عقداً يتضمن المشاركة في اللعب، أو أن يحدد لكل طفل وقتاً محدداً للعب. وهم هنا يقومون بتجربة حل بنائي لصراعهم، وهكذا يجد كل طفل نفسه هو الرابح, وتنعدم الخسارة بين الطرفين, وتلك هي حالة من حالات السلام التي تنبثق من حالة الصراع ذاتها. فكل حياة اجتماعية تتضمن جوانب من الصراع والمجابهة والمواجهة، وعلى الرغم من هذا الصراع، فإن العيش المشترك بين الشعوب يفرض نفسه, ويقتضي حلولاً سلمية نابذة للعنف في مختلف مجالات الحياة.
فالسلام يأتي نتاجاً للصراع الأولي بين الناس وأفراد المجتمع، ولن ينتهي الصراع بوصفه حافزاً على السلام واللاعنف لأن حلّ الصراعات بوسائل العنف والقتال لن يعطي نتيجة إيجابية على الإطلاق، فالحل يجب أن يكون سلميا بعيداً عن العنف, وتلك هي حقيقة تفرضها الضرورة التاريخية. فاللاعنف لا يفترض عالماً خالياً من الصراع، فاللاعنف كمشروع تربوي يقوم على الثقة لن يتحقق إلا في إطار علاقات إنسانية متسامحة وودية مع الآخر.
وغالبا ما تكون الحلول السلمية للصراعات القائمة بين الجماعات أو الأفراد الطريق الأمثل في الحياة الاجتماعية، وعلى هذا الأساس وقبل كل شيء يجب البحث دائماً عن حلول وتسويات سلمية تبعد شبح العنف والعدوان والتسلط، فالعنف لا يأتي في فراغ, وليس هو حالة مجانية في المجتمع الإنساني بل يأتي كنتيجة لغياب التفاهم, والعدالة الاجتماعية في أكثر الأحيان.
والحلول السلمية للصراع تعني القيام بمحادثات ومجادلات يقوم بها كل فرد بالتنازل عن بعض من حقوقه لحل نزاع ما. وهذه الالتزامات والتنازلات يجب أن تكون مقبولة من قبل المتنازعين، وضامنة لحقوق الأفراد المتنازعين. وهذه الحلول السلمية تقوم على أساس مبدأ "العيش المشترك ", وهو من أكثر المبادئ أهمية في العملية التربوية على قيم التسامح. فالبحث عن تسوية سلمية للتنازعات والصراعات بين الأفراد يحمل قيمة تربوية عالية حيث يجب أن نعلم الطفل تحديد رغباته وحاجياته في حدود احترام رغبات وحاجات الآخرين بعيدا عن كل أشكال التسلط والعدوان.
فالنزاع والصراع يشكلان صورة لعلاقة إنسانية طبيعية، لأن إنسانية الإنسان تتبلور في داخل الصراع وليس في خارجه. فالميل إلى العنف موجود في طبيعة الإنسان، والصراع منغرس في التكوين الوراثي للإنسان, وهو غريزة أولية في طبع الإنسان. وهنا يأتي دور التربية في صقل وتهذيب هذه الحاسة الغريزية وتحويلها إلى حافز إيجابي يدفع المرء للبحث عن السلام, والتعايش السلمي مع الآخر.
فالفرد الذي يكوّن علاقة سلمية مع الآخر خالية من كل أنواع التهديد والعنف والخوف، يجد نفسه في حالة سلم مع ذاته وحالة سلام مع كيانه الذاتي. لأن العدوانية والعنف تشكل تهديدا للذات والهوية الإنسانية الذاتية. ومن هذا المنطلق فإن الإنسان يجب أن يؤسس لعلاقات تسامحية خارج دائرة العنف والعدوانية من أجل سلامه الذاتي واستقراره وأمنه الشخصي. وعندما لا يستطيع الفرد أن يجد هذا السلام فإنه يعاني حالة من الاستلاب والخوف والقلق التي تضر بوحدته وكينونته الذاتية.
فالإنسان عندما يريد أن يحظى باحترام الآخر يجب عليه أن يبادله الاحترام في البداية. فنحن نحترم الآخر لنحظى باحترامه، واحترام الآخر هي محاولة إيجاد المسافة الصحيحة معه، والتي تسمح لنا أن نراه أن نتعارف ونتماثل بشكل مشترك دون انصهار أو وغموض، لنشكل مجتمع إنساني يقوم على مبدأ التسامح والقبول والتعايش المشترك. ومن هنا يجب على التربية أن تعلم الأطفال فن التعايش المشترك الذي يقوم على المحبة والاحترام والتسامح. يجب على التربية وفقا لهذه الصورة أن تعلم الأطفال كيف يتبادلون حبا بحب, واحتراما باحترام, وتقديرا بتقدير. أن تعلمهم كيف يبدعون الصيغ التسامحية للتعايش مع الآخر, وقبوله على مبدأ المساواة والمحبة.
التربية على التسامح
لقد أصبحت التربية أداة فاعلة اليوم في مواجهة مختلف مظاهر التسلط والقهر والاستبداد في المجتمع، وأصبحت معنية بتأصيل القيم الديمقراطية في أعمق مناحي الحياة الإنسانية. وهي اليوم في اتجاه بناء ثقافة السلام وقيم التسامح ونبذ العنف تضمن للمجتمع أسس الانطلاق الحضاري, والإنساني الممكن.
كتب جونز كوزكزاك (Jauns Corczal) وهو أحد الداعين إلى احترام عالم الطفل والطفولة: "نحن الراشدين نعرف كل شيء ونستطيع فعل ما كل شيء في الوقت الذي لا يعرف فيه الصغار إلا القليل، وهذا الأمر يشجعنا على التحكم بأفعالهم وتصرفاتهم وتفكيرهم, وحتى بأحاسيسهم، فنملي عليهم أوامرنا, ونفرض عليهم طاعتها، ونكثر من توجيه النصائح وإعطاء الدروس لهم بغاية تربيتهم وجعلهم أفضل. وكل هذا يحتاج إلى وعي وإدراك منا بما نفعله كما يحتاج إلى فهم وإرادة، فهم في نهاية المطاف أطفالنا وكل ما نملك".
ويتابع كوركزاك حديثه قائلا: لكننا أدركنا اليوم أن هذا الأسلوب في التربية لم يكن الأفضل، وأدركنا أن السيطرة على عقول الأطفال لم تكن الطريقة المثلى للتربية على الحرية، فللطفل -وباعتباره إنسانا- الحق في احترامه, واحترام عالمه وتفكيره.
فالأفكار التي يجب على التربية أن تنقلها للطفل وتشبعه بمضامينها هي تلك الأفكار التي أسست لإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي أقره مجلس الأمم في العاشر من كانون الأول عام 1948م. والذي نص بيانه على أن معرفة كل إنسان حقه أمر أساسي ولازم لكل أفراد الإنسانية، وهذا الشرط ضروري كي يسود السلام وتسود الحرية والعدالة في العالم. كما تضمن البيان على أن من واجب التربية أن تساهم في ازدهار الشخصية الإنسانية وتساهم في تربية الأفراد على احترام حقوق الإنسان والحريات بشكل عام.
وقد أشار فرنسوا فايلانت (Francois Vailant) إلى أن السلام وحقوق الإنسان, وجهان لعملة واحدة، وتنبع أفكارهما من احترام الكرامة الإنسانية، وخلاصة قوله أن الدفاع عن حقوق الإنسان هو في نهاية المطاف احترام حقوق الإنسان.
كما جاء في البند 29 من الإعلان العالمي لحقوق الطفل الذي أقره مجلس الأمم المتحدة 20/11/1989م, أن تربية الطفل يجب أن تركز جل اهتمامها على النقاط الآتية:
- ترسيخ احترام الحريات, واحترام حقوق الإنسان في ذهن الطفل.
- إعداد الطفل إعدادا يؤهله لتحمل مسؤوليات الحياة في مجتمع حرٍّ, وفي جو يسوده الفهم والسلام والتسامح والمساواة, والصداقة والأخوة بين الشعوب والجماعات العرقية والدينية والقومية.
ومما هو مسلم به اليوم أن الديمقراطية تسعى دائما إلى تطوير المجتمع وتحسينه ومده بقيم الحرية والتسامح والعدالة والسلام، لذلك على التربية أن تعد الأطفال ليصبحوا مواطنين مسئولين عن المجتمع, ومحافظين على ترسيخ قيم ومبادئ الديمقراطية. والطريقة الأفضل لتحقيق هذا الهدف هي تنظيم المدارس وإعداد مناهجها استنادا إلى قيم الديمقراطية: "كتعليم احترام حقوق الإنسان في الوسط المدرسي", أي التوظيف الديمقراطي للمؤسسات المدرسية, وهو شرط أساسي لنجاح للتربية على حقوق الإنسان، إذا نستطيع القول أن الهدف الجوهري والأساسي للديمقراطية هو بناء مجتمع متحرر من شتى أشكال العنف.
أكد غاندي (Ghandi), بأن الديمقراطية تعني السلام عندما قال: "أن الديمقراطية الحقّة لا تتحقق إلا بالسلام والابتعاد عن العنف"، وأكد على أن الأطفال لن يستطيعوا إدارة مدارسهم ما لم يستطع الكبار إدارة حكوماتهم، ولم يقصد غاندي بهذا القول تسليم الأطفال إدارة مدارسهم، بل قصد أن أصوات التلاميذ ورغباتهم لن تؤثر في معلميهم ما لم تؤثر أصوات المواطنين في حكامهم، وتبقى مهمة المدرسة تعليم القيم الديمقراطية والتربية على السلام والاحترام.
التربية في مواجهة إيديولوجيا التطرف والتمييز
إن الأفكار والإيديولوجيات القائمة على التمييز والإقصاء (كالعنصرية والقومية والعرقية, وكراهية الأجانب, والليبرالية الاقتصادية القائمة على المنفعة والمصلحة), تهدد وجود النظام الديمقراطي برمته. ومن أجل الدفاع عن الديمقراطية ونظامها كان على التربية أن تناضل ضد هذه الإيديولوجيات التي تنتشر بسرعة لا مثيل لها داخل المجتمع وخارجه. (فهذه الإيديولوجيات التعصبية لا تعرف حدودا لها)، وهي لا تتوانى عن التأكيد بأن العنف أمر ضروري ومشروع في المجتمعات الإنسانية، والعنف الذي تروج له الإيديولوجيات التعصبية يؤدي إلى انهيار الحياة الاجتماعية وتصدع الأنظمة الديمقراطية. ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن الدفاع عن الديمقراطية يكون في النضال ضد العنف وضد كل أشكال القهر والتعصب والتطرف.
وتأسيسا على ما تقدم فإنه يتوجب على المدرسة أن تطهر نفسها من جميع الأفكار المناهضة لقيم التسامح والعنف والتسلط والإكراه والتعصب والتطرف، هذا إذا أرادت أن تمارس دورها الديمقراطي، وعليها في الآن الواحد أن تمارس دورا تربويا في نشر قيم السلام والإخاء والمحبة, ونبذ العنف ورفض التطرف, ومهاجمة التعصب بكل أشكاله وتجلياته الإنسانية. هذا ويتوجب على المدرسة تربية الأطفال على احترام الثقافات المتنوعة، وتقدير التنوع الثقافي وقبول الآخر على مبدأ الاختلاف. فالمدرسة تعتبر المكان الأفضل لإسقاط أفكار التميز ضد الآخرين، (أي أولئك الذين ينتمون إلى مجتمعات أخرى، لشعوب أخرى لأصول أخرى) وهي بالمقابل المكان الأكثر خطورة لتعليم الأطفال نماذج العداوة (أي تحريض ذكائهم وأحاسيسهم بمعنى تعليمهم الحرب).
وفي مواجهة الروح العدوانية ضد الآخر يجب على المدرسة تحرير الأطفال من النظرة الدونية إلى الآخر وقبول الآخر مهما تكن صيغته على مبدأ الاختلاف. فالمتطلب الرئيسي للتربية الحرة يتمثل في تربية الأطفال على التخلص من جميع أنواع العدوانية تجاه الآخرين المختلفين عنهم.
ومن أجل الكشف عن الغموض في حديثنا عن العنف، يبدو لنا من الأهمية توضيح الخطوات والمساعي التي اتخذت لإبعاد الشباب عن استعمال شتى أشكال العنف، وبإمكاننا أن نختصر هذه الجهود بالجملة التالية: "يمنع استخدام العنف". ومن جانب آخر فإن العديد من الكتاب يطالبون بالاعتماد على معطيات علم النفس لإيضاح أن منع العنف شيء سيء للغاية, وحسب هؤلاء يتخذ العنف معان متعددة فيوجد عنف جيد و عنف سيء.
كتب العديد من الكتاب والمؤلفين نصوصا حول مسألة العنف في المدرسة، وهذه النصوص تدعو الشباب إلى الابتعاد عن العنف مثلا: أوقفوا العنف -العنف ضعف- لا للعنف -حياة العنف ليس بالحياة التي ننشدها -العنف ليس حلا لأي معضلة- لا ترد على العنف بالعنف- الاحترام أفضل من العنف- العنف ليس قدرنا- العنف ظلم لكل العالم- يسقط العنف- للعنف نهاية سيئة- استخدام العنف يعقد الحياة- استخدام العنف سيء ومضر للغاية- العنف ليس مشروعا ولا عادلا.
لكن العديد من الكتاب الذين يعالجون مسألة العنف يقولون بأن القليل من العنف لا يضر أبدا، بل ضروري ومهم في حياتنا ومن المستحيل إلغاء العنف نهائيا من حياتنا، فكثيرا ما نقرأ في بعض المقالات: الحياة عنيفة -العنف شيء أساسي في الحياة- العنف مكون أساسي للجنس البشري - العنف مفيد أحيانا - العنف مصدر الحياة - للعنف مراتب وعلى الحكم أن يميز بين حدود العنف الطبيعي والعنف المرضي- العنف رغبة في الوجود- العنف رسول الحياة والموت- يحتاج المرء إلى العنف ليستمر في حياته وإلا لن يملك قوة الحياة.
هذه المقالات تحمل تناقضا كبيرا فيما بينها، فمنها ما يدعو إلى استخدام العنف، ومنها ما يدعو إلى رفض العنف بشكل أساسي، وهذا التناقض يضع المربي في حيرة من أمره.
إذا مفهوم العنف الذي يستخدم هو مفهوم: غامض- معقد -غير منتهي- غير محدد- غير معروف ومبهم- وهذه الصفات المذكورة تنسحب على مفهوم اللاعنف أيضا. فالعنف يشتمل على خلط بين العدوانية التي هي قوة للحياة، و بين العنف الذي يعبر عن قوة الموت، وحسب الفروض التي وضعناها في بحثنا هذا يتوجب علينا في كل مثال من الأمثلة السابقة أن نضع كلمة العدوانية مكان كلمة العنف ليعود كل شيء إلى أصله ويصبح طبيعيا، واستنادا على هذا يصبح باستطاعتنا اختيار الكلمات والمفاهيم والأفكار التي تجعل الشباب يفقدون ثقتهم بالعنف.
عندما تساءل فيليب ميريو (Philippe Meirieu), عن غاية المدرسة خرج بالنتيجة التالية: "إن غاية المدرسة هي بناء الإنسانية في الإنسان"، لكن هذه العبارة تحتاج إلى تحديد دقيق، فما المقصود بالإنسانية؟ وهنا يقول فيليب: لن أتحدث عن عمق جوهر الإنسانية، وكم هي ضرورية وأساسية في حياتنا، ولكني قصدت بقولي إن ما يعارض ويحارب العنف في الناس والأشياء سينتصر في نهاية الأمر. فالمدرسة قادرة على إحياء الإنسانية في الإنسان، وهذا يعني أنها تتحمل مسؤولية تحقيق التواصل بين الناس ضمن دائرة رفض العنف.
لا يوجد ما هو أفضل من رفض العنف, ولا شيء يؤسس لهذه الإنسانية إلا رفض العنف نفسه، لكن مفهوم العنف معقد بالنسبة للإنسانية، لذلك ركزنا عند إجراء هذه الدراسة على تحديد مناهج ومبادئ اللاعنف, والتي تشكل كيانا مؤسسا لإنسانية الإنسان ويحقق التكامل والتوافق. فرفض العنف يستمد معناه من رفضه للعنف، وهكذا يجب علينا أن نتعلم كيف نفكر عبر الشكل المشوه والغير واضح لإيديولوجيات العنف، لنتعلم كيف نفهم التربية في مرآة فلسفة العنف.
ومن جانب آخر فإن معنى الطفل: "الصغير الذي لا يتكلم"، وتربية الطفل تعني تعليمه الكلام، وليس الاقتصار على تعليمه للغته الأم فقط، بل تعليمه كيف يتحدث مع الآخرين، أي الكلام الذي هو مؤسس ومنشئ الأفكار، والأفكار التي نقصدها هنا هي الأفكار التي ترفض العنف.
وهذا يعني أن نُضمِّن برامج المدرسة الصراع القائم بين مفهومي العنف واللاعنف، وهذا ليس بالشيء السهل كتضمين المناهج مادة الرياضيات, أو اللغة الإنكليزية, أو مادة الجغرافيا، فتعليم اللاعنف ليس كتعليم الأحداث والوقائع، فهو تربية على سلوك، وطريقة للوجود. لكن العديد من المعلمين يؤكدون أن تعليم اللاعنف يفوق قدراتهم ومؤهلاتهم, ولا يدخل ضمن اختصاصاتهم. لكن في الحقيقة العنف موجود في المدرسة، وعلى هؤلاء المدرسين أن يواجهوه بشكل مستمر في حياتهم اليومية. وهذا العنف يجبر المعلمين على التعليم والمتعلمين على التعلم.
دور المؤسسة المدرسية في التربية على التسامح
يترتب على المؤسسة التربوية، في سياق تأصيل قيم التسامح وحقوق الإنسان، أن تعلن الحرب على كل المفاهيم والقيم العرقية, والتعصبية التي تسود في الذهنية العربية. ويمكنها من أجل ذلك أن تضع في مناهجها مقررات حول التسامح والسلام, وحقوق الإنسان, وأهمية ذلك في الحياة العربية المعاصرة, والمستقبلية للإنسان المعاصر(33).
إن أي جهد لتعليم الديمقراطية, وحقوق الإنسان لا بد وان ينطلق من صورة واضحة متكاملة عما يجب تعليمه وتعلمه. وكذلك الحال بالنسبة للذين يصممون برامج التعليم ويدرسونه، حيث يجب أن يتمتعوا بفهم جيد لقيم التسامح وحقوق الإنسان ومفاهيم الديمقراطية(34).
في البداية ومن أجل بناء تربية تسامحية تعزز حقوق الإنسان وكرامته، تكون الخطوة الأولى في تحرير التربية بمناهجها وممارساتها من مختلف أشكال التعصب والتصلب الذي تعانيه، ومن ثم تأتي الخطوة الثانية التي تتمثل في تبني مناهج تربوية جديدة قادرة على تعزيز قيم التسامح والحب, وحقوق الإنسان بين الأجيال, وأفراد المجتمع بصورة عامة.
ففي مواجهة قضايا التمييز العنصري، واستبداد الأقوياء، واضطهاد وإبادة الأقليات العرقية، يمكن للتربية أن تؤدي أدوارا في غاية الأهمية والموضوعية، ودورها هنا يكون في تعزيز: حقوق الإنسان، وحقوق الطفل، وحقوق الأقليات، والإيمان بالعدالة الاجتماعية. وهذا يعني التأكيد على مبدأ التربية الأخلاقية التسامحية في مقدمة أولويات التربية المدرسية (35).
ولا يستقيم الحديث عن التربية على قيم التسامح وحقوق الإنسان إلا في إطار مشروع تربوي متكامل، يمكنه أن يكون بمثابة الإطار المرجعي العام فيضمن وضوح الرؤية، واتساق المقاصد، وتماسك الوسائل. ولا بد للتربية المدرسية الحقّة في مجال حقوق الإنسان من أن تعمل على تحقيق الأهداف التالية:
- تصفية كل أشكال التفرقة والتميز القائمة على أساس الجنس أو الأصل الاجتماعي، أو اللون أو الدين. -تأصيل قيم التسامح والسلام البنية الذاتية لشخصية الإنسان العربي. -تعزيز وعي الفرد بحقوق الإنسان وواجباته, وفقا لمقتضيات الحياة البشرية في مجتمع مدني مؤسساتي يقوم على التلازم الأساسي بين الحرية والمسؤولية.
و يمكن للتربية على حقوق الإنسان أن تشمل المجالات المعرفية والسلوكية. فعلى المستوى المعرفي تعنى هذه التربية بمساعدة المتعلم على إدراك المفاهيم الأساسية لحقوق الإنسان ومبادئ التسامح، وتوسيع آفاق معارفه لمبادئ الحق والجمال الحياة الاجتماعية والمدنية, وقواعد التنظيم الإداري, والسياسي (القانون العام), وبالمؤسسات العالمية، والمواثيق الدولية (القانون الدولي)(36).
وفي مستوى المواقف، ليس الهدف من التربية على التسامح, وحقوق الإنسان مجرد تلقين الطالب جملة من المعارف والمعطيات المتصلة بالوقائع، التي يتعين على التلميذ حفظها واسترجاعها، ولا في إكسابه جملة من المهارات المنهجية، بل إن جوهر كل عملية تربوية يكمن في إحداث التحول في المواقف الأولية والسلوكات العفوية, والارتقاء بها إلى مواقف متطورة وسلوكيات مستجيبة، وإلى جملة من القيم والاختيارات، التي يقودها العقل بعيدا عن كل أشكال الامتثالية.
ولا بد في هذا السياق من وضع منطلقات أساسية تكون بمثابة مبادئ وقضايا تهم حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وتدخل ضمن مجموعة من المقررات والمناهج الدراسية، ومن بين هذه المنطلقات(37):
- حرية إبداء الرأي, واحترام رأي الآخر.
- الدعوة إلى السلام العالمي، ونبذ الحروب.
- التعريف بثقافات الشعوب, والدعوة إلى تقاربها وتعاونها.
- ترسيخ مبادئ التفكير الحر غير المنمط عن طريق النقد الموضوعي.
وإذا أردنا أن نواكب الروح الحقيقية لحقوق الإنسان فإنه يترتب علينا الاعتراف بخصوصيات طرق تدريس المسائل المتعلقة بهذه الحقوق. ولعل أول هذه الخصوصيات سيادة النماذج التربوية التي تتعارض مع روح التربية على حقوق الإنسان، خاصة ذلك النموذج القائم على نقل المعارف أو التلقين الجامد (Model transmissf) الذي يجعل المعلم محور العملية التربوية فكيف يمكن للتلميذ أن يتبطن قيم الحوار والتسامح، ويصدر عنها خارج المدرسة، إذ هو منع من ممارستها داخل الفصل؟ كيف له أن يفكر بنفسه إذا ما فكر غيره مكانه.
وفي المحصلة يمكن القول إن بناء الإنسان الحر المتسامح الذي يرفض التعصب بطبيعته يشكل الغاية التربوية الكبرى وتلك هي الحقيقة التي يؤكدها أغلب المفكرين وعمالقتهم. ومن أجل بناء هذا الإنسان الحر المتسامح والمؤمن بحقوق الإنسان، يترتب على التربية أن تحقق عددا من الأهداف، التي تنطلق من مبدأ وحدة الشخصية الإنسانية بوصفها الأساس الثابت لبناء الإنسان الحر، والسبيل إلى تحرير الإنسان.
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أهمية المناهج وطرق التدريس في تعزيز حقوق الإنسان والتسامح، فطرق التعليم السائدة غالبا ما تؤدي إلى ترسيخ واقع القهر والتعصب، وذلك عن طريق تزييف الوعي الثقافي بصفة عامة، والسياسي بصفة خاصة، وذلك من خلال المناهج التربوية والتعليمية المقدمة للتلاميذ. وإذا جاوزنا المفهوم التقليدي للمنهج وسلمنا بأن المنهج مجموعة الخبرات التي تستطيع المدرسة توفيرها وتنظيمها وتوجيهها والإشراف عليها، والتأثير بها في شخصية المواطن، بحيث تنمو نموا متكاملا تكامل الحياة في المجتمع المعاصر، سواء أكانت هذه الخبرات في داخل المدرسة أو خارجها، فالمنهج بهذا المعنى يجعل المدرسة إما أداة لبناء الإنسان الحر، أو وسيلة لتحقيق إيديولوجية الأنظمة المستبدة، حيث أوضحت دراسات عديدة الدور الذي يمكن أن تسهم به المناهج في تزييف الوعي الاجتماعي والسياسي(38).
وإذا كان من الضروري أن يتضمن منهج التعليم للطلاب على اختلاف مستوياتهم, ومراحلهم التعليمية قاعدة معرفية عريضة، تمكن الطالب من الوعي بطبيعة القهر، والتعرف على مظاهر الاستبداد السياسي، وآثاره السلبية والمدمرة على الفرد والمجتمع، كل هذا لا يكون، إلا نتيجة منهج دراسي خاص يتناول العملية التعليمية بحذافيرها حتى الحياة اليومية في المدرسة، وما فيها من مجالات مشاركة التلاميذ مشاركة تبني فيهم عادات الأخذ والعطاء في سماحة، والحوار في تأدب، والقيادة في غير تعال، والانقياد في غير غفلة، واحترام رأي الأغلبية دون التنازل عن حرية التصحيح والمراجعة، وحرية الفكر من غير سعي وراء كسب القضية للرأي, ولو بالخداع والزيف، ونقد النفس، ونقد الغير من غير علو في هذا، ولا تواضع في ذلك، وتمسك بالحقوق من غير طمع، والقيام بالواجبات في غير ترخص(39).
**********************
الحواشي
*) باحث وكاتب من سورية.
1 - أندريه مرسييه برن: التسامح كأمر فلسفي، ضمن مراد وهبة، التسامح الثقافي، مرجع سابق، ص43-59 ص50.
2 - جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرم بن منظور: "لسان العرب"، مج(2)، دار صادر، بيروت، 1955-1956م، ص490.
3 - الشيخ محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي: "مختار الصحاح", دار الفكر، بيروت، ص312.
4 Madlein Crawitz: Lexique des sciences sociales, Dalloz, Paris. 1983. P. 358.
5 - مراد وهبة: "التسامح والدوجماطيقية" ضمن أبحاث المؤتمر الإقليمي الأول للمجموعة الأوروبية العربية للبحوث الاجتماعية, المنعقد في 21-24 نوفمبر عام 1981م، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1987م، ص43-59، ص155.
6 - علي أومليل، التسامح هل هو مفهوم محايد، ضمن مراد وهبة، التسامح الثقافي مرجع سابق، ص103-104.
7 - علي أومليل: "التسامح هل هو مفهوم محايد"، مرجع سابق، ص105.
8- إبراهيم إعراب، التسامح وإشكالية المرجعية في الخطاب العربي، المستقبل العربي، تشرين الأول (أكتوبر)، عدد 224، 1997م، ص48 - 7، ص49.
9 - إبراهيم إعراب: التسامح وإشكالية المرجعية في الخطاب العربي مرجع سابق، ص50.
10- ريمون بولان: الحرية في عصرنا، ترجمة وتقديم عادل العوا، دار طلاس، دمشق، 1993م، ص161.
11- رضا بوكرع: سمات الحوار الخاص بالتسامح في تونس، ضمن مراد وهبة: التسامح الثقافي، مرجع سابق، ص105.
12 - إبراهيم إعراب: التسامح وإشكالية المرجعية في الخطاب العربي مرجع سابق.
13- Voltaire a publié son ouvrage Traité sur la tolérance (1763) مقالة في أصل التسامح.
14- هيلين دار بشير: حرية الكلمة الحرية الرئيسية، رسالة اليونسكو، مارس (ص14-24) 1994م، ص14.
15- هيلين دار بشير: حرية الكلمة الحرية الرئيسية، المرجع السابق، ص15.
16- مقتطفات من إعلان المبادئ المتعلقة بالتسامح الذي أعلنه ووقعه المؤتمر العام لليونيسكو في 16 نوفمبر 1995م، رسالة اليونيسكو، آذار/ مارس، 1996م، ص34.
17- مقتطفات من إعلان المبادئ المتعلقة بالتسامح رسالة اليونيسكو، مرجع سابق، ص34.
18- مقتطفات من إعلان المبادئ المتعلقة بالتسامح مرجع سابق، رسالة اليونيسكو، ص34.
19- إبراهيم إعراب: التسامح وإشكالية المرجعية في الخطاب العربي، مرجع سابق، ص49.
20 - محمد جابر الأنصاري حمد جابر الأنصاري: مفهوم التسامح في الثقافة الإسلامية وانعكاساته على تربية الأطفال، ضمن:
لجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، الطفولة في مجتمع عربي متغير، الكتاب السنوي العاشر، الكويت، 1994- 1995م، ص41-75، ص71.
21 - سعد عبد الرحمن، عملية التطبيع الاجتماعي وأزمات التعصب والتحامل في مجتمعاتنا المعاصرة، عالم الفكر، عدد1، أبريل/مايو/يونيو، 1970م، ص82-132.
22- قاسم الصراف، غياب المفاهيم التربوية في البيئة المدرسية، ضمن، الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، الكتاب السنوي العاشر، الكويت، 1994-1995م. ص113-151، ص116.
23- ادجار بيزاني: في مواجهة عدم التسامح، رسالة اليونسكو، يونيو 1992م، (صص34 - 36)، ص34.
24- ادجار بيزاني: في مواجهة عدم التسامح، مرجع سابق، ص34.
1- الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، تربية التسامح وضرورات التكافل الاجتماعي، تحرير حسن علي الابراهيم، الكتاب السنوي العاشر، الكويت، 1994- 1995م.
26- محمد أركون: الإسلام واختلاف النماذج، رسالة اليونسكو، يونيو 19902م، ص30 - 34، ص32.
27 - ريمون بولان: الحرية في عصرنا، مرجع السابق،، ص151.
28- المرجع السابق، ص152.
29 - ريمون بولان: الحرية في عصرنا، المرجع السابق، ص155.
30 - أندريه مارسييه برن: التسامح كأمر فلسفي، ضمن مراد وهبة: التسامح الثقافي: أبحاث المؤتمر الإقليمي الأول للمجموعة الأوروبية العربية للبحوث الاجتماعية المنعقد في 21-24 نوفمبر عام 1981م، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1987م، ص43-59، ص51.
31 Hacker.F.: Agression -violence dans le monde moderne , Calmman-Lévy , Paris,1954.
32 Paul lévey: Présentation acadimique de G.Bouthoul lors de la remise du doctorat Honoris Causa de l’Un.Catholique de Louvin,13 Mars,1971.
33- أحمد الحطاب: الصفات التي يجب أن تتسم بها التربية للاستجابة لمتطلبات القرن الواحد والعشرين مكتب اليونيسكو الإقليمي، العدد 35، يونيو، حزيران، 1989م. ص29.
34- أحمد خليفة بوشرباك: حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في إطار مناهج التعليم في دولة قطر، التربية الجديدة، عدد58، 1995م. ص134.
35- أحمد الحطاب: الصفات التي يجب أن تتسم بها التربية للاستجابة لمتطلبات القرن الواحد والعشرين، مرجع سابق، ص38.
36 - عمران البخاري, مران البخاري: التربية على حقوق الإنسان والديمقراطية في التعليم الثانوي، التربية الجديدة، عدد 58، 1995م، ص108.
37 - حسن علي عبد اللطيف: حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في مناهج التعليم الثانوي في دولة البحرين، التربية الجديدة، عدد58، 1995م، ص87-103، ص97.
38- أبو الفتوح رضوان: منهج المدرسة الابتدائية، دار القلم، الكويت، 1973م، ص45.
39- أبو الفتوح رضوان: منهج المدرسة الابتدائية، المرجع السابق، ص44.