درس في الدعوة من قصة موسى عليه السلام
لقد شمل القرآن الكريم على قصص الأنبياء السابقين بجانب ما اشتمل عليه مما يلزم من تنظيم علاقات الإنسان مع ربه وغيره لتحقيق سعادته حتى قيام الساعة.. فما دور هذا القصص القرآني في حمل الدعوة الإسلامية في العصر الحاضرة وكل عصر؟
لا شك أن في القصص القرآني آيات وآيات، ودروساً معجزات، يحتاج حامل الدعوة إلى الوقوف عندها والاعتبار بها، إذ هي لا تترك جانباً من الجوانب إلا ولها فيه وقفة مؤثرة وحديث فعّال.
صحيح أن المطّلع على الاختلاف في أخذ شرع من قلبنا قد يظن أنه فيه توهيناً للعزم عن الوقوف والاعتبار بما حصل مع أصحاب الرسالات الربانية السابقة واتباعهم، ولكن هذا الوهن ينتفي ونحن في معرض بعيد عن الأخذ بالشرع وإنما هو معرض الاعتبار كاتباع. دُعينا في القرآن والسنة لضرورة الحرص عليه والأخذ به.
وإذا كان لنا أن نختار درساً أو عبرة من قصة بعثته فلا أقل من أن تستثير الأحداث العاصفة في التآمر على أرض الإسراء والمعراج ـ التي بارك الله فيها ـ في هذه الأيام بشكل فاضح فخرٍ أن يكون للدرس صلة وثيقة بها. ولن تكون هي الصلة أوثق من أن نأخذ الدرس من بعثة موسى عليه السلام.
وإذا كان للقرآن الكريم التنويع في وقفاته مع قصة كل بعثة بين سورة وأخرى فذلك يتجلى أكثر ما يتجلى في هذه القصة بالذات. وإذا كان لنا أن نحدد وقفة معينة من هذه القصة، فيها من الإثارة الفائقة الشيء الكثير، فسنجد ما تقدمه سورة طه خير ما نختار.. فلنسر مع تسلسل أحداثها.. مستنطقين.. معبّرين.. ومن «ظلال» الشهيد سيد قطب مستفيدين..
تبدأ السورة بالتنبيه على محمد ﷺ بأن الله سبحانه لم ينزل عليه القرآن ليشقى مع الناس حين كُفْرهم به وبرسالته، لأنه ليس له سيطرة على القلوب ليفرض عليها الإيمان، ثم تنتقل إلى عرض الكثير من تفاصيل قصة بعثة موسى عليه السلام على سيدنا وحبيبنا محمد عليه السلام، وعلى كل من تبعه وأقبل على كتابه يتلوه ويتدبره لما في ذلك من نموذج من نماذج الرعاية الربانية لكل من يكلف بتبليغ رسالة وحمل دعوة..
صحيح أن القصص القرآني يصل إلى مدى ثلث القرآن الكريم ولكن قصة موسى هي أكثر هذا القصص وروداً. فلنقف مع سير أحداثها في هذه السورة.
ها هو موسى عليه السلام يعود من مدينة بصحبة أهله وقد رأى ناراً في طريقه بجانب جبل طور سيناء فيتوجه إليها طالباً الدفء وهداية الطريق، والليلُ مظلم والبرد شديد. ففي هذه البداية إرهاص لنمط الإعداد النفسي والجسدي الذي يهيئ الله به رسوله لتحمل تكاليف ومتاعب تبليغ رسالته. ومعه تظهر نفسه وقد استردت عافيتها واستعدت لتحمل الصعاب ومجابهة الأهوال.
وها هو يسمع النداء العلوي ]إِنِّي أَنَا رَبُّكَ[ ليتهيأ لتلقي الأمر الإلهي ]فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى[ فيدرك أن الله قد اختاره لتبليغ رسالته، والتي تقوم على أصول ثلاثة: ]إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي @ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى @ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى[ إنها الأصول التي تطلب من كل صاحب رسالة وحامل دعوة: أن يفرد الله بالوحدانية، وأن يخصه بالعبادة، وأن ينتظر جزاء سعيه يوم القيامة دون أن يلتفت لدعوات الملحدين والمشككين..
ثم تنتقل الآيات إلى موقف آخر، إلى هزة نفسية يهز بها النداء العلوي أعماق موسى عليه السلام وقد رأى عصاه تتحول إلى أفعى بمجرد أن ألقاها، فيستولي عليه الخوف، فيؤمر ]خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى[ فتطمئن نفسه هو يراها تعود عصا كما كانت، فيعطيه النداء العلوي جرعة أخرى من الاطمئنان ]وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى[ فيستعد بكامل جوارحه لتحمل تبعات التكليف.
إن هذا الموقف من تصوير القرآن الكريم لإعداد موسى للتكليف يذكرنا كما يذكر رسولنا ورسول الإنسانية جميعاً أن النفوس بحاجة إلى الإعداد المسبق لتحمل التبعات، وأن هذا الإعداد يحتاج إلى عناية فائقة تظهر على شكل هزات عنيفة بالمعجزات مع بني إسرائيل ورسولهم موسى عليه السلام، ولو إلى حين، وبالقرآن الكريم، المعجزة الخالدة، مع البشرية ورسولها محمد عليه السلام.
ثم تتحدث الآيات عن التكليف الأول لعبد الله ورسوله موسى ]اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى[. فيتذكر جبروت ذلك الطاغية وما يفعله بقومه من تقتيل واستعباد فيتوجه إلى ربه طالباً العون ]قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي @ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي @ يَفْقَهُوا قَوْلِي @ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي @ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي @ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي @كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا @ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا @ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا[ مؤكداً بطلبه ضعف نفسه ونفس أخيه عن القيام بأعباء هذه المهمة الجسيمة وهما على ما هما من الضعف وأنهما دون سند العناية الربانية لن يتمكنا من القيام بالمهمة التي يطلبها منهما الرب سبحانه وهو العالم البصير بحالهما قبل التكليف وبعده وبما يحتاجانه لحسن القيام به.
فالله سبحانه يذكرنا بهذا الموقف إذ يذكّر بذلك رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام بأنه جلّ شأنه لا يكلف أحداً من رسله إلا ويوفر له إمكانيات القيام بهذا التكليف، وأنه سبحانه ما كان ليطلب من أصحاب رسوله محمد عليه السلام ومن تبعهم بإحسان إلا ويعينهم وينصرهم وبالقدر الذي ينتصرون فيه لطاعته. وأنه سبحانه الذي يستجيب لمطالب عبده ورسوله موسى ]قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى[ ويذكره بالمنن الربانية عليه منذ ولادته ليزداد اطمئناناً على اطمئنان فإنه سبحانه يؤكد لرسوله محمد ويطمئنه ويطمئن أتباعه من بعده، بأنه لن يتخلى عنهم وهم القائمون على أمره العاملون بطاعته. وأنه سبحانه عندما يضاعف جرعات التطمين لرسوله موسى ]وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي @ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي @ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى @ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى[ ويأمره بالتوجه وبصحبته أخوه هارون إلى فرعون ليخاطباه بلين القول لما فيه من الاستجابة للتذكر والتفكر فيما يدعى إليه وإثارة الخوف من عقاب الله المبين على لسانهما، فإنه سبحانه يدعو محمداً وأتباعه للحرص على القول اللين عند التبليغ وحمل الدعوة حتى أمام أعتى الطغاة وأظلم الظالمين. وأن لا ييأسوا من هداية أحد لأن اليأس يفقد الدعوة حرارتها ويقعد حاملها أمام الجحود والإنكار. وأن يواصلوا المسير دون كلل أو ملل في حمل الدعوة ولو كانت الطريق مليئة بالفراعنة.
ثم تنتقل الآيات لتحدثنا عما في نفسيْ موسى وهارون عليهما السلام من الخوف في مواجهة الطاغية ]قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى[ فهما يخافان من تسرع الطاغية بإيقاع الأذى عليهما دون رويّة. وفي هذا الموقف تصوير لما يستشعره كل صاحب دعوة أو حاملها أمام الخطوب، ومما يحتاجه من طمأنينة حتى يتغلب على خوفه ويسمو عليه فلا يراه ولا يرى مصدره موضع حط من عزيمة أو إضعاف من قدرته. فجاءهما التطمين الرباني ]قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى[ مطمئناً لهما أنه سبحانه القاهر فوق عباده القاهر لهم. إنه معهما وكفى.. فلتطمئن منهما النفوس، ولترتح القلوب، فالحامي معهما يسمع ويرى، فمن فرعون. وما يكون والله معهما؟! فتطمئن منهما النفوس وتهدأ الخواطر فيصدر لهما الأمر الرباني ]فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ[ إنهما الرسولان المرسلان لإنقاذ بني إسرائيل من بطش فرعون وإعادتهم إلى عقيدة التوحيد وإلى الأرض المقدسة. وفي هذا التطمين لهما تطمين لرسولنا ورسول الإنسانية كلها محمد عليه السلام بأن الله سبحانه لن يتخلى عنه وعمن يتحمل المشاق في سبيله، فلينطلق غير آبه بكل الصعاب لأن الله معه يعينه ويسدد خطاه ويجزل مثوبته.
وبعدها نستمع، إذ يستمع الكون، لهذا الحوار ين موسى عليه السلام والطاغية فرعون ]قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى @قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى[ فهو يتجاهل ما بدأ به بأنهما رسولا الله ربه فيسأله عنه فيسمع الجواب بأنه الخالق المدبر الذي خلق كل شيء وأودع فيه التدبير الذي يهديه لأداء مهمته التي خلق من أجلها. وفي ذلك تذكير لأولي الألبان حتى قيام الساعة. وأما عندما يعود الطاغية للسؤال ]قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى؟[. السؤال عمن مضى من الناس، ومن ربهم، فيسمع الجواب: ]قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى[ محيلاً عالَمَ الغيب الذي لا علم له به إلى ربه العالم بكل شيء ]الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى @ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُُوْلِي النُّهَى[ موضحاً له قدرة هذا الرب الخالق الرزاق المدبر إذ خلق الحلق من الأرض وجعل في الأرض التي يعيشون عليها مهداً تضمهم إلى حضنها وتغذوهم بلبنها، وأنها ساكنة للسير والإنبات بما ينزل عليها من ماء السماء. ففي هذا الوصف ما يدعو كل عقل سليم للتأمل بهذا النظام العجيب من الخالق المدر الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى…
وبالرغم من استمرار البيان لفرعون لعله يذّكرُ أو يخشى ]مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى[ ولكنه يصرّ ويكابر وهو الذي يدعي الربوبية ويستمر في الغطرسة ولا يجد في النهاية بداً من اللجوء إلى الاتهام وقد ألجمته الحجة بما هو أقرب إلى فهمه وإدراكه،من واقعه الذي يمارس بأمره ألا هو السحر ]قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى @ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لاَ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى@ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى[. لقد رأى هذا الطاغية وقد استبعد البلاد والعباد أن في إطلاق بني إسرائيل إخراجاً له ولعصابته من الأرض التي يدعيها لنفسه بسبب الرعب الذي يعيشه من بني إسرائيل وخوفاً على مصيره منهم والذي كان يجعله يستعبد كبارهم ويقتل صغار ذكورهم ويستبقي إناثهم ظناً منه أن في بقاء له. كما رأى مع تصوره السقيم بأن ما أتاه به موسى هو السحر وأن لديه من السحر والسحرة ما يقضي به على هذه الحجة ويديم جبروته وسطوته. فهو هنا يرى كما يرى كل طاغية أن أصحاب المبادئ لا يستهدفون إلا هذه الدنيا، كما يرى ذلك من نفسه، وأنهم لا يستخدمون إلا بعضاً من وسائلها الخسيسة لتحقيق مآربهم، فليفعل هو كما يفعلون، ولديه من ذلك الشيء الكثير. ففي هذا التصوير تذكير لحملة الدعوة إذ يذكر سبحانه رسوله محمداً ﷺ بأن الطغاة هذا شأنهم من مقابلة الحجة بمثلها في البداية ولو من باب التظاهر الكاذب بما يبدونه من ترغيب وإغراء لما يمكن أن يوهم الدعاة بأنه عودة للطاغية إلى الحق وما هو إلا مكر وخبث ودهاء سرعان ما ينكشف عندما يكشرون عن أنيابهم ويعملون في لحم في حملة الدعوة تمزيقاً وتشتيتاً. ففرعون ظن أنه تحدى موسى عندما دعوا لتحديد موعد في مكان مكشوف ]مَكَانًا سُوًى[ ولكن خاب ظنه عندما قبل صاحب الرسالة هذا التحدي مما يتجلى به من الاطمئنان للعون الرباني الذي يبطل الباطل ويظهر الحق مهما حاول أن يتحداه الطغاة والظالمون والدجالون.
وتنتقل الآيات إلى ما كاد به فرعون ودبّره هو وبطانته فتقول: ]فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى[ مشيرة إلى ما يفعله الطغاة في مثل هذه المواقف فنبهه إلى أن هذا مما يتوقع منهم فلا غرابة فيه ولا بد من إعداد النفوس للتصدي له بالشكل الشرعي المحدد، مما يجعلها تنتقل فوراً لتحدثنا عما فعله موسى من بذل النصيحة لفرعون وطغمته وتذكيرهم بعاقبة الافتراء ضد المعجزات الربانية وهي صدق وحق ]قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى[ فتنفذ الكلمة الصادقة إلى أعماق قلوب بعضهم فيترددون في ممارسة التحدي وأما المكابرون منهم فيصرون على ذلك فتفضح الآية فعلتهم ]فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى[ لتشير إلى وجود العناصر الطيبة دائماً جنباً إلى جنب مع العناصر الخبيثة وتذكّر بأنه لا يجوز التردد في الصدع بكلمة الحق حيثما كان لأنها لن تحرم النفوس المتعطشة للاستجابة لها ولو كانت في مكانة فرعون ومع استمرار مكابرة الآخرين ومواصلتهم التحريض بحجة أن المصير مرتبط نتيجة هذه المبارزة لكشفهم الآيات ]قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى @ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى[ مؤكدة أنه لا حجة لهم في تحريضهم غير الاتهام بضياع الأرض، وكأن كل هدف أصحاب الدعوات هو السيطرة على الأرض لشهوة الحكم وتسخير الآخرين كما يفعلون هم، وموضحة مدى الاستخفاف بعقول القوم عند الزعم بأن ما هم عليه من ممارسة السحر أو العيش على الوثنية وتقديس الطاغوت هو الطريق المثلى، ومبيّنة كيف يحرص الطغاة وطغمتهم على تجميع كل أنواع المكر والدهاء ضد الحق للنيل منه ومن أهله وهم يدّعون بأن الفلاح مرتبط بالغلبة بين الطرفين حتى لو كانت لقوة البغي أو الطغيان أمام ضعف أهل الحق ودعاته. ففي هذا الموقف كله ما يشير إلى التدخل الرباني الذي فرض على فرعون وبطانته قبول مثل هذه المعركة ضد موسى وأخيه هارون وهما من هما من بني إسرائيل المستعبدين المستذلين. ويظهر ذلك جلياً عندما يرون فيهما الطرف الآخر المساوي لهم ]قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى @ قَالَ بَلْ أَلْقُوا[ فتشير إلى التحدي وقبوله بين الطرفين، فيطلقون العنان لسحرهم ]فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى @ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى[ فتبهر الأنظار حتى تخيف موسى نفسه بالرغم من اطمئنانه بجانب ربه. مما يكشف عن لحظة من لحظات الضعف البشري قد اعترته إذ غاب عنه أن ربه معه يسمع ويرى وأنه هو الأقوى. فيذكره ]قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأََعْلَى[ وتدعوه أن لا يتردد في إظهار الثقة بربه لوضع الحد لهذا السحر العظيم ]وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى[ لأن ما يفعله هو الحق وما يفعلونه هو الباطل، وأنىّ يفلح الباطل مهما أتى من مظاهر القوة لأنه ما أسرع ما يتلاشى أمام الحق الثابت الناصع لثبات أهله ووضوح حجتهم وقوة موقفهم.. وفي ذلك ما فيه من تنبيه إلى رسولنا ورسول البشرية ﷺ ولنا من بعده من ضرورة الاعتماد على العلي القدير للتصدي للصعاب والتغلب على المشاق التي من المتحتم على الدعوة وأهلها أن يقابلوها.. فما أن صدر الأمر الرباني ]وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ[ حتى تحققت المفاجأة الصاعقة ]فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى[ وتحول الخلاف بينهم على الخوف من الكذب على الحق إلى اتفاق عليه، وارتفعت القلوب المرتبطة بالأرض وقيمها إلى السماء ونعيمها، وسرى دفء الإيمان في عروقها فتحولت من ظلمة سفلية إلى إشراق علوية..
فماذا كان شأن فرعون أمام هذا التمرد عليه؟ ]قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى[.. إنه ما زال سادراً في غيّه فقد أصاب العمى قلبه وبصيرته فتصور أن دخولهم في الإيمان يحتاج إلى إذن منه.. إنه شأن الطغاة الذين يتخيلون حتى دواخل الناس ملكاً لإشارات أصابعهم، فيقدمون من يخالفهم بما يحلوا لهم من التهم الباطلة التي صنعها لهم خيالهم المريض فلا يرون في إيمان السحرة بعد الكفر إلا استجابة لسحر آخر، وأن ما فعله موسى من معجزات ليس إلا السحر. وأنهم سيذيقونهم أشد العذاب وأدومه من تقطيع للأوصال وصلب في الأشجار.. وما أشبه اليوم بالبارحة وجلاوزة الحكام يعيثون في البلاد فساداً باسم المحافظة على «الطريقة المثلى» التي يعيشونها هم وطغمتهم.. لقد ظن الطاغية أن بتهديده ووعيده.ز بتنفيذ ذلك كله في هؤلاء الذين استجابوا لله وللرسول سيعيدهم إلى حظيرة الكفر ونسوا أن الوقت قد فات وأن ما بأيديهم أضعف بكثير من قوة الإيمان التي دخلت القلوب فأحالتها إلى أقوى من الجبال وإذا بالألسن المؤمنة تقذف فرعون بالعبارات الإيمانية وتتحدى كل تهديداته ]قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا @ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[.. إنها الصواعق الإيمانية تنقضُ على معاقل الافتراء فتزلزلها من أعماقها: فاقض ما أنت قاض.. كيف يقال هذا لفرعون وبعرض وجهه!! فرعون الذي يرى الدنيا ملك يديه فيعطيها لمن يشاء ويسلبها ممن يشاء يسمع ]إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[ يسمع كامل الاستخفاف بكل ما بين يديه، سمع ممّن كان يتصرف بهم تصرف السيد بالعبيد يعلنون إيمانهم بغيره، وأن ذلك الإيمان به ما كان إلا خطيئة يريدون أن يكفّروا عنها بهذا الإيمان بربهم، وإن ما كان يكرههم عليه من السحر يرجون أن يكفّروا عنه بهذا الإيمان الحق بربهم، وأن هذا الإيمان هو الحق لأنه إيمان بالحق، والحق هو الخير وهو الأبقى.. وأما الطغاة وعذابهم فلسوا بخير وليسوا بأبقى ـ لأنهم الدنيا وما فيها من متاع زال مهما تلون بألوان زاهية.. إنهم يصنعون هذا الطاغية ]إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا @ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلاَ @ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى[.. فلترتدع أيها الباغي عن تهديدك ولتعلم بأن إجرامك سيقودك إلى عذاب جهنم الذي يفوق عذابك بكثير وستبقى تتقلب فيه بين الموت والحياة بينما ينتهي ما تعذبنا به بالوفاة.. ولتعلم بأننا قد آمنا بربنا ولن نعمل إلا الصالحات لتكون لنا الدرجات العلى في جنان الخلد، جنات عدن الطيبة بثمارها وأنهارها التي تطهرنا من الآثام التي أكرهتنا عليها وعشناها معك في وهم كبير.ز
إنهم يعلنون بملء أفواههم انتصار إيمانهم وعقيدتهم كما انتصرت معجزة رسولهم.. انتصار في واقع الحياة يقابله في أعماق القلوب.. وأين ذلك من إفهام الطغاة وعقولهم، وأنىّ لقلوبهم الغُلْفِ وأفئدتهم العُمْيِ أن تصل إلى ذلك وتدركه!! إنه الموقف المحسوس الملموس بأن نصر القلوب وانتصارها على الباطل بالإيمان مرتبط بنصر الحق وانتصاره على الباطل في العيان.. وما أكثر ما جال الباطل وبغى طواه النسيان..
وتقترب الآيات من تصوير مواقف جولات الحق وهزائم الباطل فتبرز ذلك الموقف الرباني وقد تولت رعاية الله دورها في التدخل المباشر لإنقاذ موسى وقومه وإغراق فرعون وجنده، بعد أن كان لا أمل لموسى وقومه وهم على ما هم عليه من الضعف والهوان أمام قوى البغي والطغيان. وتظهر كيف آلت المعركة بين الطرفين: نصر للإيمان وخذلان للطغيان.. وأين هذا اليوم من البارحة وقد كان بنو إسرائيل يسامون أشد العذاب وهم على كفرهم فلم يجدوا نصيراً ولا معيناً.
إنها دعوة لحملة الحق وشعلته ليقبلوا على ربهم وعبادته غير هيابين من العصاة والمارقين من دينه، فهم على الحق وأولئك على الباطل، والحق أحق أن يتبع، ودولة الباطل جولة، ودولة الحق حتى قيام الساعة. ]وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[..
وإذا كان موسى عليه السلام قد نسف عجل السامري وألقاه في البحر فتلك شريعته، وهو الذي لو لحق بأخيه محمد عليه السلام لما وسعه إلا اتباعه ورأى بأم عينيه كيف أن الأصنام ما تهاوت إلا تحت معاول رايات الإسلام ودولته.. فإلى تلك الرايات يا شباب محمد.. ارفعوها بأيديكم، وانطلقوا بها في الآفاق تسعدوا وتسعد بكم أمتكم ويسود الحق في الأرض كما ساد في داركم..