موقف الإسلام من الحوار بين الأديان
أضافه الحوار اليوم في
محمد حسين عبد الله
باسم الحوار بين الأديان، اجتمع ويجتمع بعض علماء المسلمين مع الكرادلة النصارى، وبعض الكرادلة مع الحاخامات اليهود، يتناقشون يقررون التوصيات، فما هو موقف الإسلام من هذا الحوار، وما هي أهدافه وأغراضه؟
قبل بيان ذلك، لا بد من تحديد معنى الإسلام وحقيقته، ذلك المعنى الذي يحاول المتحاورون التغشية عليه، فأطلقوا بدون قيد، وعن عمد، بأن الإسلام لا يختلف عن غيره من الأديان السماوية كاليهودية والنصرانية وأن الأنبياء كلهم مسلمون، وأن من اتبع ملل هؤلاء الأنبياء مسلمون كأنبيائهم، وقد احتج واستدل مروّجو هذه الفكرة بآيات من القرآن الكريم كقوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا…} [الحج: 78]، وكقوله تعالى عن قوم لوط: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36]، وكقوله تعالى عن ملكة سبأ: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].
والمتتبع للفظة «الإسلام» في القرآن الكريم يجد أنها لم ترد إلا بمعنى واحد، وهو الدين الذي أنزله الله على محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذلك قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]، ومنه قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الأنعام: 125]. فهل كل من وصفه الله تعالى في القرآن بأنه مسلم هو معتنق للإسلام، الدين الذي أنزله على محمد -صلى الله عليه وسلم-؟
وللإجابة عن هذا السؤال إجابة دقيقة لا بدّ من بحث أمرين: أحدهما لغوي والآخر شرعي.
أمّا اللغوي، فإن كلمة «أسلم» قد وضعها العرب أصلاً بمعنى «انقاد». فكل من انقاد لنبي من الأنبياء، فآمن بما جاء به من عقيدة، والتزم بما نزل عليه من أحكام، فهو مسلم لهذا الدين، أي منقادٌ له في عقيدته وسلوكه، ولذلك وصف الله أتباع هؤلاء الأنبياء بأنهم مسلمون، ولم يقل عن دينهم بأنه الإسلام.
فألفاظ: «أسلم، ومسلم، ومسلمون، وأسلمت» استعملها الله في القرآن بالنسبة لأتباع الأنبياء السابقين لمحمد -صلى الله عليه وسلم- بمعناها اللغوي الوضعي، أي حسب المعنى الذي وضعه العرب لهذه الألفاظ أصلاً. وعندما أرسل الله محمداً -صلى الله عليه وسلم- بدين غير الأديان السابقة إلى الناس كافة سمّاه «الإسلام»، وسمّى معتنقيه «المسلمين». و«الإسلام» لفظ نُقل من معناه اللغوي الوضعي، وهو الانقياد، إلى المعنى الشرعي الذي بيّنه الله تعالى بقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}، فيكون الإسلام بمعناه الشرعي: هو الدين الذي أنزله الله على محمد -صلى الله عليه وسلم- بواسطة الوحي بتنظيم علاقة الإنسان بربه وبنفسه وبغيره. وكما سمّى الله أتباع الأنبياء السابقين مسلمين، سمّى كذلك معتنقي الإسلام مسلمين، ير أن الواقعيّن مختلفان وإن تشابها باللفظ، فلا يجوز لغةً الآن أن نطلق على اليهود والنصارى الحاليين مسلمين،لأنّ اللفظ نُقل معناه اللغوي الوضعي إلى المعنى الشرعي، فلا نستعمل اللفظ في معناه اللغوي والوضعي إلا بقرينة تدل على هذا المعنى كأن نقول: «لقد أسلمت ملكة سبأ للنبي سلميان عليه السلام». وإذا استعملنا ألفاظ: أسلم وإسلام، ومسلمين بدون قرينة، فالإسلام هو الدين الذي أُنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-، والمسلمون هم معتنقو هذا الدين، وليس هم أتباع إبراهيم أو موسى أو عيسى عليهم السلام.
وهذا النقل للألفاظ العربية من معناها اللغوي الوضعي إلى المعنى الشرعي أمرٌ بحثه علماء أصول اللغة والفقه، ويعرفه العلماء والفقهاء واللغويّون، وقد ورد منه الكثير في القرآن والسنة مثل ألفاظ: الصلاة، والزكاة، الحج، الصوم، الشهادة في سبيل الله، الوضوء، المؤمن، الكافر، الجهاد، الخراج، الذمّي، وغيرها. وقد وردت الأدلة الشرعية على نقلها من معناها اللغوي الوضعي إلى المعنى الشرعي، ووضع علماء أصول الفقه قواعد للترجيح بين الدلالات المتعددة للفظ الواحد إن وجدت في النص الواحد، ومن هذه القواعد: «الحقيقة اللغوية الشرعية تُرجّح على الحقيقة اللغوية الوضعية» فيكون المقصود من قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} هي الأعمال المخصوصة التي بيّنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ركوع وسجود وجلوس وتلاوة، وليس المعنى اللغوي الوضعي للصلاة وهو الدعاء. هذا إن لم توجد قرينة عقلية أو لفظية تدل على المعنى اللغوي الوضعي. وقد طلب منّا الله سبحانه وتعالى أن نُسمي المسميات بأسمائها الشرعية، قال تعالى مُخاطباً رسوله -صلى الله عليه وسلم-: {قَالَتْ الأََعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، لأن النطق بالشهادتين والخضوع لأحكام الإسلام لا يعني إلا الإسلام، أمّا الإيمان وهو التصديق الجازم، فهو أمر نفسي لا يعلم به إلا الله سبحانه وتعالى.
هذا من حيث اللغة، أما شرعاً فإن الله قد أمرنا أن نحمل الإسلام إلى الناس كافة، المشركين واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوصي قادة الجيوش المنطلقة إلى الفتح بأن يدعوا الناس إلى إحدى ثلاث: «ادعهم إلى ثلاثة خصال.. ادعهم إلى الإسلام.. وإن هم أبوْا سَلْهُمُ الجزية، وإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم…» وقال -صلى الله عليه وسلم-: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله…» وقد دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليهود والنصارى لاعتناق الإسلام، فآمن بعضهم، وظلّ الباقون على دينهم، وهذا دليل قاطع على أن الإسلام غير سائر الأديان، وأن المسلمين هم من اعتنقوا الإسلام، وأن الكفار هم الذين لم يعتنقوا الإسلام سواء أكانوا مشركين أم أهل كتاب، قال تعالى: {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ} وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. فالذين أوتوا الكتاب حسب نصّ الآية لا يدينون دين الحق، أي دين الإسلام، فهم كفار غير مسلمين، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ}. واليهود والنصارى يتخذون غير الإسلام ديناً لهم، بل ويفخرون ويتمسكون بأديانهم، فهم غير مسلمين.
هذا هو المعنى الشرعي للإسلام والمسلمين، وهذا هو الحكم الشرعي في موقف الإسلام من الأديان الأخرى. فقد رسم الله تعالى خطاً مستقيماً، وطريقاً واضحاً للمنهج الذي يجب أن يسير عليه الناس كافة بعد بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الطريق هو الإسلام، الطريق المستقيم بين الدنيا والآخرة المؤدي إلى الجنة، وما عداه من الطرق تؤدي إلى النار، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، أي سيروا على الصراط المستقيم لتتقوا عذابه.
وفكرة الحوار بين الأديان اليوم، فكرة غربية رأسمالية، لا أصل لها في الإسلام، وهي أسلوب لمحاربة الإسلام والمسلمين. فالمقصود منها حرف المسلمين عن دينهم وذلك بالتخلي عن أهم جزء منه، وهو السياسة بمعناها الصحيح، أي رعاية شؤون الناس بأحكام الإسلام، فهم كما فعلوا في مؤتمر «داكار» لإقناع المسلمين بالتخلي عن فكرة الجهاد، الذي هو ذروة الإسلام، يريدون أن يتخلى المسلمون عن فكرة إقامة الدولة الإسلامية التي تطبق نظام الإسلام بحذافيره، لأنّ هذا النظام ـ على حدّ زعمهم ـ فيه أمور غير حضارية، كنظام العقوبات، والجهاد، والنظام الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين الرجل والمرأة، وكتحريم الربا والبنوك الربوية، وكوحدة المسلمين في دولة واحدة فهذه ـ حسب رأيهم ـ أفكار متطرفة، ولا تصلح لهذا العصر، لأنها تخالف «الديمقراطية»، ومبدأ «الحرّيات»، وفيها اعتداء على «القومية» و«الوطنية»، و«حق تقرير المصير».
إنهم في هذا الحوار يضعون الديانة اليهودية والديانة النصرانية جنباً إلى جنب مع الدين الإسلامي، لا فرق بينها، بحجة قوله تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}. وهم يُفتشون عن قواسم مشتركة في الأديان الثلاثة، حتى يدعو لها جميع المسلمين والنصارى واليهود.
عجباً لعلماء المسلمين المشاركين في هذا الحوار وعجباً للمسلمين الساكتين عن هؤلاء العلماء المتحدثين باسم الإسلام! ألم يطّلع هؤلاء العلماء على كيفية دعوة غير المسلمين للإسلام، وقد مارسها المسلمون عملياً طيلة ثلاثة عشر قرناً! كانت تحصل المناقشات والمجادلات بين المسلمين وغيرهم على أساس أن الإسلام هو الدين الصحيح وما عداه باطل! ألم يقرأوا رسائل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك والحكام في عصره. إنه يقول في رسالته إلى ملك الروم: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرّقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، تؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولّيت فعليك إثم الأريسيين»، وقوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. فدعوتنا إياهم لا تعني أن نُقرّهم على دينهم، بل تعني أن نبيّن لهم بأنهم كفار، وأن الله يأمرهم بترك ما هم عليه وباعتناق الإسلام، فإن تولّوا وأعرضوا عن هذه الدعوة، فكونوا واضحين معهم ـ أيها المسلمون ـ وقولوا لهم: لقد بلّغناكم ما أمرَنا اللهُ به، فإنا مسلمون وأنتم كافرون. وأمّا ما يحتج به البعض من قوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، فقد تناسوا بقية هذه الآية، يقول الله تعالى فيها: {… إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} فلا يُجادلون بالتي هي أحسن. وهل هناك أظلم من ممثلي الدول الكافرة الذين يشاركون في حوار الأديان؟! ألم يقفوا معاً في صف واحد لضرب نساء وأطفال المسلمين في العراق؟! أليسوا هم الذين يسكتون عن قتل المسلمين في البوسنة وبورما والهند؟! أليسوا هم الذين قسّموا بلاد المسلمين إلى دويلات ضعيفة، وزرعوا إسرائيل خنجراً مسموماً في أقدس بلاد المسلمين، يمدونها بالسلاح والأموال لقتل المسلمين واحتلال ديارهم؟! أليسوا هن الذين يساندون السلطات الحاكمة في كثير من بلاد المسلمين في قتل حَمَلة الدعوة الإسلامية باسم مقاومة الإرهاب والتطرف؟!
أليسوا هم الذين يمنعون في بلادهم أدنى التزام بالإسلام، فيمنعون المسلمات من ارتداء لباسهن الشرعي في الحياة العامة؟! فكيف يتصور علماؤنا المشاركون في الحوار أن يقبل هؤلاء بعقيدة وأفكار الإسلام؟!
ولكنه حوار قسري وغير متكافئ، إذ هو مفروض من القويّ على الضعيف، وذلك للإجهاز على ما بقي عند هذا الضعيف من رمقٍ يربطه بعقيدته الإسلامية، لأن هذا الخصم القديم الحديث يدرك أن هذه العقيدة وما ينبثق عنها من أفكار، هي سرّ قوة المسلمين، وهي الباعث الحثيث لهم على النهضة من كبوتهم، ليعاودوا سيرتهم الأولى، من تسنّم ذُرى المجد، واقتعاد المركز الأول في العالم، وعندها تتلاشى قوة الكفر والكفار، ويُقضى على مصالحهم المادية، وعلى مبدئهم الرأسمالي، الذي أشبع شهواتهم الجسدية، وجشعهم المالي، على حساب فقر وجوع معظم البشرية في العالم.
إن هذا الحوار الذي يجري الآن باسم الأديان، أو من بعض الخاصة من علماء المسلمين، لا يمت بقرابة إلى المفاهيم الصحيحة العميقة في نفوس عامة المسلمين، إلا أن هؤلاء الخاصة، المضبوع منهم والأجير، يحاولون إقناع المسلمين بهذا الحوار، وبما ينتج من توصيات وأفكار، وذلك لتمييع إسلامهم، وللحيلولة دون عودته نظام الخلافة إلى واقع الحياة، لأن في عودته الخطر الأكيد على مصالح الكفر. فليحذر المسلمون من هذه الأفكار الخبيثة، ومن هذه الأساليب الملتوية، المغلّفة بألفاظ معسولة خادعة، وليَتَصدّ الواعون منهم للردّ الحاسم عليها، وللوقوف ضدّها ومكافحتها، حتى لا تتسرب إلى نفوس المسلمين، الذين بدأوا يتحسسون طريق نهضتهم بالرجوع إلى دينهم الحنيف، ويعملون للتخلص من شوائب الأفكار التي غزاهم بها الغرب بعد هدم دولة الخلافة. وعلى الواعين أيضاً، أن يستقصوا ويبحثوا عن منطلق فكرة الحوار بين الأديان، وعن تاريخها ورجالاتها، لكي يكشفوا أهدافها وأغراضها، وبيان زيفها، ومن ثمّ مقاومتها بكل الوسائل والأساليب الممكنة، لأنها تُلحق الضرر البالغ بالمسلمين، لما تحدثه من تشويه في العقيدة الإسلامية والأحكام المنبثقة منها، والأفكار المبنيّة عليها.
الحوار الخارجي: