عندما تكون الثقافة عامل تغيير للنهوض أو عامل جمود للإنهيار
عندما تكون الثقافة عامل تغيير للنهوض أو عامل جمود للإنهيار
وجيه كوثراني*
إذا كانت "الثقافة" وفق المصطلح الإثنولوجي تفترض الديمومة والثبات، لنمط معين من الحياة لدى جماعة أو قوم، بل تفترض عند الباحثين البنيويين -ولا سيما الألسنيين منهم- بعداً عميقاً "لا واعياً" يقبع في مستوى ما تختزنه اللغة مكتوبةً ومحكيةً من دلالات في المعنى والرمز -فإن طرح موضوع الثقافة العربية بهذا المعنى- يستحضر جملةً واسعة من حقول الدراسة الإثنولوجية: الأساطير والرموز والمآكل والنذور وزيارة الأولياء والأمثال والحكم والفنون ومجالات اللعب والتسلية وتقنيات الحياة اليومية وأنماطها، والحياة السياسية والنظم، ومن بينها نظم القرابة والأسرة وصولاً إلى السلوكات التي تعبر عن نفسها بأشكال شتى من العلاقات، من بينها الاجتماعات والمجالس والزيارات، وصولاً إلى القيم الكامنة وراءها المعلنة في الكلام أو النصوص أو الكامنة في القناعات والضمائر.
لاشك أن هذه الحقول ذات المستوى الذي ينظر له منهج الإثنولوجيين بشكل ثابت، لما يحمله هذا المستوى من استمرارية وديمومة عبر الأزمنة -هي تجليات من الثقافة. ولكن، ومع الاعتراف بأهمية هذا المستوى الذي نبّهت له المعرفة الإثنولوجية للشعوب والأقوام، يمكن أن نضيف مستوىً آخر من مستويات الثقافة وهو المستوى الذي يخضع للتغير والتحول بفعل عوامل تاريخية مستمرة ومتغيرة. ومن حقول هذا المستوى الآخر تجليات الإبداع والكتابة على أنواعها والبحث العلمي والتكنولوجي وتعبيرات الفكر وخطابه المعرفي في مجال الفلسفة والتاريخ وعلوم الإنسان والاقتصاد أي بعبارة واحدة: مجال النهوض بالإنسان والمجتمع.
لاشك أيضاً أن لكل مستوى من مستويات هذه الحقول منهجه وطرائقه. على أن العلاقة بين المستويين (مستوى الثابت والمتحوّل) هي علاقة دائمة ومتحركة، ومتداخلة. فما هو ثابت في رأي الإثنولوجيين عند قومٍ من الأقوام أو شعبٍ من الشعوب لا يعدو في رأي المؤرخين أو علماء الاجتماع والسياسة إلاّ حالة قابلة للتحوّل والتغير بفعل عوامل فاعلة قادمة من الخارج أو بفعل انعطافات تصدر عن الداخل بفعل تراكم من التفاعلات الخارجية والداخلية المركبة من مجموعة معقدة من العناصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية.
وعليه، فإن الأفكار التي تنتجها أو تحملها نخب اجتماعية تؤمن بالإصلاح والتغيير من أجل التقدّم والنهوض وتعمل في المجال العام من خلال الإنتاج الفكري والذهني وتأسيساً على معرفة الواقع معرفة نقدية ومحاولة التأثير فيه -تشكل قطاعاً مهماًّ من قطاعات الثقافة وهو قطاع الأفكار والذي يفعل فعله في اختراق وخلخلة المستوى الثقافي "العميق" الذي يخيل للأثنولوجيين أنه من الثوابت الكامنة في قعر السلوك واللغة والرموز ومنظومة العلاقات الاجتماعية والسياسية. فمجال الأفكار هو المعوّل عليه في نظرتنا إلى مقومات الثقافة العربية، عندما تكون هذه الأخيرة عامل تغيير من أجل النهوض، لا مجال "الثوابت" الذي يحرص الإثنولوجيون أو أصحاب خطاب الهوية تأبيده في سمات هذه الثقافة وطبيعتها. ومن نماذج النظرة "المؤبِّدة" ما يرد بقلم الإثنولوجي فؤاد إسحاق الخوري عندما يصنف الذهنية العربية بالتالي: "يتصوّر العرب الكون وكأنه بنى مسطحة لا هرمية الشكل والتركيب، تماماً كحبات المسبحة أو كأسنان المشط، وأحداث منفصلة ومتساوية ومستقلة بعضها عن بعض. وفي هذا التصور اللاهرمي المسطح للأمور لا تستمد السلطة والسلطان من مناصب وبنى متدرجة التركيب، إنما تستمد من استعمال القوة والهيمنة والقسر بحيث يسيطر الفرد، الأمير أو الإمام على الجماعة والجمهور. المهم في التعامل هو أن يكون الإنسان فاعلاً من خلال مجموعة متلاصقة، متكاتفة يهيمن عليها، يرأسها، يعتني بأمرها، يدير شؤونها، يتزعمها، ومن خلال هذا التزعم يحدد موقعه من الآخرين.."، ويرى قواعد هذا التصور في "ثوابت إيديولوجية، هي بنى ذهنية صحيحة بالفطرة سلفاً، صحيحة عن طريق الإيمان بها (..) وهذه الثوابت "تتجلى في نواح عدة ومتنوعة من نواحي الحياة ابتداءً بلعبة طاولة الزهر وانتهاءً بالحكم الإمامي (من إمام) أو الأميري (من أمير) أو الأوتوقراطي"(1).
ومن تجليات النظرة الإثنولوجية في طبيعة السلطة عند العرب، والتي نجدها في الكثير من الكتابات، الرأي القائل باستمرار العصبيات الدينية الطائفية (كحالة لبنان)(2)، وباستمرار العصبيات القبلية كذلك (كحالة اليمن وغيرها من حالات المجتمعات العربية) محركاً للتاريخ وثابتاً من ثوابت الحياة الثقافية السياسية فيه.
ومع التقدير لأهمية هذا النوع من الدراسات ذات المرجعية الإثنولوجية ولدورها المعرفي في تسليط الضوء على ما يعتقد أنه ثوابت في الثقافة العربية -فإن إعادة إنتاج هذه "الثوابت" في التاريخ تدعو الباحث إلى معرفة شروط هذه الاستمرارية، وإلى إدراك أسباب ديمومتها رغم التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي أصابت المجتمعات العربية. ولذا مرّة أخرى تظل عيوننا مركزة على دور الأفكار في تثبيت "الثوابت" أو على دورها في تغييرها. إذن الأفكار جزء لا يتجزأ من الثقافة، ولكنَّ للأفكار حيزاً من الاستقلالية النسبية يسمح بوعي هذه الثقافة وإدراكها وعقلها والعمل باتجاه تحويلها وتغييرها أو باتجاه تثبيتها. المثل الموضح لهذا الإشكال استذكار دور أفكار عصر التنوير الأوروبي في تغيير ثوابت الثقافة التقليدية القروسطية وتثبيت أفكار الحداثة وإطلاقها في المجتمعات الأوروبية(3), بدءاً من مرحلة النهضة إلى عصر الأنوار إلى زمن القفزات العلمية الهائلة.
وعليه فإن تعريف "الثقافة" الذي هو الأقرب إلى المنحى الفرضي والوظائفي لهذا البحث، هو التعريف الذي حمله إعلان مكسيكو (الأونسكو) في العام 1982م: "الثقافة بمعناها الواسع يمكن أن ينظر إليها اليوم على أنها جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والمعتقدات". أما على صعيد وظائفية الثقافة فالإعلان يشدد على "أن الثقافة هي التي تمنح الإنسان قدرته على التفكير في ذاته، وهي التي تجعل منه كائناً يتميز بالإنسانية المتمثلة في العقلانية والقدرة على النقد والالتزام الأخلاقي، وعن طريقها نهتدي إلى القيم ونمارس الاختيار، وهي وسيلة الإنسان للتعبير عن نفسه، والتعرف على ذاته كمشروع غير مكتمل، وإعادة النظر في انجازاته والبحث دون توانٍ عن مدلولات جديدة وإبداع وأعمال يتفوق فيها على نفسه"(4).
إذن، ربط الثقافة بحرية التفكير والتعبير، وبالمقدرة على النقد باتجاه التجاوز والنهوض والتفوق -أمور ومهمات ترتبط بالوعي والقدرة على الاختيار والتفضيل والانتقاء، وليس باللاوعي والعجز أمام حتميات ثقافة لها طبيعتها وخصوصيتها المعزولة والأبدية.
إنّ العزلة حال افتراضية تنافي طبيعة الثقافة التي هي شديدة الارتباط بالتغير الاجتماعي المتعدد الأوجه والأبعاد. أما بشأن الاحتجاج بسمات الاستمرارية التي تفترضها نظرية الثقافة وخطاب الهوية لتأكيد "استقرار نمط الحياة" و"الهوية" لدى جماعة أو شعب، فإننا نقول مع القائلين: أن التغير يبقى الشرط الضروري لهذا الاستقرار. يقول مؤلفو كتاب "نظرية الثقافة": إن الاستقرار دون التغير يشبه محاولة المرء أن يبقى على توازنه فوق دراجة دون تحريك البدّالات. وكما أن تحريك البدّالات ضرورة لاستقرار راكب الدراجة، فإن التغير ضروري للحفاظ على الأنماط الثقافية"(5).
نخلص من هذا التقديم إلى تسجيل ملاحظات منهجية قد تساعدنا في مقاربة الجانب الأساسي من موضوعنا: كيف يمكن للثقافة العربية أن تكون عامل تغيير في الذهنيات من أجل النهوض.
أولاً: من المفيد منهجيًّا الابتعاد عن تبني تعريف اصطلاحي واحد أو أحادي "للثقافة". فالمصطلحات ليست مفردات قاموسية فحسب، بل هي كالكائنات الحية تكتسب معاني جديدة ومتداخلة في الاستخدام عبر الأزمنة والأمكنة، ومن ثم فإن الثقافة ليست ثابتاً لا واعياً بالمعنى الإثنولوجي الكلاسيكي وليست هوية حصرية بالمعنى الإيديولوجي المطلق، وليست لائحة مغلقة من "خصائص" لازمة لجماعة معزولة أو "لحضارة" تعيش وحيدة ومنفردة في العالم. يقول عالم الإثنولوجيا والأنتروبولوجيا. لفي ستراوس، ومن موقع العارف بأهمية التاريخ كحامل محتمل لعوامل التقريب بين الخصائص الحضارية في موضوع تنوع الثقافات والحضارات وتعددها في العالم ومن ثم لعوامل التغيير والتحويل فيها: "إن مقولة تنوّع الثقافات البشرية ينبغي ألاَّ تفهم على نحوٍ ساكن. فهذا التنوّع لا يمت بصلة إلى تنوّع العينات الجامدة أو تنوّع الفهارس الجافة. وربما كان البشر قد بلوروا ثقافات مختلفة بناءً على التباعد الجغرافي وعلى الخصائص التي تمتاز بها بيئاتهم، وعلى جهلهم بسائر البشر الآخرين. لكن هذا لا يصح بصورة قاطعة إلاّ إذا كانت كل ثقافة أو كل مجتمع قد ولد وترعرع بمعزل عن جميع المجتمعات أو الثقافات الأخرى، بيد أن الأمر لم يكن يوماً على هذا النحو، اللهم إلاّ بالنسبة لحالات استثنائية..."(6).
ثانياً: من المفيد أيضاً أخذ دلالات المصطلحات والكلمات ومعانيها من مفاعيلها في الراهن والحاضر، ومن استدعاءات تفاعل المفاهيم التي تثيرها في الذهن اليوم، أي من استدعاءات رموز الثقافة المعيشة في عصرنا أيّاً كانت تلويناتها الإقليمية والجغرافية _ السياسية والحضارية والتاريخية، لا من مرجعياتها القاموسية اللغوية فحسب، وإن كانت هذه الأخيرة مفيدةً في الكشف عن الأصول ليحسن فهم آليات التطور والتحوّل والتغيير. بل إنه لمن المفيد، تبعاً لذلك، أخذها من حقول دلالات نفعها العام في دفع الاجتماع البشري نحو سعادة الإنسان وخيره في المستقبل.
وعليه أيضاً، إذ كانت لفظة (culture) تفيد في المصطلح الإثنولوجي (الكلاسيكي) الثبات، والهوية، والخصوصية -فإنها في الاصطلاح اللغوي العالمي تفيد الحرث والزرع والإنماء، حتى أضحت تفيد هذا المعنى أيضاً في العلوم الإحيائية وفي الطب.
وإذا كانت لفظة "ثقافة" بالعربية تفيد عبر مرجعيتها القاموسية الحذق والفهم والتعلّم والمعرفة(7) فإنها اصطلاحاً وفي الاستخدام اليومي المباشر في خطاب الإعلام والنشر والتداول، أضحت تفيد معنى صقل الذهن واستخدامه وتنميته، وأضحت كلمة "مثقف" المشتقة منها تعني الإنسان المستخدم _مهنياًّ_ لذهنه في إنتاج معرفة أو خبرة، ومرادفة للكلمة الأجنبية (intellectuel).
كذلك فإن معاني (civilisation) الأجنبية قد تشمل عند بعض الدارسين والباحثين والمفكرين الغربيين على معنى ثقافة (culture) بل قد تتطابق معها. وقد تتمايز عنها كما هو الحال لدى مفكري النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وكما نرى عند شبنجلر، وتويمبي على سبيل المثال. فهذان الأخيران وبسبب معاناتهما حروب أوروبا، ينعيان الحضارة الأوروبية بسبب تحولها إلى حضارة مادية، وتكنولوجية لصناعة الحروب. "فالحضارة" وخاصة عند شبنجلر في كتاب "أفول الغرب" هي دور من أدوار"الهرم والركود والإنتاج المادي"، في حين أن "الثقافة" هي دور من أدوار الفتوة والإنتاج الروحي"(8).
لنلاحظ هنا اختلاف المعنى الذي يعطيه مؤرخو وفلاسفة "الدراسات التاريخية" أمثال شبنجلر، وتويمبي، لمصطلحي ثقافة وحضارة (culture & civilisation). على أن مصطلح (civilisation)، الذي حمّل عند هؤلاء معنى التطور العلمي والتكنولوجي والمادي، حُمِّل أيضاً معنى الاجتماع المدني ونظمه القانونية والسياسية، تأسيساً على جذ (civilité و civil) والاستتباعات الفكرية والمؤسسية للانتماء إلى "المدينة" (cité) ذات الجذر اليوناني والروماني.
وهنا يمكن إيجاد حيز واسع من التقارب في معنى المصطلحات، بفعل حركة "المثاقفة" والتناص (من تداخل النصوص) بين (civilisation) الأجنبية و"حضارة" العربية. فكلمة حضارة (بالعربية) تفيد في مرجعيتها التراثية الاستقرار الحضري والعيش في المدن والتوسع في مجالات الحياة المدنية، كما يوضح ذلك ابن خلدون(9).
على أن المعنى التراثي وإن اكسبه استخدام ابن خلدون دلالات الاستقرار والاجتماع المدني- إلا أنه ظلّ خلواً من دلالات المعنى الحقوقي والسياسي الذي اكتسبته لفظة (civil و civilité) ومن ثم (civilisation) في العصر الأوروبي الحديث؛ لذلك لجأ النهضويون العرب الأوائل في غضون القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين إلى استخدام الكلمة العربية "المدنية" للتوسع في دلالات معنى الحضارة والتحضر، وإكساب المعنى التراثي "للمدينة"، حيث هي المكان الأساسي للاجتماع الحضري، أو "للعمران الحضري" على حد تعبير ابن خلدون، معنى جديداً موصلاً إلى معاني الـ civil و civilité و (citoyenneté) التي أضحت مفاهيم عالمية مع انتشار الحداثة الأوروبية في العالم بنسب متفاوتة. فالتثاقف بمعناه الواسع، كان يستدعي آنذاك (أي في مرحلة النهضة الأولى والإصلاح)، استخدامات لغوية _ ثقافية تحمّل بمعانٍ جديدة يستدعيها مشروع الإصلاح السياسي العربي _ والإسلامي. فالثقافة السياسية الجديدة لدى النخب الإصلاحية استخدمت مفردات "المدنية" و"التمدن"و"الوطنية" و"الوطن" و"المواطن" و"السلطة المدنية" و"السياسة المدنية"، لا بمعانيها التراثية وحدها، ولكن أيضاً بمدلولاتها الحديثة العالمية، وكما نرى في كتابات رفاعة الطهطاوي، وبطرس البستاني، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وفرح أنطون، وجرجي زيدان صاحب كتاب "التمدن الإسلامي"(10).
إنها إذن، مروحة واسعة من تداعي المعاني والدلالات المترابطة، والتي تثيرها في الذهن مصطلحات، "الحضارة" وا"لثقافة" و"المدنية". على أنه من المفيد كما سبق الذكر، استخدام الدلالات والمعاني، وان اختلفت في مرجعياتها التاريخية والتراثية في القديم، من أجل فهم أفضل لقوام ثقافة عربية هي قيد البناء للمستقبل وعامل تغيير من أجل النهوض، وليس للتطابق والتزامن مع "أصلها" في الماضي أو في الذاكرة الأسطورية. على أن وعي التواصل التاريخي مع الأصل ووعي حالة "التثاقف" مع الجديد شرطان ضروريان لتجنب الاستلاب بالماضي والاستلاب "بالآخر" على حد سواء.
ثالثاً: تأسيساً على هذه النتيجة أيضاً، فإنه من المفيد الإطلالة على موضوع "الثقافة" من نافذة النظرة النسبية إلى الأشياء، سواء بالنسبة للزمان (متى ننظر؟) أو بالنسبة للمكان (من أين ننظر؟). وعليه، فإن أسئلة لا بد من طرحها لكي لا تُتصور طبيعة الثقافة وكأنها "خصائص" جوهرية لا تبديل فيها ولا تغيير لا في الزمان ولا في المكان. وللتوضيح، يمكن أن نطرح على أنفسنا الأسئلة التالية:
ماذا عن "طبيعة أو خصائص" الثقافة العربية في عصر ازدهارها، ولا سيما في القرنين الثالث والرابع الهجريين (التاسع والعاشر الميلاديين) أي في المرحلة التي انتشرت فيها اللغة العربية، كلغة ثقافية عالمية، وتواصلت دوائر العالم القديم (الأسيوي، الأفريقي_المتوسطي) في ظل سيادة الإسلام عبر شبكة واسعة من التجارة وطرق القوافل والمواصلات البرية والبحرية؟
- ما هي العناصر التي تداخلت مع مقومات الازدهار، فجعلت هذه الثقافة تتأرجح خلال القرون الأربعة اللاحقة بين جاذبية الصعود المتعثر (من مرحلة ابن رشد إلى مرحلة ابن خلدون)، وبين الانشداد إلى حالات النكوص والتراجع والجمود، حيث "ستنتصر" ثقافة الاتباع والتقليد والولاء السلطاني على كل مستوياته لاحقاً(11)؟
- ماذا عن محاولات النهوض الثقافي "الحديث"، إثر الاحتكاك "بحداثة" أوروبا، وتطور عملية التثاقف بدءاً من مرحلة التوسع الرأسمالي حيث التجاذب بين ثقافة الإمبريالية وثقافة التحرر الوطني (أو القومي)، وصولاً إلى مرحلة العولمة حيث التجاذب أيضاً بين "عالمية الثقافة" و"هوية الثقافة"؟
II- مقارنة بين مشهدين ثقافيين لشريط عالمي واحد في العصور الحديثة
لا يتسع المجال للتوسع في هذا المدخل المنهجي الذي بدأنا به، ولكن التأسيس عليه، يسعفنا في بلورة فهمنا لمسألة "نسبية الثقافة" ودورها في التغيير والإصلاح ومن ثم نسبية ما يسميه هذا المبحث شروط الثقافة عندما تكون عامل تغيير من أجل النهوض.
لننطلق أولاً من مقومات مشهدين ثقافيين نقرأ "ديناميتهما" في مسار زمن اصطلح المؤرخون على تسميته "بالعصور الحديثة". ومن المعروف أن هذه "العصور" التي بدأت في القرن الخامس عشر، هي العصور التي شهدت توسع أوروبا ثم الولايات المتحدة الأميركية في العالم، عبر مشروع رأسمالي كبير تناوبت على قيادته بشكل متوالي: البرتغال، هولندا، بريطانيا، وأخيراً الولايات المتحدة الأميركية. في هذه العصور تحققت فيها تدريجياًّ النزعة العالمية بفعل آليات التوسع الرأسمالي، بدءاً من نواته التجارية إلى الصناعية، إلى الأسواق والمستعمرات، إلى توظيف للأموال، إلى السيطرة السياسية ذات الركائز المتعددة ومنها "الثقافة" بما فيها المدرسة والجامعة والكتاب. وفيها أيضاً تحققت عملية "التجاوز" التي حققتها أوروبا على العالم الإسلامي (12).
في هذه العصور ترتسم مفارقة ثقافية لافتة في مسار تكون هذه العالمية الجديدة بعد العالمية الإسلامية التي تحققت بامتياز في القرنين الرابع والخامس للهجرة في العالم القديم، نقرؤها في المشهدين التاليين:
- في المشهد الأول (الأوروبي)، نقرأ قفزات من "التجاوز" الثقافي تسجلها أوروبا، بدءاً من أنسانوية النهضة أو الولادة الجديدة (Renaissance)، إلى الثورة الصناعية وعصر الأنوار والفلسفة العقلانية والوضعية، إلى القفزات المعرفية في شتى علوم الإنسان والمجتمع والطبيعة، خلال القرن التاسع عشر وفيما يليه. وفي سياق التفاعل مع هذه الظواهر أو نتيجةً أو توظيفاً لها، يقرأ الدارس لأحوال ذاك الزمن اكتشافاتٍ وفتوحاً ومعرفة بأحوال العالم و"الآخر"، ومحاولاتٍ حثيثة للسيطرة عليه وتكييفه. من وسائل ذلك: ماركنتيليه تتحد فيها أساطيل التجارة وسلطات الدولة الجديدة، ثم منافسة حرّة، وأسواق ومستعمرات وشركات ورؤوس أموال تبحث عن مجال استثمار خارج تراكمها لتزيده تراكماً، وصولاً إلى إمبريالية كبرى تعتمد تصدير الرساميل وتوظيفها في شتى أنحاء العالم. في هذا المشهد يمكن قراءة كل التناقضات الناتجة عن هذا المشروع الرأسمالي التحديثي الكبير: العنف والبطش والسيطرة والإلغاء، والحروب العنصرية والأهلية والاستعمارية. ولكن أيضاً ثمة إنجازات كبرى في تخطيط المدن وبناء الدول والإدارات والجيوش، وفي تأسيس الجامعات والمكتبات ومراكز التوثيق والأبحاث، بل ثمة إنجازات كبرى على الصعد الثقافية والحقوقية في الفكر والفلسفة والسياسة والقوانين والدساتير، وفي علوم الطبيعة والإنسان والمجتمع. الأفكار تتجسد في مفاهيم قابلة للتعميم والتجديد: أفكارٌ كالسيادة الوطنية، و سلطة الشعب، والحكم التمثيلي، والمساواة والإخاء والحرية، والعدالة.. تتحوّل جميعها إلى مفاهيم، أو إلى حركات جماهيرية فاعلة ومغيرة، ثم إلى مؤسسات وآليات تنظم العلاقة بين المجتمع والدولة والفرد في صيغ مؤسسية وقانونية جديدة: المواطنة، الديمقراطية، التمثيل البرلماني، فصل السلطات، الحقوق والواجبات، والحريات والرأي العام، إلخ.. مدارس فلسفية وفكرية ومعرفية كبرى، تنهض وتتطور، ويظل منهج النقد رائداً. وبسبب النقد الدائم والحوار الدائم بين التيارات والمدارس والأفكار والفلسفات الغربية، يجري التجاوز الدائم للأزمات والحروب الداخلية كما يجري حلها سلماً، على عكس ما تنبأ شبنجلر في أوائل القرن في (أفول الغرب)، وصولاً إلى تحقق النموذج الوحدوي الأوروبي: الإتحاد الأوروبي اليوم.
- في المشهد الثاني: (في الشرق العربي والإسلامي عموماً): ثمة أشكال من الممانعة للمشروع التوسعي الغربي في شتى حقبه، نقرأ عنها حواشي كثيرة، ولكن في متن الصفحات، نقرأ عن جيوش "سلطانية" تتقاتل من أجل السيطرة السلطانية على العالم الإسلامي، ترفع شعارات مذهبية تغطي بها حقيقة المصالح الكامنة ويلجأ شيوخها إلى سلاح فتوى التكفير. من نماذج ذلك، عساكر العثمانيين والصفويين(13). الثقافة السائدة في وسط أهل الدولة والمجتمع، تصدر عن إحدى مرجعيتين: ثقافة فقهية مذهبية أو ثقافة صوفية، أو هي مزيج من المرجعيتين. وفي كل الحالات كان أهل هذه الثقافة يرون أنفسهم "متفوقين" بصور "إيمانهم" و"دينهم" و"عباداتهم" وبمعزلٍ عما آل إليه واقعهم. حتى إنهم نسوا علوم أسلافهم وفلسفات أجدادهم التي قامت على البرهان العقلي والتجربة العلمية(14)، واكتفوا بالتقليد وإتباع الأحكام. حتى إن القراءة المباشرة "للحديث" لتدارسه، منعت أحياناً. يحدثنا عالم دمشق جمال الدين القاسمي عن حادثة عام 1890م وهي المعروفة بحادثة المجتهدين في دمشق": يذكر أن مجموعة شباب من طلاب العلم، وكان هو من بينهم، قد تداعوا إلى قراءة كتب "الحديث" في حلقات مذاكرة وتدارس، وصل خبرهم إلى المفتي والقاضي فقبض عليهم، وسيقوا إلى المحكمة بتهمة "الاجتهاد"، ولولا تدخل عائلات دمشق لكان حكم عليهم بالنفي، وحصل أن نصحهم المفتي "بعدم قراءة كتب الحديث والاكتفاء بكتب الأحكام"(15).
ويذكر ظافر القاسمي محقق مذكرات جمال الدين القاسمـي، أنه أدرك قومـاً في دمشق في مطالع القرن العشرين يسألـون: "تعليم الجغرافيا والفيزياء والكيميـاء حلال أم حــرام؟"(16).
أما الثقافة السياسية والاجتماعية للمجتمعات الأهلية فقد استحكمت فيها عصبيات القبائل والطوائف والفرق والطرق وولاءات أصناف الحرف وتنظيماتها المغلقة والمحافظة في الحارات والأسواق(17). وكل هذا كان استمراراً لاجتماعٍ عصباني وحاكم رعوي، قام على الاستبداد الفردي. ونتج عن كل هذا "ثقافة سياسية" أحسن الكواكبي وصف أخلاقياتها في العام الأول من القرن العشرين في كتابه "طبائع الاستبداد". ويتلخص قوامها بأخلاقيات تراوح بين الممالأة والتربص من جهة، وبين التغلّب أو الخروج من جهة أخرى. وهذه في كل الحالات كانت أساس فساد الثقافة والسلوك.
هذا وعندما حاول أهل الإصلاح في غضون القرن التاسع عشر وبصورة خاصة في نهايته، وبتأثير الاطلاع على النموذج الغربي (الديمقراطي) مواجهة هذا الاستبداد وطبائعه، عن طريق التنظيمات والدستور، أعاقت الثقافة السياسية "الرعوية" السائدة هذه المحاولة وأفرغت مفاعيل التنظيمات والإصلاح الإداري والمؤسسي في الدولة العثمانية، وفي العديد من الأقطار العربية (مصر- بلاد الشام)، وحوّلتها إلى "سياسات أعيان". شجعّت على هذا التحوّل أخلاقيات ومسلكيات جعلت من حقل الإدارة الجديدة حقل منافع ومجال "تدبير" يختلط فيه الخاص والعام، بل يتحوّل فيه الموقع السلطوي، ولو كان تمثيلاً شعبياًّ (في مجلس بلدية أو برلمان) إلى نظام علاقة بين سلطان ورعية، أو بين زعيم وأنصار، حيث تختلط مفاهيم السلطة الجديدة بمضامين الثقافة السياسية القديمة، ومراتبها، وممارساتها، وحيث يمتد في السلوك الاجتماعي مضمون نظام "الحسبة" ومنصب "الحجابة" اللذان تحولا مع "الإدارة الجديدة" إلى نظام ما يسمى اليوم بالزبائنية أو "المحسوبية"(18) (clientelisme) كما يمتد مضمون"عهد أردشير" في السلوك السياسي(19) حيث يلجأ أهل الدولة والمعارضة على السواء إلى الاستقواء بالدين لتثبيت حكم، أو للنيل منه. ولعل أخطر ما تعانيه الثقافة السياسية العربية حتى اليوم، أو ثقافة السياسة، هي ما ينتج عن هذا الاستقواء السلطوي بالدين من نتائج خطيرة على المشروع النهضوي العربي، بل على مستقبل الثقافة العربية برمتها.
هذا الأمر يدفع إلى القول بأن ثمة مشروعاً نهضوياًّ عربياًّ قام وتعثّر. وقد تكمن عثرته الرئيسية في نمطٍ من الثقافة التي تولد أزمة منهجٍ في النظر إلى "زمننا التاريخي"، أي في طبيعة الإجابة على الأسئلة: أين نحن من تاريخنا؟ وأين نحن من تاريخ العالم؟ بتعبير آخر أين هي ثقافتنا من ثقافة العالم؟ في الحاضر وليس في الماضي، في التاريخ وليس في الذاكرة.
III - أزمنة وأدوار في الذاكرة العربية
التوسع في تبيان أحوال الثقافة العربية في مسار تحولاتها من زمن ازدهار عالمي، إلى زمن تقوقع اقليمي وجمود ذاتي، ثم إلى زمن "نهوض" متعثر - أمرٌ قد يكون ضرورياًّ. إلاّ أنه قد يخرجنا عن موضوعنا المركزي. ومع ذلك لنلاحظ أن الزمن الأخير المتمثل بدور النهوض الثقافي المتعثر، وهو الدور الذي يقع زمناً في القرنين الأخيرين (التاسع عشر والعشرين) يتزامن ويتداخل مع مرحلة توسع الرأسمالية الصناعية الغربية عبر أسواقها وعساكرها وتوظيف استثماراتها وبدايات تسرب ثقافاتها الحديثة إلى المجتمعات العربية. كذلك فإن هذا الدور لا يزال يتداخل ويتزامن مع مرحلة تحوّل الرأسمالية إلى عالمية جديدة متسارعة الخُطَا عبر ثورة الاتصالات والمعلومات وتدفق المعرفة والصورة. ولعل هذا ما يسوغ اعتبار هذا الدور، ولا سيما في آخر تجلياته في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، إطاراً مناسباً لموضعة وفهم إشكالية العلاقة بين الثقافة العربية والعالمية الجديدة التي سميت "عولمة".
هذا، على أن إشكالية العلاقة تبقى مرتبطة بعدد من الأزمنة والأدوار التي تشكل بدورها مرجعياتٍ، أو حوافز للذاكرة العربية. إنها مرتبطة بزمنين تاريخيين:
أولاً: بالزمن العربي - الإسلامي.
ثانياً: بالزمن الأوروبي.
أولاً: فيما يتعلق بالزمن العربي _ الإسلامي فإنه يمكن أن نشير إلى دورين يقعان في هذا الزمن: الأول (دور الازدهار) والثاني (دور الجمود).
في الدور الأول يمكن أن نشير إلى أن قوام الثقافة العربية تأسس على الأخلاقيات التالية: (والأخلاقيات هنا بما هي مقومات في الذهنية والسلوك).
- الانفتاح على الحضارات والثقافات الأخرى واحترام أفكارها وإنجازاتها. تجلى ذلك في الانكباب على الترجمات من حقول الحضارات العالمية آنذاك الهندية والفارسية واليونانية.
- حرية البحث والتفكير، الأمر الذي أدّى إلى إسهام خلاّق في الفكر الفلسفي العلمي وفي الإبداع الأدبي والابتكار العلمي.
- في التعدد في الآراء الكلامية والفلسفية والفقهية. وكان يكمن وراء هذا التعدد أخلاقيات تسامح وثقافة علمية تنصب على دراسة الإنسان، تترجمها مواقف معرفية لا تستأثر بالحقيقة ولا تدعي إطلاقيتها، بل تؤمن بنسبيتها الإنسانية في الزمان والمكان (20).
يتجلى ذلك في القول الذي كان يردده العلماء الكبار آنذاك وإنّ "لا أدري لمن العلم"، وفي رفض الإمام المجتهد أن يصبح مقلَّداً (بفتح اللام) لكي يبقى باب الاجتهاد مفتوحاً (21).
أما في الدور الثاني (دور الجمود)، فقد انتصرت فيه، بدءاً من القرن الثاني عشر الميلادي، وبشكلٍ تدريجي ثقافة الفقه الأحادي على الثقافة الفلسفية والعلمية، وانتصر منهج التقليد واتباع السلف، على منهج الشك والرأي والاجتهاد. وسادت المدارس الدينية على حساب دور العلم والمكتبات الكبرى، التي سبق أن احتضنت ودرّست كتب الفلسفة وكتب العلوم التي اعتبرت "علوماً دخيلة"(22)، وتحوّل نظام الحسبة إلى أسلوب ملاحقة للفلاسفة والمجتهدين. حتى وصل الأمر أن تولى المحتسب بأمرٍ من السلطان جملةً من السلطات الواسعة التي تحتكر الرقابة على المجتمع والاقتصاد والثقافة والسكن ومراقبة عيش أهل الذمة والتدخّل في الخصوصيات الشخصية والإيمانية والمعتقدية، ومنع كتب الفلاسفة وحرقها، وكل هذا كان "بذريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وللتدليل على ذلك نورد بعضاً مما جاء في سجل تولية محتسب من العصر الأيوبي: "فابدأ أولاً بالنظر في العقائد، واهدِ فيها إلى سبيل الفرقة الناجية، الذي هو سبيلُ واحد، وتلك الفرقة هي السلف الصالح الذين لزموا مواطن الحق فأقاموه، وقالوا ربنا الله، ثم استقاموا ومن عداهم شعبُ دانوا أدياناً وعبدوا من الأهواء أوثاناً، وابتلوا ما لم ينزل به الله سلطاناً (...) فمن انتهى من هؤلاء إلى فلسفةٍ فاقتله، ولا تسمع له قولاً ولا تقبل منه حرفاً ولله عدلاً، وليكن قتله على رؤوس الأشهاد، ما بين حاضرٍ وبادٍ، فما تضرّرت الشرائع بمثل جهالته، ولا تدنست علومها بمثل أثر جهالته (...) وما تجده من كتبها التي هي سموم لا علوم فاستئصل شأفتها بالتحريق...(23)".
الزمن الإسلامي العربي بدوريه يشكّل ذاكرة جماعية عربية، متعددة التعبيرات الثقافية. بعضها مختزنُ بالذاكرة الشفهية التي تستعاد بالرواية في المجالس، وبعضها يستعاد بالكتب المكررة وبالشروحات، وبعضها يستعاد بالمسلكيات والمواقف. على أن الذاكرة التي يفترض أن تحمل مرجعية عصر الازدهار فيلاحظ أنها غابت، ولم تستعد إلاّ في مرحلة الاستنهاض العربي في غضون القرنين التاسع عشر والعشرين، عبر نخبٍ متنورة قليلة، تنبّهت لها بسبب "التنبيه الأوروبي" كما يجمع على ذلك الكتّاب النهضويون الأوائل(24).
ثانياً: أما فيما يتعلّق بالزمن التاريخي الأوروبي، والغربي بصورة عامة، فإنه ينبغي الملاحظة أن الإستذكار.. في حالتيه، أي استذكار صور الازدهار من الزمن التاريخي العربي، أو استذكار حالة النكوص وإعادة إنتاج تداعياتها في مواقف ومؤسسات وعلاقات، بل في خطابات "مقاومة" لما يسمى "غزواً ثقافياًّ غربياًّ"، لا ينفصلان عن زمنٍ معيش هو الزمن الغربي الحديث الذي أضحى بفعل وطأته وحضوره وعالميته جزءاً من الذاكرة العربية أيضاً بتعبيراتها المختلفة، بدءاً من ذاكرة الصليبية إلى ذاكرة زمن الاستعمار والإمبريالية (25)، إلى الحاضر المعيش الذي تكثّفت فيه بشكلٍ ملتبس في الوعي العربي الراهن نوعان من الحيثيات: حيثيات إشعاعات حداثة أوروبا بدءاً من ثقافة أنوارها إلى شتى مدارسها العلمية وقفزاتها المعرفية ونماذج ديمقراطيتها في الثقافة السياسية، وحيثيات قهر السياسات الغربية بدءاً من الاحتلالات الاستعمارية، إلى الاحتلال الصهيوني لفلسطين، إلى الآثار المؤلمة والمفجعة والمدمرة التي ترتبت على ذلك حتى اليوم، مروراً بقيام أحادية النظام العالمي الجديد، حتى الجدل الذي يثار اليوم حول العولمة كحالة تاريخية سلبية أو إيجابية. ومن ضمن هذا المجموع من الحيثيات المتداخلة تتعدد استجابات الثقافة العربية وتتنوّع وتتغير. إلاّ أنها في كل الأحوال تظل مسكونةً ومطالبةً بالجواب على حيثياتٍ تستثيرها مختلف الأزمنة التاريخية وتجاربها في الوعي العربي. واليوم تستثير العولمة مواقع مختلفة في أنماط النخب العربية وذاكراتها ومن ثم في توجهاتها الثقافية.
على أن الثقافة العربية التي نبحث عن مقوماتٍ تغييرية ونهضوية لها في عصر العولمة، لا تزال مشروعاً ثقافياً قيد البناء. ولا ضير في ذلك. فكل ثقافة حيّة هي مشروع ثقافي دائم الإنفتاح ودائم التشكّل. وفي حالنا العربي نعود لنؤكد أن مشروعنا الثقافي العربي لا يمكن أن يكون إحياءً لصور الذاكرة الممانعة وحبيس مفردات شاعت في الخطاب الثقافي العربي ردحاً من الزمن (جهاد/صليبية، إسلام/أوروبا، شرق/غرب). كما لا يمكن أن يكون إحياءً لعصر ازدهار ثقافي عربي مضى، نستخلص منه نسقاً واحداً من الأفكار والعقائد، ونعتمد فيه منظومة واحدة من البنى الاجتماعية والثقافية. ناهيك أنه لا يمكن أن يكون تثبيتاً "لخصوصيات" ثقافية، أضحى بعضها عوائق للإنماء، بحجة القول بخصوصية "نمط حياة" أو "نسبية ثقافات". ففي العديد من مجتمعاتنا العربية لا تزال ثقافة الثأر وتقاليد جرائم الشرف، وعزل المرأة، والانتماءات العصبوية الفرعية الصغيرة، هي خصوصيات "نمط حياة" وجزء من "هوية ثقافية"! فهل هذه من "مقومات" الثقافة العربية التي ننشدها؟
إن ما يسمى "مقومات" لثقافةٍ تسعى أن يكون لها موقع في عصر العولمة، عصر المسارات الصعبة في الاقتصاد والعلوم والإنسانيات والأخلاق والمسلكيات -هو ما يمكن أن أسميه قيماً وأخلاقيات مشتركة لدى كل الثقافات العالمية المشاركة في تطوير الحضارة العالمية، وأجد نفسي هنا متوافقاً مع الرؤية التي حملها تقرير "اللجنة العالمية للثقافة والتنمية" والتي شدّدت على أمور ثلاثة في توصيف العلائق ما بين الثقافات(26).
أولاً: "الثقافات تتداخل فيما بينها لأن الأفكار الأساسية موجودة في العديد مـن الثقافات"...
ثانياً: "الثقافات لا تتحدّث في العادة بصوتٍ واحد فيما يتعلق بالمسائل الدينية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية، فالأمر يخضع دائماً للتأويل والتفسير والاجتهاد"..
ثالثاً: "الثقافات ليست وحدات متجانسة، ففي داخل الثقافة الواحدة قد تكون هناك خلافات ثقافية عديدة حول الجنس والطبيعة والدين واللغة والعرق"..
وتحت عنوان ما هو مشترك ما بين الثقافات الإنسانية، ومن خلال الإرث الإنساني الذي أسهمت في صنعه تجليات الأديان وتعاليمها، وإبداعات الحضارات الإنسانية المتفاعلة فيما بينها على مر العصور، (وليس إنجاز الحضارة الغربية الحديثة وحدها)، يمكن أن نقرأ ثلاثة عناوين صالحة كمداخل لأي مشروع ثقافي يهدف إلى الإسهام في خلق تعددية ثقافية عالمية وحوارٍ مثمر للحضارات والثقافات. وأهل الثقافة العربية وأصحاب مشاريع التجديد والإصلاح والتغيير فيها يجدون أنفسهم أمام ولوج هذه الأبواب:
1- باب حقوق الإنسان والمواطن وتبعات ذلك على مستويات عديدة: إنسانية واقتصادية وتعليمية وصحية وبيئية وغذائية.
2- باب الشرعية الديمقراطية وبناء عناصر المجتمع المدني في حقل العلاقة الرابطة بين الدولة والمجتمع.
3- باب التفكير العلمي ونشر الثقافة العلمية، مع كل ما يستتبع ذلك من محو للأمية، وتشجيع للاطلاع والقراءة والمتابعة عبر الوسائل التقليدية (المكتبات والقراءة والكتاب والنشر) أو عبر التقنيات الحديثة (ثورة تكنولوجيا المعلومات) ومع كل ما يستتبع ذلك من رسم سياسات تربوية ومناهج جديدة في المدارس والجامعات ومراكز الأبحاث والإعلام لتتغير الذهنيات ومناهج التفكير الراكدة والكسولة، ولربط التكنولوجيا والعلوم "البحتة" بالفلسفات والإنسانيات والنظريات المعرفية الكبرى.
**************************
الحواشي
*) باحث وأكاديمي من لبنان.
1- فؤاد إسحاق الخوري: الذهنية العربية: العنف سيد الأحكام، بيروت، دار الساقي، 1993م، ص9.
2- راجع مقالاً على هذه النظرة: جان شرف، الإيديولوجية المجتمعية، مدخل إلى تاريخ لبنان الاجتماعي، بيروت، منشورات الجامعة اللبنانية، 1996 م.
3- قارن: السيد ولد أباه، "أزمة التنوير في المشروع الثقافي العربي المعاصر." في الثقافة والمثقف في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992م.
4- الوثائق الرئيسية لإعلان مكسيكو بشأن الثقافة، مكسيكو، 26 تموز _ 6 آب، 1982م _ وردت في: محمد الرميحي، "واقع الثقافة ومستقبلها..." في الثقافة والمثقف في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1 1992م، ص267 _ 284.
5- نظرية الثقافة، تأليف مجموعة من الكتاب، ترجمة علي الصاوي، عالم المعرفة، الكويت، تموز 1997 م، ص151.
6- كلود لفي ستراوس، الأناسة البنيانية(2) ترجمة حسن قبيسي، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990 م، ص298.
7- ورد في لسان العرب، لابن منظور، في كلمة ثقِف ومثاقفة، ثَقِفَ الشيء: حذقه، ورجل ثَقْفٌ وثَقِفٌ وثقيف بَيِّن الثقافة.. ويقال: ثَقِفَ الشيء وهو سرعة التعلم.. لسان العرب، المجلّد التاسع، ص19، دار صادر، بيروت (لا.ت).
8- لمزيدٍ من التوسع في تشعب التعريف لمعنى ثقافة وحضارة، راجع: قسطنطين زريق، في معركة الحضارة، بيروت، دار العلم للملايين، ط 1977م، ص32-36.
9- ابن خلدون: المقدمة، بيروت، دار إحياء التراث العربي، (لا.ت) ص371 فصل: "من أن الحضارة غاية العمران...".
10- راجع توسيعاً لهذه الفكرة في: وجيه كوثراني، "الانتماء والمواطنة" الحياة، 30 كانون الثاني 2002م.
11- حول "ثقافة الولاء" والتي أسست لنمطٍ من السلطة الاتباعية والاستبدادية، راجع: عبد الله حمُّودي الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1999م.
12- حول ظاهرة "التجاوز"، راجع الدراسة القيّمة: عبد المجيد قدوري. المغرب وأوروبا ما بين القرنين (الخامس عشر والثامن عشر) مسألة التجاوز، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، 2000م.
13. راجع توسيعاً لهذه الفكرة في: وجيه كوثراني، الفقيه والسلطان، جدلية الدين والسياسة في إيران الصفوية _ القاجارية والدولة العثمانية، ط1 1990م، ط2، بيروت دار الطليعة 2002م.
14- يورد الجبرتي خبراً عن حالة "أهل العلم" في الأزهر في منتصف القرن الثامن عشر، عندما سأل الوالي العثماني عن علماء يلمون "بالعلوم الرياضية" فأجاب شيخ الأزهر "غالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض والمواريث.." الجبرتي، تاريخ عجائب الآثار، ج2، ص276-277.
15- اعتماداً على مذكرات جمال الدين القاسمي، تقديم ودراسة ظافر القاسمي، دمشق, 1965م، ص51.
16- المرجع نفسه: ص51 - 52.
17- وجيه كوثراني: السلطة والمجتمع والعمل السياسي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1986م.
18- انظر: مقالتنا بعنوان "التمثيل الشعبي بين الرعوية والمواطنة" في الحياة 1 أيلول 2000 م.
19- انظر: كمال عبد اللطيف، في تشريح أصول الاستبداد: قراءة في نظام الآداب السلطانية، بيروت، دار الطليعة، 1999م. خلاصة عهد أردشير أنه ينصح السلاطين والحكّام لتجنّب ما يسميه "الرياسات المستترات" أي العمل السياسي السرّي المتستر بالدين، باستخدام السلطان للدين كأداة مقوّية لحكمه ومانعة للمعارضة. ويرى بعض الباحثين (عبدالله العروي، رضوان السيد،..) أن مضمون عهد أردشير الذي تُرجم إلى العربية استدخلته النصوص الفقهية والآداب السلطانية حول دور الدولة في الدين والسياسة.
20- نتوافق هنا مع محمد أركون في رؤيته أن زمناً من الأنسنة مرّت فيه الثقافة العربية في القرن الرابع للهجرة.. انظر: محمد أركون: نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي، بيروت، دار الساقي 1997م.
21- ثمة أقوال كثيرة لأئمة الفقه في عصور ازدهار الثقافة الإسلامية ما يؤكد الحذر من التقليد. فمن أقوال الإمام أبي حنيفة: "لا يحل لأحدنا أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه." ومن أقوال الإمام مالك: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي (...).. إلخ.. وردت في: محمد عيد عبّاسي، بدعة التعصب المذهبي، عمان، الأردن، ط2, 1980م.
22- جورج المقدسي، نشأة الكليات: معاهد العلم عند المسلمين وفي الغرب، الترجمة العربية، مركز النشر العلمي، جدة، 1994 م.
23- ورد في: محمد يونس، التكفير بين الدين والسياسة، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
24- يقول رشيد رضا في تذكّر الشورى في مطلع القرن العشرين: ".. ومع هذا كله أننا لولا اختلاطنا بالأوروبيين لما تنبّهنا من حيث نحن أمّة أو أمم إلى هذا الأمر العظيم (الشورى)، وإن كان صريحاً جلياً في القرآن الحكيم"، المنار، حزيران /يونيو 1907م.
25- انظر توسيعاً لهذه الفكرة في مقالتنا: "الذاكرة والتاريخ بين صليبية وجهاد في صيغة غرب/إسلام" في كتاب الذاكرة والتـاريخ، بيروت، دار الطليعة، 2000م ص26.
26- التنوّع البشري الخلاّق، تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية، الطبعة العربية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997 م، ص40 - 50.