المسيحيّة العربيّة: تشظّي الهويّة ومستخلصات الوعي التاريخي

المسيحيّة العربيّة: تشظّي الهويّة ومستخلصات الوعي التاريخي

عز الدين عناية*

تحتاج المسيحية في البلاد العربية إلى مقاربات تتناول مسارها التاريخي الدّيني، تُرْصَدُ من خلاله التحوّلات العقديّة واللاّهوتية، والأطر الاجتماعية والسياسية التي ألمت بها واحتضنتها. لأجل بلوغ مستخلصات الوعي بهذه التجربة، الرّوحية-التصوّرية-الاجتماعية، وتبيّن تفاعلاتها مع الأحداث السياسية والتبدّلات الحضارية التي شقّت المنطقة، في تاريخها القديم والحديث. ولا نزعم أن هذه الدّراسة ستكون قادرة على الإلمام بتلك الخلاصة في متشابك تداخلاتها، بل ستحاول الوقوف عند أهم المفاصل التاريخية دون تطرّق مغرق في تفاصيلها، علّها تكون إسهاماً أوّليا في دفع مقارباتٍ مِنْ ذلك النّوع، تروم مراجعة تراث المنطقة الدّيني، من خلال وعي داخلي باجتماعياتها وإناستها، باتجاه تطلّع لصياغة تأويل وتفسير للحدث، تُطْرَحُ فيه الأسئلة وتصاغ له الأجوبة داخل معطيات الواقعية التاريخية، لا عبر ما تم شيوعه جرّاء إمبريالية المفاهيم الغربية المهيمنة في تاريخ الأديان.

فالمسار التاريخي العام للثّروة الرّوحية، وفي جانبه المسيحي هنا - يفرض تأمّلات في مستوى تحوّلاتها البنيوية، بعد أن سُحِب أحد أرقى التعبيرات الرّوحية خارجا، وكادت تطلّق مركزها، لولا ذكرى قبر مقدّس وكنيسة قيامة، حتى صار حواري المسيح باحثا عن سِيامَته، وتطويبه، ومباركته، في مدلولاتها اللاّهوتية الكانونية، لدى سلطات كهنوتية خارجية.

فليست المسيحية العربية شأنا عقديا أو طائفيا أو مِلِّياًّ، تعني المسيحي دون المسلم، بل على تغاير مع ذلك، فهي قدر تاريخي وثروة روحية، لمن انتمى للفضاء الحضاري الذي نعالجه. ولن تخرج من الأطر الضيّقة التي حُشرت فيها، والصّلات الواهية التي رُبطت بها، والأوضاع الحرجة التي أكرِهت عليها، ما لم تُعَد بنْينَة الوعي والتفعيل، بها ولها، داخل رحابة الشّمول الحضاري.

الكنيسة العربية ووعثاء التحرّر

لعلّ أكبر المغالطات في تاريخ الأديان الحديث، ما جرى من إقصاء السيّد المسيح عن إمداداته العربيّة، وإلحاقه بما استُصنِع من مفهوم الأمّة اليهودية والعرق اليهودي، حتى يردّد بكون المسيح عبريّاً، وكون الحواريين الأوائل عبريين، وتُنزع عن ذلك الإرث صلته المتجذّرة بفضائه الحضاري، التي يمثّلها أهالي الشّام خير تمثيل. فتُحصر المسيحية البدئية داخل مدلول "عبري"، المولّد من قلب لكلمة "عربي"، عبر تضييق من العموم إلى الخصوص، لتتحدّد بالذين هادوا. والحال، فقد أملت ظروف التشرذم العربية في القرون الميلادية الأولى، أن تبقى الدّيانة المسيحية داخل إحدى لهجات العربية، ألا وهي الآرامية، ولم يتيسّر لها اللّحاق والعودة للرّحم اللّغوي العربي المركزي إلاّ في مراحل متأخّرة مع القرن الثّامن الميلادي، فترة اشتداد عود الإسلام، لتشرع في انطلاقتها التطوّرية الفعلية. والتي يشير المستشرق الألماني غراف -Graf- في مؤلّفه "تاريخ الأدب المسيحي العربي" إلى أن نهضتها الحقيقية، كانت مع عودتها للمهد، الذي تجلّى عبر إنجاز ألوف الكتب، التي لم تنشر، والتي وضعها أقباط وسريان ونساطرة وموارنة بالعربية.

حيث كانت الدّفعة الإسلامية هائلة في "تَقَرْؤُنِ" لسان النصارى وتعرّب أقلامهم، بمفهومه العربي الفصيح، مع المحافظة جزئيا على اللّهجات العربية القديمة في العبادة، والتي صارت مع أساطين الفيلولوجيا الغربية لغات متفرّعة عن لسان افتراضي، سمّي خطأ "السّامية"، والذي ليس في الحقيقة سوى العربية القديمة، وربما للمتابع للآرامية ولعبرية التوراة وباقي اللّهجات المتفرّعة، الزائلة والمعمّرة، وكذلك للّهجات الدارجة الحيّة في البلدان العربية إدراك لهذه الحقائق المخفية التي تنتظر فقه لغة محليا يكنُس عديد الأباطيل العلمية، بشأن أخطاء الدّراسات الدّينية الغربية في المنطقة الشّرقية. وكإلماح لبوادر تلك الإصلاحات يمكن الإشارة لمؤلّف فاضل عبدالواحد علي "مِنْ سومر إلى التوراة"، الصادر بمصر سنة 1996م، ولمؤلّفات الأستاذين كمال سليمان صليبي وزياد منى، التي تناولت تراث الكتب المقدّسة وجغرافيتها من خارج الرؤى الغربية الشائعة.

فمنذ حدوث التحوّل الحضاري مع الإسلام، أخذت المسيحيّة تستعيد هويّتها، وقد تقوّى ذلك المنعرج في مستواه اللّغوي، خصوصا مع تلامذة يوحنّا الدّمشقي، وإنْ تَأَخَّرَ التعرّبُ الطّقوسي إلى القرن الحادي عشر. ولكن قبل أن تعود المسيحية كمنظومة لاهوتية إلى وعائها الحضاري الأصلي، عرفت بلاد العرب خواطف العلاقة مع عدّة أنماط من النّصرانية، تطبّعت فيها بطبيعة البادية، حتى عُرِف دعاتها باسم أساقفة الخيام وأساقفة المضارب، لمرافقتهم الأعراب وعيشهم بين ظهرانيهم. كما عرِفت في هذه الأثناء مسيحية مدينية، بمكّة والطّائف والحِجْر، كانت تنحو نحو الخلوة والنّسك والتبتّل. ولئن تذهب الأستاذة سلوى بالحاج صالح العايب، إلى أن المسيحية لم تدخل بلاد العرب قبل القرن الرّابع على خلاف ما يراه لويس شيخو الذي حاول إثبات دخولها هذه البلاد منذ القرن الأول الميلادي(1)، يبقى مستغرباً كيف للمسيحية أن تهمل فضاءها الحضاري وإطار عقليتها العقدية، حتى يتأخّر ولوجها إلى القرن الرّابع، وهو الأمر الذي لم يحدث لا مع الدّيانة السابقة –اليهودية- ولا مع الديانة اللاحقة -الإسلام- من حيث التفويت في اكتساح سطح بنيتها العقدية والميثية والانطلاق لغيره؟ ولكن الرّأي الذي أذهب إليه من حيث انتشار المسيحية من عدمه في القرون الأولى، وبقاء تلك الديانة ساحليّة تلامس ضفاف الشواطئ والأنهار دون توغّل أو تغلغل في الأعماق. نعلّل ذلك بالرفض لها في فضائها الحضاري الأوسع، داخل جزيرة العرب، لأسباب عدّة، منها: أن الدّيانة المروَّجة والمدعو لها أصلا، ما كانت نصرانية عيسى بن مريم، بل المسيحية المستصنَعة بعده. والعقلية التي كابدت التوحيد الإبراهيمي واستعهدت عليه، ضمن ملحمة فريدة علويّة أرضية، تجلّت مفاصلها في الآية 74 من سورة الأنعام وما تلاها، ترسّخ فيها من الحسّ الإدراكي لحصحصة الرّسالات الصادقة من الادّعاءات الزائفة، فعكفت مراوحة بين وثنية شعبوية وحَنَفية نخبوية، بقيت بموجبها المسيحية مطلّةً من الأطراف ومتوارية إلى الخلف.

غُلبت كنيسة الرّوم في أدنى الأرض

في كتب التاريخ الإسلامي، عديدة الروايات التي يستشفّ منها تمنّع جزيرة العرب عن قبول الرّسالات الدّينية المستوردة، يقول الطبري: "بنى أبرهة، بعد أن رضي عنه النّجاشي وأقرّه على ملكه، كنيسة صنعاء بناء معجبا لم ير مثله، فرصّعها بالذهب والأصباغ المعجبة، وكتب إلى قيصر يعلمه أنه يريد بناء كنيسة بصنعاء يبقى أثرها وذكرها، وسأله المعونة له على ذلك، فأعانه بالصناع والفسيفساء والرّخام، وكتب أبرهة إلى النجاشي حينما تمّ بناؤها: إني أريد أن أصرف إليها حاج العرب، فلما سمعت بذلك العرب أعظمته، وكبر عليها، فخرج رجل من بني مالك من بني كنانة حتى قدم اليمن، فدخل الهيكل فأحدث فيه، فغضب أبرهة، وأجمع على غزو مكة وهدم البيت"(2). وفي أواخر القرن السّادس ميلادي حاول عثمان بن الحويرث، وهو مكّي من معتنقي المسيحية في نسختها الملكانية، أن يمسّح مكّة بمساعدة قيصر، فنفرته قريشا وقتلته(3)، وفي مقتل مكّي رفض لروْمنة النّصرانية، برغم أن جزيرة العرب ما خلت من أساقفة الخيام والقيام، ومثّلت ملجأ آمنا للنّصرانيـة الطريدة التي أشاد بها القـرآن في قولـه –تعالى-: "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع مما عرفوا من الحقّ"(4).

وإن كانت نسخة الرّوم المسيحية تأبى الاستساغة من طرف شعوب خبرت رسالات التوحيد ومدلولاتها في أعلى تجلّياتها، مع إبراهيم وإخناتون وموسى وآريوس، فإن حدس الارتباط بين العدل والتوحيد سوف يبرق يقينه لاحقا في عتمة المنطقة، وذلك بحلول التوحيد الإسلامي بالدّيار المصرية والشامية، ليكون خلاصا وتحرّرا ممن حملوا الصليب وتنكّروا للمسيح. فقد حاربت الرّوم، قبل فتح مصر، سنة 642م، مذهب اليعاقبة الذي كان يعتنقه المصريون، وفرضوا عليهم المذهب الملكاني، الذي كانت تعتنقه، كما عيّنوا بطريركا ملكانيا، وعزلوا اليعقوبي المصريّ، وهو الأنبا بنيامين، فتوارى اتقاء لبطشهم. ولما فتحت مصر على يد عمرو بن العاص منح له الأمان فظهر، وأعاد إليه سلطانه الرّوحي، كما صرّح له بفتح الكنائس التي أغلقها الروم، وأداء العبادة وإقامة الشعائر فيها.

وبعد تفكّك مملكة الغساسنة قام الملكانيون بمحاولات لإدخال العرب اليعقابة في عقيدتهم. وكان غريغوريوس الأول (ت. 593م)، بطريرك أنطاكية الملكاني، عنصرا نشيطا في هذا المجال. ويؤكّد التاريخ الكنسي أنه قام بحملة تنصير كبيرة في قلب صحراء الشّام ونجح في إدخال قبائل عربية يعقوبية في المسيحية الملكانية(5).

فما كان في ظل التهديد البيزنطي المستمرّ، دون حضور الإسلام، أن تستمرّ هوية للموارنة ولأقباط مصر، ولليعاقبة والنساطرة، في الشّام والعراق، أو أن يحافظوا على كياناتهم وخصوصياتهم الدّينية المستقلّة. يقول ميخائيل السرياني، بطريرك السريان الأرثوذكس في القرن الثامن عشر، في مؤلّفه التاريخي الطويل معرّجا على سياسة الرّوم في تلك الفترة: "لأن الله هو المنتقم الأعظم، الذي وحده على كلّ شيء قدير، والذّي وحده يبدّل ملك البشر كما يشاء، فيهبه لمن يشاء، ويرفع الوضيع بدلا من المتكبّر. ولأن الله قد رأى ما كان يقترفه الرّوم من أعمال الشرّ، من نهب كنائسنا وديورنا، وتعذيبنا بدون أيّة رحمة، أتى من الجنوب ببني إسماعيل، لتحريرنا من نير الرّوم... وهكذا كان خلاصنا على أيديهم من ظلم الرّوم وشرورهم وحقدهم واضطهاداتهم وفظاعاتهم نحونا...".

الأمر الذي جعل إدمون ربّاط في بحثه: "المسيحيون في الشّرق قبل الإسلام"، يخلص إلى أنه من الممكن وبدون مبالغة القول بأن الفكرة التي أدّت إلى انتجاع السياسة الإنسانية، "اللّيبرالية"، إذا جاز استعمال هذا الاصطلاح العصري، إنما كانت ابتكارا عبقريا، وذلك لأنه للمرّة الأولى في التاريخ انطلقت دولة، دينية في مبدئها، ودينية في سبب وجودها، ودينية في هدفها، ألا وهو نشر الإسلام، عن طريق الجهاد بأشكاله المختلفة، من عسكرية وتبشيرية، إلى الإقرار في الوقت ذاته بأن من حق الشعوب الخاضعة لسلطانها، أن تحافظ على معتقداتها وتقاليدها وطراز حياتها، وذلك في زمن كان يقضي المبدأ السائد بإكراه الرّعايا على اعتناق دين ملوكهم، بل حتى إجبارهم على الانتماء إلى الشّكل الخاص الذي يرتديه هذا الدّين، كما كان عليه الأمر في المملكتين العظميين، اللّتين كان يتألّف منهما العالم القديم، وهو المبدأ بل القاعدة السياسية، المعروفة بصيغة اللاتين "Eius regio cuius religio"، والتي لم تندثر في البلاد الغربية إلاّ بفضل الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية، في النّصف الثاني من القرن الثامن عشر(6).

وهو تقريباً ما يذهب إليه الحسن بن طلال في كتابه "المسيحيّة في العالم العربي"(7)، إذ عندما حدث الانشقاق بين كنيستي القسطنطينية وروما، كان المسيحيون في مصر والشام والعراق واقعين تحت الحكم الإسلامي قرابة أربعة قرون. وبقي من بين هؤلاء المسيحيين الملكانيون وحدهم في مصر والشام موالين لبيزنطة، وعلى علاقة موصولة بها سياسيا وكنسيا، كما كانوا من قبل. أما أتباع مذهب الطبيعة الواحدة (الأقباط واليعاقبة)، وكذلك النّساطرة في العراق، فكانت بيزنطة بالنسبة إليهم مصدر اضطهاد لا أكثر. ولذلك رأوا في الحكم الإسلامي خلاصاً لهم من جور بيزنطة، فأبدوا استعدادا للتعاون معه منذ البداية. وهناك من يشير إلى أن الموارنة كانوا في جملة المسيحيين الذين رحّبوا بحلول الحكم الإسلامي محل الحكم البيزنطي بالشام، خصوصا بعد أن صدرت مقررات المجمع المسكوني السادس عام 680م، وتبع ذلك حدوث الافتراق الكنسي بين الموارنة، والملكانيين في أبرشية أنطاكية. وقد كان سائدا في أبرشية أورشليم الطقس السرياني المميز لهم. كما كان الطقس السائد السرياني الأنطاكي في أبرشية أنطاكية، في حين كان الملكانيون الإسكندرانيون يتبعون طقساً قبطيا، لأن أغلب الملكانيين في مصر، كما الأمر في الشام، كانوا متكونين من عناصر محلّية أهلية وقلّة يونانية وافدة. فلمّا قضت الظروف بخضوع الملكانيين للسيطرة البيزنطية، اضطرتهم التبدّلات إلى هجر طقوسهم الأصلية واقتباس التقليد اليوناني القسطنطيني، المسمى البيزنطي. بإيجاز كان حضور الإسلام إنهاء وإيقافا للفوضى الدّينية في الفضاء الإبراهيمي.

تحلّل الإطار الحضاري وليل الكنيسة الشّريدة

ما تيسّر للمسيحية العربية أن تهنأ بتصحيح وتثبيت مستديمين لهويتها، فقد كان للحروب الصّليبية (1096-1291م)، وما تلاها من حكم المماليك(1250-1517) والعثمانيين(1517-1918م)، عميق الأثر عليها، وهو ما سنشير إلى مخلّفاته وتبعاته لاحقا.

يقص علينا نقولا زيادة في مؤلّفه "المسيحية والعرب"(8)، أحد فصول تلك الهوية الشريدة، فالممارسات التي تمت في التاريخ العثماني، رهنت شقّا من الكنيسة العربية للخارج، لا تزال تبعاتها جليّة، فلما حكم السّلطان سليم بلاد الشام ومصر، اعتمد تنظيما غريبا مع الطّوائف المسيحية. جعل الكنائس التي تقبل بالطبيعة الواحدة تحت نفوذ الجاثليق أو البطريرك الأرمني. فكان الأقباط واليعاقبة والسّريان والنّساطرة تحت الغريغوريين وتابعين للبطريرك الأرمني. أما بطريركية أنطاكية الأرثوذكسية، ومثلها بطريركية القدس فكانتا تحت نفوذ بطريركية القسطنطينية. وكان من أثر هذا أن اغتنم البطريرك فرصة الإمرة فبسط سيطرته على سوريا وفلسطين، أي على البطريركيتين الأنطاكية والمقدسية. ولكن الخطأ الذي تولّد عن ذلك -والذي خلّف تشوّها في السّلطة الكهنوتية، تواصل حتى يومنا هذا- أن تولى سدّة البطريركية المقدسيّة جرمانوس اليوناني(1534-1579م)، فأفاد من سلطان البطريرك القسطنطيني اليوناني وتأييد الدولة له. كان جرمانوس، بعد أن تسنّم كرسي البطريركية، كلّما توفي أحد من الأساقفة العرب إلاّ وسَامَ مكانه يونانيا. فأقصى الوطنيين عن المناصب العليا، حتى حصر البطريركية والأسقفية في العنصر اليوناني، فأصبح جميع الأساقفة(المطارنة) من بني جنسه. وأهم ما فعله في ذلك، تنظيم "أخوية القبر المقدّس" التي قصر عضويتها على اليونان، مما صدّ أي عربي عن الالتحاق بها، ومن هنا ظلّت عضوية الأخوية لليونان، وما يزال الأمر إلى الآن... ومثل هذا فرض على البطريركية الأنطاكية، لكن ثار الكهنة السّوريون وقلبوا ظهر المجن فانتهى أمره سنة 1898م.

ستكون تصدّعات الفترة الحديثة مفتتحا لأخطر اختبار تشهده المسيحية العربية منذ تاريخها القديم، إذ كان للتغيرات المختلفة التي هزّت المنطقة أثرها في تحوير السّياقات الطبيعية، فكلّما ألمت بالمسيحية العربية أزمة إلاّ وأغرقتها مجدّدا في ذبذبة هوية، لكن مع ذلك تبقى ذؤابة الخطّ الاستعرابي كامنة وخامدة. فخلال القرن السّابع عشر مثلا، وفي الأوساط الثقافية المارونية، نرى ذلك المنزع يطفو ثانية، وقد تجلّى مع اللّغوي الماروني جرمانوس فرحات(1670-1732م)، أُسْقُف حلَب، والمعروف بمؤلّفٍ في نحْوِ العربيّة اسمه بحثُ المطالبِ، والذي يتحدّث عنه مارون عبّود قائلا: إن لهذا الأسقف المولود في القرن السّابع عشر فضل التأليف في النحو، فهو أوّل نصراني ألّف فيه، بعدما أخذ هذا العلم عن الشّيخ سليمان النّحوي المسلم في حلب. وله أيضا فضل أكبر وأعمّ، إذ صحّح الترجمة العربية للمزامير والأناجيل وسائر كتب الموارنة الكنسية، فعرفت الكنيسة فصاحة العرب.

ولكن ذلك الخطّ كان عرضة لتحدّيات جمّة وافدة على المنطقة، ستدفع باتجاه خلق ولاءات خارجية من ناحية، وباتجاه تشجيع العرقيات والقوميات الضيّقة من ناحية أخرى، فمثلا وللتاريخ، فعند إدخال المطبعة للبلاد العربية استعمل الموارنة في الجبل كتابةً ألغوا منها الحرف العربي، واستعملوا البديل السّرياني، ولم يشذ عن ذلك إلاّ القليل منهم، وقد بقي جلّ رجال الدّين منهم يكتبون الغرشوني-garshuni-، أي العربية بأحرف سريانية.

وفي سياق حديثنا عن الكنيسة المارونية نشير إلى كونها تعود بالنّسبة إلى مارون النّاسك، وهو راهب نشط في أواخر القرن الرّابع وأوائل القرن الخامس. وقد تطوّرت لاحقا مع يوحنّا مارون السّرومي، رئيس دير مارون في وادي العاصي، شرق مدينة حماة. وقد تم انتخاب السرومي عام 680م في أعقاب المجمع المسكوني السّادس، ثم نقل كرسيه من دير مارون إلى قرية كفر حيّ في منطقة البترون من جبل لبنان، بسبب ما لقيه الموارنة من اضطهاد على أيدي البيزنطيين في الشّام. وبقي باباوات روما يعتبرون الطّائفة منحرفة، وعلى ضلالة مدّة خمسة قرون إلى أن أذعنت بالولاء لهم، وانضمت إلى الكاثوليكية، مما تطلّب أداء طقس "التثبيت".

سوف تتعمّق آثار تلك التحوّلات الحديثة لتجعل من البلاد العربيّة مستعمرة دينيّة، تتقاسمها الكنائس الغربية فيما بينها، وتسعى جادة في تحوير مفاهيمها اللاّهوتية واستبدال ولاءاتها الكهنوتية. تحت المعنونات اللاّحقة سنشير لتلك الزّعزعة الهائلة التي تعرّضت لها المسيحية العربية.

روما وكاريزما كنيسة الشّرق

كانت الصّراعات السّلطوية بشأن السّيطرة على سدّة التّراتبية الكنسية، والتي تقف من خلفها قوى سياسية، مدعاة لخلق بلابل عدّة في تاريخ المسيحيّة، وما كانت مظاهر الانفصال وأشكال الاستقلال لبعض الكنائس، الحادثة في التاريخ، والتي قابلها تلويح بسيف الحرمان وتسليط لتهمة الهرطقة على الأفراد والشّعوب، والتي تخفى تحت تعليلات لاهوتية، ذات صلة بالمفاهيم العقدية المجرّدة، التي لم تكن سوى تبريرات إيديولوجية سطحية. فالانشقاقات التي بلغتنا مروية في طيّ الجدل اللاّهوتي عبر كتب تاريخ الكنيسة -فترة القرون الستّة الأولى- لازالت تعوزها المقاربة التاريخية السياسية للإطار السلطوي الرّوماني الذي تشكّلت في حضنه الدوغما الدّينية السائدة. وبالمثل ما يشيع، عما جدّ لاحقا مع القرون التالية، من خلاف بين روما والقسطنطينية، بشأن عقيدة الرّوح القدس، والتي عادة ما يعلّل بسببها انطلاق شرارة الفتنة، بإضافة اللاّتين –أتباع روما- مفردة مسّت قانون الإيمان، محوّرة إياه إلى "المنبثق من الأب والابن"، بعد أن كانت صياغته "أؤمن... بالرّوح القدس المنبثق من الأب"، والتي اعتبرتها القسطنطينية تحريفا للقانون، وتنكّرا من روما للأخوة وتحريفا للعقيدة. والصّواب أن عوامل الخلاف العميقة كانت تأتي ضمن استعدادات كنيسة روما لتوحيد السّلطتين، المقدّسة والمدنية، وتقريبهما، للانقضاض على المشرق وتخليص القبر المقدّس من المحمّديين، على حدّ زعمهم، عبر حملات الصّليب التي ستشهدها المنطقة لاحقا. فليس الانشقاق نابعا عن حقائق لاهوتية كما يروّج، وكلا الضّربين من التأويل في قانوني الإيمان، يتساويان في الاستناد لمنطق غيبي. لذلك تبقى المقاربة العربية لتاريخ الكنيسة في انتظار مراجعتين محوريتين:

الأولى: بشأن دور أباطرة الرّومان في صناعة المسيحيّة السائدة.

والثّانية: تتعلّق بمسألة تبديع المسيحية العربية -النّساطرة وكذلك الموارنة سابقا- من طرف كنيسة غربية، ساعية لإرساء هيمنة مسكونية على تراث السيّد المسيح وأتباعه.

ولذلك عند مراجعة تاريخ الكنيسة لا بد من الحذر من مصادرة الحقيقة المغيَّبة، التي غالبا ما طمستها كلمات البدعة، والهرطقة، والمنحولة، والأبوكرفية، وغير الكانونية، وهي إقصاءات إيديولوجية طالما استُعمِلت للطّعن في الأطراف المعارضة لإلغاء مشروعيتها، ووظّفتها الكنيسة المهيمِنة ضدّ من خالفها الرأي. وقد غرق في هذه الاستعمالات عديد الكتاب العرب ممن لم يتهيّأ لهم الإدراك الموضوعي لتاريخ الكنيسة. فصاروا يعتبرون كل ما لم ترض عنه الكنيسة الغربية بدعة، ولو كانت هذه التيّارات والمذاهب معبّرة عن الواقع الشّرقي ورؤيته وتصوّراته للمسيحيّة. إذ اعتُبِرَ المارقيون هراطقةً، وهو خطّ لاهوتي دعا إليه بريلّوس البصري، من بصرى الشام، في الولاية العربية الرّومانية، خلال القرن الثّاني. وملخّص رأي صاحبه أن المسيح خال من أي مسحة ألوهية في ذاته، ولا ألوهية إلاّ ألوهية الأب التي حلّت فيه. واعتبِر الأريوسيون الموحّدون -أتباع الكاهن اللّيبي آريوس الذي عاش في بداية القرن الرّابع. م- هراطقة، وقد انتشر مذهبه في شمال إفريقيا أساسا وعلى ضفاف المتوسّط، والذي عقد لأجله مجمع نيقية الشهير سنة 325م. والأمر نفسه كان مع الآشوريين، الذين عُدّوا هراطقة، وهم نساطرة رفضوا المذهب الرّوماني وشقّوا عصا الطاعة لروما. وتعود نسبتهم إلى ثيودوروس المصيصي، المدعو نسطوريوس، وهو ينحدر من أسرة آرامية عربية نزحت إلى شمال الشّام من بلاد العراق التابعة في ذلك الوقت للدّولة الفارسية الساسانية، وقد مات نسطوريوس بعد خلعه في المنفى، في صحراء مصر الشرقية. ويتوزّع أتباع تلك الطائفة في تاريخنا الرّاهن بين مجموعتين: إحداها توالي البطريرك المقيم بمورتون غروف بالولايات المتحدة الأمريكية، في حين توالي المجموعة الثانية بطريركية بغداد التي بعثت سنة 1968م. و يمثل الآشوريون قرابة 7% من العدد الجملي لمسيحيي العراق.

داخل هذا التّنافس السّلطوي الكهنوتي، عَرَفَت المركزيّة السياسيّة للبلاد العربية فتوراً وحالات تدهور في عديد الفترات، كان أثرها جليّاً وخطيراً على المسيحية. الأمر الذي جعلها تعيش داخل مستلزمات متناقضة وأحيانا مغتربة مع واقعها التاريخي الاجتماعي. فهذا الولاء اللاّتاريخي لمراكز القوى الخارجية، غالباً ما زعزع تجذّرها في واقعها، وصدّها عن فاعليتها. وربما استشعر هذا الهمّ المنتمي للمسيحية عقديا قبل أن يعيه المنشغل بها حضاريّاً. يشير الأب غابي هاشم، في مجلة "المسرّة" ضمن ملفّ "توحيد الكنيسة متى وكيف؟"(9)، وهو من الآباء البولسيين(حريصا)، لواقع الاختراق لكنيسة الرّوم الكاثوليك الحالي قائلاً: "عليها كخطوة عملية أن تثبت أنها كنيسة شرقية أصيلة، وأن تستعيد استقلالها الإداري بعد إيضاح علاقتها بروما وإيضاح مفهومها "للشّراكة المزدوجة".

فاضطراب العلاقة مع روما لم ينته بإكراه قلب كنائس المشرق، كنيسة الموارنة، للاعتراف بهيمنتها عليها، بل شرعت روما كما يرى الأب جورج خضر، مطران جبل لبنان للرّوم الأرثوذكس، في إعادة بنية لاهوتية مستجدّة، أنشأت بموجبها كنائس تابعة لها، حتى نشأ من الآشوريين الكلدان الكاثوليك في العراق، ومن الأرثوذكس الرّوم الكاثوليك، ومن الأرمن الأرثوذكس الأرمن الكاثوليك، ومن السّريان الأرثوذكس السريان الكاثوليك(10). ولما رفض الأرثوذكس قرارات مجمع فلورنسة 1439م صاروا في نظر البابوية، لا هراطقة فحسب، بل عُصَاةٌ ينبغي تأديبهم.

فقد كانت كنيسة الموارنة ولازالت محورية بالنّسبة لروما، لما تلعبه من دور نافذ في التحكّم بكنائس العرب، روحيا وضمان ولائهم سياسيا. إذ كان ينشط الاهتمام، بتعهّد ذلك الفضاء بالتعميد الولائي، كلّما دبّ وَهَنٌ في شوكته السّياسية. فعندما بدأت تلوح مظاهر العجز في الدولة العثمانية، عمل البابا غريغوريوس XIII خلال فترة تعيينه(1572-1585م) على استيعاب الواقع المسيحي المستجد، فعجّل بتأسيس المعهد اللاّهوتي الماروني-Collegium Maronitarium- في روما عام 1585م، لتأهيل الشبّان الموارنة للمناصب الكنسية في بلدانهم، بعد أدلجتهم كاثوليكيا. ولتتواصل الرّعاية لاحقاً بإرسال الأب اليسوعي جيروم دانديني في العام 1596م، وتكليفه بعقد مجمع للكنيسة المارونية في دير قنّوبين وإدخال تحويرات على نظامها الكنسي يرضي الكنيسة الكاثوليكية. كما تم مع سنة 1608م اختيار أحد خرّيجي المعهد المذكور، يوحنّا مخلوف، بطريركاً على الكنيسة المارونية ثم تلاه إسطفان الدويهي في فترة لاحقة. والملاحظ أن عمليّات الدّمج والتأطير للكنيسة المارونية، بحسب ما ترتضيه روما، امتد على فترات طويلة، لعل آخرها ما تم مع المجمع الماروني في دير اللّويزة سنة 1736م، والذي تم فيه الدّمج النّهائي والقانوني للموارنة وروْمنَتِهم. فمساعي التعهّد المتواصلة للموارنة، عمليا ورمزيا، من طرف الكنيسة الكاثوليكية كان شغلاً وهمّاً مستمرّا، خشية ارتداد الوعي على انحرافاته، لضمان التبعية والتوغّل في فروع كنائس، استعصت على الترويض في ماضي تاريخها.

ضعف الدّولة العثمانية وآثاره المتنوّعة

كانت البعثرة الحديثة للمسيحية العربية منجرّة أساساً عن تدهور بنيوي ضرب الدّولة المركزية. سنتولى الإشارة لتلك المظاهر من خلال تطرّق لبعض المحطّات ذات الصلة بالموضوع. كانت الانطلاقة مع تدشين اتفاقية مع جمهورية البندقية، خوّلت لها بمقتضاها حماية الفرنشسكانيين في الأرض المقدّسة، وما تلاها من إقرار امتيازات أجنبية، تجارية خاصة، منحها السّلطان سليمان القانوني للرّعايا الفرنسيين، بناء على ما عقده مع فرنسوا الأوّل ملك فرنسا سنة 1536م، والذي تطوّر لاحقا مع الملكين الفرنسيين، لويس XIV ولويسXV، بوصفهما راعيين للمسيحيين اللاّتين المتواجدين في الإمبراطورية العثمانية. هذه الامتيازات التجارية أصلا، أخذت دائرتها تتّسع، كما بدأت آثارها تتعمّق وتتقوّى، حيث شملت دولا أخرى من أوروبّا. وأصبحت سبيلا لحماية أفراد من رعايا الدّولة العثمانية، عن طريق منحهم جنسية البلدان الأجنبية. وما أن حلّ منتصف القرن الثامن عشر حتى تم الاعتراف بفرنسا، من طرف الكرسي الرّسولي والقوى الأوروبية، حاميةً للمسيحيين الموالين لروما. ولسنا نودّ هنا أن نفصّل هذه القضية لأن الذي يهمنا هو استغلال الدّول الأوروبية هذه الامتيازات لبسط حمايتها على طوائف معينة لأنها كانت تحاول الانتقال إلى مذهب جديد هو مذهب تلك الدولة العلمانية في أوروبا.

الأمر الذي حوّل مسيحيي العالم العربي-على حد تعبير اللّبناني جوزيف مايلة- إلى "زبائن" وأدوات، حتى صاروا ورقة ضغط في صراع القوى الأوربية فيما بينها، التي ركّزت هدفها الاستراتيجي النهائي على تفتيت الإمبراطورية العثمانية(11).

وقد اشتدّ التفتيت الدّاخلي للكنائس العربية، بفعل قدامة مؤسّسة الملل التي أرستها الدّولة العثمانية، والتي هيّأت لرهنها بالخارج. ويتلخّص نظام الملل ذلك بإيجاز، في اعتراف مرسومي من الآستانة بثلاث ملل، من غير المسلمين، داخل الإمبراطورية، خاضعة لهياكل الارتباط والتسيير التقليديّة، وهي: الملّة اليهودية، وحشرت ضمنها كافة المذاهب، والحال أن بعضها يختلف اختلافا كلّيا عن غيرها، مثل يهود السّامرة؛ وملّتين بين المسيحيين، وهما ملّة الرّوم الأرثوذكس البيزنطيين، وملّة الأرمن من ذوي الطّقس السّرياني. يقول الحسن بن طلال: "هذا النظام العثماني للملل غير الإسلامية ولّد مشاعر عميقة من السّخط، وعدم رِضاً في صفوف الطوائف المسيحية غير المعترف بها أو باستقلالها الكنسي، في العراق والشّام، عدا الموارنة، الذين كانوا منذ القرن الثاني عشر قد قبلوا بالسيادة البابوية. لكن لم تقبل الكنيسة المارونية بالطقوس الكاثوليكية الرّومانية(اللاتينية) وظلّت محافظة على شخصيتها الأصلية(12).

للتوضيح، نشير إلى أن ما شاع مع المؤرّخين المسلمين، مثل الشهرستاني(1076-1153م) في "الملل والنحل"، وابن خلدون(1332-1406م) في "المقدّمة"، والقلقشندي(1355-1418م) في "صبح الأعشى"، من تقسيم نصارى البلاد العربية إلى ثلاثة تكتّلات، بحسب الموقف من سرّ التجسّد: النّساطرة الذين يقولون بأقنومين وطبيعتين في المسيح؛ اليعاقبة، ومنهم الأقباط، الذين يقولون بأقنوم واحد وطبيعة واحدة؛ والملكانيون الذين يقولون بأقنوم واحد وطبيعتين، ليس له مراعاة مع ما طرأ من مستجد، كما نشير أن هذه التقسيمات قد صارت لاتاريخية اليوم في ظل تبدّلات هزت ولاءاتها.

وقد كانت الكنيسة المارونية سبّاقة في ارتباطها بروما، فنظراً لما حظيت به، مثّل ذلك الإغراء هزهزة للتجمّعات العرقية والدّينية الهشّة، التي عانت، سواء فترة المماليك أو فترة العثمانيين. فبسبب اتحاد الموارنة مع روما، تمتّعوا بدعم الدول الأوروبية الكاثوليكية وحمايتها، مما جعلهم لا يأبهون بتصنيف الدّولة العثمانية لهم في صنف ملّة الأرمن. بيْد أن النساطرة واليعاقبة استاءوا من هذا التصنيف أشدّ الاستياء، لكون الجماعتين مختلفتين عن الأرمن عرقا ولغة، برغم مشاركة اليعاقبة الأرمن القول بمذهب الطّبيعة الواحدة للمسيح. وما إن عاين المبشّرون الكاثوليك في العراق والشّام مشاعر الاستياء لدى هاتين الطائفتين، حتى سارعوا إلى عرض مخرج لهما من ذلك، وهو الاقتداء بالموارنة، واقترحوا عليهما الدّخول في اتحاد مع روما يغنيهما عن الاعتراف العثماني، بل يعطيهما أكثر من ذلك.

فالجوّ العام الذي كان مخيّما بين الأقلّيات المسيحيّة العربية جرّاء أوضاع المعاناة، كان منذرا بالتّدهور، مما هيّأ الاستعداد للتنكّر لعديد الروابط في سبيل تحسين أوضاعها. وجد دفعه في تمتين عرى التواصل مع كنائس وقوى خارجية، وقد تم في مرحلة أولى مع الكنيسة الكاثوليكية، ثم في مرحلة لاحقة مع الكنائس البروتستانية.

التبشير الخارجي وزعزعة الأساسات

كان لأوروبا المتحفّزة، مع مطلع العصور الحديثة، لالتهام ما وراء المتوسّط اقتصاديا، دعماً وافراً من الكنيسة، صارت فيها بضاعة الخطاب الدّيني تشكو كسادا بالداخل وتتطلّع للتسويق في الخارج، مزمعة فيها لتصفية آخر معاركها مع "المحمدّيين" والتعهّد بالتعميد المتجدّد للمنحرفين من أتباع المسيح الساكنين أرض الكتاب المقدّس. فكان أن تخصّص الآباء البيض، أحد التفرّعات النّشيطة للكنيسة الكاثوليكية، بحيز شمال إفريقيا، لما تربطهم بالاستعمار الفرنسي من صلة قربى، وما صحب ذلك من تداعيات إحياء كنيسة القدّيس أوغسطين، بعد تجاوزها على أيدي أبناء البلاد الأهليين؛ وتكلّف بالعمق الإفريقي للبلاد العربية المبشّر دانيالي كومبوني(1831-1881م)، الفيروني الأصل، الذي يعد أب المسيحية الدخيلة في السودان، وما ربطته من صلات متينة بالاستعمار الإنجليزي. في حين كان الشرق مشاعا بين جلّ تقليعات التأويليات اللاّهوتية التي أنتجتها المراجعات الغربية للفكر المسيحي، وما أفرزته من تحالفات مستجدة مع المؤسّسة السياسية.

يقول الحسن بن طلال: فقد كانت المحاولات التبشيريّة الكاثوليكية تنظر إلى المسيحيين العرب التابعين للكنائس الأرثوذكسية الأصليّة على أنهم خوارج لأنهم لا يقبلون بسلطة البابا. فالقضيّة لم تكن محض محاولة لإرشادهم بل الأصل فيها أنها محاولة لإخضاعهم... لكن ثمار العمل التّبشيري الرّوماني قد بدأت بالظهور في أواسط القرن السّابع عشر، إذ اعتنق عبد العال أخيجان المارديني اليعقوبي الكثلكة وفَرَّ إلى لبنان، وهناك سِيمَ مطرانا سريانيا كاثوليكيا على حلب، على يد البطريرك الماروني، لكن بطلب من القنصل الفرنسي في حلب، والسِّيامة هي وضع اليد على رأس المستخلَف، لمنحه كاريزما روحية في نطاق ما عرف بـ"الخلافة الرّسولية". ولِدت بطريركية السّريان الكاثوليك، ونمت وأنفقت الأموال الطائلة على كنائسها، كما فتحت أبواب كلّية القديس يوسف التي أنشئت سنة 1875م أمام أبناء الطائفة الجديدة(13).

وحتى تتفادى الكنيسة الكاثوليكية التواجه مع الحسّ العروبي، الذي بدأ يدبّ في مقابل سياسة التتريك، تجاوزت مفهوم الإخضاع الشّامل للكنائس المشتَّتة، وتركت لها حرية المحافظة على فلكلورها التقليدي، مع اشتراط طاعتها للكرسيّ المقدّس، والذي سيتطوّر لاحقا إلى ولاء كهنوتي.

كانت التكتّلات الكنسيّة الغربيّة الأساسيّة، الكاثوليكية والبروتستانية، جادة في الاستحواذ على تجمّعات المسيحيّة العربية، لضمان تبعيتها إليها، والتي ليست في الحقيقة سوى امتداد لعملية إخضاع أشمل وأوسع لقوى استعمارية متطلّعة لالتهام تركة الرّجل المريض. فكان استهداف التكتّلات الرئيسية، باستعمال كافة وسائل الإغراء لها نحو الخارج، والتخويف لها من الداخل، فاستصنِعت في مصر من الجماعة القبطية الطّائفة الاتحادية، التي سمي أتباعها "الأقباط الكاثوليك"، تمييزا لهم عن "الأقباط الأرثوذكس"، جرى ذلك عام 1741م بإعلان الأسقف القبطي أثناسيوس دخوله تحت طاعة روما، وولاءه واتباعه المذهب الكاثوليكي. برغم أن الكنيسة القبطية استصرخت منذ 1730م السّلطات العثمانية، ولكون عملية الاختراق المستجدّة، تطلّبت وقتا للتجذّر، فقد مثّلت الحملة الفرنسية على مصر دافعا للمبشّرين الكاثوليك لترسيخ أقدامهم في القاهرة، الأمر الذي جعل بعض الأقباط ينجذبون إلى الكثلكة، وتأخّر إحداث كنيسة مستقلّة حتى العام 1895م. كما بعثت الكنيسة الإنجيلية القبطية على يد مبشّرين أمريكيين عام 1856م.

وتم اتباع النهج نفسه مع كنيسة أنطاكية فصارت مع عام 1724م خمس كنائس: رومية أرثوذكسية، ورومية كاثوليكية، وسريانية أرثوذكسية، وسريانية كاثوليكية، ومارونية. وبالمثل أسهمت عوامل أخرى في شرذمة الكنائس في البلاد العربية، فقد يسّر القائمون على شؤون الطائفة الأرثوذكسية في بطريركية أنطاكية والقدس مثلا، وهم من العنصر اليوناني كما ذكرنا سلفا، الاختراق الكاثوليكي في المنطقة، بما أهملوا به شؤون تجمّعات المؤمنين تعليما ورعاية وعناية روحية.

ومن جانب آخر، فما كان متيسّرا للتبشير البروتستاني أن يأخذ سهمه من تقاسم تركة الشّرق الدينية، حتى يسوّي خصوماته مع الكنيسة الكاثوليكية المركزية في أوروبا. لذلك كان وصوله متأخّرا نوعا ما، كان ذلك مع مطلع العشرينات من القرن التاسع عشر، عندما حلّ الإنجيليون، أتباع الحركة الإنجيلية -Evangelism-، ببيروت وأسّسوا ما عرف بـ"إرسالية فلسطين" –Palestine mission-. التي انبثقت عن المجلس الأمريكي للمفوّضين عن الإرساليات الأجنبيّة في مدينة بوسطن، الذي كان خاضعا لطائفتي المشيخية-Presbytarian- والجمهورية. ثم جرى توسيع الإرسالية لاحقا لتشمل حسب التسمية والنشاط سوريا والأرض المقدّسة. وما أَنْ حل منتصف القرن التاسع عشر حتى كانت الإرسالية قد أسّست أولى مدارسها ومعاهدها اللاّهوتية، في بيروت والمناطق الدّرزية من جبل لبنان، منطلقة في أدلجة أوائل البروتستانيين العرب. وبفعل تلك الأنشطة تحوّل عدد من العرب على ضفّتي نهر الأردن، وأغلبهم من طائفتي الرّوم الأرثوذكس والرّوم الكاثوليك، إلى البروتستانية على المذهب الأنجليكاني.

وبفعل صراع الغنيمة الرّوحية المتجاوز لأدنى خلقيات المراعاة للخصوصيات الثقافية للمنطقة، كان لا بدّ من إعادة ضبط الأدوار بين القوى الدّينية الوافدة وإفرازاتها ومولّداتها، بحسب مقتضيات الميدان. فقد دخلت جلّ كنائس البلاد العربية، خلال القرون الثّلاثة الأخيرة، تجربة حرجة، تتجاوز إرادتها ومقدّراتها، لازالت تتواصل تبعاتها حتى الرّاهن المعاصر، وما محاولات التوحيد والتقريب المتعثّرة في التاريخ الرّاهن سوى إحدى تجلّياتها.

فالهيئة المعاصرة لمجلس كنائس الشّرق الأوسط، التي تعمل جنب "مجلس الكنائس العالمي"، والخاضعة لهيمنة إنجيلية، أي بروتستانية، تصطفّ فيها أيضا العائلة الكاثوليكية، التي تضم ثمانية كنائس (المارونية، والرّومية الكاثوليكية، واللاّتينية، والسّريانية الكاثوليكية، والقبطية الكاثوليكيّة، والكلدانية الكاثوليكيّة والأرمنية الكاثوليكيّة والآشورية)؛ والعائلة الأرثوذكسية وتضم كنائس (الرّوم الأرثوذكس في بطريركيات أنطاكية والإسكندرية والقدس وقبرص)؛ والعائلة الكنسية الشرقية القديمة وتضم (كنائس الأرمن الأرثوذكس، والسّريان الأرثوذكس، والأقباط الأرثوذكس)، والعائلة الإنجيلية وتضمّ الكنيسة(المشيخية، واللّوثرية، والاستقلالية، والأسقفية)، لكن هذا التكتّل الهشّ والفسيفسائي لم يشفع دون انتقادات الكنائس الأرثوذكسية خاصّة، باعتبار المجلس يتكوّن من وكلاء مرسلين ومجالس إرساليات أجانب. لذلك يبقى بلوغ الكنائس العربية وحدتها الممتنعة في الزّمن الحديث رهين مراجعة يخاطب فيها لاهوت الكنيسة واقعه.

الرّهان على تحوير العقول

راهَن القسّ -المبتسم البشوش-، الآتي من خلف البحار، على المؤسّسة التعليمية والثقافية أية مراهنة، وكان لضعف الدولة المركزية الأثر الواضح في تعدّد مصادر التعليم المؤدلجة، والتي انهمك كل صنف في صنع أتباعه وأنصاره حسبها. يقول وجيه كوثراني ضمن كتاب "المسيحيون العرب: دراسات ومناقشات " المذكور: فحين كان أبناء الموارنة في جبل لبنان يتربّون في المدارس الفرنسية ذات النزعة الدّينية المحافظة، كان كثير من أبناء التجار المسيحيين المدنيين يحصّلون ثقافتهم في المدارس الإنجيلية الإنجليزية والأمريكية... هذا في حين كان أبناء التجّار والحرفيين من المسلمين بشكل عام يتلقّون تعليمهم في المدارس الخاصة الإسلامية(المقاصد، مدرسة الشيخ عبّاس في بيروت). بيد أن المؤسّسات الثقافية المهيمنة، بقيت في الحي المديني الإسلامي وفي القرية الإسلامية الريفية، هي المسجد وحلقات العلماء والكُتّاب، والاجتماعات المنزلية لدى الأعيان والوجهاء...

باختصار، في أواخر القرن التاسع عشر أصبحت للتعليم وظيفة إيديولوجية ذات صلة بالاتجاهات السياسية، التي تنحو نحوها القوى الاجتماعية في الداخل والتي اعتمدت على بعضها السياسات الاستعمارية الأوروبية. ففي حين أمّن التعليم الإرسالي الفرنسي والإكليركي الماروني إدارة أجهزة جبل لبنان وأصدقاء لفرنسا في كل سوريا، أمّن التعليم الإنجيلي الأمريكي دعاة "للديمقراطية الغربية" متحمّسين لاحتذاء النموذج الغربي السياسي، وأمّن التعليم الرسمي العثماني والإسلامي الشعبي بشكل عام استمرارية ثقافة عربية إسلامية تراثية، تغذّت منها إيديولوجيا الجماهير الإسلامية في موقفها السياسي المعادي للاستعمار.

فالتعليم التبشيري في بلاد المشرق ما كان دعما للتشكّلات الدّينية المحلّية وربطا لها بهويتها وتعريفا لها بثقافتها، أو توعية لها بشبكات الاستغلال والتوظيف، بل كان أساسا مسعى لربطها بولاءات خارجية. يصف جبران خليل جبران هذا الواقع السلبي الناتج عن تعدّد الولاءات الثّقافية والسياسية في الرّبع الأول من القرن العشرين، ضمن كتاب "صفحات من أدب جبران" لنبيل كرامة ص: 61-62، قائلا: "ففي سوريا مثلا كان التعليم يأتينا من الغرب بشكل الصّدقة، وقد كنّا ولم نزل نلتهم خبز الصدقة لأننا جياع متضوّرون، ولقد أحيانَا ذلك الخبز، ولما أحيانَا أماتنا. أحيانا لأنه أيقظ جميع مداركنا ونبّه عقولنا قليلا، وأماتنا لأنه فرّق كلمتنا وأضعف وحدتنا وقطع روابطنا وأبعد ما بين طوائفنا، حتى أصبحت بلادنا مجموعة مستعمرات صغيرة مختلفة الأذواق متضاربة المشارب، كل مستعمرة منها تشدّ في حبل إحدى الأمم الغربية وترفع لواءها وتترنم بمحاسنها وأمجادها. فالشاب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أمريكية، تحول بالطبع إلى معتمد أمريكي، والشاب الذي تجرّع رشفة من العلم في مدرسة يسوعية صار سفيرا فرنسيا، والشاب الذي لبس قميصا من نسيج مدرسة روسية أصبح ممثلا لروسيا".

من يحصي المسيحيين العرب؟

من تناقضات التعامل مع الواقع الدّيني في البلاد العربية، أن صارت حتى إحصاءات الداخل تُستورَد من الخارج. فلازالت أغلب البلدان تتستّر على أعداد المتديّنين بأديانها والمتمذهبين بمذاهبها، والتابعين لطوائفها، وهي ممارسة نَعامية في زمن صار فيه الإحصاء والتعداد والحصر من لوازم برامج التنمية والتطوير والتأهيل؛ كل ذلك بدعوى أن العملية من شأنها أن تؤثّر على الوحدة الوطنية، وكأن الوحدة الوطنية يتناقض رص صفوفها مع المعرفة والإلمام بحقائقها. ولذلك تبقى الأعداد الحالية المقدّمة، والتي نجدها متناثرة لدى بعض الكتّاب العرب تقريبية، أو منقولة عن أجانب، ولا تفي بالغرض هي أيضا، فهي جزئية وعامة، هذا إن سلمت من التضخيم والتقريب، لأسباب عدّة، وسنعرض نموذجا عنها لاحقا.

فبحسب ما ذكره الحسن بن طلال، يوجد في مصر ستّة ملايين ممن يدينون بالمسيحية، أي ما يساوي 12,5%، في حين أنه حسب الإحصاء الرسمي لسنة 1995م يساوي العدد ثلاثة ملايين و300 ألف، وأما إحصاءات الأطراف المعارضة فهي بين ستّة وعشرة ملايين، أي ما بين 10 و20%؛ وفي لبنان هناك مليونان، ما يساوي 40%؛ وفي سورية نصف مليون، ما يساوي 6%؛ وفي العراق أيضا نصف مليون، ما يعادل 3%؛ وفي الأردن وفلسطين معاً نصف مليون، ما يساوي 6%.

وأما توزّع المسيحيين العرب بحسب المذاهب: نجد الأقباط خمسة ملايين؛ والرّوم الأرثوذكس مليونا؛ الموارنة مليونا؛ أرمن البلاد العربية أربعمائة ألف، نصفهم في لبنان؛ الكلدان ربع مليون؛ الآشوريين خمسين ألفا. كما يبلغ عدد البروتستانيين في البلاد العربية 180 ألفا أو يزيد، منهم 130 ألفا في مصر، و25 ألفا في لبنان، وبعض الألوف موزّعة بين تجمّعات مذهبية صغرى.

أما يوسف كورباج وفيليب فارجس، فقد أعدّا إحصاء سمّياه "المسيحيّون واليهود في الإسلام العربي والتركي"، نشر في دار فايارد الفرنسية سنة 1992م وتناولاه بالمراجعة سنة 1995م. ننقل عنهما أعداد المسيحيين في البلاد العربية بحساب الألف: الأقباط (3,297,5)؛ الإغريق الأرثوذكس (959,1)؛ الموارنة (529,1)؛ الملكانيون (442,8)؛ الكلدان (402,4)؛ الأرمن الرسوليون (348,4)؛ السريان الأرثوذكس (146,3)؛ اللاّتين (86,3)؛ البروتستانيون (80,8)؛ السريان الكاثوليك (99,4)؛ الآشوريون (110,3)؛ الأرمن الكاثوليك (51,2). ويكون المجموع العام 6,553,6 بنسبة مئوية تعادل 6,1%.

كما نجد إحصاء تقريبيا لدى جان بيار فالونيي بعنوان: "حياة وموت مسيحيي الشرق. من القدم إلى أيامنا" ونشرته دار فايارد بباريس أيضا سنة 1994م. تتراوح فيه الأعداد كالتالي: في مصر بين (6-8 ملايين)؛ العراق بين (500,000 – 600,000)؛ الأردن بيـن (100,000- 120,000)؛ سوريا بين(750,000-900,000)؛ لبنان بين(1,3- 1,5 مليون)؛ فلسطين(180,000).

وتبقى نواح أخرى من البلاد العربية، مثل السودان وجيبوتي وغيرها، مسقطة من الكتابات العربية حول المسيحية، ولم تُولَ شأنا برغم أهميتها وحساسيتها، وغالبا ما تتناولها التقديرات الغربية ضمن إحصاءاتها العامة بشأن إفريقيا. وفي نطاق إحصاء عالمي، بعنوان - ANNUARIUM STATISTICUM ECCLESIAE-، من إعداد الكنيسة الكاثوليكية(14)، نجد ذكرا لأعداد الكاثوليك في السودان، بمقدار 3.836.000 معمَّد، وبنسبة مئوية من التعداد العام تساوي 12,06%. كما بلغ عدد الكاثوليك في جيبوتي 7,000، بنسبة مئوية من العدد الجملي 09,1%.

وقد انتقينا من الإحصاء المذكور بعض الأرقام المتعلّقة بالبلاد العربية، وجدناها مفصّلة بحسب كل بلد، آثرنا تجميعها هنا لإعطاء رؤية شاملة. فقد بلغت أعداد المكلّفين بالخدمة الرّسولية الكاثوليك في البلاد العربية كالتالي: الأساقفة: 147، القساوسة: 3,366، الشمامسة القارّون: 52 رجال دين ممن ليسوا قساوسة: 600، الراهبات: 7.094، أعضاء في مؤسسات لائكية رجالية: 1، عضوات في مؤسسات لائكية نسائية: 17، المبشّرون اللائكيون: 48، المدرّسون الدّينيون: 9695. علما ان الرّصد لم يتناول كافة الأنشطة بالحصر الدقيق، ولم يتم تعداد سوى ما قدمت بشأنه تقارير فحسب، مما يعني أن الأرقام الحقيقية تفوق ما ذكرنا.

أما عن أعداد التلاميذ والطّلبة في المؤسّسات التّربوية والتعليمية، التابعة للكنيسة الكاثوليكية في البلدان العربية خلال نفس العام، فهي كالتالي: عدد مدارس الأمومة: 1026، وتضم: 128,173 صبيّا؛ المدارس الأساسية وعددها: 1,028، وترعى: 412,666 تلميذا؛ المعاهد الثّانوية وعددها: 388، وترعى: 191,385 تلميذا؛ أما أعداد الطلبة في المؤسّسات العليا فقد بلغ: 4424 طالبا، في حين أنه في المؤسّسات اللاّهوتية العليا قد بلغ: 3462، وفي مؤسّسات عليا أخرى بلغ العدد: 27551 طالبا.

ما ذكرناه سلفاً كان بشأن أعداد المسيحيين بالمولد والنّشأة، أما ما يخص المتحوّلين من الدّيانة الإسلامية إلى المسيحيّة، أو المرتدّين بعبارة فقهية، فلا يزال الجدل محتدا بشأن مفهوم تلك الفعلة ومشروعيتها من عدمها، لذلك تعرف تكتّما بشأن حيثياتها، سواء من السلطات القائمة أو من الأطراف العاملة في التبشير في أوساط العرب. ففي الجزائر مثلا، نجد تركيزا تبشيريا على منطقة القبائل خصوصا، بما توجه نحوها من قنوات إذاعية تبث بالأمازيغية، ومن مساع لنشر الإنجيل المكتوب بالتفانيغ، أي الأبجديّة الأمازيغية، مستغلّة في العملية حالات الفقر والتهميش التي تعرفها تلك المنطقة البائسة، كما نجد بعض المحطات الإذاعية التي تبث بالدارجة المحلّية التونسية وترمي لنفس الأغراض السالفة. وعموما تبقى أعداد المتحوّلين إلى المسيحية متكتَّما عليها، فرئيس الأساقفة في الجزائر هنري تيسيي، في كتابه الجديد "مسيحيون في الجزائر- الكنيسة الواهنة"(15)، يشير ويلمّح إلى حالات التحوّل دون التصريح بأعدادها.

عموماً، تبقى البلاد العربية في حاجة ملحّة إلى مراصد دينيّة يسهر عليه أبناء البلد، تتابع من خلالها كافة تجلّيات الظواهر والشرائح الدّينية، فلا يمكن التطلّع نحو التنمية والحداثة والمقاربة للقطاع الدّيني وهي لا تزال مغرقة في تعامل مبسّط مع الوقائع.

تجديد المقاربة العربية

تنتشر إسقاطات تعميمية جمّة في الفكر العربي عند الحديث عن الكنيسة، فغالبا ما تحشر المسيحية العربية خطأ ضمن تاريخ الكنيسة الغربية، أو بشكل أدق ضمن تاريخ الكنيسة الكاثوليكية التي انتهكت كرامة الإنسان وفكره في عديد المناسبات. والحال أن المسيحية العربية، ما عرفت طيلة تاريخها تلك الممارسات، ومن الخطأ تحميلها ما لم تفعله. ولذلك لا بد من بناء تاريخية مستقلّة للكنيسة العربية لتجنّب الاتهامات العفوية المنجرّة عن ذلك.

كما هناك بالمقابل تسطيح للتجربة المسيحية داخل التاريخ العربي والإسلامي، فغالبا ما تتجاوز ممارسات سلطوية ظالمة ذهب ضحيتها المسلم كما ذهب ضحيتها المسيحي، وجرى التخفي عليها باسم المحافظة على الوئام بين أبناء الدّيانتين، والأولى أن تعالج مسبّبات تلك الممارسات لتجنب تكرارها.

ونرجع تلك الممارسات لغياب تمييز للحدود الفاصلة بين القدح الدّيني والتهجّم الملّي من جانب، والمقاربة العلمية والنقدية من ناحية أخرى، فعدم التفريق بين هذين الحقلين غالبا ما منع وحَدَّ مِنْ مغامرة العقل مع التراث الكتابي المسيحي. لقد لمست مثلا –من حيث الكمّ ومن حيث النوعية- قلّة الكتابات العربية في المسيحية، والأناجيل، والرسائل، مقارنة بما كتب حول اليهودية، وإن كان هو أيضا، يغلب عليه الطابع الذاتي لا العلمي. فكل عملية نقد أو تحليل للنصّ المقدّس المسيحي من خارج معتنقيه، غالبا ما عدّت شكلا من أشكال التهجّم، والحال أن علم نقد الكتب المقدسّة هو علم عربسلامي أصيل اختطف في التاريخ الحديث من المفرّطين فيه، وطوّرت فيه عديد من التخصصات العلمية.

ولذلك انتشرت عديد من الطروحات اللاّواقعية في الفكر العربي الحديث، تعيد أساطير وانحرافات شائعة، كون المسيحية ديانة قلبية وروحية وغير واقعية، وهي أحد الترويجات الخاطئة التي شاعت بفعل مفاهيم الرّهبنة والفصل القسري الذي سلّط على الكنيسة في الدائرة المدنية والدائرة الدّينية. والحال أن التجربة المسيحيّة العربية لم تعرف هذه التقسيمات الناشئة داخل الممارسة الغربية، لذلك تبقى كثير من الأحكام بشأن المسيحية العربية في حاجة إلى تصحيح ومراجعة، ولا بد لأجل بيان تهافتها من إعلاء محاور اللاّهوت السياسي، واللاّهوت العملي، ولاهوت التحرير، في مدلولاتها المتناغمة مع واقعها الحضاري.

فالأمر يتطلب تمييز مختلف الأمور المتعلّقة بالتراث الدّيني للمنطقة بكافة طبقاته، ومراحله، ونوافذه، وينبغي ألا تُحْشَرَ العمليةُ بهتانا مع الممارسات التبشيرية الخارجية، فلكم عانت المسيحية العربية من هذا المزج والضمّ، إذ داخل تلك التناقضات، التي لم يحقق فيها العقل تعامله الواعي والرّصين، سواء مع تراثه أو مع واقعه، تم التوظيف من خارج لتلك الموانع، بدعوى تسلّط التشريعات التي يهيمن فيها الإسلام على السّاحة، وطالبت الدّوائر الخارجية بمكان في الفضاء العربي، قبل أن يقع التطرّق للمسيحية العربية وهمومها وحقوقها وواجباتها. فتطوير الفكر المسيحي العربي هو مسؤولية جامعة؛ لأن في متانته دعماً لاستقلالية أتباعه وتحرراً لهم من الهيمنة الخارجية. فالتخوّفات السائدة والمغالطات الشائعة قد خلفتها أساساً تدخلات دوائر دينية غربية، أحجمت كثيراً عن التعامل التلقائي، ولذلك هناك إلحاح لتمييز المسيحية المحلّية عن المسيحية الوافدة. فما يبدو جليا أن هناك طرحا مغلوطاً لعديد المسائل، فالتكتّلات المسيحية العربية لا تعيش تناقضاً مع تراثها وواقعها، بل ما تعيشه حقاً هو جزء من معاناة شاملة تثـقل كاهل كافة شرائح المجتمع وتلوناته جراء تدني المفهوم المواطني والمجتمع المدني. وأن استحداث مخاوف المسيحية العربية من التيارات الإسلامية، أو من دواعي تطبيق الشريعة، أو من الاضطهاد العروبي الإسلامي، لا يعني سوى تغييب لمطلب الديمقراطية الاجتماعية والسياسية الذي يعاني منه الجميع.

ففي الراهن الحالي يقرّ عديد من المراقبين المسيحيين العرب بتواجد أزمة هويّة في التاريخ الرّاهن، تشتدّ وتتقلّص حدّتها من مجموعة لأخرى، فلئن وجدت الكنيسة الأرثوذكسية مثلا، وئاماً مع عروبتها فإن المجموعة المارونية اللّبنانية تعرف توتّراً إشكاليا. فهناك مسائل متوارثة تاريخياًّ لا يزال اللاّهوت يخشى مقاربتها، يلخّصها الأب مشير باسيل عون في بحثه "المسيحيون العرب وتجديد الخطاب الديني" ضمن مجلّة "الاجتهاد"(16)، في كون معظم مشاكل اللاّهوت الدّاخلية في لبنان وأوطان الشّرق العربي، تتّصل بطبيعة الذّهنية اللاّهوتية السائدة في الكثير من المؤسّسات الكنسية، والأوساط اللاّهوتية الجامعية والتجمّعات الرّاعوية. وإن أدق ما يمكن أن تنعت به هذه الذهنية اللاهوتية، عجزها المخيف عن استخدام النقد التاريخي لتطهير ما تراكم في قاع مكتسباتها المعرفية، من عتيق التصوّرات وقديم المقولات وعقيم الأحكام وبليد الآراء...لأنّ هذا السعي وحده يعفي الفكر اللاهوتي من الاكتفاء باعتماد أنماط التحديث اللاّهوتي الغربي، ويسعفه بمحاورة الفكر العربي في شقّيه: العلماني والإسلامي.

إذ تتأصّل منجزات الفكر المسيحي العربي كلّما التفتت إلى الداخل وتتراجع كلّما ارتبطت بالخارج، فعلى عكس ما ولّده النظر للداخل من تجذّر، خلّف الولاء للخارج والاقتداء به تشتّتا وتمزقاً. فما ميّز الكنيسة العربية أنها كلما التفتت إلى الداخل تعمّقت تجربتها الروحية وتجذّرت رؤاها اللاهوتية، وكلما كانت قبلتها شطر الخارج كثرت الكنائس وابتسرت التجربة. ومن ثم فلا يمكن للمسيحية أن تدّعي وطنيتها وعروبتها وهي تستورد إشكالياتها من الخارج. وكما يبدو، أن هناك تلازما وترافقا تاريخيا في انتعاشة الفكرين: الإسلامي والمسيحي في فضائهما المشترك، وهو تعبير وتَجَلٍّ لوحدة الآلية المتحكّمة فيهما. فخلال القرنين الأخيرين لم تعرف المسيحية العربية تطوّرا، بالمعنى اللاّهوتي والهرمنوطيقي في اتصالها بالنص المقدس، لذلك جاءت جلّ التفرّعات الفسيفسائية الكنسية انعكاسا لما حدث في الفكر الدّيني الغربي، وبقيت مظاهر التقليد تلك عاجزة عن إنتاج نهضة لاهوتية محلية. فقد حاصرت المسيحيةَ ذاتَها بتبنيِّ رُؤَى الخارج، مع أنها تقف على الأصول التأسيسية، تراثا، وكتبا مقدسة، ولغات، وفي أهالي معلولا الناطقَين بالآرامية في سورية، شهادةٌ حيّةٌ على ذلك.

كما لا يزال التراث اللّغوي القديم في المنطقة حاضرا، مما لا يضاهى في أي ناحية أخرى من العالم المسيحي. ففي الطقس الاسكندراني القبطي لا يزال استعمال القبطية في الطقوس إلى جانب العربية. وكذلك في الليتورجيا الأنطاكية الخاصة بالموارنة والسريان الكاثوليك، لايزال استعمال السريانية إلى اليوم إلى جوار العربية. وكذلك لدى الكلدانيين والآشوريين لايزال استعمال السريانية في بعض الكنائس، كما تستعمل العربية أيضا في قراءة النصوص المقدّسة.

فهذه المعطيات ربما كانت الأقدر لو وظّفت لبناء هرمنوطيقيا مسيحية عربية، لادخار المنطقة للغات الكتب المقدسة ولاتصالها الحي والفاعل باللّغة العربية. ومن المؤسف أن نرى اليوم اهتماما بالآرامية وعبرية التوراة في أوروبا وأمريكا أكثر مما نراه في الجامعات العربية والإسلامية مع التخاتل بالانتماء للتراث الإبراهيمي.

لقد أفقدت الزعزعة الخارجية الفكر المسيحي العربي أصالته النابعة من فضائه الحضاري، ولذلك يبقى في راهنه الحالي فكراً سطحيّاً هشاً، ما لم تدعمه مراجعة انتقادية باحثة في أصول اللاهوت السائدة لغة ومفهوما. وكما يرى الأب مشير باسيل، فقد يقتضي هذا التوفيق الجرأة على تجديد المقولات اللاهوتية التأصيلية، المتعلّقة بمفاهيم الأبوة والولادة والبنوّة.

ودون هذا الجهد اللاهوتي التكييفي للاهوت الكلمة، يظل الوعي الإسلامي على نفوره من اللباس الثقافي الذي تتشبّث به العقيدة المسيحية في حديثها عن الأبوّة الإلهية والبنوّة الإلهية، ويظل هذا النفور سببا في التجافي والتحاذر والتخاصم... فقد حاول العرب المسيحيون في القرون الوسطى على ما يذهب إليه في كثير من الدراية الأب سمير خليل سمير، أن يستخدموا من المقولات اللاهوتية المتداولة في الفضاء الفكري المسيحي ما لا يخدش الأذن العربية الإسلامية، ولكن دون التخلي عن جوهر خصوصيتهم اللاّهوتية، فقالوا في أبوة الله صفة الله الجواد، وقالوا في أمومة الله صفة الرّحيم المشتقّة من رحم المرأة، وقالوا في الثالوث صفة الغيرية المطلقة، على ما نحته يحي بن عدي، ونظروا إلى التجسّد نظرتهم إلى خلق جديد يفيض برحمة الله، ونظروا إلى الفداء نظرتهم إلى اكتمال التجسد.

فما نتطلّع إليه هو جعل المسيحيّة العربية سؤالا محلّيا ينطلق من واقعه، لا سؤالا يفرضه الخارج وينتجه ويوظفه حسب مراده وقراره، ولن يتأتى ذلك إلا عبر تأسيس لاهوت الكنيسة -Ecclesiologia-، الذي تجسّد فيه الكنائس المحلّية سرّ المسيح في واقعها النابعة منه. ولن يكون سؤال المسيحية وَفِياًّ لواقعه مالم ينتبه لانحرافات الداخل، سواء التي خنق بها الفكر الإسلامي ذاته من حيث الوعي بالمسيحية، حين حصرها في أنماط نظر ضيقة، ومؤسسات أزلية لاتاريخية، وبالمثل ما جرى من اغتيال ذاتي للفكر المسيحي لما ظنه تراثا فئويا ورهنا مذهبيا. ولعلّ العودة الفاعلة للمسيحيّة العربية يحصل حين تجري تبْيِئَة التطوّرات الفكرية، داخل تفاعل المحلّي مع المسْكوني، لإخراج هذا التراث من محنة تآكله ونزيفه.

*************

الهوامش:

*) كاتب وباحث من مصر.

1 - المسيحية العربية وتطوراتها، دار الطليعة بيروت، ط: 1، 1997م، ص86.

2 - الأزرقي: أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، 1/138؛ الطبري، تاريخ الرّسل والملوك، 2/130-132.

3 - ابن الكلبي: الأصنام، ص9؛ ابن هشام: السيرة، ج 1، ص76.

4 - سورة المائدة، الآية 83.

5 - المسيحية العربية وتطوراتها، ص40.

6 - مؤلّف جماعي: المسيحيون العرب- دراسات ومناقشات، مؤسّسة الأبحاث العربية، بيروت، 1981، ص27-28.

7 - المعهد الملكي للدراسات الدينية، مكتبة عمان، 1995م.

8 - دار قدمس، ط: 1، سوريا، 2000م، ص205-206.

9 - بيروت، 2004م، ص80.

10- المصدر نفسه، ص72-73.

11- A cura di Andrea Pacini, Comunità cristiane nell'islam arabo. La sfida del futuro. Torino, Edizione Fondazione Giovanni Agnelli, 1996, p. 41.

12- مرجع سابق، ص108.

13- مصدر سابق ص207.

14 - Libreria editrice vaticana, Città del Vaticno, 2001.

15- Henri Tessier, Cristiani in Algeria - La chiesa della debolezza. Bologna, Italia, Editrice missionaria italiana, 2004.

16- مجلة الاجتهاد، بيروت، 2004م.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=217

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك