هموم العولمة
هموم العولمة
برنار كاسان (وآخرون)/ مراجعة: عفيف عثمان
يتفق معظم الكتاب المشاركين في هذا العمل البحثي أن الولايات المتحدة الأميركية تتبع استراتيجية محددة صيغت خارج السياقات التي تشتغل فيها حالياً، استجابة لأهداف قصيرة الأجل وبعيدته في آن، رغم وعي الباحثين للنزاعات التقليدية داخل أميركا بين مختلف مراكز القوة في ميدان السياسة الخارجية- دائرة الدولة، دائرة الدفاع، المجلس القومي للأمن، الاستخبارات المركزية وأجهزة الاستخبارات الأخرى- والتي يحكم أخيراً البيت الأبيض في شأنها. في قمة السلطة تتربع الآن عصبة من اليمين المتطرف تحيط بجورج بوش الرئيس، وهي في شكل استثنائي متآلفة (وغير متسامحة) على الصعيد الإيديولوجي. وثمة قران معقود بين الوضعية الحربية لهذه الإدارة ورؤيتها الشاملة للعالم. وفي الدور الذي أوكلته واشنطن لنفسها نجد الأبعاد الديبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والمالية وثيقة الصلة. كما أن السياسات المتبعة من جانب الإدارة –من رئيس أميركي لآخر- لا تتبع "منطق" الحلفاء التقليديين لواشنطن نفسه وخصوصاً فرنسا.
والحال، فإن عبارة "إمبراطورية" التي شاعت في أدبيات المحافظين الجدد لا تعني بالضرورة "القدرة الكلية"، بل قد تشير ببساطة إلى "إرادة الاستحواذ" بالتهويل على الأعداء كما على الأصدقاء. والعراق في هذا الخصوص يملك كل شروط الاختبار بالحجم الطبيعي. إذ إن نظامه بات مرفوضاً وجيشه مفككاً لا يمتلك أسلحة بسبب الحصار. وقد وفّر العراق الفرصة لوضع اليد على مخزون هائل من الموارد النفطية، له وزنه في جيوبوليتيكا النفط وخصوصاً بتدفق الطاقة إلى الصين، القوة العالمية المنافسة للولايات المتحدة في المستقبل. والأمر يصح بالقدر عينه على أوروبا.
تذهب عقيدة "الحرب الدائمة" عند واشنطن ببقية العالم إلى نفس المآل الذي وصل إليه الاتحاد السوفياتي بسبب سباق التسلح عامة وحرب النجوم خاصة: ففي أثناء سعيها إلى الهيمنة الكونية تحدد هي وتصوغ كل السياسات الأخرى، التي تتأسس على الرعاية المنظمة للخوف -بالأمس من الشيوعية، واليوم من الإرهاب- داخل الولايات المتحدة وفي خارجها أيضاً. وعلى هذا النحو، إمبراطورية الحرب الدائمة هي أيضاً إمبراطورية الخوف الدائم.
منذ قرنين من الزمن، والتوسعية مكوّن أساسي في السياسة الخارجية الأميركية، وتمتلك كل إدارة رئاسية ديناميتها الخاصة بها ورؤيتها للدفاع عن مصالح "الولايات المتحدة". وتتميز إدارة بوش باستبعادها لتعددية الطرف وتطبيقها لقاعدة "من ليس معنا، فهو ضدنا". وقد رأى اليمين الجديد في السلطة بأن على واشنطن، بسبب قوتها، أن تفعل ما تشاء وأن تتصرف بمفردها إذا اقتضى الأمر.
كان على حكومة الولايات المتحدة، من منظارها هذا الانتهاء من "الواقعية الضيقة" أو "الليبرالية الوهمية"، والإعلاء من شأن العقيدة الجديدة: عقيدة بوش "الحرب الاستباقية". ومبدأ التدخل هذا في نظر بوش والمفكرين المحيطين به لا حد له: "وسؤال اليوم ليس غطرسة أميركا. إنه الحقيقة التي لا مفر منها حول قدرتها".
وليست النزعة الحربية والإمبريالية الأميركية المعاصرة الناتج الآلي والضروري لقوى تاريخية عمياء ولكنها التعبير عن إرادات وممارسات سياسية تأخذ في حسبانها السياق السياسي والاقتصادي الذي يسمح لها بتأكيد ذاتها. إِنَّهَا تعكس الصعود القومي لمجموعة فاعلين من اليمين الأميركي الجديد الذي وصل إلى السلطة عـام 2000م حاملاً معه مشروعين: في الداخل، تثبيت النظام الأمني الذي كرسته الحرب الباردة، وفي الخارج تأمين التفوق الإستراتيجي من خلال إعادة ترتيب النظام الدولي من طريق القوة.
لقد نجح المشروع الإمبراطوري لإدارة بوش في التحقق بواسطة حال الحرب، والتمركز غير المسبوق للسلطة التنفيذية بعد أحداث 11 سبتمبر، والذي وجد تعبيره في "إستراتيجية الأمن القومي" 2002م والموازنة العسكرية الهائلة للدفاع.
ثمة سؤال يطرحه أحد الباحثين حول الصلة القائمة بين العولمة الينوليبرالية واللجوء إلى العسكرة، بكلمات أخرى هل هذه العولمة ذات نزعة احترابية؟ فالمطلوب مناقشة جذور امتداد هذا النزوع العسكري، إذ طالما كان الدفاع عن المصالح يتم من خلال العنف والحرب. بيد أن ما يميز المرحلة الحالية توسع الصلات الماليـة وتزايد عدد المؤسسات العابرة للقارات، الأمر الذي شكل ثورة في حد ذاته. فالأطروحة العامة هي أن العولمة الينوليبرالية حيث "ربح" الرأسمال في الولايات المتحدة خاضع لتدفق العوائد الآتية من بقية العالم. ففي العام 2000 ارتفع العائد من الخارج إلى الفروع الخارجية للمؤسسات الأميركية ميلاً منتظماً للارتفاع بمثابة تعبير عن التدويل المتعاظم لرأسي المال وعن انخراط الاقتصاد الأميركي أكثر من الاقتصاد الكوني. فالخارج أصبح عنصراً أساسياً في "ربح" رأس المال الأميركي وفي مكاسب مؤسساته.
هناك ثلاثة عوامل أدت دوراً في تحول السلطة الحالي، وكلها متمحورة حول الولايات المتحدة. أولاً: العولمة الينوليبرالية وثيقة الصلة بإعادة تثبيت هيمنة أميركا كبلد. ثانياً: خرج القطاع المالي الأميركي من هذه التحولات أكبر حجماً، متجاوزاً الوظائف المصرفية التقليدية بأرباح مرتفعة. المظهر الثالث لهذه الهيمنة تبدى في الموقع المريح الذي تتمتع به الطبقة القائدة بالعوائد والأملاك.
هذا، وقد تميز التاريخ الاقتصادي للعولمة الينوليبرالية تحت هيمنة الولايات المتحدة بعنفه الزائد على المستوى الوطني كما على المستوى الدولي. وفي شكل عام فقد أثمرت الجرأة أرباحاً، في رأي اليمين المحافظ، فلماذا التوقف؟
إذا نظرنا في السياق الراهن لحربي أفغانستان والعراق، لوجدنا –وفق أحد الباحثين- اندراجهما في سياق ركود اقتصادي، وأزمة في سوق المعاملات المالية تطول البلدان الصناعية وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية، ما يشير إلى علاقة بين الأزمة والحرب. وانطلاقاً من تجربة أميركا في الحرب العالمية الثانية، فإن اقتصاد الحرب يشكل عاملاً محدداً في الخروج من الأزمة. إضافة إلى أن هذه الأخيرة تساهم في إحداث تغيرات في البناء المجتمعي والدولي يرافقها نضال اجتماعي واحتجاجات ضد النظام القائم، وتأتي الحرب كأداة سيطرة مباشرة وعنصر قمع لكل محاولة خلخلة اجتماعية.
غير أن بقية العالم وشعوبه ومنهم حلفاء تقليديون مخلصون لواشنطن مثل المكسيك وتشيلي وتركيا، وقفت ضد الخطاب الحربي لواشنطن، ورفضت أن تؤمن المصداقية للحرب الاستباقية خلال مناقشات مجلس الأمن في شباط 2003م، أو أثناء الحرب نفسها نظير ما فعلت تركيا حين رفضت استخدام أراضيها لغزو العراق. كشف هذا التشكيك في سلطة واشنطن من طرف البلدان الحليفة عن الصدع الذي تحدثه الحرب من دون حدود، والتي تؤشر إلى مفترق كبير في العلاقات الدولية.