بين العولمة والعالمية الإسلامية

بين العولمة والعالمية الإسلامية

نبيل علي صالح*

يقدم الإسلام نفسه للناس جميعاً وعلى اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم على أساس أنه مشروع تغييري حضاري وإنساني كبير، ينطلق من موقع الثقافة والفكر ليصل إلى مواقع السياسة والاجتماع. أي أنه يمتد في سياق رؤيته التغييرية بامتداد الوجود الإنساني في الحاضر والمستقبل على المستويين الحضاري والجغرافي.

وهذا ما يحتم عليه (على الإسلام) كدين سماوي خالد سلوك طريقين أساسيين الأول طريق التواصل والاحتكاك وربما الاشتباك مع باقي الحضارات والمذاهب والأفكار المتوازية معه، أو المناقضة له. والثاني طريق التحدي والثبات، وعدم الانسحاب من ساحة المواجهة والدفاع، أو الحوار والمنافسة الحضارية.

وفي هذا المجال تشكل القضية الأخيرة (قضية انفتاح الفكر الإسلامي على الحياة والعصر، وتواصله معهما) ضرورة ذاتية وموضوعية في آن معاً، باعتبار أن هناك وجوداً كمياً ونوعياً هائلاً لمجموعة من المعطيات والمضامين الفكرية الذاتية الخاصة بالدين الإسلامي نفسه، لا يمكنها النمو والتصاعد في حركتها الموضوعية الخارجية من دون تفاعلها المتوازن مع الآخر، وانفتاحها المدروس عليه، من موقع ذاتية الانتماء، وعمومية المعنى والهدف، وليس من موقع موضوعية التحدي والاستجابة فحسب... وذلك بكل ما يعنيه هذا الانفتاح والتفاعل من اصطدام المشروع الثقافي الإسلامي بمشكلات جديدة، وقضايا عصرية راهنة وأخرى مستقبلية، تتمثل في كيفية إيجاد سبل التخاطب مع ثقافة الآخر الذي بات يفرض نفسه علينا الآن من خلال ثوراته العلمية والمعلوماتية والتكنولوجية الحديثة (مجتمعات الثورة المعلوماتية) التي عمّمت ذاتها الثقافية والحضارية على مستوى العالم، وعلى حساب باقي ثقافاته، وخصوصاً ثقافتنا وذاتنا الحضارية الإسلامية، الأمر الذي يؤدي إلى تشتيت قواها الحضارية، وتهميشها، وجعلها عديمة الفاعلية والجدوى في العمق والامتداد. الأمر الذي يتطلب من المشروع الثقافي الإسلامي لهذه الحضارة استيعاب الواقع الموضوعي الجديد المرتبط بعنصري الزمان والمكان، وإبداع القواعد النصية الخاصة به، خصوصاً وأن هناك تأثيرات عملية سلبية لا بد أن تنجم عن تلك الثورات، فيما يتعلق باليات التنميط الثقافي والحضاري القسري التي يستخدمها الآخر في عمله الدائم على فرض نموذجه الحضاري على الثقافات الحية الأخرى.

من هنا نحن نعتقد أن التحديات الأساسية الحاضرة التي تواجه فكرنا الإسلامي المعاصر (على مستوى دوره النوعي الكبير المتمثل في عمله الدائم على قضايا بناء الذات المسلمة، ومعالم الرسالة السماوية الشاهدة على الناس والرسالات، ما يؤدي إلى إحقاق الحق والعدل، ودفع الباطل والظلم عن البشرية جمعاء) تنحصر في ثلاثة مظاهر حضارية روحية ومادية، وهي العولمة، والهويات الثقافية، ومجتمع الثورة المعلوماتية... ولذلك فإنه من الضروري جداً بالنسبة لفكرنا الإسلامي الراهن (الذي يشكل القاعدة الأساسية للمشروع والاجتماعي) وعي هذه الوقائع الجديدة، ودراستها، وتحليلها، واتخاذ المواقف الفعالة بشأنها، على اعتبار أن هناك ظروفاً مستجدة مختلفة تحكم تلك الوقائع، وتؤثر في صياغة المشهد الثقافي الإسلامي المستقبلي على مستوى ضرورة نقد الفكر الإسلامي، وتقييمه، وطرح رؤى وأفكار جديدة ترتب أولوياته وخطوط عمله في المدى الزمني القريب والبعيد... بحيث يؤدي ذلك إلى إعادة التأسيس الجديد لنهضة الأمة الإسلامية من خلال اعتمادها على الدين الإسلامي ذاته كمشروع ثقافي مركزي في حركيته الثقافية والحضارية المتجددة دائماً بتجدد الأيام والدهور.

من هذا المنطلق وبالنظر إلى ضرورة التأسيس العملي لحضور الثقافة الإسلامية الأصيلة بشكل فاعل ومؤثر في ساحة الحياة الإنسانية فإننا نجد أنفسنا ملزمين بدراسة تلك التحديات المعرفية والعلمية، وخصوصاً الثقافية منها باعتبارها المرجع الأساسي النظري والعملي الذي يقدم للإنسان والأمة معايير القيم، وأنظمة التفكير، ومنظومات المعنى، وعناوين الوجود والامتداد التي توضح لها الدروب، وتنير لها المسالك والطرق المتعددة. وكل أمة تفتقد للأسس الثقافية في حضارتها فإنها لن تستطيع بلورة شخصية كيانية مستقلة لذاتها، كما أنها ستلغي إمكانيات نهوضها وارتقائها في سلم الحضارة الإنسانية... الأمر الذي سيخرجها من دون أدنى شك من دائرة الفعل والتأثير في حركة الزمان والحياة، وبالتالي ستخسر مستقبلها، وتضيع طاقاتها وقواها المادية والمعنوية.

ولو أننا عدنا إلى واقع الحضارات البشرية السابقة، وتتبعنا بدقة أساليب تطورها الحضاري فكرياً وروحياً، فإننا سنجد أن الحضارات المتألقة التي حققت لنفسها قفزات متقدمة واسعة في مسيرتها التاريخية هي تلك الحضارات التي كانت تعتز بشخصيتها الثقافية وجذورها التاريخية، وأصالتها الواضحة، وتفخر بهويتها الحضارية المستقلة. أي أن وعيها بشخصيتها وثقافتها كأمة كان شرطاً أساسياً لازماً لتقدمها وتطورها.

وهنا نسأل: ما هي السبل وطرق العمل الكفيلة بإخراج المشهد الثقافي الإسلامي المعاصر من حالة الاحتكاك والتلقي السلبي إلى حالة الفعل والتأثير الإيجابي؟! ثم ما هي واجبات المثقف الإسلامي الملتزم تجاه تلك التحديات والمتغيرات والتطورات العالمية الهائلة؟!

لا ريب في أن الأحوال الراهنة لمجتمعاتنا الإسلامية تدعو إلى قلق شديد، وتنذر بعواقب غير حميدة في المستقبل القريب أو البعيد. وللأسف فإننا لم نصل إلى هذه النتيجة المأساوية الخطيرة إلا بعد أن وقفنا على حالة الضعف واليأس والإحباط العامة التي تطبع واقع هذه الأمة السياسي والثقافي والاجتماعي...إلخ. فالحصيلة العامة لمسيرة الأحداث والتطورات التي وصلت إليها مجتمعاتنا تنطوي على مظاهر ونتائج سلبية مخيبة للآمال، ومحطمة للنفوس، وتشكل في الوقت نفسه صدمة نفسية عنيفة لكل أصحاب الطموحات والمشاريع النهضوية العربية والإسلامية.

ولعل الوصف الأبرز للحال الراهنة في العالم الإسلامي تتمثل أكثر في مأزق التنمية الثقافية بمعناها الواسع والشامل الذي ينعكس على واقع الأمة الاقتصادي والاجتماعي والسياسي من خلال الفشل الكامل في بناء وإنجاز مشروع سياسي تعددي تتحكم به مؤسسات وآليات عمل عصرية تحظى بالشرعية الأمّتية (نسبة إلى الأمة الصحيحة، وتعبر أفضل تعبير عن الإرادة الحرة لجماهير الأمة).

إنّ تلمّسنا للطريق الصحيح الواضح الذي يجب أن نتحرك عليه لنصل إلى غاياتنا وتطلعاتنا المستقبلية في استكمال مشوار تحرير الذات من الاستكبار، وتصفية مظاهر الفقر ومواقع الخلل والتخلف المركّب فيها بجميع مظاهره، وإقامة مجتمعات إسلامية حرة تنشد التحديث والتطوير المتوازن، وتتناغم مع اتجاهات العصر، وإبداعاته، ومبتكراته العلمية والمعرفية لا بدَّ أن ينطلق أولاً من خلال تحديد وإبراز ما هو رئيسي وجوهري من تحديات وقضايا نابعة من الحاجات الحقيقية لمشروع التنمية الثقافية الإسلامية (ومن ثم الاقتصادية والسياسية، ..إلخ) الشاملة.

أولاً: تحدي العولمة
يجب أن نفرق في بداية وصفنا لظاهرة العولمة، في إطار تطورها التاريخي بين أمرين أساسيين، الأول: حداثة المصطلح، والثاني: قدم الظاهرة «كواقع عالمي»، حيث كانت تتحرك إرهاصاتها التاريخية في المنطقة العربية والأوروبية التي نشأت عليها في الغالب معظم الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ، وشكلت بمجملها نزوعاً مبكراً باتجاه إنشاء وتأسيس النزعة أو «الطابع العالمي للثقافات والحضارات» كالإمبراطورية الرومانية، والثقافة الهيلينية، واتساع (شمولية) الثقافة والحضارة الإسلامية التي امتدت في آسيا، وأفريقيا، وأوروبا. وخلقت أنساقها السياسية والثقافية، وأساليب حياتها الحضارية بالرغم من وجود إمبراطوريات كبرى في الوقت نفسه، كما كان عليه الحال في الصين مثلاً التي لم تخرج في دعوتها إلى العالم بهذا الشكل أو الأسلوب.

ومن المعروف بأن أية حضارة منتصرة -وحتى عندما تكون في حالة سكون حضاري تختزن في داخلها نزوعاً أو «مشروع نزوعٍ» باتجاه العالمية والكونية في الدعوة إلى مبادئها وأنساقها المعرفية الحضارية. لكن هذا النزوع يصبح نوعاً من القهر والضغط والاستعمار عندما تنطلق مفاعليه على شكل سلوك عدواني، في فرض نمط وحيد للفكر والثقافة وأساليب العمل والحياة على الآخر. وقد اتبعت معظم الدول والإمبراطوريات المستعمرة على امتداد الساحة التاريخية منذ القديم وحتى الآن هذا الأسلوب في تعلقها وتشبثها بفكرة «المركزية»، أو «التاريخ الكوني الشمولي» كما أكدته الأدبيات السياسية والفكرية الأوروبية خلال القرنين الماضيين، ثم شكلت الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك البديل الأسوأ له في المنتصف الثاني من هذا القرن.

لقد كان من الطبيعي جداً أن تنحدر البشرية إلى هذا المستوى الخطير من شيوع قيم الظلم، والعدوان، والقتل، والهيمنة، والاستكبار، وممارسة أبشع أساليب التدمير، وعدم الاعتراف بالآخر، وإلغاء حضارات بأكملها تحت شعارات إنسانية براقة خادعة ومزيفة، طالما أن ثقافة الهيمنة وإلغاء الآخر، ونزوع «المركزة» بقيت تتحكم بسلوك الإنسان عبر معظم المراحل التاريخية.

أما في قرننا الحالي الذي مارست فيه البشرية عموماً أبشع القيم، وطبقت أسوأ المبادئ التي قادتها إلى الحروب والدمار والقتل وتكديس الأسلحة النووية والجرثومية والكيماوية...إلخ، فقد وصلت فيه الأصولية الاستعمارية والإمبريالية العالمية إلى أعلى درجات جبروتها وطغيانها السياسي والإعلامي والاقتصادي في محاولتها صياغة عالم جديد، وصناعة حضارة بشرية جديدة وفق مزاجها الحضاري اللاإنساني.

من هذا المنطلق تشير كلمة «العولمة» إلى وجود صيرورة وحركة دائمة متدفقة، وسيل جارف من المتغيرات غير المضبوطة في الشكل، أو العنوان، أو الجوهر. ولأنها كذلك فلا نستطيع أن نعتبر مدلول كلمة «العولمة» حديث التشكل والنشأة كما ذكرنا. بل إن له بدايات تاريخية أولية قديمة انطلقت منذ عصر الاكتشافات الجغرافية في القرن السادس عشر، وبروز ظاهرة الاستعمار بنوعيه القديم والحديث في القرن التاسع عشر. لقد جعلت الكشوفات الجغرافية القديمة أرجاء المعمورة معروفة، وعملت على زيادة تواصلها من خلال زيادة حركة التجارة وتبادل السلع بين مختلف البلدان والأمصار. ومع تقدّم وسائل التواصل والاتصال الحضارية، كان ذلك التواصل والتفاعل البشري يتزايد ويتعمق من حين لآخر حتى وصل حالياً إلى أعلى أشكاله وأنماطه من خلال هذا الكم الهائل المتدفق من وسائل الإعلام والتواصل التقنية الحديثة المعاصرة التي تأسست على قاعدتي التبادل التجاري والتبادل المعلوماتي بآليات ومعايير معقدة تجعل من السوق العالمية ساحة مفتوحة لكل من يمتلك المال لشراء الأسهم والمستندات والمعلومات في دقائق معدودة.

إنها دورة كونية جديدة في الكم والكيف. ولم يعد بإمكان أي فرد، أو أية دولة، التحكم بمساراتها المتشابكة. وهذا الأمر ينطبق تماماً على أحد أهم تجليات العولمة بوجهها العلمي الحديث، أعني به «شبكة المعلومات الدولية» المعروفة اختصاراً باسم "الإنترنت" التي يشارك فيها مئات الملايين من البشر الذين يستفيدون (سلباً أو إيجاباً) من المعلومات التي توفرها هذه الشبكة كل لحظة.

لقد أصبحت العولمة حالياً واقعاً مفروضاً على المجتمعات البشرية كلها. إنها كما شبهها أحد المثقفين مثل النهر المتدفق الذي تغذيه ملايين الينابيع، ويتفرع منه ملايين الروافد يومياً من دون أن يتحكم فيه أحد بمفرده، سواء كان شخصاً أو مؤسسة أو دولة.

من هنا يصح القول عن العولمة بأنها ظاهرة واقعية تفرض وجودها في شكلها الراهن غير المكتمل على البشرية جمعاء، ولا يمكن للدول الفقيرة والمستضعفة تحقيق أي استجابة جديدة ونافعة على ما تثيره هذه الظاهرة من تحديات جمة على الصعد كافة، ما لم يتم البدء الفوري بإحداث استجابات علمية إيجابية تناسب واقعها وحضارتها وتطلعاتها من أجل استنهاض قوى وإمكانات الواقع المحلي على طريق استشراف آفاق المستقبل، والتأثير القوي في مجريات الواقع الحضاري العالمي، في أن تتحول الحضارات المستبعدة حالياً عن ساحة التأثير الدولي، إلى حضارات صانعة وفاعلة منتجة للفكر والعلم والتقنية، لا أن تبقى مجرد حضارات هامشية ليس لها من الحضارة إلا اسمها، تعيش على موائد وفتات الحضارات الأخرى التي تسعى إلى تعميق هوياتها ودوائر تأثيرها من خلال ظاهرة العولمة في سياق احتكارها للعلم والمعرفة العلمية الحديثة، وإحكام سيطرتها على الأسواق الدولية، والسيطرة شبه المطلقة على وسائل الإعلام، والاستنزاف الجائر لموارد الطبيعة وثرواتها الباطنة، واحتكارها أسلحة الدمار الشامل، وفرض منظومات ثقافية عالمية جديدة تمثّل الحامل الإعلامي لظاهرة العولمة (مثل: نهاية التاريخ، وصراع الحضارات، والحداثة الثالثة المعلوماتية، ونهاية المثقف).

ثانياً: تحدي الهويات الثقافية العولمة في بعدها الثقافي
تشكل الهوية الثقافية الحضارية لأي مجتمع من المجتمعات الإطار النفسي والفكري العام الذي يعبّر عن وجوده الاجتماعي، وحراكه السياسي العلمي. إنها نتيجة طبيعية للتفاعل الحاصل بين مجموعة من العوامل الفكرية والمعرفية التي تحكم سلوك أعضائه، توجّه حركتهم، وتحدّد لهم مساراته المتعددة في الحياة.

وعلى ضوء ذلك يمكن أن نعتبر الهوية الحضارية تعبيراً عن الناس عن إرادتهم، ووعيهم، وطبائعهم وأمزجتهم، وتصوراتهم عن الكون والوجود الحياة، في سياق تحديدها لطبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة فيما بينهم، ومعايير السلوك ووسائل المشروعية، ونظام القيم واجب الاتباع. أو علاقتهم ببيئتهم، أو بعالم ما فوق الطبيعة.

والمجتمعات الإسلامية تمتلك هوية حضارية خاصة تتميز بها عن غيرها من المجتمعات غير الإسلامية من خلال وجود نوعين من العناصر:

النوع الأول: العناصر الثابتة. وقد أوجدها انتماء المجتمعات إلى الدائرة الحضارية والتاريخية الإسلامية وهي تشتمل على انتماء المسلمين إلى دائرة الإسلام، واتباعهم للقران الكريم، والنبي الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم-.

النوع الثاني: العناصر المتحركة (المتغيرة) التي تتشكل نتيجة لما تكتسبه المجتمعات الإسلامية من خصائص ومزايا ثقافية بفعل عوامل ذاتية وموضوعية من داخل هذه المجتمعات أو خارجها، يساهم تفاعلها مع بعضها البعض بكل ما يحتويه الواقع من عناصر ومعطيات متغيرة ومتحولة ومع العناصر الثابتة في إنضاج وتكوين الجانب المتغير (النسبي) من الهوية الثقافية للمسلمين. وطالما أن الأمر كذلك، يمكن أن نقول بوجود جانبين للثقافة الإسلامية، جانب خاص يمثل أداة الهوية الذاتية، والتأكيد الذاتي والموضوعي على عناصر الثبات، وجانب عام تشترك فيه الثقافة مع الآخر في سياق حركة المتغيرات.

من هنا تطرح العولمة علينا أسئلة ثقافية ملحّة، تتعلق بالعلاقة القائمة حالياً، أو التي يجب أن تقوم بينها وبين الهوية الثقافية للمجتمعات التي صدمتها العولمة بتحدياتها وتعقيداتها المتعددة، ومنها مجتمعاتنا الإسلامية... والسؤال الذي يبرز هنا: ما هو تأثير العولمة على الثقافة الإسلامية؟! وهل تمتلك هذه الثقافة الوسائل والإمكانيات الخاصة التي تؤهلها للقيام بالتفاعل والانفتاح على باقي الثقافات من موقع الندية والتكافؤ والحوار، وليس من موقع الصراع والاستلاب؟! وهل صحيح أن الثقافة التي تسعى العولمة إلى ترويجها وتعميمها في العالم كله، ستمحو الخصوصية والهوية الحضارية بالثقافة الإسلامية؟!

من المعروف أن الصراع والتصارع بين الحضارات والثقافات يحدث عندما تحاول إحدى الثقافات فرض نموذجها الحضاري المعرفي والسلوكي على الآخر، واعتباره ثقافة عظمى، وباقي الثقافات صغرى، عليها أن تدور حول الثقافات الكبرى. وهذا هو في حقيقة الأمر واقع حال الثقافة الغربية تجاه الثقافات الأخرى في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. إنها الثقافة الغربية التي تضع نفسها في المركز، والثقافات غير الغربية في الأطراف.

وقد ساعد الاستشراق على ترسيخ مقولة «مركزية الثقافة»، عندما استلم زمام المبادرة في هذا المجال. حيث وضع الثقافة العظمى في موقع المراقِب، والثقافات الأخرى في وضع المراقَب. وتضاعفت الصور النمطية التي صاغها المركز عن الأطراف، بحيث أصبحت حقائق بديلة. وأسدل ستار من النسيان على الماضي التاريخي للثقافات الصغرى نتيجة لسطوة وسائل إعلام المركز، وضعف وسائل وأدوات إعلام الأطراف، وأصبح الحاضر مقضياً عليه.

إن تحديات العولمة في المجال الثقافي على الخصوص، تطرح علينا كمسلمين أسئلة حرجة، حيث من المفترض أن تستثير في داخلنا الهمم والطاقات لمواجهتها بسبب عملها الدائم على الاستفادة من الإمبراطوريات الإعلامية الصاعدة في محاولتها فرض النموذج الثقافي والحياتي الغربي على الشعوب كلها، وتزيينها لقيمه ونمط حياته وعاداته وتقاليده. ففي الوقت الذي تقوم فيه ثقافتنا الإسلامية على ركيزة الإيمان باللّه تعالى، والالتزام بدينه الحنيف، والسعي الصادق في الحياة لنيل رضاه في الدنيا والآخرة، والتفكير بشؤون الدين والدنيا ليقوم بذلك التوازن العادل والرائع بين الروح والمادة الذي تجسده الآية الكريمة ﴿وابتغ فيما آتاك اللَّه الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن اللَّه إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن اللَّه لا يحب المفسدين﴾ يراد لنا ألاّ نستسلم وننهار أمام طغيان عالم المادة والابتذال، ونذهب إلى حضيض المادة والتنافس الوحشي على المكاسب والمنافع المادية الخاصة من دون أية مراعاة لقوانين الحياة والطبيعة الإنسانية التي نفهمها نحن كمسلمين في إطار مجموعة من التكاليف والالتزامات الشرعية المقدسة التي طلب اللَّه تعالى أن نعمل بها، ونسير بهديها في أداء متكامل وواعٍ لا يفسد الآخرة، ولا يؤدي إلى التهلكة والانزلاق إلى متاهات وانفلات الغريزة.

إننا نتصور أن نجاح ثقافتنا العربية الإسلامية في التوفيق المذكور سابقاً كشرط أساسي لاستعادة دورها الحضاري الرائد بين أمم وثقافات العالم يكمن في العمل الدؤوب على إيجاد المناخ الصحي اللازم لإعادة التوازن الثقافي الإسلامي إلى طبيعته الحقيقية. وذلك من خلال القيام بمراجعة شاملة وواعية لمنظومة القيم والمعايير الناظمة لحركة هذه الثقافة، وإعادة ضبطها أو صياغتها على ضوء معطيات الواقع المعاصر، وطبيعة التغيرات المتسارعة الحاصلة في القاعدة الاجتماعية، أعني بها: نمو التقنيات والمعارف العلمية الجديدة، ونمو القوى الاجتماعية والاقتصادية. وبذلك يمكن المحافظة على استقرار، وتفتح ثقافتنا الأصلية في أجواء العولمة الثقافية الراهنة بصورة تحفظ التوازن الاجتماعي الأساسي، وتضمن تحقيق متطلباته في الواقع العام.

وهنا بالذات ومن أجل استقرار، وتفتح هذه الهوية الثقافية لا بد من تأسيس هذا البناء على المعطيات التي تساهم في إدماج الثقافة الإسلامية الأصلية في الحركة التاريخية، ورفع وتائر مشاركتها في بناء الحضارة البشرية، وتوجيهها، وهدايتها. والهوية التي لا تتوفر فيها هذه العناصر الدافعة والمحركة للبناء الحضاري العام، تتحول بسرعة إلى خيالات وأوهام وأحلام وردية سرعان ما تتحطم عليها آمال الناس المؤمنين بها، وتدفعهم نحو خيارات مغايرة لها تماماً.

طبعاً هذا الأمر لن يتحرك في خط الواقع العملي الملي‏ء بالتحديات والأشواك من دون توافر شروط ومقدمات ضرورية خاصة بالثقافة المسيطرة حالياً (ثقافة العولمة الأمريكية)، وهي بالحد الأدنى أن تلعب هذه العولمة دورها الطبيعي في اعترافها بتنوع وتوازن الثقافات الإنسانية، ودفعها باتجاه إيجاد حوارية هادئة ومتوازنة من موقع الندّ للند، وليس من موقع الفرض والهيمنة والإلغاء، والسعي للاستفادة من تجارب وخبرات الآخرين في المجالات كلها، والابتعاد عن إلباس الثقافة الإنسانية المتنوعة رداءاً واحداً يُعبر عن أسلوب التنميط القسري (المفروض حالياً).

إن العلم نتاج عالمي إنساني مشترك. أما الهوية الثقافية فليست عالمية، وإنما هي تعبير عن الواقع الحضاري الخاص بالذاتية الفردية والقومية، وكلما كانت (تلك الثقافة) متينة في التعبير عن ارتباطها بجذورها وتراثها وقيمها، كلما كانت متميزة، وقادرة على العطاء والإنتاج، والنفاذ من النطاق الإقليمي إلى النطاق العالمي.

لذلك طالما أن الثقافة بشكل عام معادلات اجتماعية، وتوازنات (وتوجهات) فكرية وحضارية، وممارسات تفتح آفاقا وإمكانيات جديدة للانفتاح والعمل تتعين حدودها، وترسم معالمها الأساسية حسب بعد وعمق وأصالة التوازنات التي تخلقها، فيجب على ثقافتنا الإسلامية أن توجد عناصر جديدة خاصة بطرق وآليات تفاعلها مع الواقع الراهن أي أن تبدع وسائل تكيّفها الذاتي في داخلها، ووسائل تكيّفها مع المجتمع الدولي ككل.

إن هذا الشرط النوعي يحتاج إلى ظروف جديدة مؤاتية كي يتم العمل به، ومحاولة تحقيقه على أرض الواقع. لأن الظروف السائدة حالياً في بيئتنا السياسية والاجتماعية العربية لا تسمح للأسف بإظهار اجتهادات واعية ومسؤولة في هذا المجال. إنها ظروف ومشكلات وتعقيدات وجود كمّ هائل من قِيم التعصب والعدوانية والخرافة والتقليد والفوضى...إلخ. وهذه المشاكل ليست ناتجة عن التخلف الذي نعيش في أجوائه حالياً، ولا بسبب التاريخ والتمسك بالتراث والفكر الإسلامي أيضا، ولا نقل علم الغرب... ولكن السبب الأساسي لوجود تلك القيم السلبية المهترئة يعود إلى طبيعة العقلية السلطوية السائدة، عقلية النخبة القائدة والمخططة والمنظرة للتحول والتحرر الثقافي. أي السياسة الثقافية التي أخذت على عاتقها تحقيق مهمة النهضة والتقدم والرقي منذ بداية هذا القرن على الأقل... هذه السياسة هي التي أدت إلى استمرار الجهل «والخرافة»، كما أدت إلى تحويل «العلم الغربي» إلى خرافة أيضاً. أي قتلت روحه النقدية المنهجية لتجعل منه سحراً ودواءاً جاهزاً ووصفات وقوالب وعقائد جامدة، حولته من بحث وتدقيق إلى مسبقات عقائدية أيديولوجية، ومن طريقة في العمل والمنهجية والدراسة (مفتوحة الاحتمالات) إلى وسيلة لفرض موقف أو مذهب أو فكر، وبالتالي تكوين سياسة ثقافية رسمية واحدة تهدف إلى إيجاد أرضية صالحة لتكوين نخبة مستلبة ضائعة ومعزولة عن الشعب والأمة، وبعيدة كل البعد عن تحقيق أي هدف ثقافي للأمة على صعيد وضع المستوى الثقافي والسياسي العام للشعب وتوحيده، وتعميق تواصله الواعي مع تاريخ الأمة ومشاعرها النفسية ونسيجها العقائدي الاجتماعي الإسلامي كشرط مسبق لتحقيق أي مشروع أو مركب حضاري للنهضة.

من هنا فإننا بحاجة ماسة في مجال البحث عن علاقة متوازنة وطبيعية مع العولمة الثقافية تأخذ بقيم الانفتاح لا الانغلاق إلى تعميق الحس الثقافي النقدي لمفاصل الاهتراء الحضاري والسياسي القائمة في داخل تركيبتنا السياسية والحضارية، من أجل تحديد المسؤوليات السياسية والثقافية، والمباشرة الجدّية في استدعاء الحلول الجديدة المناسبة. بهذا الوعي النقدي يتقدم المجتمع، وتتكامل الثقافة والفكر، وتتقدم السياسة والاجتماع السياسي المدني، وبه أيضاً يمكن أن نواجه ثقافة العولمة بوعي وثبات وتحليل ونقد موضوعي هادف ينطلق قبل كل شي‏ء من داخل ثقافتنا الإسلامية نفسها، ذلك لأنه سواء تعلق الأمر بالمجال الثقافي أو بالمجال السياسي (الأهم في نظرنا) أو بغيرهما، فمن المؤكد أنه لولا وجود مظاهر التراخي والكسل والضعف الداخلي التي تضج بها ساحتنا الداخلية لما استطاع الفعل الخارجي أن يمارس تأثيره البالغ بالصورة التي تجعل منه خطراً ماحقاً (في نظر الكثيرين) يهدد الكيان والهوية والتراث.

إن نجاحنا نحن المسلمين لا يكمن في الهروب من العولمة أو العالم والانغلاق على أفكارنا ورسالتنا، والابتعاد عن معطيات العصر وتجنب مواجهة تحدياته، وهمومه، وتعقيداته. لأنه بكل بساطة وقوة يقتحم أجواءنا بدون استئذان، من كل حدب وصوب. ولن نكون فاعلين فيه ما لم نشارك في بناء حضارته ونتحمل مسؤولياتنا فيه (خصوصاً الثقافية منها) بإيجابية تامة، ونتعامل مع معطياته بنجاح. وسبيلنا إلى ذلك العلم، والإيمان، والعمل بهما، وتدبّر قوله تعالى: ﴿يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان﴾. فالسلطان هنا هو العلم والمنطق، والحجة، والبرهان، وهو أيضاً ضرورة العمل على تطبيق معطياته، حسب قوانينه التي تبقى اكتشافاً لقدرة الخلق وقوانين الكون الذي يدبره بقدرته وحكمته.

إن المبادرة الأساسية في عملية مواجهة مخاطر العولمة، وتحديات البناء الحضاري الإسلامي المتين يجب أن تنطلق أساساً من الأنظمة السياسية الحاكمة في بلداننا العربية والإسلامية بوصفها مهيمنة على القرار السياسي والثقافي والإعلامي.

إن المطلوب هو أن نستخرج أفضل وأهم ما تختزنه ذاتنا الثقافية. وأن نؤسس لثقافة إسلامية أصلية جديدة تخوض غمار مواجهة الواقع السياسي الاستبدادي القائم، وأنظمته المغلقة التي تعمل على إفساد وهدم الثقافة نفسها من خلال عملها على أن لا يكون لها سلطة على الإطلاق، في مقابل سلطة الأنظمة نفسها التي أسست على العصبية والقبلية والعشائرية. ومن خلال ذلك يمكن أن نخوض أجواء «التحدي ورد التحدي» ونواجه سلبيات المرحلة الراهنة بإنتاج ثقافة خاصة تعتبر الإسلام مصدرها الأول، والعصر بتحدياته وتنوعاته مصدرها الثاني. فهل نجرؤ على مواجهة ذاتنا كشرط مسبق لمواجهة تحديات العولمة والهويات الثقافية في عمق مجتمعات الثورة المعلوماتية؟!

إن فكرة العالمية التي تختلف عن العولمة ستساعدنا كثيراً على تحقيق هذا الهدف؛ لأن الإسلام كما هو معروف دين عالمي قبل أن ينشأ مصطلح «العولمة»، وعقيدة الإسلام تمثل دعوة ونزوعاً نحو العالمية الإنسانية. لأنها لا تريد للإنسان أن يحصر جهده ووعيه وحركته السياسة والثقافية في دائرة مغلقة، بل تريد له أن ينطلق إلى رحاب الإنسانية كلها... يقول تعالى: ﴿قل يا أيها الناس إني رسول اللَّه إليكم جميعاً﴾ (الأعراف: 158).

إن كون تعاليم القران الكريم معتمدة على مقتضى الفطرة الإنسانية التي فطر اللَّه عليها بني البشر كلهم، يدل على عالمية رسالة الإسلام؛ لأن الحكم كما يقول أحد المفكرين المسلمين إذا كان موضوعاً على طبق الفطرة الإنسانية الموجودة في جميع الأفراد، فلا وجه لاختصاصه بإقليم دون إقليم أو شعب دون شعب... حيث إن الإسلام نفسه حارب العصبية القبلية والعشائرية، والنعرات الطائفية في ظل إيمانه بوحدة الأمة، ووحدة الجنس البشري. أي الدعوة إلى التوحد والوحدة في ظل التنوع، وإيمانه العميق بضرورة الحفاظ على التنوع ضمن دائرة الوحدة. وهذا يتضح من خلال تشريعات الإسلام التي لا تلغي الخاص أمام العام، بل ترى أن العالم يتغذى من الخاص، ولذلك نحن نفهم العولمة إسلامياً فيما لو استطعنا تحريكها وإدارتها أن يتحرك الإنسان في العام مع الاستفادة من غنى الخاص، لتكون هناك وحدة عالمية إنسانية في التنوع. لاحظ قوله تعالى: ﴿إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم﴾ (الحجرات: 13)، وقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: «أيها الناس، إن اللَّه أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتفاخرها بآبائها، ألا إنكم من آدم، وآدم من طين». وقول الإمام علي y: «فإن الناس صنفان... إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق».

لكن العالمية على الرغم من كونها صفة عملية للإسلام تتحرك على طريق توجيه الناس ودعوتهم للإسلام بصرف النظر عن اللغة واللون والجنس فإنها تحتاج إلى الإمكانيات والسبل التي تكفل لها التجذر والامتداد في ساحة الحياة كلها، وتؤهلها للمضي قدماً في سبيل تحقيق خصوصيتها الذاتية على أرض الواقع العالمي. لذلك لا يكفي في هذا المجال أن نعلن ونصرح على الملأ بأن الإسلام دين عالمي، بل يجب أن نؤسس جيداً لتحقيق هذا الهدف.

إن سلوك طريق التجديد، وتجاوز الكثير من الخطوط الحمراء الثقافية القديمة قد بات يشكل حالياً حاجة ثقافية إسلامية ملحّة وضرورية. والتجديد هو رد فعل على سكون وجمود الحالة الراهنة للثقافة العربية والإسلامية التي غلب عليها طابع النقل، والسرد التاريخي الحرفي عن الماضي وعن الآخر.

ونحن نعتقد أنه يمكن لثقافتنا الإسلامية أن تقدم لهذا الإنسان كل إمكانيات ووسائل تمكينه من بناء حياة فاعلة على الأرض، والتصرف عليها بوصفه الأمين والمؤتمن على نفسه، وعلى سواه من عناصر الطبيعة والحياة. والفكر الإسلامي المعاصر حقق على هذا الصعيد الكثير من التقدم. حيث استطاع استيعاب منجزات العلم الحديث، وأساليب التنظيم المعاصرة، ووضع مشاريع إجابات إسلامية واعية مبنية على اجتهادات فقهية لصيغ التعامل بين الأنا والآخر، والكشف عن إقرار الإسلام بالتعددية الثقافية والحضارية، واعترافه بشرعية التنوعات بين الأقوام والجماعات البشرية المتعددة؟.

*********************

*) باحث وكاتب من سورية.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=199

الأكثر مشاركة في الفيس بوك