العولمة الثقافية الحضارات على المحكّ
العولمة الثقافية الحضارات على المحكّ
جيرار ليكلرك/ مراجعة: رضوان السيد
جيرار ليكرك أنثروبولوجيٌّ فرنسيٌّ معروف، وأستاذٌ للعلوم السياسية، كان قد اشتهر في السبعينات بكتابه بعنوان: "الأنثروبولوجيا والاستعمار" 1972 الذي يشبه كتاب طلال أسد في الفترة نفسها: المقابلات الكولونيالية أو المواجهات الاستعمارية. وقد تضمَّن الكتابُ القديم إدانةً لعلمي الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا بسبب خلفيتهما الاستعمارية والإمبريالية الفاقعة. وقد أعطى المؤلّف لكتابه الجديد عنوان: "العولمة الثقافية، الحضارات على المحكّ". لكنّ العنوان خادع، فهو لا يعالجُ كما قد يتوهم القارئ مسائل التدافع والتجاذب الحضاري على طريقة هنتنغتون؛ بل إنه مثل الكتاب السابق، يتأمل رؤى أوروبا بالأساس، وأميركا بالتبع لعالم الحضارات الأسيوية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على الخصوص، وصولاً لحقبة الحرب الباردة في الخمسينات والستينات من القرن العشرين. لكنه هنا لا يستشير الأنثروبولوجيا؛ بل الاستشراق بمعناه القديم أو الأصلي: الفيلولوجي والثقافي، ولكل الحضارات القديمة والوسيطة في القارتين القديمتين.
يقول جيرار ليكلرك في فصلي كتابه الأولين: إنه يريد دراسة مفهوم الحضارة قبل عصر العولمة الثقافية (العصر الحاضر). وهو يستعين من أجل ذلك بتعريفات مارشال هودجسون (في كتابه: مغامرة الإسلام)، كما يستعين ببروديل وتوينبي. وهو يعتبر أنّ لكل حضارةٍ ذاتيتها وتمركزها، ونظرتها المتعالية أو المتشككة للآخر. وهو يرجح أنّ الإنجازات التقنية للحضارات هي التي تنتشر بسرعة وتتجاوزُ الحدودَ والمناطق الثقافية المنعزلة والمحددة، أما الأديان والأفكار فهي أبطأ انتشارا، وقد لا تتجاوزُ كثيراً حدود الحضارة الواحدة. وهو يورد أمثلةً كثيرة على ذلك من الحضارة الإسلامية، ومن حضارات الهند والصين، في رؤيتها للآخر وللغريب. ثم يتعرض للقاءات الأولى في الأزمنة الحديثة بين الأوروبيين والحضارات الآسيوية. ويركّز في هذين الفصلين على تأملات وإنجازات اليسوعيين، الذين ذهبوا مبشرين، مع المستعمرين الأوائل من البرتغاليين والأسبان؛ لكنهم جمعوا معلومات، وأصدروا انطباعات تتجاوز المهامّ التبشيرية. وهو يعتبر أنّ الحضارتين الصينية واليابانية كانتا معزولتين؛ بمعنى أنهما ما كانت تملكان تصوراً واضحاً للآخر الغريب، بخلاف عالَم الإسلام أو حضارته، وعالَم الهند. ويتعرض المؤلّف لوجوه التبادل بين الحضارات الآسيوية الكبرى عبر انتقال البوذية من الهند للصين، وعبر التواصل على طريق الحرير، وعبر الوصل الذي أحدثتهُ حضارة الإسلام داخل آسيا، وبين آسيا وإفريقيا. لكنه يعتبر أنّ "الصدمة" التي غيرَّت المشهد كانت دخول البرتغاليين إلى المحيط الهندي مطلع القرن السادس عشر واستخدامهم القوة البحرية العسكرية في فرض المصالح والتجارة؛ وبعد ذلك جاءت الوكالات الأوروبية الأخرى والشركات المدعومة من الدول والإمبراطوريات الأوروبية.
ولأنّ الدراسة ليست اقتصاديةٌ أو عسكرية؛ فإنّ المؤلّف سُرعان ما ينتقل إلى الحملة الفرنسية على مصر وولادة الإسلاميات. فبعد الانكفاء العثماني أمام أسوار فيينا عام 1683، اندفعت الحملات المضادة على ديار الإسلام، والتي بلغت ذروتها الاستعمارية والثقافية في الوقت نفسه بالمجلة على مصر عام 1799م، والتي حمل نابليون معه فيها بعثةً علميةً شاركت في التأسيس للعلم الجديد في رؤية الشرق القديم والوسيط. وإنجاز الفرنسيين بمصر في مرحلة الاستعمار، يناظره الإنجاز البريطاني في استتباب السيطرة على الهند في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وكما كان العنوان لفصل مصر: ولادة الإسلاميات، كان العنوان لفصل الهند: ولادة علوم الإنسان. ثم يدخل ليكلرك في مسألة العلاقة الأوروبية بالصين، فيشرك الفرنسيين والبريطانيين في التعرف على الصين. ومن الصين يعود للفرنسيين والبريطانيين أيضاً في التعرف على حضارتي مصر وبلاد ما بين النهرين في العصور القديمة من خلال فكّ رموز تلك اللغات. وهنا ندخل في الاستشراق الفيلولوجي والثقافي. وهو يعتبر هذا الاستشراق (الذي يحدّد فترة تبلوره بين 1850 و 1860) مرحلةً تاليةً للسيطرة والاستتباب الاستعماري. إنها مرحلة أنسَنةٍ وتلاقُحٍ واعترافٍ من نوعٍ ما إذا صحَّ التعبير؛ ولذلك يتحدث عن مستشرقين ومثقفين حداثيين؛ في ظلّ الإمبريالية طبعاً، لكنهم متمايزون. ولهذا كان هناك تبادُلٌ وتجاوبٌ ومواجهة، وظهر المثقفون المسلمون والهنود والصينيون واليابانيون الذين يريدون الإفادة من الحضارة الغربية الصاعدة؛ وهنا تبدأ العولمة الثقافية المستمرة حتى اليوم.
ومع أنّ ظاهرة التثاقف استتبت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ لكنّ التجربة مع أوروبا اختلفت بين البلدان والدول في آسيا. فقد نجحت في اليابان؛ بحيث استعصت تلك البلاد تدريجياً على الاستعمار؛ من طريق تقليده؛ بينما كان التثاقف مؤلماً ومأساوياً لدى الصينيين والهنود والمسلمين، لأنهم ما استطاعوا –رغم المعرفة الكبيرة- إنشاء كياناتٍ ناجحة سياسياً في صَون الهوية الوطنية والاستقلال.
وينصبُّ أكثر الثلث الأخير من الكتاب على عالمي الإسلام والهند، ومصائر التثاقف فيهما أو مصائر الاستشراق ورؤاه في الحقيقة. والمؤلفُ في هذه الفصول شديد التأثر بإدوارد سعيد، وكتابه في الاستشراق. لكنه ينبه إلى أمرٍ شديد الطرافة والأهمية. فالمستشرقون ذوو نظرة إيجابية لحضارات الشرق الهندي والصيني والياباني والإسلامي. ولذلك فقد اعتبروا أنّ تلك الحضارات تستطيع النهوضَ من طريق تجديد تقاليدها العريقة أو تلقيحها بالحداثة الأوروبية- أما المخططون الاستعماريون فلا يأبهون لتلك الثقافات، ويريدون إزالتها بالقوة. وهذه العولمة الإمبريالية هي التي تسببت في الصراعات الثقافية التي ما تزالُ ناشبة، والتي تتجاهلُ الثقافات العريقة لصالح حداثةٍ مشكليةٍ أو تقنيةٍ تلغي الخصوصيات والذاتيات.