الحوار في المجتمع
مركز ماعت
الحوار مفهوم قديم يعود به المختصون إلي ما قبل عصر الفلاسفة اليونانيين القدامى الذين اعتمدوا علي الحوار، وأضفوا أنماطا وآليات جديدة له. وفي الأديان خبرات حوارية مهمة، وفي الكتب المقدسة تسجيلا لقصص وحوارات، كل ذلك يؤكد علي أهمية الحوار، ودوره في المجتمع. الحوار ضرورة وغاية في ذاته تحاشيا لصور متباينة من العنف سواء كان عنفا ماديا أو لفظيا تمارسه ماكينة الدولة ذاتها في مواجهة رعاياها، أو الجماعات المتنوعة ضد بعضها البعض، أو الثقافات ضد بعضها البعض، بالإضافة للصور التقليدية للعنف المتعارف عليها في النزاعات بين الدول، والتي تحكم آلياتها التطور العلمي والتكنولوجي.
ولكن السؤال المطروح هو كيف يمكن تطوير مفهوم الحوار وآلياته حتى يتناسب مع المتغيرات الآنية محليا وإقليميا ودوليا؟
(1) مفهوم الحوار
أ- الحوار قيمة في ذاته وآلية يلجأ إليها الإنسان بحثا عن فهم متبادل. وهناك عدة معاني للحوار:تبادل الأفكار من خلال نقاش.
ب- ما يتحدث به الممثلون في الأعمال الدرامية.
ج- محادثة بين أكثر من شخصين.
د- نقاش يرمي إلي بلوغ اتفاق.
ويختلف الحوار عن مفاهيم أخري تبدو مرتبطة به أو قريبة منه، أهمها مفهوم السجال.
يعني السجال " إصرار الأفراد المتناقشون علي الاختلاف الذي يؤدي إلي الشعور بالتميز". ويقصد بذلك أن المتناقشون يحرصون دائما علي إبراز التمايزات، بهدف تكريس ذاتية استعلائية أو تفضيلية في مواجهة الأخر المختلف، ولا يشغلهم الوصول إلي أرضية مشتركة أو فهم مشترك تجاه موضوع بعينه. إذن أغراض السجال تختلف –جوهريا- عن أغراض الحوار. في السجال رغبة في تأكيد التميز والأفضلية علي الأخر، أما في الحوار فإن الرغبة تنصرف عادة إلي تبادل الأفكار والسعي المتبادل للوصول إلي اتفاق. مثال علي ذلك السجال الدائم بين أنصار القطيعة علي الجانبين العربي والغربي. هناك علي الجانب العربي من يحرص علي رؤية الغرب علي إنه الاستعماري.. المادي.. الإباحي.. المبشر، وهناك علي الجانب الأخر من يحرص علي رؤية العرب علي إنهم إرهابيون ومتخلفون وداعون إلي قهر المرأة والشره الجنسي. وهناك السجال الديني العقيم الذي يسعى من خلاله أصحاب مذهب أو ديانة إلي تأكيد سموهم وريادتهم علي أصحاب المذاهب أو الأديان الأخرى. ومن الملاحظ أن السجال يبني دائما علي الأنماط الجاهزة عن الأخر( أي التصورات الثابتة عن الآخرين) في حين أن الحوار-كما سيلي الحديث- يجب أن يبني علي التحرر من الصور النمطية المتكررة عن الذات والأخر. وعادة ما تسود السجال لغة خلافية نزاعية أما اللغة التي تسود الحوار فإنها تتسم بالرحابة والرغبة في بناء الجسور.
(2)أشكال الحوار
هناك عدة صور أو أشكال للحوار تختلف باختلاف الزاوية التي ننظر منها إلي المفهوم:
أ- هناك حوار بين الإنسان والله سواء من خلال نص مقدس مكتوب، أو طقوس شعائرية تعبدية، أو من خلال حوار باطني مع مخلوقات الله الكائنة حول الإنسان. هذا الحوار يتعرض إلي تشويه حقيقي من خلال السعي لإعادة إنتاج بدائل حوارية تشعر الإنسان أن بإمكانه الاستغناء عن الحوار مع الخالق. هناك الموضة.. السلعة.. الآلة التي تقدم بوصفها بدائل يغرق فيها الإنسان نفسه في سلسلة متصلة من الحوارات الباطنية تحكمها نداءات اللذة والغريزة التي قد تحمله في النهاية إلي الاعتقاد بأن هناك بديلا للحوار مع الله، وأن مفاعيل الحوار مع الخالق يمكن للإنسان أن يحصل عليها من خلال خبرة اشتباك مع مجتمع السوق. ومن خلال اللجوء إلي البدائل الحوارية يعاد تعريف المفاهيم. تصبح السعادة –مثلا- ليست تعبيرا عن تضحية أو بذل أو صفاء روحي، ولكن تجسيدا لنزعة التملك والرغبة. يجد المرء نفسه في دائرة عبثية من الرغبات المتصلة التي لا يشبع كلما ارتوي من أحدها.
ب- هناك حوار داخلي بين الإنسان وذاته. وعادة ما يحدث نوع من التقييم السلبي للحوار الداخلي، والنظر إليه علي إنه تعبير عن نرجسية مفرطة أو أحساس إنساني بعدم الرغبة في التلاقي والانسجام مع الآخرين في حين أن الحوار الداخلي هو أصل الاعتقاد والأيمان ذاته حيث يتولد الاعتقاد الديني أو السياسي عبر تجربة حوارية داخلية من خلال إعادة إنتاج القراءات والمشاهدات وهواجس الذات والرغبات في عملية معرفية يصعب تفكيك جوانبها المتداخلة. ويمارس الجميع الحوار الداخلي عبر إعادة استرجاع الذهن للمشاهدات الحياتية والعلاقات الاجتماعية والنظر إليها بشيء من التقييم أو من خلال التلاقي المستمر بين الإنسان والنص الذي يطالعه سواء أن كان كتبا علمية أو نصوصا دينية أو سرديات أدبية. وفي حالة الحوار بين الإنسان والنص المكتوب تتداخل ثقافة الشخص مع النص، وهو ما يجعل القراءات المختلفة للنصوص أمرا حتميا وطبيعيا.
ج- هناك حوار يكون فيه متحدث واحد (مونولوج) Monologue والآخرون فيه يستمعون، ولا يستمع هو لأحد غير نفسه. وهناك حوار (ديالوج) Dialogue يتحدث فيه أكثر من متحدث، ويستمعون فيه إلي بعضهم بعضا. فالقضية إذن ليس في وجود أكثر من طرف في الحوار، ولكن في وجود فاعلية متبادلة واستماع متبادل لوجهات النظر المختلفة. هذا نمط من الحوار يحكمه ما يمكن تسميته بالقوامة الفكرية التي تتمثل في وجود طرف يتحدث والآخرون ينصتون. هذا ليس حوارا بل استبداد مستبطن بالأخر.
د- هناك حوار بين الذات والأخر، بين ثقافة وأخري، ونسق حضاري وآخر، حوار ينطلق من التمايز الثقافي الخاص بحثا عن مشتركات للحياة المشتركة. هذا النمط من الحوار قد يقوم علي سرد المواقف، وإبراز الخصوصيات دون التوصل إلي أرضية مشتركة. وقد يؤدي إلي نتائج ايجابية إذا أرادت الأطراف المشاركة فيه الوصول إلي نظرة مشتركة حول قضايا محل اهتمام مشترك. الحوار في هذه الحالة خبرة نقدية بحثا عن أرضية مشتركة للحياة. وتبني المشتركات علي مساحة النقد الذاتي المتبادل.
ه- هناك الحوار اليومي الذي يتواصل من خلاله المواطنون العاديون. حوار الشارع والمدرسة والعمل والمنزل والأسرة والكنيسة والمسجد. حوار الصداقة والاختلاف. حوار الحب والكراهية، حوار الأجيال. هذا النمط من الحوار يكشف نفسية الشعوب، ولغة التخاطب، ومستوي التحضر، والفهم السياسي، والعيش المشترك. ومن خلال تعقب بنية الحوار، ولغته وآلياته يمكن تبيان رؤية الإنسان تجاه ذاته والأخر. فمثلا لوحظ أن الألقاب التي تتداول في الشارع تعكس إلي حد بعيد الإدراك السياسي. في الستينيات كانت الألقاب المتداولة في مصر "كابتن" نظرا لان النخبة الحاكمة كانت من الضباط و"باشمهندس" إدراكا بأهمية التعليم والتصنيع والتنمية، أما في السبعينيات وما تلاها أصبحت الألقاب تطلق علي الفئة الصاعدة دون أصل اجتماعي مهني مثل "لورد" و"برنس". وهي ألقاب تطلق علي الأغنياء الجدد الذين تسلقوا السلم الاجتماعي دون امتلاك معايير التحضر وفي مقدمتها التعليم. ومن ناحية أخري يلاحظ كذلك تزايد مساحة العنف اللفظي في لغة التخاطب اليومية في الشارع المصري، وهو ما يكشف عن تدني لغة الحوار، ووجود فائض عنف عند المواطن العادي.
و- هناك حوار علمي يديره الباحثون في شتي فروع المعرفة، ويغلب عليه الانقسام إلي مدارس فكرية أو علمية تتنوع نظريات وأساليب دراستها للظواهر. وحوار سياسي بين المهتمين بالعمل العام حول القضايا السياسية. وحوار ديني بين المؤمنين بالأديان حول مفاهيم من قبيل المواطنة والعدل والتسامح...الخ. وحوار ثقافي بين النخبة المثقفة حول قضايا وثيقة الصلة بالإبداع الثقافي مثل الرواية والقصة والشعر والنقد...الخ. وحوار دبلوماسي بين دول أو منظمات سياسية إقليمية أو دولية حول المصالح المتبادلة، والسياسات المشتركة علي المستويين الإقليمي أو الكوني. وتختلف أطراف الحوار وفق ماهيته وطبيعته. في الحوار العلمي ينخرط فيه العلماء والباحثون، في الحوار الثقافي يظهر المبدعون، في الحوار السياسي يأتي دور الشخصيات العامة والحزبية والمشتغلين بالعمل العام. وفي الحوار بين المؤمنين بالأديان يسهم علماء اللاهوت والفقه والمشتغلين بقضايا التعايش بين الأديان. ويلاحظ أنه داخل الجماعة الواحدة ينشأ حوار بيني، داخل المنتمين لمدرسة سياسية أو فكرية أو علمية واحدة أو داخل الحزب السياسي، أو النقابة أو النادي أو المنتمين لمذهب ديني معين... وهكذا.
ز- هناك أطر حوارية جديدة تختلف عن الحوار المباشر بين شخصين أو أكثر. مثل الحوار عبر البريد الالكتروني أو الانترنيت. حيث تنشأ تشبيكات بين الأفراد يعيشون في مجتمعات مختلفة وينتمون لثقافات متنوعة. ويتسم الأطر الجديدة للحوار بعدة سمات أبرزها: أولا التفكيك. فلا يهتم الحوار بقضايا كبري فقط بل قد تحدث تشبيكات بين عشرات بل مئات البشر بقضايا صغري. فمثلا قد ينشأ موقع الكتروني للمهتمين بزهرة معينة أو بنمط معماري خاص أو بداعية ديني معين....الخ. هذه الأطر الحوارية الجديدة تتيح بلا شك مساحات واسعة من الالتقاء اللا مكاني واللا زمني. لكنها في الوقت نفسه تجعل في الإمكان دخول أشخاص للحوار غير مؤهلة أو ليست علي دراية بموضوع الحوار. فمثلا لوحظ أن بعض المواقع التي ترعي الحوار بين الأديان تقدم فرصا للحوار اللا عقلاني والسجال بين المؤمنين بالأديان دون علم أو خبرة، وهو ما قد يؤدي إلي إشاعة مناخ من التعصب والجهل بالأخر. وهي نتيجة لا تتلاءم مع مساحة الحرية التي يتيحها هذا الأسلوب من التواصل. ثانيا:الافتقار إلي الخبرة الإنسانية العميقة التي يتيحها الحوار المواجهي وما يفترضه من تأثير مهم لما يعرف بلغة الجسد Body Language، والتي تلعب دورا لا يستهان به في إضفاء كيمياء التجانس في الحوار رغم ما قد يظهر من اختلاف في المواقف تجاه القضايا المتداولة. ثالثا: البعد عن مواطن الحكمة. في المجتمعات الشرقية تنبع الحكمة من النص الديني أو الموروث الثقافي ويعتمد انتقالها –في الأساس- علي التلقين والتسليم من جيل لأخر. أما في الحوار عبر الانترنيت فإن الحكمة تتراجع أمام المعرفة المتدفقة بلا توقف، والتي قد لا يحكمها نسق فكري متكامل أو رؤية واحدة متجانسة. رابعا: غياب الإنفاق. الحوار الالكتروني لا يقود إلي اتفاق في أحيان كثيرة بقدر ما يسوده مفهوم السجال.
(3)شروط الحوار
هناك عدة شروط أساسية في الحوار:-
أ- الشعور بالحاجة. الحوار ليس ترفا بل أحساس بالحاجة، ورغبة في الخروج من أزمة. فإن لم تكن هناك قضية أو مشكلة أو اختلاف فلا يكون هناك داع للحوار، ولن يتولد حافز لدي الأطراف المتباينة للمضي بجديه في الخبرة الحوارية. علي سبيل المثال في الحوارات بين الحكومة والمعارضة كثيرا ما تغلب لغة السجال، ولا يوجد دافع لدي المتحاورين في الوصول إلي منطقة وسط. وفي مجال الحركات الإسلامية التي لجأت إلي العنف كان الحوار الهادئ، والحاجة إلي الاستماع لآراء مختلفة هو السبيل لمراجعة أفكار العنف والتطرف. يختلف ذلك عن أسلوب الجماعات في بداياتها من حيث النظر سلبيا إلي مفهوم الحوار، والركون فقط إلي ما يعرف بالسمع والطاعة في العلاقة بين أفرادها.
ب- الخروج من الذات. كل طرف من أطراف الحوار يجب أن يخرج من ذاته. إنه الانفتاح الذي يجعل الإنسان يتخلى عن دائرة الرؤية الضيقة من أجل التفاعل مع الآخرين. ويجب أن يدرك كل إنسان أن الحوار مع الأخر هو شرط أساسي لارتقائه روحيا واجتماعيا وذهنيا. من خلال الحوار يدرك الشخص أن الآخرين لديهم رؤية وفكرا، وبالتالي يستحقون من يستمع إليهم، ويتبادل الرأي معهم.
ج- إدراك الاختلاف. الحوار لا يتم بين أشخاص متماثلين في الفكر وأسلوب العمل. بل ينبع من الاختلاف، ومن رغبة المختلفين أنفسهم في الوصول إلي إدارة سلمية عقلانية للاختلاف حتى لا يتحول إلي خلاف أو نزاع أو قطيعة. الاختلاف في ذاته لا يعبر عن مشكلة أو أزمة أو مرض اجتماعي ، بل يعبر عن قصد إلهي وضرورة من ضرورات الحياة. يتوقف الأمر علي أسلوب إدارة الاختلاف. بالتأكيد الحوار الجاد هو أداة مثلي لإدارة الحوار بين المختلفين. من هنا فإن إدراك الاختلاف ذاته، والاعتراف به هو أحد شروط الحوار. في بعض الأحيان يؤدي عدم فهم أسباب اختلاف الآخرين إلي صدور ردود أفعال من الطرف الأخر في الحوار تعطل تدفقه.
د- الاعتراف المتبادل. الحوار يسبغ شرعية علي أطرافه. فالحوار مع طرف يعني الاعتراف به، وبوجوده، والرغبة في التواصل معه. وفي هذا الصدد تحديدا فإن الحوار بين المعتقدات والأديان يكون الاعتراف فيه ليس بالأديان ذاتها وإنما بالمؤمنين بها. المسلمون يشكون أن المسيحيين لا يعترفون بالإسلام. والمسيحيون يقولون أن المسيحية التي يعترف بها الإٍسلام والمسلمون ليست هي التي يؤمنون بها. وتنطبق نفس الملاحظة علي اليهودية. إذن الاعتراف يجب أن يكون إنسانيا بين المؤمنين بالأديان، اعتراف بالمواطنة والانتماء للإنسانية والرغبة في العيش المشترك. ومن ناحية أخري إذا كان الحوار يمتد إلي المؤمنين بالمذاهب التي لا تستند إلي مرجعية سماوية مثل البوذية والديانات التقليدية في أفريقيا.. فكيف يتسنى أن يكون الاعتراف بالمذهب هو شرط مسبق للحوار؟ هل مطلوب أن أعترف بالبوذية حتى أتحاور مع بوذيين أم أعترف بشركة البوذيين في الحياة والمصير علي الأرض حتى يكون للحوار معني وغاية؟. وعلي مستوي الديانة الواحدة هل مطلوب أن يعترف أصحاب كل مذهب بالمذاهب الأخرى بوصفه شرطا أوليا للحوار؟ بالطبع لا. المطلوب هو الاعتراف بحق الآخر المختلف في الحياة. إذا وضعنا "الاعتراف" شرطا للحوار، فإن هذا سببا في حد ذاته لنسف مبدأ الحوار ذاته.
ه- النسبية. كل طرف يحمل رأيا أو فكرة نسبية أي لا تحتوي علي الحقيقة المطلقة. يعني ذلك أن ما يطرحه يحتمل الخطأ أو الصواب. أفكار الشخص ليست مطلقة ولا عصمة لها. من هنا فالحوار لا يشمل معتقدات ولكن ظواهر صنعها الإنسان أيا كانت حتى يكون بيد الإنسان أن يعيد إنتاجها وتعديلها. من هنا فالحوار بين المؤمنين بالأديان لا يتناول العقائد لان كل طرف ينظر إلي عقيدته علي أنها مطلقة لا يعتريها خطأ أو تعديل، وإنما يشمل قضايا العيش المشترك مثل قضايا التنمية والتخلف والبيئة والعمل. في حالة الحوار الذي ينصب علي موضوعات عقائدية أو لاهوتية فإن الحوار يجب أن يكون فقط بين مختصين، يعرفون قيمة العلم، ولديهم الخبرة والمعرفة، وليس بين أفراد عاديين لا يمتلكون فهما عمليا منظما عن الآخر. كل ذلك يجري علي أساس من الثقة والاحترام المتبادل.
و- النزعة الاستكشافية. الحوار رحلة اكتشاف للذات والأخر. من خلال الحوار يستطيع الإنسان أن يكتشف ذاته، رغباته، هواجسه، مساحة التسامح في أعماقه وتأثير الخبرات السابقة والصور النمطية المخزونة في عقله الباطن. ويفهم الأخر كما يريد أن يعرف ذاته. يضاهي الصور الذهنية بالالتحام المباشر، ويصل إلي مفهوم جديد عن الذات والأخر. من هذا المنطلق يجب توفر نزعة استكشافية لدي المنخرطين في الحوار، ليس فقط للأخر بل للذات أيضا. فالحوار مثلا بين رجل وامرأة يجعل الطرفان يكتشفان مساحة الفهم عند كل منهما وليس فقط عن بعضهما البعض. الرجل قد يكتشف أن المرأة التي يحاورها تقدم نموذجا مختلفا عن الصورة الذهنية التي يحتفظ بها داخله عن النساء. والعكس صحيح. ومن خلال رحلة الحوار قد يكتشف كل طرف إلي أي حد يستطيع أن يتفاعل مع الطرف الأخر. وهو ما يستتبعه حتما إعادة نظر للذات، وأساليب التواصل مع الآخرين.
ز- الاحترام المتبادل. الحوار يدور بين مختلفين ولكنهم أنداد. ويعني ذلك أن يشعر كل طرف أن الأخر علي قدم المساواة معه حتى وإن كان في مكانة أفضل منه علي صعيد امتلاك الثروة أو الجاه أو الوضع الاجتماعي. والحوار ليس محاولة من جانب طرف لإملاء شروطه أو رؤيته علي الطرف الأخر بل هو سعي متبادل من أجل التمكين المشترك بحيث يخرج الطرفان من الحوار أكثر فهما للذات والأخر، وأكثر فاعلية مما كانا عليه.
ح- الحرية. الحوار الحقيقي لا يقوم أو يؤتي ثمارا إلا في مناخ من الحرية حيث تتمتع كل الأطراف بحظوظ متساوية في طرح وجهة نظرها ورؤاها. الحوار لا يقوم في مناخ من التسلط أو المحاذير أو القهر نظرا لان حرية التعبير شرط أساسي لأي حوار.
(4) آلـيات الحوار
الحوار الناضج له آليات أو وسائل لضمان نجاحه.
أ- السعي لفهم الأخر. كل طرف يفصح عن ذاته في الحوار. المهم أن يستمع الطرف الثاني ويحاول أن يفهم الأخر علي النحو الذي يريده أو يروق له. كثيرا ما نفهم الأخر علي النحو الذي يروق لنا وليس بالكيفية التي يريدها الأخر. في الحوار بين المسلمين والمسيحيين ليس من المهم أن يفهم المسلم المسيحية كما وردت في كتبه وتراثه ولكن كما يريد المسيحي أن يعرف ذاته. والعكس بالضرورة صحيح. من الضروري أن يفهم كل طرف الأسباب والبواعث والحكمة التي تكمن وراء اتخاذ الأخر لموقف أو مبدأ أو أسلوب حياتي. هذا يجعل للحوار معني وليس مجرد مساجلات كلامية أو تعبيرات لفظية. وتنطبق هذه الملاحظة علي حوار الحياة. في بعض الأحيان يسعى "الكبار" إلي الحوار مع جيل الشباب من منطلق أنه امتداد لهم يجب أن يحمل أفكارهم، ويحاسبوا الشباب إذا خرجوا عن الخط المرسوم لهم في حين أن هؤلاء الشباب يكون لديهم تصور وطرح مختلف، ويودون أن يفهم الناس فكرهم وعالمهم وأحلامهم وليس المصادرة عليها.
ب- التحرر من الصور الذهنية. الحوار يقوم علي التخلص أولا من الأحكام المسبقة عن الطرف الأخر والدخول في رحلة اكتشافه كما يريد أن يعرف ذاته. وهو ما يطلق عليه تأجيل التأكيدات Certaintiesأي الصور الذهنية المأخوذة عن الآخر المختلف. نستمع إليه، ونتفهم موقفه، ورؤيته. الخطأ الذي وقعت فيه جماعات العنف الديني في السابق هو الانطلاق من "صور نمطية ذهنية" عن الآخرين، ثم التعامل معهم وفق هذه الصور المغلوطة. إذن التخلص من الصورة النمطية شرط ضروري للولوج إلي حوار جاد موضوعي.
ج- التخلص من ترسانة المصطلحات السجالية. هناك لغة تجعل للحوار معني. وهناك لغة تجعل الحوار يدور بكلمات أشبه بالطلقات. إذا استخدم المختلفون لغة منفرة تؤلم الأخر.. فماذا ستكون النتيجة ؟ التخلص من ترسانة العبارات والتركيبات اللفظية والكلمات التي تسبب حساسية للأخر أمر حتمي حتى يكون هناك حوار. وعادة ما يؤدي ترسيخ الخلاف لفترة طويلة إلي نشوء خطاب يكرس هذا الخلاف ويعطيه بناء ومفهوما. فإذا أتي الحوار تكون لغة الخطاب تحمل علامات القطيعة أكثر من الرغبة في التواصل والفهم المشترك. من ذلك استخدام أوصاف "منفرة" لرمي الآخرين بها، مثل "الفسق"، "الفجور"، الخ.
د- الاهتمام بالمنطوق لا بالنوايا. يجب أن يستند كل طرف مشارك في الحوار علي ما يقوله الآخرون، وليس علي ما يدور في أذهانهم وأفئدتهم. أي التفكير فيما يقول الناس وليس فيما يفكرون. أحد أبرز المشكلات التي تعوق سير الحوار هو النظر إلي نوايا الآخرين وليس إلي خطابهم المعلن.
ه- الاستثمار في الحوار. يجب أن يشعر كل طرف في الحوار أن الأخر يستثمر في الحوار، وإنه يسعى من ورائه لتحقيق فهم مشترك أو بلوغ أرضية مشتركة. الحوار ليس نزهة ذهنية، أو مناسبة لتسجيل مواقف، أو إملاء رؤى علي الطرف الأخر. الجدية في الحوار أساس له. تبادل المعلومات ضرورة. السعي المتبادل لتحقيق التراكم في الخبرات الحوارية استثمار حقيقي لأجيال قادمة. فمثلا هناك مئات الحوارات التي جرت في السنوات الماضية ذهبت بلا صدي لأنه لم تكن لها ذاكرة. ولم يطلع عليها جمهور واسع. والنتيجة أن من يبدأ الحوار يعيد إنتاج ما أنتجه الآخرون علي مدار سنوات.
و- البعد عن طلب التنازلات. الحوار فرصة للفهم وليس لاقتناص تنازلات من الأخر. إذا شعر أي طرف في حوار أن الأخر يطلب منه تنازلات فالنتيجة المتوقعة هي فشل الحوار، أو عودته إلي المربع رقم واحد، أي نقطة الصفر التي انطلق منها.
المصدر: http://www.arabsfordemocracy.org/categories/item/1686-2017-12-30-15-25-40