الإسلام والدولة

الإسلام والدولة

برنارد لويس*

أود في بداية هذا الموضوع المهم والخطير أن أنبه إلى أمرين اثنين يتعلقان بمسألة المصطلح ومسألة المفهوم في المسيحية. هناك كلمتانChristianity وChristianitydom عندما نقول Christianity نعني بها "الدين المسيحي" وما يتعلق به بشكل مباشر، وعندما نقول Christianitydom نعني العالم المسيحي الذي يتضمن الدين والثقافة والحضارة بل ومعارضي الدين الذين ناوأوا المسيحية، هذا الأمر واضح تماماً لدى المسيحيين ولدى الغربيين حتى اليوم. فلا يمكن مثلاً نسبة هتلر إلى المسيحية لكن يمكن نسبته إلى العالم المسيحي باعتبار ظهوره هناك رغم أنه لا علاقة له بالدين.

وما قلناه عن المسيحية أو عالم الحضارة المسيحية في كلمة واحدة أو كلمتين لا ينطبق على الإسلام، وليس هناك تعبير عن الدين والثقافة والتاريخ الإسلامي كله إلا كلمة واحدة هي كلمة "الإسلام"، مع أن بعض التوجهات الثقافية الوسيطة أو المعاصرة قد لا تكون لها علاقة بالإسلام أو تكون مضادة له. وقد حاول مارشال هودجسون تجاوز هذه الصعوبة في كتابه "مغامرة الإسلام، الوعي والتاريخ في حضارة عالمية" عام 1972م في ثلاثة مجلدات باختراع تعبير أو مصطلح عن حضارة الإسلام أو عالم الإسلام هو "Islamdom"، إلا أن هذا التعبير لم ينتشر لصعوبة نطقه.

إن "عالم الإسلام" والذي كتب عنه مارشال هودجسون عن حضارة الإسلام وثقافته، عن هذا العالم الواسع الشاسع الذي استمر منذ أربعة عشر قرناً والذي يضم أكثر من مليار من البشر، والذي يعج بالثقافات والحضارات ووجوه التجارب الإنسانية الغنية والكبيرة- هذا العالم هو الذي سحرني وشغلني طوال الستين عاماً الماضية من حياتي، ولذلك أجد نفسي قادراً على الكتابة عن بعض المعالم الكبرى والمتعلقة بالشأن السياسي لهذا العالم.

بعض الدارسين الكبار للإسلام يقولون -وهم محقون في ذلك- أنه لا ينبغي الحكم على الإسلام/الدين والإسلام/الثقافة من خلال سلوك بعض الناس أو بعض الفئات الاجتماعية، وهذا ليس مقصوراً على الحاضر بل يعود إلى الماضي أيضاً. ولنأخذ مسألة المرأة في العصر الإسلامي الأول وهو ما يسمى بعصر الراشدين، كنا نعرف أسماء أمهات الخلفاء وكبار الرجال وأسماء بناتهم وأسماء زوجاتهم وأسماء قريباتهم، وكنا نعرف كثيراً عن المجتمع النسائي أو مجتمع المرأة، وهذا يعني أن الحُرَّات المتعلمات كثيرات، وبذلك كنّ يلعبن أدوراً اجتماعية وأحياناً سياسية، وكنَّ ملحوظات في التاريخ، ثم تأتي فترة تختفي فيه أكثر من نصف المجتمع وراء أسوار الحرير، بحيث لا نعود نسمع عنهن شيئاً، مع أنه لو كان الأمر يتعلق بالإسلام لكان ينبغي أن لا نسمع عنهن شيئاً في العصر الإسلامي الأول، حيث كان الناس أكثر اتباعاً للإسلام، ولهذا فإننا عندما نتحدث عن الإسلام أو نتحدث عن المسلمين وثقافتهم فهذه أمور مختلفة ينبغي أن نتنبه إليها عندما نريد أن يكون البحث دقيقاً.

قبل الكتابة عن الدولة أريد أن أنبه إلى ثلاث فترات في الشرق الأوسط فيما يتعلق بالدولة والمشرق بشكل عام، في الإمبراطورية الرومانية كان القيصر هو "الله" وهو رأس الدولة. ثم جاءت الفترة المسيحية حيث صار هناك تمييز كبير بين "الله" والقيصر ولكل منهما صلاحيات. ثم جاءت الفترة الإسلامية عندما صار الله هو رأس الدولة، وبدا ذلك في ألقاب الأمراء والخلفاء عندما يعتبر الخليفة نفسه نائباً عن الله أو خليفةً لله على الأرض من خلال تسمية نفسه كما نرى على النقود الأموية "خليفة الله".

في الإسلام، الدولة هي دولة الله، والشريعة شريعة الله، وعدو الدولة عدو الشريعة. أما المسألة العلمانية التي تعني فصل الدين عن الدولة فهي مسألة مسيحية خاصة لا علاقة للإسلام بها، ويعود ذلك إلى المسيحية الأولى حيث يعتقد المسيحيون أن الله تجسد على الأرض، وعانى من العذاب ثم من التعذيب والصلب من أجل فداء البشرية، ثم عانى اتباعه في القرون الثلاثة الأولى بعد المسيح من صراع مع الدولة ومن اضطهاد من جانب الدولة لهم، لكن حتى عندما اعترفت الدولة بالمسيحية وصارت المسيحية دينها الأوحد ظلت المؤسستان منفصلتين وكانتا تتحالفان أو تتصارعان، ولكن من موقع الانفصال وليس من موقع الاندماج. حتى عندما حاول الإمبراطور أن يستولي على الكنيسية أو أن تستولي الكنيسة على الإمبراطور حيث فشل الأمر لهذه الناحية، ولتلك الناحية، وازداد الشق وازداد ما يسمى فصل الدين عن الدولة. ونتيجة تلك المحاولات قامت مؤسستان منفصلتان نتيجة الفكرة المسيحية الأولى "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، وهذا المشهد التاريخي الطويل من العلاقات الانفصالية بين المؤسستين في العالم المسيحي لا نجد له مثيلاً في العالم الإسلامي، وهو غريب عليه صحيح أن هناك مسجداً وهناك كنيسة والكنيسة تمارس فيها العبادة كما تمارس العبادة في المسجد، إلا أن الشبه ينتهي عند هذا الحد؛ لأن الكنيسة مؤسسة لاهوتية تملك صلاحيات لاهوتية خاصة ذات علاقة خاصة بالله وبأسرار الديانة المسيحية وهو ما لا يملكه المسجد. فالكنيسة مؤسسة في المسيحية بينما العبادة ليست مؤسسة في الإسلام إلى أن ظهر ما يشبه المؤسسة في المسائل العبادية والسياسية في إيران أخيراً من خلال ولاية الفقيه.

ولكي يكون واضحاً ما أقصده في المسألة الإيرانية التي ذكرتها عليّ أن أوضح بعض التفصيلات، هناك نوع من تمسيح المؤسسات الإسلامية بمعنى إقامة مؤسسة تملك صلاحيات دينية وسياسية وتتسم بطابع القداسة باعتبار أن لها مرجعية وتمارس صلاحيات تشريعية وصلاحيات قضائية، كل هذا معروف عن الكنيسة الكاثوليكية وليس معروفاً من قبل عن المؤسسة الدينية الإسلامية إذا صحت تسميتها بأنها مؤسسة دينية، هناك أزواج من المفردات فيها ثنائيات موجودة في اللغات الأوروبية واللغات الغربية منذ القديم ديني دنيوي، علماني أخروي، ديني مدني أو دهري. كل هذه الثنائيات لا تعرفها اللغة العربية ولا يعرفها المصطلح الإسلامي حتى القرن التاسع عشر، والذي استوردها وحاول ترجمتها إلى العربية هم المسيحيون العرب الذين يمتلكون في مسيحيتهم ما يمكنهم من أن يحاولوا أن يستوعبوا هذه المفاهيم التي تطورت في الغرب؛ لأنهم يعرفونها بشكل عادي في مسيحيتهم، فترجموا كلمة "Secular" "عالماني" ثم اخُتصرت فصارت علماني، وهكذا مع التطورات والتقاليد جرى استيراد المؤسسات من الغرب وصار هذا المصطلح عربياً على أيدي المثقفين المسيحيين العرب، فصار يمكن مناقشته ويمكن مناقشة إشكاليته حول فصل الدين عن الدولة في عالم الإسلام في القرن العشرين مع عدم إمكانية ذلك من قبل.

مسألة مناقشة علاقة الدين بالدولة لم تكن فقط غير ممكنة بل ما كانت ضرورية أيضاً لأن المشكلة ليست موجودة في المجال الثقافي، وكان يمكن حتى وقت قريب القول أن العلمانية هي دواء لمرض غربيِ، وعلى هذا الأساس لأننا لا نملك هذا الداء فلسنا بحاجة إلى هذا الدواء، فهل ما يزال هذا الأمر صحيحاً الآن؟ هذا ما يمكن مناقشته والبحث فيه.

ما دمنا نبحث في الدولة والسياسة، لنلتفت إلى مصطلح مفتاح آخر غير مصطلح العلمانية، بل مصطلح الديمقراطية الذي يتعلق بمصلحة الدولة بشكل مباشرٍ، والديمقراطية استعملت عبر القرون وحتى اليوم بمعاني مختلفة ومتباينة، ومما يدعو إلى الإحساس بالمفارقة أنه عندما كانت ألمانيا منقسمة كانت ألمانيا الشرقية الشيوعية هي التي تسمي نفسها ألمانيا الديمقراطية فقد استعملت هذا المصطلح وأسيء استعماله في كثير من الحالات. لن أتعرض طبعاً للمعاني المختلفة للديمقراطية بل سأركز على المعنى الأساسي الذي هو حكم الشعب بالشعب، والانفتاح عليه والذي صار معروفاً منذ عدة قرون وما يزال جارياً في الاستعمال الرئيسي اليوم.

السؤال المباشر الذي يمكن طرحه هنا، هل الديمقراطية بهذا المعنى الذي ذكرناه ممكنة في العالم العربي وفي العالم الإسلامي؟ يعني هل تتوافق وتتلاءم مع الإسلام أو مع الثقافة الإسلامية؟ في الحقيقة هناك رؤى غربية مختلفة لهذا الأمر، هناك رؤية تقول: إن هؤلاء الناس مختلفون عنا والديمقراطية طريقتنا وليست طريقتهم ولذلك فأياً تكن مساعينا اتجاههم وأياً تكن علاقتنا بهم فسيظلون مختلفين عنا في نظام الحكم، وستظل حكوماتهم حكومات استبدادية! وعلى هذا الأساس يجوز لنا أن نتعامل مع هذه الحكومات الاستبدادية باعتبار أنه لا أمل في تغييرها إنما يكون الفرق بالنسبة لنا في التعامل أو عدمه، وفي الصداقة أو العداء لأن هؤلاء الديكتاتوريين الشرقيين أصدقاء لنا يرعون مصالحنا فنتعامل معهم بصداقة وبشاشة وإن عادونا فنقاتلهم أو نعاديهم، أما الديمقراطية فلا يفكر فيها حسب هذا الفريق بالنسبة للشرق العربي والعالم الإسلامي.

هذا هو الرأي الأول الذي يقول بأن هؤلاء العرب والمسلمين ليسوا قادرين على إقامة ديمقراطية. في الحقيقة يصوّر هؤلاء هذا الفريق الذي يتحدث عن ذلك على أنه رأي موالٍ للعرب والمسلمين، يعني لا يريدون أن يتدخلوا في شؤونهم يريدون أن يتركوهم يديرون شؤونهم حسب تقاليدهم وأعرافهم، وهذا ظلم للثقافة الإسلامية ولعالم الإسلام وحضارته ولمئات ملايين البشر الذين عاشوا تجارب حضارية كبرى، ولا يجوز الحديث عنهم بهذا الشكل العنصري المعادي لكل ثقافة ولكل حضارةٍ. والفريق الآخر الذي يقول إن هؤلاء الناس قادرون مثلنا تماماً على إقامة أنظمة ديمقراطية ولكن لأنه مضت عليهم آساد وآماد بدون أنظمة ديمقراطية فإنهم يحتاجون إلى مساعدتنا لإقامة هذه الأنظمة وتدخلنا في شؤونهم مبرر باعتبار أننا نريد مساعدتهم لأسباب إنسانية ولأسباب سياسية ولأسباب تتعلق بالتقدم والتطور. فثقافتهم لا تشكو من شيء فيما يتعلق بالتلاقي مع الديمقراطية، لكن ممارسات الأربعين أو الخمسين سنة الأخيرة هي التي أوضحت إلى عدم استطاعتهم بمفردهم إقامة هذه الأنظمة الديمقراطية المنفتحة بدون مساعدتنا نحن الديمقراطيين الغربيين، وهذا الرأي الثاني هو الذي نسميه الإمبريالية. الرأي الأول عنصري، والرأي الثاني إمبريالي.

إن الذين يتحدثون إما بمعنى العنصرية أو بمعنى الإمبريالية عن الوضع في منطقة المشرق والمنطقة الإسلامية لا يستطيعون شيئاً إما مطلقاً وإما بمساعدتنا، ويستشهدون على ذلك بالظواهر التي ظهرت في الخمسين عاماً الأخيرة ومن ضمنها ظهور الأحزاب القومية وما أدى إليه من ظهور ديكتاتوريات في منطقة المشرق، وفي الحقيقة نستطيع أن نقول: إنه ليس لتلك الأحزاب أي جذور في الثقافة العربية أو الثقافة الإسلامية الوسيطة أو الحديثة المبكرة، وإنما نستطيع أن نثبت وبدقة شديدة أنه استيراد غربي كامل. وإذا عدنا لدراسة هذه الظاهرة أو الظواهر المشابهة نجد أن جذورها تعود إلى التحديث أو التغريب. كان هناك فريقان في القرن التاسع عشر حاضرين في العالم العربي والعالم الإسلامي الإمبرياليون المستعمرون، والإصلاحيون من رجال الدولة المثقفين المسلمين والإمبرياليون كانوا من المحافظين وحاولوا أن يراعوا التقاليد الإسلامية القديمة. ليسوا مسؤولين في الحقيقة عن استيراد مؤسسات وأفكار غربية وزرعها في العالمين العربي والإسلامي. المسؤول عن هذا الزرع وهذا الاستيراد الإصلاحيون المسلمون من ذوي النوايا الحسنة مثل السلطان "محمود الثاني" العثماني، ومثل "محمد علي باشا" في مصر، وقد كانت نواياهم حسنة، ويريدون أن يبلغوا بمفاهيم التحدث الأوروبي درجة معينة من التقدم في وقت قصير فأسرفوا في هذا الاستيراد وظهرت لذلك مؤسسات وأفكار نتجت عنها عواقب وخيمة.

لقد قامت سلطة مركزية تستطيع السيطرة على المجتمع بشكل كامل من طريق الجيوش وقوى الأمن ووسائل الاتصال وربط كل ذلك بالعاصمة من جهة، وإمكان إيصال قبضة السلطة وانتشارها إلى أقصى حدود الريف، وبطرائق شديدة جداً، كلها مستوردة من التجربة الأوروبية، هذا الأمر الأول، الأمر الثاني: إضعاف أدوار القوى الوسيطة إلى حد الاختفاء، فقوة الحاكم رغم أنه كان رأس الدولة والمسلّم له بمرجعية قوته رغم ذلك محدودة بالسلطات والنفوذ الذي يمارسه التجار والذي تمارسه كل هذه المؤسسات الوسيطة والفئات الوسيطة، وقد أضعفت في عمليات التحديث وعمليات تقوية السلطة المركزية من جهة والحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من جهة أخرى، بحيث لم يعد هناك في الحقيقة في مطلع القرن العشرين وبعد الحرب العالمية الأولى على الخصوص ضعفت القوى التقليدية إلى حدود أن سلطة الحاكم أصبحت شبه مطلقة وقدراته أيضاً صارت مطلقة.

أريد لكي يكون واضحاً ما أورده من حيث المتغيرات الجذرية نتيجة عمليات التحديث أن أذكر مثالين اثنين:

أولاً: رسالة كتبها القنصل الفرنسي في اسطنبول إلى حكومته في باريس عام 1786م أي قبل ثلاث سنوات من قيام الثورة الفرنسية. ويبدو أن دولته طلبت منه أن يؤثر على السلطان وعلى الباب العالي في اسطنبول من أجل إصدار بعض القرارات التي تتعلق بمصالح الأوروبيين والتجار، ولم يستطع ذلك رغم أن السلطان كان موافقاً، فهو يعلل عدم استطاعته ذلك بأنه حتى لو كان موافقاً ما كان السلطان العثماني يستطيع أن يصدر القرار الذي يريد، هو مضطر، كما يقول السفير الفرنسي عام 1786م، ليس لاستشارة كبار موظفي الدولة ورئيس الوزراء فقط، إذ هو مضطر أيضاً لاستشارة كبار الموظفين المتقاعدين، ومضطر لاستشارة كبار الضباط، ومضطر إلى استشارة كبار العلماء وشيخ الإسلام، ولذلك ليس الأمر كما في فرنسا حيث كان الملك هو الدولة ويستطيع أن يقول أريد كذا فيحدث.

ثانياً: هناك ضابط بحري إنجليزي هو نائب قائد البحرية العثمانية حيث قضى في اسطنبول عدة سنوات وهو يتحدث في مذكراته عن نبلاء جدد، يقول: إن نبلاء الإقطاعيين العثمانيين القدماء كانوا يجلسون في الأرياف في إقطاعياتهم، أما النبلاء الجدد فإنهم حتى تبقى إقطاعياتهم هناك يأتون إلى اسطنبول فيشاركون في السلطة والسياسة وإدارة أمور الدولة، ولذلك اتسعت دائرة الاستشارة واتسعت دائرة الحكومة وشملت فئات لم تكن تشملها من قبل، ولهذه آليات أخرى لاتخاذ القرار نتيجة ظهور هؤلاء النبلاء الجدد.

ما يتحدث عنه الضابط البحري البريطاني أو الإنجليزي والسفير الفرنسي في اسطنبول، هو ما نسميه اليوم المجتمع المدني أو قوى المجتمع المدني، ومثل الديمقراطية تختلف التعريفات والمصطلحات في فهم ما يسمى بالمجتمع المدني، ولكن أصل هنا إلى تحديد أقيم على أساسه رؤيتي ولا يسهل الاختلاف حوله، هناك ثلاثة أنواع مختلفة من الانتماء، هناك الانتماء الفطري أو الطبيعي - انتماء المولد - وانتماء الموطن وانتماء الدين، وهناك الانتماء القسري الذي تطلبه الدولة من مواطنيها بالطاعة لقوانين الدولة وتترتب عليه سلوكيات معينة مثل ترتيب سلوكيات معينة على الانتماء الطبيعي.

الانتماء الثالث والذي يتعلق بالإرادة البشرية هو المقصود بالمجتمع المدني وهو الانتماء الطوعي، مثل انتماء الإنسان إلى حزب سياسي أو انتمائه إلى نقابة مهنية أو إلى نادٍ للهواة أو انتمائه إلى منتديات الأساتذة باعتباره أستاذاً أو إلى جمعية من جمعيات حقوق الإنسان أو جمعيات البيئة، وكل هذه انتماءات طوعية وهذه هي المقصودة بالمجتمع المدني، غير الانتماء الفطري أو الطبيعي والانتماء إلى الدولة واللذان لابد للإنسان منهما.

فما دمنا نقول: إن هذا المجتمع المدني اختفت قواه أو تضاءلت وتراجعت في المشرقين العربي والإسلامي - أن نذكر أنه ما دامت هناك عودة للإسلام عن مسائل يمكن أن تسّهل عمليات الديمقراطية في هذا المشرق العربي والإسلامي، وبخاصة أن هناك أناساً يتحدثون عن ديمقراطية جيفرسون أو ديمقراطية الثورة الفرنسية أو ديمقراطية المملكة البريطانية، فلماذا لا يمكننا الحديث عن توجهات أيدلوجية ومؤسسية في الثقافة الإسلامية وفي الممارسة الإسلامية، يمكن أن تكون دافعاً لهؤلاء الناس وبدوافع ذاتية داخلية وبدون مساعدة من الخارج لإقامة أنظمة يمكن تسميتها أنظمة ديمقراطية؟!

عن إمكانيات التلاؤم بين الإسلام والديمقراطية أو الثقافة الإسلامية والديمقراطية أريد أن أذكر مصادري التي تتعلق بفكرة الدولة وسلوكها والمسلمون لم يقصروا في ذلك أبدا. هناك عدة أنواع من المصادر التي يمكن الرجوع إليها وهي تعرض معلومات شديدة الغنى والثراء والأهمية والإفهام:

المصدر الأول: المصادر الفقهية أو ما يسمى مصادر الفقه الدستوري التي تتحدث إما في كتب مستقلة وإما في فصول. في الكتب الفقهية: معلومات عن الإمامة وكيف يكون الإمام شرعياً، وكيف يصل إلى السلطة، وكيف يمارس سلطته، وما هي المؤسسات التي يمارس عليها سلطته أو تفويضه، وهذه كلها موجودة في الكتب الفقهية والفقهاء معنيون بها أشد العناية؛ فهي مصادر قانونية تشبه مصادر القانون الدستوري الموجودة عندنا الآن.

المصدر الثاني هي الثقافة الفلسفية: فقد ترجم العرب والمسلمون كثيراً من الكتب اليونانية عن التجربة السياسية اليونانية والتجارب السياسية الماضية بشكل عام، فالتجربة السياسية هي مثل الفارسية، ولم يكتفوا بترجمتها بل إنهم درسوها وتأملوها جيداً ورتبوا عليها استنتاجات لهم سلبية أو إيجابية. وتُرجمت جمهورية أفلاطون وشرحت عدة مرات، كما ترجمت أخلاق أرسطو وفيها فصول سياسية مهمة، وتُرجمت الخطابة لأرسطو وفيها فصول سياسية مهمة وجرى تأملها وشرحها ونقدها والنقاش حولها.

المصدر الثالث: وهو ما أسميه المصدر الإداري، فعندما يكتب موظف كبير من موظفي الدولة عن مؤسسات الدولة وعن تجربته فيها وهو لا يذكر أسماء بل يفعل مثلما فعل صاحب صبح الأعشى في صناعة الإنشاء للقلقشندي، وهو كتاب مهم، الخراج وصناعة الكتابة لقدامة بن جعفر، وجميعها كتب مهمة تعرّف بمؤسسات الدولة ثم تعرض كيف تسلك تلك المؤسسات.

وعندنا المصدر الرابع من مصادر دراسة الدولة نظرية وسلوكاً هي "مرايا الأمراء"، والمؤلف يكون مثقفاً كبيراً أو موظفاً كبيراً في الدولة، يكتب في نصيحة السلطان وفي محاولة إصلاح شأن الدولة، ويقترح عليه اقتراحات مثل ما اقترح ابن المقفع أو مثل "آصاف نامه" أو أيام العثمانيين، ويكون عنده مشروع ورؤية إما أنه كان موظفاً ثم تقاعد أو ما يزال في الخدمة العامة فيكتب تجربته، ويكتب مقترحاً إصلاحياً لإصلاح شأن الدولة ويقترح على السلطان أفكاراً ويقترح عليه سلوكيات معينة.

المصدر الخامس: المصادر التاريخية منذ تاريخ الطبري وما بعد، فهؤلاء المؤرخون شديدو الأمانة في عرض التجربة السياسية الإسلامية، تجربة الدولة، كيف تسلك إزاء الرعية؟ وما هي علاقتها الخارجية، وما هي حروبها، وما هو سلامها، كل هذه الأمور موجودة في مصادرنا التاريخية عن الحقبة الإسلامية الكلاسيكية والمتأخرة.

وأخيراً: إلى جانب المصادر التاريخية هناك الوثائق الصادرة عن الدولة أو عن إحدى مؤسساتها، وهي تبدو شديدة الدقة منذ القرن السادس عشر أيام العثمانيين، فعندنا حوالي أربعمائة سنة من التوثيق الدقيق على كل المستويات حتى في مستوى إحصاء السكان من جانب مؤسسات الدولة، وكل هذه التسجيلات ليست قاصرة على نظرية الدولة وكيف كان المسلمون يرون سلطتهم، بل أيضاً معرفة كيف كانت الدولة تسلك تجاه شتى الفئات وفي شتى الظروف.

ونذكر هنا نموذجاً في كل مدينة صغيرة أو كبيرة قاضي، وكان القاضي هو مركز سجل الدولة عملياً لوثائق المحاكم الشرعية هذه، حتى دخول أمير إلى المدينة حيث كان ينبغي عليه أن يسجل نفسه لدى القاضي حتى يستطيع استلام السلطة في تلك المدينة، ولذلك تحولت المحاكم الشرعية ودور القضاء إلى مراكز لسجلات شاملة وعامة ليس فقط في كل القضايا التي عُرضت على القاضي بل في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفي توثيق المواريث، فحتى الذين لا يقيمون دعاوى كان عليهم أن يسجلوا أمورهم مجرد تسجيل في المحكمة الشرعية. ولذلك يوجد لدينا ملايين الوثائق التي تحتاج إلى دراسة عن سائر نواحي الحياة فيما يتعلق بما كان العثمانيون يفهمونه من مسائل إجراء العدالة ووظائف الدولة.

وفي مسألة مدى تلاؤم الثقافة الإسلامية مع الديمقراطية أو مساعدتها في إقامة أنظمة ديمقراطية، نشعر ببعض الخيبة ولكنها خيبة مؤقتة بسبب غياب بعض المصطلحات - المفاتيح - المتعلقة بالديمقراطية مثل "مصطلح الحرية" فهو ليس موجوداً في التراث الإسلامي القديم، إلا "الحر" في مقابل "العبد"، لكن هذا ليس أمراً مخيباً في الحقيقة؛ لأن المسألة مسألة مجازية، بدليل أن الطهطاوي عندما ذهب إلى باريس وكتب كتابه تخليص الابريز في تلخيص باريس عام 1831م قال: إن الفرنسيين يتحدثون كثيراً عن Frieder وعن Lilire وهي تقابل عندنا العدل والإنصاف.

وأنا أرى أن ما كان يعنيه الأوروبيون بها حتى العصور الوسطى للحرية هي "العدالة"، فلم يخطئ الطهطاوي بسبب ثقافته العميقة وفهمه الحقيقي للحضارة الأوروبية في تلك السيرة، فما يبدو من غياب هذا المصطلح في التراث الإسلامي لا ينبغي أن يؤثر علينا في تقدمنا في محاولة فهم إمكان إقامة علاقة وثيقة بين هذا التراث وما يُعرف بالديمقراطية اليوم.

إن الَمْعَلم الأول فيما أراه للتلاؤم بين الثقافة السياسية الإسلامية والثقافة الحديثة والديمقراطية: مسألة حكم القانون أو حدود سلطة الحاكم "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وأمثلة ذلك: أنه عندما كان السلطان يستقبل مجلس الدولة رأس العام الهجري كان يظل جالساً حتى يدخل المفتي أو القاضي وهما رأس القانون، هما المؤسسة التي تنفذ الشريعة وتشرف على حراسة الشريعة كان على السلطان أن يقف لاستقبالهما ليس لشخصيهما وليس لأنهما أكبر موظفي الدولة بل احتراماً للشريعة.

الأمر الثاني عندما كان السلطان العثماني يستقبل الناس أثناء مبايعته عندما يكون سلطاناً جديدا كان هناك أناس موكلون بأن يصرخوا في وجهه "لا تتكبر، الله أكبر" يعني أنه تحت سلطة الله عز وجل وتحت سلطة الشريعة وتحت سلطة القانون، وأن صلاحياته ليست مطلقة: "لا تكن مغروراً لا تكن متكبراً الله أكبر".

والنقطة الثانية في المسألة التي نتحدث عنها، هي الطبيعة التعاقدية للسلطة في الإسلام، والتي تبدو من خلال البيعة العامة التي تكسب الحاكم شرعيته والتي لا يكون شرعياً بدون الحصول عليها الأفضل ترجمتها إلى العربية بـ"العقد التبادلي" الذي يجري بين الحاكم والمحكومين، وتترتب عليه نتائج وواجبات على كل منهما. في الحقيقة لا يعرف الفقه الإسلامي مسألة حقوق الناس وسلطة الناس، بمعنى أن له حق، مثلما هو معروف في الأنظمة الغربية، في تطور الأنظمة الغربية وهو يتعلق بالحقوق الإقطاعية القديمة. ولكن التكاليف هذه التي تعتبر واجبات على الحاكم والمحكوم طبعاً تختلف ما هي واجبات الحاكم وما هي واجبات المحكوم وكل مكلف بالقيام بها. وأرى أنها تؤدي نفس المعنى الذي تؤديه نظرية الحق عند الغربيين.

العنصر الثالث في نظرية السلطة في الإسلام هو "الطبيعة الشوروية والاجماعية"، فمصطلح "الشورى" يواجه مصطلح "الاستبداد"، فيمكن القول إن الحكم في العصور الإسلامية الوسيطة كان حكماً قوياً أو حكماً يتسم بالقسوة، لكن لا يمكن القول إنه كان طغياناً أو ديكتاتورياً بالمعنى الغربي للطغاة والديكتاتوريين؛ بل الظواهر التي نراها سواء في المشرق أو المغرب هي ظواهر الطغيانية والديكتاتورية؛ وهي ظواهر جديدة، بمعنى أنها عرفتها الممارسة الغربية ثم استوردت منها ليس هناك فقط طبيعة شوروية، فهناك أيضاً سعيٌ حثيث عن طريق الشورى للوصول إلى إجماعات في القضايا الكبرى، ومعنى ذلك أن كل فرد مسلم يشارك في السلطة، ولأن الإجماع إنما يتحقق عندما تصبح هناك أكثرية ساحقة مع القرار الكبير، فالشورى هي عملية تتحقق باستمرار وليس أمراً يتحقق مرة واحدة، وهذا دليل على أن هناك عملية سياسية تشمل كل الناس وتشارك فيها الأكثرية الساحقة من الناس في السلطة.

طبعا هناك بعض العناصر التي لا نجدها في التراث السياسي والثقافي الإسلامي والتي يمكن طبعاً الإفادة فيها من الغرب، ومنها مسألة التمثيل من خلال فئة محددة أو مجلس محدد بحيث يمثل المواطنين، أو فئة منهم من خلال تنظيم خاص، أو من خلال تنظيم شامل يمثل الأمة مثل البرلمانات هذه الفكرة ليست موجودة في التراث السياسي الإسلامي، ولا يمكن القول بأن من يعرفون بأهل "الحل والعقد" يمثلون نوعاً من القوة التمثيلية؛ لأنهم غير محددين ولأنهم لا يدّعون ذلك لأنفسهم ولا يدعون أنهم يمثلون الإسلام، ولا يدعون أنهم يمثلون الناس.

المسألة الأخرى المهمة والتي لا نجد لها أثراً يذكر في التراث السياسي الإسلامي، هي مسألة الأكثرية، فالمسلمون يفضلون الوصول إلى الإجماع عن طريق الشورى ولا يقتنعون بأن الأكثرية كافية، مع أنه لا يمكن في السياسة الوصول إلى الإجماع ولا حتى في المجال الديني، ولذلك ظلت فكرة الأكثرية فكرة ضعيفة، إلى أن صارت الآن أساس للحكم الديمقراطي. هناك مسألتان إذن، التمثيل والأكثرية في سبيل إقامة حكومة ديمقراطية ينبغي أن يفيد منها المسلمون وقد بدأوا يفيدون منها من طريق الاقتباس من المؤسسات الغربية، وهكذا نرى أن الإسلام ليس عنده معاداة للديمقراطية بل على العكس، فالثقافة الإسلامية تنصر مبادئ ديمقراطية أساسية فيما يتصل بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم.

وفيما يتعلق بطبيعة السلطة فجميعها أمور منفتحة ويمكن استناداً إليها الوصول إلى حكم ديمقراطيي أو شوروي، فالتراث الإسلامي لا يشكو من شيء لهذه الناحية أيضاً.

***************************

*) أستاذ دراسات الشرق الأوسط بجامعة برنستون سابقاً، وأحد كبار المتخصصين في التاريخ الإسلامي.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=176

الأكثر مشاركة في الفيس بوك