مفهوم الحب الإلهي في المنظور الروحي الإسلامي
د.صبري محمد خليل
تعريف مفهوم الحب لغة واصطلاحا : الأصل اللغوي لمفهوم الحب هو ( نقيض البغض . والحب: الوداد والمحبة…). أما اصطلاحا فقد تعددت تعريفات المفهوم . والتعريف الذي نأخذ به هو تعريفه بأنه شكل من أشكال التوحد النفسي، بين فرد وأخر يجسد المثل العليا التي يسعى لتحقيقها في الواقع ، هذا التعريف قائم على أن حركه الإنسان هي فعل غائي ، والمثل الأعلى هو غاية تتصف بالثبات ، وبالتالي لا يمكن تجاوزها، وهنا يجب التمييز بين نزعه التملك كغريزة ذاتيه (أنانيه) والحب كعاطفة ذات بعد غيري ..وهذا التعريف ينطلق من فكره مضمونها أن الحب انفعال ايجابي يمثل احد مكونات احد أبعاد الوجود الانسانى المتعددة، وهو البعد العاطفي/الانفعالي/الوجداني.
موقف الاسلام من مفهوم الحب:
تعريفه عند علماء أهل السنة بأنه ميل طبيعي: وقد اقر الإسلام الحب كانفعال ايجابي يمثل احد مكونات احد أبعاد الوجود الانسانى المتعددة، وهو البعد العاطفي/الانفعالي/الوجداني ، واتساقا مع هذا فانه رغم اختلاف علماء أهل السنة في تعريفهم للحب ، إلا أن تعريفاتهم اشتركت في وصفه انه ميل “طبيعي”، فقد عرفه القرطبي بأنه ميل لما فيه غرض يستكمل به الإنسان ما نقصه، وسكون لما تلتذ به النفس وتكمل بحصوله ، وعرفه الرازي بأنه الشهوة وميل الطبع ورغبة النفس، وعرفه القاضي عياض بأنه الميل لما يوفق المحب ، وعرفه الإمام الغزالي بأنه ميل الطبع إلى الشيء الملذ، فإن قوي ذلك الميل وتأكّد سمي عشقاً.
الاتساق مع الإقرار بالمشاركة كسنة إلهية تضبط العلاقة بين الناس:وهذا الإقرار يتسق مع اقرار المنهج الاسلامى بالمشاركة كسنة إلهية تضبط العلاقة بين الناس ،والتى عبر القران عنها بمصطلحات ايجابيه كالتأليف(واذكروا نعمه الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا )(13: آل عمران) والتعاون( وتعاونوا على البر والتقوى )(2: المائدة)و الموالاة (المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)(7: التوبة) . أما الصراع بين الناس فيوجد طبقا للمنهج الاسلامى عند تعطل فاعليه المشاركة كسنه إلهيه ، لذا عبر عنه القران فى كثير من المواضع بمصطلحات سالبه منها العداوة والبغضاء( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء)(91: المائدة) والعدوان(ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (2: المائدة).
ضوابطه التكوينيه والتكليفيه: ولكن إقرار الإسلام بالحب مشروط بضوابط تكليفيه وتكوينيه ، ا/الحب في الله والتجرد من المنفعة : ومن أهم هذه الضوابط أن يكون الحب في الله ، اى أن يكون مجردا من المنفعة الحسيه والمادية المباشرة ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم (أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله)(الطبراني.) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)( رواه البخاري ومسلم.).
ب/الشمول: كما دعي الإسلام إلى ضرورة أن يتصف الحب كانفعال ايجابى بالشمول ، حيث قرر أنماط متعددة من الحب ومنها: حب الله تعالى كما فى قوله تعالى(قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)(التوبة (24)، وحب الرسول (صلى الله عليه وسلم ) كما فى قول الرَسُولُ (صلى الله عليه وسلم) (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»(البخاري ومسلم واللفظ له) ، و حب الوطن كما فى قول الرسول ( صلى الله عليه وسلم) عن مكة(ما أطيبَك من بلد! وأحبَّك إلي! ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك)(الترمذي) ، وحب الزوجة كما في قوله تعالى (وجعل بينكم مودة ورحمة)، وكما فى الحديث : قال عمرو بن العاص رضي الله عنه : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «عائشة»( الترمذي) ، وحب الاصدقاء والأصحاب كما في قول الرسول ( صلى الله عليه وسلم) (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه(
الحب الالهى اعلي درجات الحب: فحب الله تعالى – الذي عبر عنه الصوفية بمصطلحات “الحب او العشق الالهى” هو احد أنماط الحب”الانسانى” المتعددة وأعلاها درجه.
أدلته: وقد أشارت إليه العديد من النصوص ومنها: قال تعالى(قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)(التوبة (24) ، وقال تعالى( فسَوْفَ يَأْتي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلى الْمُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلى الْكافِرينَ ” ، وفي الصحيحين (ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما) ، وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه في الرجل الذي جاء يسأل عن الساعة(غير أني أحب الله ورسوله).
تعريفه : والحب الالهى يختلف عن الأنماط الأخرى للحب الانسانى لان موضوعه الخالق وليس المخلوق ، وهو مرتبط بالغائية التي مضمونها اتخاذ الله تعالى غاية مطلقه ، فهو متصل بمفاهيم قرانيه كمفاهيم الاستخلاف والعبادة… فمضمون المفهوم الأول إظهار الإنسان لربوبية وإلوهيته الله تعالى في الأرض ،على المستوى الصفاتى، على وجه الاختيار، وهو ما يكون بالعبودية والعبادة، يقول الالوسى ( فلابد من إظهار من تم استعداده وقابليته ليكون مجليا لي ومراه لاسمائى وصفاتي)( روح المعنى،ص223) ، وإظهار صفات الالوهيه يكون بتوحيد الالوهيه والعبادة، ولهذا المفهوم معنى خاص ومعنى عام ، ومضمون الأخير كل فعل الغاية المطلقة منه الله تعالى يقول الإمام ابن تيميه ( العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة) (رسالة العبودية ، ص 38) .
الحب الالهى يحدد ولا يلغى أنماط الحب الأخرى: والحب الالهى اى حب الله تعالى لا يلغى الأنماط الأخرى للحب الانسانى، بل يحدده كما يحدد الكل الجزء فيكمله ويغنيه ولكن لا يلغيه يدليل اشاره النصوص إلى الأنماط المتعددة للحب الانسانى كما اشرنا أعلاه،والنصوص لم تنكر هذه الأنماط المتعددة للحب- لأنها ميل طبيعي – ولكنها أنكرت تقديمها على الحب الالهى، قال تعالى(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)..
الحب الالهى فى التصوف الاسلامى:
تعدد التعريفات: قدم المتصوفة تعريفات متعددة للحب الالهى: قال داود الطائي ( المحبة : هي دوام ذكر المحبوب ) . وقالت رابعة العدوية ( المحبة : موافقة الحبيب في المشهد والمغيب) و.قال ذو النون المصري (المحبة : هي أن تحب ما أحب الله ، وتبغض ما أبغضه الله تعالى ، وتفعل الخير كله ، وترفض كل ما يشغل عن الله ، وأن لا تخاف في الله لومة لائم ) . وقال سهل بن عبد الله التستري ( الحب : هو الاقتداء بسنة النبي ) .وقال الحسين بن منصور الحلاج ( المحبة : لباب الأشياء ، ولا تسكن إلا في لباب القلوب ، والإخلاص هو لباب اللباب) . وقال أبو بكر الشبلي ( المحبة : السرور بما يسر المحبوب ، والموافقة لما يوافق المحبوب ) .وقال الإمام أبو حامد الغزالي( المحبة لله : هي الغاية القصوى من المقامات ، والذروة العليا من الدرجات ، فما بعد إدراك المحبة مقام ) .و قال عمر السهروردي ( المحبة : هي حالة تصطلم ولا تنصرم ، تأتي بغتة وتغب غبة ، تجلب الغيرة وتورث الحيرة “. وقال ابن عربي ( الحب : هو ما استخرج من محض الحياة والبقاء ) .الحب و محبة الله عند الصوفية موقع التعرف على التصوف,
بين الحال والمقام: وقد اختلف الصوفية فيفى الاجابه على السؤال : هل الحب الالهى حال (الأحوال تمثل الدرجات الذاتية للترقي الروحي ، متمثله في الأنماط الانفعالية والمعرفية ، التي تجئ كمحصله لالتزام الإنسان بمجموعه من القواعد التي تحدد للإنسان ما ينبغي أن يكون عليه وجدانه وتفكيره) أم مقام (المقامات تمثل درجات الترقي الروحي الموضوعية، متمثله في الأنماط السلوكية، التي تجئ كمحصله لالتزام الإنسان بمجموعه القواعد ، التي تحدد له ما ينبغي أن يكون عليه سلوكه ) ، فقرر السراج الطوسي في اللمع، والهجويري في كشف المحجوب انه حال ، بينما قرر القشيري في الرسالة والغزالي في الإحياء انه مقام ، ونرجح أن الأصل في الحب الالهى انه حال- وان ترتب عليه مقامات – انطلاقا من تعريف الحب بانه توحد “ميل- انجذاب”نفسي.
الاختلاف في تحديد طبيعة الحب الالهى: وقد اتفق أعلام التصوف السني على أن الحب الالهى هو توحد نفسي “ذاتي” اى مجرد ميل أو انجذاب –وليس توحد “موضوعي” بين الوجودين الانسانى والالهى ،وان ما يترتب عليه هو القرب بالمفهوم الشرعي”واسجد واقترب” اى الظهور الصفاتى المقيد- حيث أن الظهور الذاتي مقصور على الاخره . ولم يقرر ان الحب الالهى هو توحد ” موضوعي ” بين الوجودين الانسانى والالهى إلا أنصار التصوف البدعى (القائم على مفاهيم أجنبيه كالحلول والاتحاد ووحده الوجود)
مفهوم الحب الالهى عند ابن القيم: ولم ينفرد الصوفية بتناول مفهوم الحب الالهى ، بل تناوله العديد من العلماء من خارج التيار الصوفي، وعلى سبيل المقال لا الحصر تناول الإمام ابن القيم المفهوم خلال تحليله لحال المحبة ، فقال ان المحبة هي ” المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون واليها شخص العاملون والى علمها شمر السابقون وعليها تفانى المحبون..)( مدراج السالكين : 3/ 807)،وأشار إلى لوازم المحبة وهى:1- توحيد الله وإفراده بجميع أنواع العبادة… 2-موافقة الله في إتباع ما يأمر به واجتناب ما ينهى عنه… 3- محبه القران الكريم …
مفهوم الحب الالهى عند ابن تيميه: أما الإمام ابن تيميه مفهوم فلم يرفض مفهوم الحب الالهى جمله وتفصيلا – كما فهم البعض خطا – بل اقر بالمفهوم مع وضع ضوابط شرعيه له ، فقرر في رسالة «قاعدة في المحبة» بأن أصل كل فعل وحركة في العالم من الحبّ والإرادة، فالحبّ أصل كل فعل ومبدؤه.فكل شخص لا يفارق الحبّ والإرادة ، لكن هذا الحب المشترك أو المحبة المطلقة لا توجب مدحًا، ولا تقتضي ثوابًا. فالمحبة قد تكون أعظم أشرف المقامات، وقد تصير إلى أخسّ الحالات، ، فالطبع الإنساني في الحب والإرادة ينبغي أن يكون متّسقًا ومنضبطًا بالشرع الإلهي. ولذا قال ابن تيمية: «كل محبة وإرادة لا يكون أصلها محبة الله وإرادة وجهه فهي باطلة فاسدة». كما إن محبة الله عند ابن تيميه ليست مجرد وجدان لا يتجاوز الفؤاد، أو عاطفة لا تغادر اللسان، فهناك تلازم بين المحبة القلبية وعمل الجوارح، والملازمات بين الباطن الظاهر( مختصر الفتاوى المصرية ص102 )، وأن المحبة التامة تقتضي عملًا ظاهرًا، وتوجب فعلًا واقعًا. وأخيرًا يقرر ابن تيميه إن علو الهمّة والترقي في منازل محبة الله تعالى لا يعارض المحبة الجبلية الجائزة بل يتفق معها، حيث يقول( وكذلك الذي يحبّ الطعام والشراب والنساء فهذا محدود، وبه يصلح حال بني آدم، ولولا ذلك لما استقامت نفس الأنساب، ولا وُجدت الذرية، ولكن يجب العدل والقصد في ذلك، كما قال تعالى” وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا” ، وكما قال تعالى” إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ” ) (مجلة البيان العدد 333 جمادى الأولى 1436هـ، فبراير – مارس 2015م)