تعايش الثقافات- والقيم الإنسانية
تعايش الثقافات- والقيم الإنسانية
هارالد موللر/ ترجمة: إبراهيم أبو هشهش*
القسم الأول: نقد
1- عالم هنتنغتون
البشر خائفون؛ فالحياة بضاعة هشة عرضة للعطب ومحفوفة بالمخاطر، وهذا ينطبق بشكل أكبر على الرفاه، والأمان الاجتماعي، والاستقرار الثقافي والهوية. إن الناس في حاجة إلى هوية، فهم يريـدون أن يعرفـوا مـن هم ولأية جهة ينتمون. والهوية تعني رسم الحدود: شخص ما موجود وشخص ما آخر لا وجود له. وفـي أزمان الانطلاق والأزمات والشدة يلتقي هذان الإحساسان الرئيسان معـاً: يتنامى الخوف وتغدو الحدود أكثر أهمية، ويصبح البحث عن عدو أو كبش فداء حاجـة أساسيـة، وهـذه الحاجة تتجـه بعناد نحو "الآخر". إنّ الأعداء يشكلون تهديداً مروّعـاً بيد أنّ هناك أيضاً حنيناً لا يقـل ترويعاً إليهم، وخصوصاً في الأوقات السيئة.
من هذه الثغرة يندفع "صراع الثقافات"، فمع أن العالم الغربي أصبح أكثر أمنا بعد فقدان العدو العملاق: الشيوعية/الاتحاد السوفيتي، إذ لا حرب تتهدد هذا العالم، ولا صدامات نووية تقف مباشرة عند أبواب البيوت، إلاّ أن الحياة والعالم الاعتيادي لم يغدوا أكثر أمناً، فقد تصدّعت أمور كثيرة، ولم يحدث ذلك مـن خلال انتهاء أزمة الشرق - الغرب نفسها، ولكن من خلال العملية ذاتها التي أدت إلى هذه النهاية؛ التشابك العالمي المتنامي للاقتصاد، والتسارع التجاري المالي، والتدفق الاتصالي المرتبط به، ومن ضمن ذلك أيضاً حركات الهجرة الكبيرة. لم تعد الحياة اليومية مثلما كانت عليه سابقاً، وبات المستقبل غامضاً، وفي ذلك لا يمكن أن يقع الذنب على الاتحاد السوفيتي.
هنتنغتـون يقـدم التوجيه: إن التاريخ العالمي يدفـع الآن -بعـد القوميات والأيديولوجيات- الثقافات بعضها ضدّ بعض. إِنَّهُ يتحدث عن "حضارات" وهو ما يفضل التعبير الأنجلوسكسوني تسميته بـ"الثقافات". وهذه (الثقافات) سوف تؤلف المجموعات المتعادية مستقبلاً. بل إن ذلك يجري أساساً في الوقت الراهن. وفي الأفق يتهدد التحالف الإسلامي - الكونفوشيوسي كُلّ شيء غربي. وبدقـة ألمعيـة يتوحد هاهنا "الخطر الأصفر" مع "الأتراك على أبواب فيينا"، وهذان معا يشكلان صدمة نفسية عميقة التجذر في الذاكرة الجمعية للشعوب الغربية.
إن "صراع الثقافات" يتبع إذن مشروعاً طموحاً جداً، فهو يحاول أن يشرح لنا الطبيعة الداخلية جداً للعالم اليوم وغداً؛ مـا الذي يدفع الغالبية العظمى من البشر للتصرف، بل وفي الواقع - للتفكير، وهذا - حسب هنتنغتون - يشكل تطور وحدود التراكم الأكبر للبشرية الموجود على الأرض، أي الثقافات التي تشكلت من خلال التقارب التاريخي، والقيم المشتركة، والأساليب الحياتية، وتصور العالم، وطرائق التفكير الاجتماعية والسياسية. ومـن المثيـر أَنَّهُ (هنتنغتون) يجمّع ثقافاته العالمية حول الأديان، وبالنظر إلى اتجاهات العلمانية في الكثير من بقاع العالم، فإن ذلك يبدو مفاجئاً، ولكن هنتنغتون يدفع بهذا الإلغاء للألوهـة فـي المجتمعات الحديثة جانباً، ويتمسك بالأصولية الدينية بصفتها الاتجاه الأهم والأكثر حسماً، وهذا قرار إشكالي، وفي ضوء ذلك يميّز:
· الثقافة الغربية المسيحية في أوروبا، وأمريكا الشمالية، وأقيانوسيا.
· الأرثذوكسية المسيحية في العالم السلافي - اليوناني.
· الإسلام الذي يمتد على شكل قوس من وسط أفريقيا عبر الشرق الأوسط حتى وسط آسيا وأندونيسيا.
· الثقافة الأفريقية مهما كانت.
· الثقافة الهندوسية للهند.
· الثقافة اليابانية.
· الثقافة الكونفوشيوسية للصين ومحيطها الجنوب أسيوي.
ولم يحسم هنتنغتون رأيـه فيما إذا كانت أمريكا اللاتينية مستقلة ثقافياً أم أَنَّهَا تابعة للثقافة المسيحية - الغربية.
لقد استطاعت الثقافة الغربية من خلال التقدم التقني، والتطور الاقتصادي، ومن خلال هيمنة دولها ووسائلها العسكرية أن تنتزع لنفسها المركز الأفضل في العالم، ولكن هذه المرحلة تتجه نحو نهايتها، فالآخرون يلحقون ويسبقون: ستتفوق أسيا على الغرب، وسوف تصبح الصين القوة الاقتصادية العالمية العظمى في القرن الحادي والعشرين. بينما تثير الإمبريالية الغربية حفيظة بقية العالم، وهذا ما بدأ يعبّر عن نفسه، الآن في شكل أصوليين ونقد شديد لنظام القيم الغربي. إن الهجوم المضاد على الثقافة الغربية يتعاظم أكثر كلما ازداد ميزان القوى رجحاناً لصالح الآخرين.
إن النبض المعادي للغرب يزداد تعاظماً في قوته بشكل ملحوظ من خلال التطورات الديموغرافية، ففي كل مكان يتزايد النمو البشري بشكل أقوى مِـمَّا عندنا. فقد بلغت معدلات النمو السكاني في أفريقيا والعالم الإسلامي 3 % وأكثر، وهناك، فإنَّ الأغلبية تحت سن الخامسة والعشرين، ولا يقدم العجز في موازين التطور لهؤلاء الشباب المقتلعي الجذور أي منظور؛ إنهم محبطون وفي صدد البحث عن جهة يفرغون عليها إحباطهم، والدعاية المعادية للهوية الثقافية الغربية تقدم لهم العون في إيجاد مكان لهم في الحياة. إن أفراد هذا الجيل اليافع أكثر استعداداً للحرب والعنف منهم لأن يكونوا أرباب وربات بيوت معتدلين. وهم لذلك يقدمون حقلاً مثالياً لتجنيد الأصوليين الثقافيين، ومن هناك يتم تعبئة طاقة عالية معادية للسياسة الغربية، وفي كل مرة تتجمع الثقافات حول دولة مركزية: الولايات المتحدة الأمريكية، وبشكل مفاجئ حول أوروبا التي لم تتشكل بعد كدولة في الغرب. والصين في الثقافة الكونفوشيوسية التي سوف تنضم إليها اليابان سواء أرادت أم لـم ترد. وفي الهند تتطابق دائرتـا الثقافة والدولة دون هذا وذاك معاً. افريقيا والإسلام يظلان بدون قوة مركزية. وفـي هذه الحالة "ينصح" هنتنغتون المسلمين باجتهاد بـأن ينتخبـوا تركيا دولة قيادية. ولهذا يجب رفض الطموح الأوروبي لأنقرة بصورة نهائية، وينبغي أن تحظى (تركيا) بنعمة إعتاقها من حلف الناتو.
يرى هنتنغتون أن الثقافات متجسّدة في القوى المسيطرة ذات الصّلة ومقودة منها سوف تتصادم، ومنذ الآن تبدو مجالات الاحتكاك، فالدول المتعددة الثقافات مثل البوسنة والسودان وماليزيا وأندونيسيا تظهر فيها تصدعات داخلية تصل حدّ الحرب الداخلية العنيفة، بينما يظهر الإسلام "حدوداً دامية"، ويبدو التقسيم كأنه الجواب الوحيد الـذي يؤسس للحل السلمي. كفى للتعددية، يجب إقامة دول ذات نقاء ثقافي. كفى للتبشير عبر الحدود سواء كـان ذلك يتعلق بالدين الخاص أو بالمكاسب الثقافيـة أيضاً مثل حقوق الإنسان، والفصل بين الدولة والمعتقد الديني، أو تحرير المرأة. إنّ سياسة متبادلة لوضع الحدود تتجنب مواجهة تداخل الثقافات ومجالات الاحتكاك يمكنها فقط أن تصد مواجهة كونية وخيمة العواقب. وإلاّ فإن هنتنغتون يرى كابوس التحالف الكونفوشيوسي - الإسلامي ضد الغرب قادماً: حرب ثقافية بسبب التناقضات العنيفة، والنزاعات الإقليمية المتنوعة، والانتشار المتزايد باستمرار لأسلحة الدمار الشامل الذي يمكن أن يؤدي في النهاية إلى صدام نووي: إنه سيناريو رعب لا يدع مجالاً للأماني، ولا يترك سوى فسحة ضئيلة للأمل.
بعد هذا التشخيص القاتم يفاجئنا الفصل الأخير من كتاب هنتنغتون وبلا مقدمات بمرافعة عن تعاون ثقافي عالمي تناقض بشكل واضح ما سبق عرضه. هل ذلك مناورة تكتيكيـة لاصطيـاد الأجنحـة الليبراليـة بيـن القراء؟ أم ينطلـق هنـا العقل البراغماتي ضد دوغمائية نموذج جامد للتفكير؟ على أية حال، فقد كان ديتر زينغهاز (Dieter Senghaas) محقاً حينما لاحظ عرضاً أن الأمر يتعلق ببرنامج توفيقي لا يستطيع المرء أن يأخذه على محمل الجد إذ اتبع تحليلاته العبوسة(1).
تأويل العالم وواقع العالم
هذا هو إذن تأويل العالم بعد انتهاء نزاع الشرق - الغرب، وعلى المرء أن يُعجب به على أية حال، فهو يعطي من النظام لعالمنا الفسيفسائي المعقد المعاصر ليس أقل مِـمَّا أعطاه التقسيم القديم للعالم إلى قسمين هما: عالم الحرية، والشيوعية. وهذا التبسيط هو المعنى والجدوى اللذان يقدمهما، ولكننا للأسف ندفع ثمناً باهظاً مقابل ذلك، فتأويل العالم هذا لا ينسجم مع تفاصيل لا حصر لها للواقع العنيـد المشاكس الذي يهدف (هذا التأويل) إلى تنظيمه. وبتعبير أقل مجاملة: إِنَّهُ يحتوي على أخطاء إمبيريقية كثيرة، وهذا يقود إلى شك حاسم فيما إذا كان هذا البناء الفكري الذي تتسبّب علاقته بالواقع في إثارة نقد عنيف - يمكن أن يكون نافعاً لنا بالفعل. وبوسع التاريخ أن يقدم الكثير من الأمثلة عن النظريات الأنيقة التي قادت منظريها وممارسيها مباشرة أو بطرق ملتوية إلى التهلكة، فقد تمّ الانتهاء للتو من دفن الماركسية اللينينيّـة. وهنا بعض الأمثلة من الملاحظات الضالة والمشوّهة التي وقع ضحية لها مبدع التأويل الجديد للعالم:
مثال أوَّل: يتحدث هنتنغتون عن "الحدود الدامية للإسلام"، ويحاول أن يدعم هذه الفرضية إحصائياً، فهو يرى أن من بين واحد وثلاثين نزاعاً عنيفاً بين فريقين أو أكثر من الثقافات المختلفة، هناك واحد وعشرون - أي الثلثان - يشارك فيها طرف مسلم (2). وهذا يشير -بشكل مباشر تماماً- إلى أن الإسلام ثقافة ميّـالة للعنف بشكل خاص. ولو تأمل المرء قليلاً في هذا الأمر فإنه سوف يجد أن المقاتلين المسلمين بحاجة دائماً في كل نزاع متداخل الثقافات إلى خصوم غير مسلمين. وبهذا التأمل يستطيع المرء أن يقرأ هذه الإحصائية من جديد على النحو التالي:
مـن بين اثنين وستين فريقاً يشتبكون في صدامات عنيفة بين الثقافات هناك واحد وعشرون -أي الثلث- من الدول أو الجماعات ذات الأصول الإسلامية. وهذا لـه وقع مختلف في السمع. ولو ألقى المرء نظرة على الأطلس وكلّف نفسه، النظر بصورة كافية في الحدود التي تفصل بين الثقافات، فإنه سوف يكتشف أن الإسلام يمتلك حدوداً خارجية أكثر بكثير من أية ديانة أخرى، وهذا يعود إلى أن البلدان والشعوب الإسلامية تقع محشورة مثـل الجبن في الشطيرة بين ثقافات عالمية أخرى، في حين يشكـل البحر حماية لأجزاء كبيرة من أجنحة (الثقافات) الأخرى، فالثقافة اللاتينية ليس لها سوى حد أرضي واحد مع الآخرين؛ أي الحدود المكسيكية-الأمريكية. وبكلمات أخرى فإن إحصائية هنتنغتون لا تقول لنا شيئاً لم نكن نعرفه منذ زمن طويل: إن الدول التي تتجاور في حدودها الأرضية تزداد فرص دخولها في نزاعات مشتركة.
إن ميل الإسلام الزائد نحو القتال يتكشف من خلال التأمل الأساسي (الذي ينبغي أن يتوقعه الإنسان من شخص عالم) بأنه حول المعدلات الإحصائية المتوقعة.
مثال ثان: ولكي يدعّم هنتنغتون سيناريو الرعب عن التحالف الإسلامي الكونفيوشيوسي، فإنه يشير إلى مبيعات الأسلحة من الصين وكوريا الشمالية إلى دول إسلامية وفي مقدمتها الباكستان، وإيران، والعراق، وسوريا. ويذكّر كذلك بالتعاون بين الصين وإيران في مجال التكنولوجيا النووية(3). وفـي أثناء ذلك يصمت عن المبيعات الغربية -وعلى رأسها الأمريكية- إلى الدول الإسلامية، والتي لا تشكل مبيعات تلك الدولتين (الصين وكوريا الشمالية) عشرها، فهل يشير ذلك إلى تحالف غربي إسلامي؟ إن الشريك الهام لإيران في مجال التكنولوجيا النووية السلمية اليوم هو روسيا التي تقوم بتجهيز مفاعلين نوويين، وببناء مفاعلين آخرين، والتي التزمت بأعداد كبيرة مـن المشاريع الفردية الأخرى فـي مجال البحوث، فهل يعني هذا تحالفاً أرثذوكسياً - إسلامياً؟ وأبعد من ذلك، فإن التعاون النووي بين الأرجنتين ودول من العالم الإسلامي منتشر؛ فقد زوّدت الأرجنتين الجزائر بمفاعل نووي للأبحاث. وركبت مفاعلاً في مصر، وارتبطت بعقد مماثل مع سوريا. والوقود النووي الأرجنتيني يصدّر للجزائر وإيران. فهل يتهدّدنا حلف " لاتيني - إسلامي "؟.
مثال ثالث: وحسب هنتنغتون فإن الدول الغربية قد تحالفت مع كرواتيا الكاثوليكية في الأزمة البوسنية، بينما قدمت الدول الأرثذوكسية مثل روسيا واليونان الدعم للصرب، في حين دعم العالم الإسلامي المسلمين البوسنيين بشكل واضح. ولكن الواقع هو على النحو التالي: في بداية الصراع وقفت ألمانيا (ذات الأغلبية البروتستانتية) والدانمارك البروتستانتية كذلك إلـى جانب كرواتيا. بينما وقفت الدول الكاثوليكية، فرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا، وإنجلترا الأنجليكانية مـع صربيا. ومع مجرى القتال تغيّرت الميول، فقد بدأ الغرب تحت ضغط الرأي العام بمساعدة المسلمين البوسنيين، وفي النهاية تقرر بعد تردد طويل القيام بتدخل عسكري والمغامرة بنشر خمسين ألف جندي لحماية بقية الدولة المتداخلة الثقافات، والحكم الذاتي الإسلامي. وفي أثناء ذلك اكتفت روسيا بحماية نواة مصالحها الصربية لا أكثر، وأيّدت في البداية استمرار العقوبات الاقتصادية ضد ما تبقى من يوغسلافيا، ولم تحل دون إجراءات حلف الناتو العقابية.
ولو جرت الحرب على نموذج "صراع الثقافات" فإن الدول الغربية والأرثذوكسية لم تكن لتكتفي فقط بدعم مطالب ميلاسوفيتش وتودجان بتقسيم البوسنة والهرسك بين كرواتيا وصربيا، بـل كانت ستطالب بذلك بقوة. وهذا سيكون برهاناً خطير الشأن على فرضية هنتنغتون.
وفي نهاية الأمر نسي هنتنغتون أن يلاحظ أن التقارب اليوناني مع صربيا كان محكوماً بالدرجة الأولى باكتساب حليف ضد مقدونيا الأرثذوكسية كذلك، وهناك وجدت شهية للإقليم ذي الاسم اليوناني المشابـه - مثلما اشتبهت أثينا. إذن فقد كانت تلك إجابة سلبية لـ"صراع الثقافات" أما الأسوأ فهو رسوب نظرية هنتنغتون في أحكامه المسبقة الملازمة حول توقعاته النهائية للحرب: "في البوسنة خاض المسلمون حرباً دامية مشؤومة مع الصرب الأرثذوكس، ومارسوا العنف ضد الكروات الكاثوليك"(4). وهنا تنعكس علاقة القاتل - الضحية بشكل كبير. ولكن هنتنغتون عندما يعرض للحرب، فإن الحقيقة التاريخية تظل منحاة جانباً بسبب الفهم المسبق للـ"إسلام الدموي" إذن: حذار من "النظرية الكبيرة" فمن يضع نظارات زرقاء لا يمكنه إلاّ أن يرى العالم أزرق، وسوف يعتبره بعد مدّة أزرق فعلاً. وهذا لن يقود إلى تشويه للحقيقة إذا كان المرء ينظر إلى السماء في يوم صافٍ، ولكن إذا خفض عينيه نحو الأرض فإنه سوف يندفع بناءً على الحواس في تقولات مغلوطة حول لون الأشياء. وهذا ما حدث مع هنتنغتون في "صراع الثقافات" فالنظارات "النظرية" شوهت رؤية واقع شديد العناد(5).
صورة العالم والحاجة إلى التوجيه
لماذا أصاب الكتاب كل هذا النجاح؟
ليست الأمثلة الثلاثـة التي جرى اختيارها حالات مفردة. ومـع ذلك -فمما لا شك فيه- أن هذا السفر الضخم، فـي نظريته "عن صراع الثقافات"، قد أثار صدى هائلاً وحظي -إضافة إلى ذلك- بقبول واسع. ذكرت مجلة (Foreign Affairs) ذات الاعتبار الرفيع و لسان حال صفوة السياسة الخارجية الأمريكية، أنه لم يسبق لأي إسهام أن أثار من قبل هذا الفيض من التعليقات المنتقدة والمؤيدة.
وفي ألمانيا كانت الاستجابة واسعـة وراج الكتاب رواجاً كبيراً. وأصبح صموئيل هنتنغتـون الضيف الأحب فـي منابـر الحوار والمساجلات، بـل إن البرلمـان الألماني (Bundestag) قد استضافه بصفته خبيراً في السياسة الثقافية الخارجية، والأهم مـن ذلك أن مفهوم "صراع الثقافات" بات جزءاً مـن لغتنا السياسية والثقافية، وهذا صحيح، فقد استطاعت لغتنا أن تطبع تفكيرنا، مثلما باتت هي محدّدة بعوالمنا الفكرية. وكلما ازداد استخدامنا لمفهومات بدون النظر في خلفياتها، أصبحنا من معتنقيها من حيث لا ندري. وهذا الخطر يغدو أكثر تفاقماً كلما ألقى المفهوم شباكه. و "صراع الثقافات" مفهوم ذو استحقاق كوني، فهو يحتوي على تصور للعالم.
لقد وضعت شارات الخطر، وأظهرت الأمثلة السابقة، بشكل كاف، أن النظرية التي تقف من وراء المفهوم تعاني عجزاً خطير الشأن ولا شفاء منه في ميزانيتها، وسيكون من الخطأ أن نبني تفكيرنا وسلوكنا استناداً عليه، فالفحص الدقيق ضروري. وهذا أيضاً جاء نتيجة الدراسة الدقيقة لردود الفعل المختلفة على المقالة والكتاب، وفي مقدمتها تلك القادمة من حقل أو حقول التخصص.
ومثلما سبق القول، فإن الصدى لم يكن -بلا ريب- موافقة بالإجماع بل على العكس، فـإن المختصين في الثقافة والخبراء الإقليميين قد برهنوا على ضلالات عديدة للمؤلف. وهاجم المؤرخون وعلماء السياسة النظرية ومفهوماتها(6). وفي مواجهة هذا النقد المؤسس على براهين يتساءل المرء بجدية عن منبع كل ذلك الإقبال والطلب على هذه النظرية، وعن سبب شعبيتها. وهذا السؤال يعود بنا إلى الملاحظات الاستهلالية، ومثلما سوف يناقش لاحقاً على حدة، فإننا نعيش في مرحلة انطلاق عنيف، في حقبة تحول عالمي لن يترك بقعة صغيرة في الأرض إلاّ سيطالها، وهذا يشمل الدول الصناعية المتقدمة أيضاً. ومثل هذه الحقب التاريخية تتكرر كثيراً.
رفعت باربار توخمان في دراستها التاريخية "المرآة البعيدة" (Barbara Tuchman) أمامنا صورة القرن الرابع عشر الذي تفككت فيه الروابط الإقطاعية، وأزاح الاقتصاد النقدي موارد العيش الاقتصادية، وأخذ كل شيء في الحركة، فسادت أجواء نهاية الزمن، والمذهبية، واصطبغت الحقبة باضطهاد اليهود(7). وفي القرن السادس عشر اتسعت التجارة على شكل قفزات كبيرة، واكتشف الفلكيون أن الأرض ليست مركز الكون، وهزّ الإصلاح البروتستانتي كـل الثوابت الاجتماعية.
وأحدث القرن التاسع عشر -وهو قريب منا بشكل جوهري- انقلاباً تاماً في المجتمعات الغربية من خلال التصنيع والتمدين. لقد أفرزت حقبة الاصلاح البروتستانتي ومعارضة الإصلاح البروتستانتي أصولية مسيحية في كلا المذهبين، وأفرزت الثورة الصناعية القومية والعنصرية.
واليوم يتغير العالم تحت شعار "العولمة"(8)، وهو مفهوم نميّز بواسطته سلسلة من العمليات المتوازية، ومن ضمنها موكب الانتصار النهائي لاقتصاد السوق الرأسمالي. أما الحواجز التي كانت قائمة حتى وقت قصير في شكل اقتصاد الدولة للعالم الشيوعي، وحماية الاقتصاد والوطني ونظام التدخل الذي كان سائداً في القسم الأكبر من العالم الثالث، فقد تمت إزالتها. ووقعت أنماط الاقتصاد التقليدية -بما في ذلك المصانع الحكوميـة الكبيرة- في الخسارة، هذا إذا لم تكن قد انتهت فعلاً.
وتغيّرت جذرياً تلك الطرق التي كان ملايين البشر يدبرون بها أمور معيشتهم، وتضاعفت في الوقت نفسه، سرعة تدفق الرساميل العالمية مرات عديدة، وأصبح التحول في الشروط الاقتصادية من خلال ذلك أكثر قدرة بصورة جوهرية على الجريان عما كان عليه من قبل. أما كيف يمكن أن تتبدل الأحوال بشكل جارف فقد اختبرت هذا سنة 1997 الدول الأسيوية التي كانت قبل ذلك ناجحة نجاحاً باهراً. لقد أصبح من النادر ضمان الأمن الوظيفي ونمط الحياة المعتاد. وأدت المواصلات العالمية، والاتصالات الكونية عبر الوسائط الإلكترونية، والهجرة بعيدة المدى، إلى تماس نظم القيـم بشكل أكثر تكرراً وكثافة، وغدت صور الحياة الموروثة والممارسات اليومية البدهية موضع تساؤل باستمرار.
يـرى بعض المراقبين في إزالة الحدود عن المناطق التي كان النظر يحيط بها من قبل، وبالتحديد الدول القومية ومجتمعاتها أمراً جديداً نوعياً ويشبه أن يكون حداثة ثانية تختلف جوهرياً عن الحداثة الأولى(9) وآخرون -ومن بينهم أنا أيضاً- يرون في العولمة النتيجة المنطقية المترتبة على ما أتى به قبل ذلك انطلاق العصر الحديث مـن العلوم الطبيعية - التكنولوجية ومن اقتصاد السوق الرأسمالي(10).
كلتا وجهتي النظر تتفقان على أن النتائج السياسية والاجتماعية الناجمة عن هذا التحول هي نتائج جبارة، وأن الالتفاف على فقدان الأمن والتحدي اللذين جلبهما هذا التحول ليس أمراً ميسوراً، فإنجاز استقلالية الواجبات الحياتية الذاتية يغدو أكثر صعوبة حينما تكون الهوية، في الوقت نفسه، عرضة للتأرجح، وتكون الأسس المادية للحياة موضعاً للتساؤل(11). وفي مثل هذا الوضع يصبح من المنطقي البحث عن توجيهات جديدة تكون من السهولة بحيث يهتدي بها المرء في هذا العالم الخطر غير القابل للفهم. وأصبحت الخرائط، ومعايير القيم، والإرشادات التجارية مطلوبة، وهذا الطلب يحققه كتاب هنتنغتون بصورة تقترب من الكمال، فهذا النموذج السهل لصورة العالم الذي يقدمه يتخفى وراء كواليس شائقة محدّدة بسمت العلماء، والغوص العميق في صندوق التاريخ وفلسفة الثقافة، وتقديم تفاصيل عديدة من جميع أنحاء العالم عن ظهر قلب، تجعل هذا النموذج الذي ينتظم فيه كل ذلك وخاصة لدى رجل الشارع يبدو قابلاً للتصديق وذائع الصيت. أما الهنات الكثيرة التي ذكر بعضها سابقاً على سبيل التمثيل، فلن تجري ملاحظتها أو أنها سوف تنحّى جانباً، فالحاجة التي يستجيب لهـا الطرح حقيقية وجدية، وهنا يكمن إنجاز "صراع الثقافات" وخطره الشديد في الوقت نفسه.
2- هل نحن بحاجة إلى نظرية عالمية سهلة؟
إن "صراع الثقافات" هو إحدى ثمار العلم الأمريكي من العلاقات الدولية، فكثير من العلماء الأمريكيين يتبعون مثالاً موهوماً يقف على أسرار العلم الطبيعي، ومن افتراضات أساسية قليلة يتم اشتقاق شبكة من العقائد النظرية التي يحدد محتواها بدقة أنها يمكن اختبارهـا على الواقع، وهذه الاختبارات ينبغي أن تؤكد النظريات مؤقتاً أو تنقضها، وجميع الإثباتات لا يمكن إلاّ أن تكون مؤقتة فقط ولا تغلق الباب أمام تجارب مستقبلية يمكـن أن تنقض النظرية. وهذا يتطلب من العلماء والعالمات أمراً صعباً إذ عليهم أن يبذلوا كل الجهود في سبيل دحض فرضايتهم الخاصة، والنظرية التي لا يستطيع عدد كبير من المحاولات نقضها تعد نظرية منيعـة جدا. هكـذا تقطرت "العقلانية النقدية" وفي مقدمتها نظرية العلم التي طوّرها كارل بوبر Karl. R. Popper من تجارب العلم الطبيعي(12).
وبناء على ذلك، فإن النظرية المثالية هي تلك التي تبنى على أقل عدد من الافتراضات الأساسية، ولكنها تقدم أكبر تفسير ممكن، وفـي تسابق النظريات سوف تفوز بالمكانة الأولى تلك النظرية التي تخرج بالمحتوى التفسيـري نفسه، باستخدام افتراضات أقل، فالنظرية يجب أن تكون "مقتصدة". وفضيلة "التوفير" النظري هـذه حملت فـي التاريخ اسم "موسى حلاقة أوكهام"(*)، أحـد المرهصين بالعلم الحديث، الذي أقام له أمبرتو إيكو (Umberto Eco) وسين كونري (Sean Connery) نصباً في "اسم الوردة"(**)، ولسوء الحظ، فإن كثيراً من العلماء الأمريكيين يأخذون فضيلة "الاقتصاد" هذه حرفياً، فهم لا يزيلون فقط ما هو فائض في النظرية بل، وللأسف، كثيراً من التأملات الضرورية للفهم أيضاً.
وفي هذه النظريات والنماذج لا يتم الإلمام بالتعقيد المتزايد للعالم، بل يجري التقليل منه بشكل كبير لدرجة أن كثيراً من المتغيرات والعوامل الهامة ذات الأثر الحاسم في الأحداث السياسية للعالم، يتم استبعادها من مجال النظر.
والمثال الأكثر سطوعاً على هذه الممارسة هو "الواقعية" التي ما تزال الآن كما كانت في السابق نظرية العلاقات الدولية الأكثر شعبية، فهي الإرهاص بنظرية "صراع الثقافات" ومبدأ انطلاقها. والواقعية تفسّر الحدث الدولي انطلاقاً من فوضى النظام العالمي الذي يجري فيه سباق للقوة بين الدول القومية. ونظراً لعدم وجود محكّمين في هذا السباق، لا يبقى أمام الدول من أجل ضمان بقائها في هذا المحيط الموحش سوى الاعتماد على نفسها، وفي سبيل هذا الهدف تتجمع أدوات القوة وتتضاعف: والقوة العسكرية هي الأكثر أهمية هاهنا، وأحياناً تتحالف هذه الدول مع دول أخرى تتهددها المخاطر ذاتها، فتتعاون فيما بينها من حين لآخر، وتنشـأ بينهما علاقات تجارية، وتتفاوض على معاهدات من أجل مضاعفة مصادر قوتها مـن خلال ذلك. ومثل هذا التعاون أمر نادر ومؤقت فقط، فالخطر هو: أن المكاسب التي يأتي بها التعاون يمكن أن توزع بحصص غير متساوية، ولأن هـذه المكاسب هي التي تمثل مصادر القوة فإن كل قسمة غير متساوية تشكل خطراً بالنسبـة للطرف المغبون: والرابح يمكن أن يكون منافساً مستقبلياً يكرس امتيازاته الاقتصادية الحالية لصالح التفوق العسكري فـي المواجهة التالية. وكذلك، فإن التحالفات تصمد فقط ما دامت حالة التهديد قائمة، وحليف اليوم هو عدو الغد.
"الواقعيون" يفسّرون الأحداث الدوليـة جميعها بهـذا النموذج البسيط، وجميـع الدول (في نظرهم) تتبع هـذا المثال السلوكي سواء كانت أنظمة ديمقراطية أو استبدادية أو شمولية، وسواء كانت دول رفاه أو أنظمة حزبيّة متقشفة، والاختلاف فيما بينها هو فـي مصادر قوتها فقط.
وأشكال النظام الدولي، أي تراتبيَّاته وأقطابه، تتكون من كيفية توزيع هذه المصادر بين الدول، وتاريخ العالم يتطور بناء على النموذج التالي: يختل توازن قائم بأن يتزحزح توزيع مصادر القوة فتصبح بعض الدول تبعاً لذلك أقوى، بينما يصبح بعضها الآخـر أضعف، فتتشكل أحلاف جديدة عليها أن توازن هذا الاختلال، وعندما تتقطع جميع الحبال تنشب حرب لتعديل هذا الاختلال في التوازن(13).
إن هذه النظرية تتجاهل السياسة الداخلية والفروق الإقليمية، والمنظمات الدولية، فكل ذلك يسقط ضحية لـ"موسى حلاقة أوكهام"(14). وهنا يبرز فرق حاسم بين هؤلاء المنظرين والعقلانيين النقديين وأصحاب نظرية العلوم الطبيعية الذين عممّوا مبادئ العلوم الطبيعية ومعاييرها، صحيح أن المنظرين الكبار في الولايات المتحدة الأمريكية ابتداء من الواقعيين الجدد حتى هنتنغتون قد تفاعلوا بنشاط مع "موسى حلاقة أوكهام"، ولكنهم أقبلوا بجدية أقل على المتطلبات العالية للنقديين العقلانيين فيما يتعلق بالاختبارات الإمبيريقية. وبدلاً من الجهود شبه الحيادية في دحض فرضياتهم الخاصة، اتبعوا هم سلوك المحامين؛ إذ يجمعون الأدلة المادية الملائمة لصالح موكليهم، ويشيحون النظر بشكل كبير عن القرائن المضادة المزعجة لهم. وبهـذا يظلّ التطور النظري خاليـاً مـن تحليلات توماس كون (Thoma Khun) عن التقدم الذي حصل من خلال "الثورات العلمية"(15). وحسب كون، فإن رؤية العالم -أي النماذج- تدخل في حلقة مفرغة عندما تتراكم بشكل ملحوظ نتائج المعرفة الإمبيريقية التي تبدو بديهياتها متناقضة، وبالتالي يتجاهل العلماء شارة التحذير هذه ويحاولون من ثم أن يلائموا بين النتائج الجديدة وما هو متداول، وأول شيء يفعله هؤلاء العلماء هو أنهم يطورون فرضيات مساعدة عليهـا أن تلائم النماذج السائدة، وأن تقيـم جسراً بينهـا وبيـن التجارب والمعارف غيـر الملائمـة. وكلمـا كانـت جسور الحميـر (Eselsbruecke)(*) هذه ضرورية أكثر، صارت النظرية أقل دقّة. والفرق بين مثل هذه الأبنية النظرية المستندة إلى افتراضات مساعدة ونموذج "النظريات المقتصدة" يدفع في النهاية بعقول جسوره لتغيير الفرضيات الأساسية، ولمحاولة تفسير المعلومات المخالفة على أساس جديد، وحيثما ينجح هذا الإقناع يتغيّر النموذج. وحسب تصور هذا الاتجاه العلمي، فإن دقة اختبارات النظرية في الممارسة هو أساس التقدم العلمي، وحيثما يعطل ذلك ينعدم التقدم، وهذا ما يشكل الحل الأمثل في نهاية الأمر لاتِّباع النموذج القديم. وبذلك يحصن الوضع النظري نفسه، ضد كل إمكانية للتصحيح، وهذا خطر في المقام الأول لأن منظري علم الاجتماع يدعون أنهم يزودون الممارسة السياسية بدفعات ونصائح مساعدة.
والربط بين موسى حلاقة لا يرحم و "اختبارات" إمبيريقية موجّهة ومتصفة بالغفلة والانحياز يقود تلقائياً إلى نظريات معقدة لا يمكن تتبع خللها أو تصحيحه، فما هو غير متضمن فـي النظرية لن يتم السؤال عنه، وما يناقضها -أو ما يدحضها حسب مفهوم بوبر- يجري حذفه، ولا يبقى بعد ذلك إذن سوى طرح خشن مدشن أكاديمياً. إنّ أي تطبيق سياسي يستمد توجيهاته من مثل هذه النماذج سيكون مصدراً للخلاف، وخطراً، وناقصاً، وفي أسوأ الحالات كارثياً.
أجـل، إن التبسيط البالغ يناسب حاجة جمهور متوسط إلى حقائق وتأويلات مبسّطة يمكن مضغها وهضمها تمامـاً. وفي الولايات المتحدة بالذات فإن الهيئـة الأكاديميـة، وخاصة قمتهـا التـي تمثلها، تضع عينها دائماً علـى سوق الكتب الأكثر مبيعاً وعلى برامج المقابلات التلفزيونية (Talk shows) التي تدفع بسخاء. أما الطروحات المعقدة التي تتناول بالشرح الصحيح، ولكن الصعب، التناقض والمصادفة والتنوع والمناطق الأخلاقية الملتبسة في السياسة الدولية، فإنها ستكون عسيرة على هذا المنحنى المتوسط، إن موسى حلاقة أوكهام قد تحولت من حيث لا تدري من كونها أداة علمية صارمة إلى قطعة من عدة يدوية يتم بواسطتها قص خيالات ظلال الصور الجانبية مـن أجـل قاعات مجد الشخصيات الأكثر أهمية.(VIPs).
"نحن" ضد "هم"
النموذج الأساسي لنظرية بالغة التبسيط
تتبع النظريات المبسطة في العادة نموذجاً سهلاً يمكن وصفه بأنه علم سياسة "مانوي". والمانويون وهم أتباع أحد مذاهب العصور القديمة الأخيرة يقسمون العالم إلى قطبين متقابلين، والصراع بين هذين القطبين: النور والظلام، يحدد الأحداث العالمية. ومن خلال الانحياز ينشأ التعارض بين "نحن" ضد "هم". وقد أحضر كارل شميدت (Karl Schmitt) هذا الوضع بشكل لا يجاري إلى السياسة، وهو شخصية متفوقة في تاريخ علم السياسة الألماني، وصف بأنه قانوني التاج للاشتراكية الوطنية (النازية)؛ لأنـه وضع تبريراً أكاديمياً لدولة القيادة. يرى شميدت أن جوهر السياسة يكمن في التمييز بين الصديق والعدو، والبلوغ بهذا التمييز حتى مداه الأقصى، وشحذ الأدوات السياسية من أجل الحرب المحتومة مع العدو هو واجب السياسي في الداخل والخارج. ويعلّق شميدت على دولة القيادة أمر الخروج بسلام من حرب الوجود هذه لأنها من يستطيع فقط المحافظة على تماسك تراتبية شؤون الدولة(16).
وكذلك، فإن الماركسية - اللينينيّـة قد استخدمت نموذج "نحن" ضد "هم" أولاً في شكل صراع للطبقات يحتّمه التعاقب الديالكتيكي لحركات التاريخ وفيه تقوّض الطبقات المسحوقة البناء القديم، ومن الأنقاض تنهض البنية الاجتماعية التالية التي تنقسم في كل مرّة إلى طبقات متناحرة، ومن خلال هذا التناحر فيما بينها يدفع الصراع التقدم التاريخي نحو الأمام. وفكرة الديالكتيك هذه استمدها الماركسيون اللينينيون من الفيلسوف هيغل الذي كان يفهم التاريخ على أَنَّهُ تاريخ العقل، وفي نظره أن المرحلة العالمية من التطور هي توليف من التناقضات السابقة. وعلى العكس من ذلك وُضع المناضلون الطبقيون الماركسيون الستالينيون من أجل سحق العدو. الانتصار الشامل للبروليتاريا يقود البشرية إلى مراقي الشيوعية بعد أن يقضي على البرجوازية نهائياً، وبذلك يحصل التقدم الحقيقي. ومن مذابح النبلاء الروس مروراً بتصفيـة "الكولاك كطبقة" وصولاً إلى غابة كاتين (Katyn)(*) حيث سقطت طليعة ضباط الجيش الوطني البولندي برصاص القيادة التنفيذية السوفيتية. تميّز تطبيق النظرية اللينيية بأثر دام خلّفه وراءه. وقد كان نزاع الشرق-الغرب من وجهة نظر الستالينيين كذلك حرباً بين النور والظلام يجب أن تنتهي بانتصار الشيوعية حتى لو اقتضى الأمر خوضها بالأسلحة الذرية(17).
"تقديس السهولة"
"نحن" ضد "هم" في التاريخ الأمريكي
قياساً إلى الممارسات الدموية للتبسيطيين المروّعين، تبدو الولايات المتحـدة الأمريكية، كقوة عالمية، حتـى الآن أكثـر كرمـاً. والحقيقـة أن التاريخ العالمي لم ينتج إلى هذه اللحظة "سيطرة" تتصّرف بشكل عطوف نسبياً وبمسؤولية كاملة تجاه الضعفاء. وهذا ما يجب أن يؤخذ
بعيـن الاعتبار عند انتقاد السياسة الأمريكية الذي يتبدى في مناطق كثيرة من الرأي العام الألماني، ومع ذلك فإن المانوية تضرب بجذورها عميقاً في الثقافة السياسية الأمريكية وفي تاريخها. لقد وضع مؤسسو الولايات المتحدة وعيهم الجماعي مقابل أوروبا المفتقرة للتسامح، والرجعية، والملكية، والتي مزقها الاضطهاد الديني والحروب الداخلية، باعتبار أن أمريكا هي " القدس الجديدة " فـي وسط عالم من الأشرار. مستوطنون ضد سكان أصليين. دول الشمال ضد دول الجنوب. أمريكا الحرة ضد القوى الاستعمارية الرجعية. هكذا كانت المحطات التي طبعت الوعي الجماعي للتاريخ الأمريكي بطابعها وفيها تجلى مبدأ "We against them" باستمرار. في بداية الأمر كان على كل القوى أن تصب في مواجهة القيصر الألماني، ثـم ضد نسـل الشر هتلر ألمانيا النازية، وتوجـو اليابان الإمبريالية. وهذا أفضى إلى تنامـي الدور القيادي العالمي للأمريكيين الذين نظروا دائمـاً إلـى واجبهم التاريخي بأنه حماية "الخير" -الديمقراطيـة- حقوق الإنسان، مـن "الشر".
نظرية الحرب الباردة
عندما بدأ النزاع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، كـان من المنطقي أن يتحول "العم جو"(**) من حليف للحرب إلى الديكتاتور الأحمر وخليفة هتلر، ومع اندلاع الحرب الباردة تبخر بسهولة الإنجاز عالي الدقة الذي طوّره في عامي 1946 و1947 الدبلوماسي والمؤرخ جورج كينان (George Kennan) بشأن سياسة تحجيم الاتحاد السوفييتي. وحيث اقترح كينان تضافراً معقداً مـن الأدوات السياسيـة والاقتصاديـة، سادت بسرعـة أداة سياسيـة للقوة العسكرية. وبذلك تأسست نظرية الحرب الباردة على سياسة صد تقودها الاستراتيجية العسكرية(18). وهذه النظرية تشكل القدوة لهنتنغتون، فهي "خريطة" واضحة للسياسة الدولية تقدم التوجيه والإرشاد للطريق الممتد.
كيف بدت هذه النظرية؟ لقد انقسم العالم انطلاقاً منها إلى معسكرين: "العالم الحر" بقيادة الولايات المتحدة، والكتلة الشيوعية التي يسطير عليها الاتحاد السوفييتي. وقد انتظم ما تبقى من العالم في هذا النزاع الثنائي. أما الحكومات سليمة النية في "العالم الثالث" التي اتخذت اجراءات تأميم ضد المشاريع متعددة الجنسيـات، والحركات المناهضة للاستعمار، والأحزاب الاشتراكية، فقد صدر الحكم عليها جميعاً بأنها طابور خامس، أو أنها الأحمق النافع للاتحاد السوفييتي. وفي مقابل ذلك، فإن الديكتاتورات الذين عرفوا بعدائهم المتصّلب للشيوعية أمثال فرانكو في إسبانيا، وماركوس في الفيلبين، فقد اعتبروا حلفاء أوفياء. وفيما يتعلق بدول عدم الانحياز التي جهدت في المناورة بين القوتين العظميين فإن سياسة الولايات المتحدة لم تبد أي تفهم تجاهها. وفي أحوال متطرفة فإن المعارضة الأمريكية الداخلية، من اليسار الليبرالي بين أوساط مواطني الولايات المتحدة الذين أظهروا أي شكل من التعاطف مع الشيوعيين في بداية الخمسينات إبان حقبة مكارثي (McCarthy) كانت متهمة وعرضة للاضطهاد السياسي. وقد شمل ذلك صفاً طويلاً امتد من روبرت أوبنهايمر (Robert Oppenheimer) "أبو القنبلة الذرية" حتى همفري بوغارت (Humfry Bogart).
والمنظمات الدولية خضعت أيضاً لنموذج التقييم هذا، فهكذا نظرت الولايات المتحدة الأمريكيـة للأمم المتحـدة بوصفها أداة مفيدة ما دام الغرب والدول القريبة منه من العالم الثالث (وفي مقدمتها دول أمريكا اللاتينية) يحصلون على الأغلبية. وبرهن هذا النفع على نفسه، بالدرجة الأولى في حرب كوريا التي استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها خوضها تحت راية الأمم المتحدة. وبعد ذلك، هيأت موجة إزالة الاستعمار في الخمسينات والستينات لدول عدم الانحياز أن تكون أكثرية في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وحصل بشكل متكرر توافق في التصويت بينها وبين المعسكر الاشتراكي، وحالاً باتت الأمم المتحدة ملعباً للخصم السياسي الدولي، فهبطت مكانتها بشكل جارف في نظر الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا جار حتى يومنا هذا، والامتناع الفاضح من قبل الكونغرس الأمريكي (1997) عن سداد ديون الولايات المتحدة الأمريكية البالغة أكثر من مليار دولار للأمم المتحدة، يكشف عن الكثير.
لقد وجد في الولايات المتحدة الأمريكية دائماً عدد كبير من المحللين المتفوقين القادرين بـلا ريب علـى فهم السياسة العالميـة فـي تعقيداتهـا، وعلـى جعلها مفهومة للآخرين. ولكن صحيح أيضاً في الوقت نفسه، أن التبسيط الثنائي، أي التفكير من خلال نموذج "نحن ضد هم" (We against them)، الخير ضد الشر، يصل تأثيره حتى أعلى مستويات الدوائر السياسية. وكثيراً ما استخدم أحد أكثر الرؤساء الأمريكيين شعبية وهـو رونالد ريغـان تعبيـر "مملكة الشر" في وصف الاتحاد السوفييتي. ولأن تبسيط السياسة الخارجية يبدو جذاباً هكذا للطليعة السياسية فإنه لا يتعلق في نهاية الأمر بخصوصية الثقافة السياسية والنظام السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية. إنه موجه نحو "الداخل"، نحو المجال الهائل لبلد يمتد على اتساع قارة كاملة. فالاهتمام بالعالم الخارجي محدود وكذلك المعرفة به أيضاً. ويجب أن يؤخذ التيار السياسي للانعزالية بجدية، فإذا أراد أحد الرؤساء تعبئة الموارد الهائلة للدخول في حرب عالمية شعواء ضد خصم سياسي دولي، أو من أجل الدور القيادي في عالم يفتقر إلى القيادة، فإن ذلك يتطلب من السياسة الأمريكية الخارجية والأمنية ما اضطرت دائماً لانجازه ضد إرادتها، وهكذا يتوجب تخطي الحواجز الانعزالية، إذْ يجب أن يوضح للمزارع في لوا Lowa ولمربي الماشية في ويمنغ Wyoming وعامل النفط في تكساس، والسكرتيرة في شيكاغو، لماذا يتوجب انفاق نقود ضرائبهم على اهتمامات خارجية بدلاً من الاهتمامات الداخلية، ولماذا يتوجب أن يخاطر جنود أمريكيون بأرواحهم في بلاد نائية لا يعرف أغلب المواطنين عنها شيئاً كثيراً، بل إنهم يجهلون غالباً أين تقع. ومهمة الإقناع الصعبة هذه يمكن التغلب عليها فقط مـن خـلال تبسيطات فظة، من مثل ضرورة التصدي لعدو خطر شرير صعب المراس، أو وجوب التصارع مع "ملك الخواتم"(*). ومثل ذلك ينتشر بين الجمهور الأمريكي محدثاً أكبر الأثر، فلا عجب إذن في أن يتبع البناء النظري لعلم العلاقات الدولية في الولايات المتحدة غالباً "تقديس السهولة" عندما تظهر النظريات هذه البنية المانوية للأقطاب المتنافرة، وعندما تجد مثل هذه النظريات هذا التأييد في أوساط الصفوة السياسية.
الثمن الباهظ للنظريات السهلة
لقد كانت نظرية الحرب الباردة صحيحة وناجحة، وربح الغرب الحرب، هذا ما يقوله أتباع هذه النظرية، ولكن في خضم مغناة الظفر في السنوات الأولى من التسعينات جرى التغاضي عن أن هذا النصر قد كلف ثمناً باهظاً، وأن كثيراً من ضحاياه سقطوا بدون ضرورة ونتيجة للتبسيط الشديد لنظرية الحرب الباردة، وأثار هذا الخطأ ما زلنا نلمسها حتى اليوم (19):
أولاً: نظرت الولايات المتحدة إلى الشيوعية بوصفها كتلة مغلقة ولهذا لم تر في الثورة الصينية سوى تنـامٍ لقوة ستالين، وبقيت المكونات القومية لهذا المركّب مستغلقة عليها، ولذلك فقد اتبعت ضد الصين التشكيل الأكثر صلابة لسياسة الصد. بل إن واشنطن قد هددت فـي أثناء حرب كوريا وأزمة ممر تايوان باستخدام الأسلحة النووية، وهذا ما أصاب جيلين صينيين بعدوى عميقة من عدم الثقـة بالولايات المتحدة وبالغرب عموماً. وظلّ هذا الانطباع مؤثراً بقوة على تفكير النخبة الصينية بتوازن القوى وسباق القوى العظمى في فترة التسعينات. وهذا يجعل من الصعب اليوم تنظيم العلاقات فـي آسيا بصورة سلمية. كما أنّ الولايات المتحدة لم تفهم ولم تقبل حياد الهند وسعيها نحو علاقات جيدة مع الاتحاد السوفييتي، وقد أثقل ذلك علاقاتها بالعملاق الثاني في آسيا حتى اليوم(20).
ثانياً: ولأن الحكومة الأمريكية رأت في الاتحاد السوفييتي كتلة موحدة صماء، فقد أساءت فهم مساعي خورتشوف الإصلاحية في فصل أسلاك التوصيلات الصعبة التي كان القائد السوفييتي يدفع بها مع حلفه السياسي الداخلي ضد الستالينيين. لقد كان خورتشوف معنياً بشكل أساسي بتقليص ميزانيـة التسلح وبجعل الجيش تحت السيطرة، ولكن هذا سقط من نظام تفكير سياسة أمريكا تجاه الشرق. وبإدراك أكثر رحابة كان من الممكن أن يتوقف التوتر في وقت أبكر، وأن يتم تجنب سباق التسلح الذي جرى في الستينات والسبعينات. وفـي تسديد هذه الفاتورة ساهم أيضاً -ضمن أشياء آخرى- مواطنو جمهورية ألمانيا الديمقراطية الذين ظلت حريتهم بعد بناء الجدار مضغوطة تحت سقف الخمسينات(21).
ثالثاً: ولأن حركات التحرر الوطنية ارتبطت بشكل آلي بمعسكر موسكو فقد أساءت الحكومة الأمريكية بعمق فهم شخصية حرب فيتنام، وبدل النظر إليها بوصفها حربـاً توحيديـة وطنية ما بعد كولونيالية لم تر فيها سوى وكيل للمنافس في العمل. وهذا الضلال الأساسي أوقع واشنطن في تدخل عسكري دموي وفاشل ولا ضرورة له، وضعضع صورة الولايات المتحدة في أذهان الشباب في الدول الحليفة للولايات المتحدة ودول العالم الثالث، وشق المجتمع الأمريكي بعمق لدرجة أن آثار هذا الصدع يمكن ملاحظتها حتى اليوم. وكلف آلاف الجنود الأمريكييـن وملاييناً مـن المدنييـن مـن جنـوب شرق آسيا صحتهم أو أرواحهم. وانتهى الأمر بخسارة الحرب. وكذلك، فـإن "عامل حجارة الدومينو" الذي تنبأت بـه النظريـة لـم يحصل؛ فـدول جنوب شرق آسيـا لـم تقع إحداها تلو الآخر ضحية للشيوعية، بل على العكس، إذ تعد تلك الدول -على الرغم من الأزمة الراهنة- من الدول الرأسمالية الأكثر نجاحاً في العالم الثالث، وبدأت فيتنام تتخلّى في أثناء ذلك عن الشيوعية، وتبذل الجهد في محاولة الالتحاق بجيرانها على طريق تطوير اقتصاد السوق(22).
خلاصة:
كان ثمن النجاح المزعوم لنظرية الحرب الباردة مرتفعاً جداً بسبب أخطائها، وعلاوة على ذلك فإن إرجاع الفضل إليها في الانتصار على الشيوعية هو أسطورة. لقد طورت سياسة إزالة التوتر في بداية السبعينات فهماً مختلفاً ودقيقاً للوضع السياسي الدولي، وبعد ذلك فقط استطاعت الولايات المتحدة أن تنتهج سياسة خاصة نحو الصين، وأن تنحي التحجيم العسكري، ومراقبة التسلّح والتعاون الاقتصادي جانباً، وأن تعامل الدول التي كانت مجبرة على التحالف مع الاتحاد السوفييتي بشكل مختلف. لقد عمقت تأثيرات سياسة إزالة التوتر الصدوع في المجتمعات الاشتراكية وفي صفوف الصفوة الحزبية، وجعلت ظاهرة غورباتشوف ممكنة أخيراً بعـد قصة "الحرب الباردة الثانية". وهذا لم يتم بفضل التبسيط الخاص بنظرية الحرب الباردة.
"إذا لم يكن حضارات - فماذا إذن؟ " يسأل هنتنغتون، وحين يواجهه المرء بالمعرفة العلمية المحنكة التي تناقض نظريته، فإنه سيقر صراحة بعـدم وجود طرح يمكنه تفسير كل شيء. ولكن أين يوجد البديل لطرحه الذي يتعهد بأن يفسّر العالم بهـذا التبسيط المجرد من السلاح أو بصورة أفضل؟(23) غير أن هذا الردّ لا يمس جوهر المسألة، فكون النظرية لا تستطيع تفسير "كل شيء" هو أمر تافه. ولكن نظرية تتجاهل جوانب كبيرة مـن الوقائع السياسية الدولية، أو تصفها بشكل مغلوط، أو تقدم تنبؤات خاطئة، هي نظرية غيـر مؤهلة لدخول السباق، ولذلك فمـن العبث البحث عن بديل سهل فهذا لا وجود له، ولا ضرورة أساساً للبحث عنه؛ لأنَّ العالم يمتلك جدولاً كبيراً من النظريات الشبيهة بـ"نحن" ضد "هم" أو نموذج هنتنغتون: " الغرب ضد بقيـة (العالم)" (The West against the Rest)، ومـن ذلك: الأصولية، الداروينية الاجتماعية، الماركسيـة - اللينييـة، الواقعية.. إلخ، التي تمارس جميعها فضيلة "التوفير" على حساب الحقيقة، إنها مبسطة ومغلوطة، وتطبيقها يبدأ ظاهرياً بمبادئ مقنعة حصيفة، وينتهي بتسابق التسلح والحرب والمجازر، إننا لسنا بحاجة إلى مثل هذا النوع من النظريات.
ما الذي ينبغي على نظرية أن تقدمه للسياسة الدولية؟
إذا وقع موسى حلاقة أوكهام في يد حلاق جاهل، فإن ذلك يهدد بأن تفلت منه ضربات قد تسبب جروحاً خطرة على الحياة، أو عند تطبيق رؤية هونتنغتون الخاصة؛ فإن الخريطة المبسطة تكون نافعة فقط إذا كانت مساحة الأرض التي تصورها مما تحيط بها الرؤية، وأي متسلق للجبال يعرف أنه في الأراضي الوعرة ذات الانحدارات الشديدة الخالية مـن الممرات لا يصلح سوى خرائط ذات مقياس رسم 1: 25000، أما المقاييس غير الدقيقة فإنها تفضي إلى حواجز صخرية صماء أو في أسوأ الأحوال إلى الهاوية مباشرة، وذلك لا يختلف في السياسة الدولية بأي حال من الأحوال.
ينبغي على النظريـة أن تكون متناسبـة مع الواقع الذي تصفه وتفسره، وهذا لا يعني بتاتا أن عليها أن تصور كل جزئية من الواقع فذلك سيكون انعكاساً في مرآة، ولكن على المرء أن يطالب بـأن تأخذ النظرية بعين الاعتبار جميع العوامل والمتغيرات التي تؤثر في العمليات الهامة فـي السياسة العالميـة، وهذا لن يتأتى إذا جرى تقليص العالم إلى مقاس قطعي واحد فقط(24).
يجب أن نتوقع أن تكون سيرورات "العولمة" ورسملة الاقتصاد الشعبي على امتداد العالم، والاعتماد المتبادل فـي النظام البيئي، واتساع التدفق الاتصالـي الـذي يتخطى الحدود، مشمولة في ذلك. ويحق لنا أيضاً أن نطلب بأن يتم تقدير المنظمات السياسية، أي الدول ومنظماتها العالمية. وأن يتسع صف اللاعبين ليشمل الوحدات غير الحكومية مثل المشاريع والمنظمـات غير الحكومية على سبيل المثال، وأخيراً يجب أن تحصل العوامل التاريخية ونظم القيم المشروطة ثقافياً على حقها (من الاعتبار)(25).
يجب أن تأخذ نظرية العلاقات الدولية في حسبانها واقعا أن أهم حقيقة في عالمنا الراهن أي "تزامن اللامتزامن" قد استدعتها السيرورة العنيفة للعولمة، والتبسيط والتوفير ليسا حجر الفلاسفة لتحليل السياسة الدولية حتى لو أنتجا سلعة رائجة لمجتمع وسائل الإعلام أو الثقافة السياسية للولايات المتحدة الأمريكية، وهذا سذاجة أكثر منه غير مناسب، فعالم مركب يواجهنا بتحديات بالغة الصعوبة بحاجة أيضاً إلى رؤية مركبة.
********************
12-
*) أوكهام نسبة إلى الفيلسوف الكبير من الاتجاه المدرسي المتأخر ويليام فون أوكهام (William Von Ockham) عاش بين سنتي (1285 - 1350) – المترجم.
**) عنوان رواية شهيرة للكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو.- المترجم.
13-
14-
15-
*) تعبير يقصد به الطريق الملتوية غير المباشرة التي توصل إلى الهدف المنشود، وأصل هذا التعبير أن الحمير ترفض بعناد عبور أي حاجز مائي مهما كان صغيراً، فكان الناس يبنون جسوراً من أجل أن تصل هذه الدواب بما عليها من حمولة إلى المكان المقصود. - المترجم.
17-
*) غابة في بولندا جرى فيها إبادة حوالي (1100) ضابط من الجيش البولندي عام 1940.- المترجم.
**) المقصود جوزيف ستالين - المترجم.
18-
*) كناية عن محاربة قوة شريرة، والإشارة هنا إلى رواية " ملك الخواتم " (Lord of the rings) للكاتب الإنجليزي تولكين (J.R.R Tolkien).- المترجم.