حوار الحضارات في عصر العولمة: العالم الإسلامي والغرب نموذجاً ..

بروفيسور عبد الرحيم محمد خبير

 

لايختلف أهل الفكر في أهمية المكون الثقافي والحضاري في حياة الشعوب..ويرى العديدون أن يقود المكون الحضاري إلى رفاهية البشر وحل إشكاليات التباين الثقافي والسياسي والديني بين الشعوب عبر الحوار الذي دُعي إليه بوجه عام في جوهر كل حضارة من الحضارات القائمة. 

وتجدر الإشارة إالى أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز عاهل المملكة العربية السعودية كان قد أطلق في جلسة مجلس الوزراء السعودي (13 يوليو 2010م) مبادرة للحوار بين الحضارات والثقافات أو بالأحرى بين العالم الإسلامي والغرب ليتم التواصل والتفاهم بين هذه الشعوب. ولا ريب أن أبرز المشكلات التي تواجه الأمة العربية والإسلامية بوجه خاص والدول النامية بشكل عام في الوقت الحالي هي المحافظة على هوياتها الثقافية في ظل عولمة تعمل على نمذجة الشعوب غير الغربية (قيماً ونظماً ومناهج تفكير)، فهل تستطيع هذه الشعوب حماية نفسها من هذا الغزو الثقافي –الإلكتروني حفاظاً على هوياتها القومية؟. وهل بإمكانها إقامة حوار ثقافي مع الحضارة الغربية المهيمنة على مقدرات هذا الكوكب الأرضي؟.

ولعل من من نافل القول ان الثقافة (culture) – بعكس الحضارة  (Civilization) تقتصر على الجوانب المعنوية من النشاط الإنساني وتتصف بالذاتية والنسبية وغير خاضعة للمعايير القياسية الموضوعية. وتتسم العملية الثقافية بالإبداعية والتفرد، ولذلك فهي غير قابلة للانتقال بسهولة من فترة تاريخية لأخرى. والثقافة بوجه عام تتألف من العالم والشخصية الفردية وتتجلى بشكل واضح في الدين والفلسفة والفن والأدب والأيدولوجيا. 

ويرى المفكر الإسلامي مالك بن نبي أن نهضة أوربا التي بدأت بشكل جلي في القرن السادس عشر تعد تركيباً حققه الزمن والأحداث على الحدود بين الثقافة الإسلامية والعالم المسيحي. وحين إتجه العالم إلى إنشاء اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة) في (4 نوفمبر 1964م) كان يهدف إلى إحداث تكامل بين العناصر الثقافية للشعوب لتحقيق (تركيب) ثقافة إنسانية بعيد المدى. ولا مشاحة أن الحربين العالميتين (1914-1918م ، 1939 – 1945م) قد عجلتا في الدفع بإمكانيات خلق إتصال وتعاون بين المجتمعات الإنسانية قاطبة. وحتم ذلك على كل ثقافة ليس فقط إدراك حقيقة مشكلاتها الداخلية والاتصالية بل تجاوز ذلك إلى حقيقة مشكلات أخرى على مستوى عالمي. ولعل الدول العربية – الإسلامية ومنظومة "العالم الثالث" (آسيا وأفريقيا) بوجه عام قد تنبهت إلى ذلك بُعيد إنقضاء عقد من الزمان على نهاية الحرب العالمية الثانية في مؤتمر دول عدم الإنحياز في أندونيسيا (باندونج) في أبريل 1955م. ورغم أن المؤتمر لم ينعقد أصلاً بشأن المشكل الثقافي العالمي، إلا أن الأحداث السياسية المتلاحقة آنذاك عجلت بتحقيق برنامج ثقافي آفرو- آسيوي (محور جاكرتا – طنجة) في مواجهة نظيره اليورو – أمريكي (محور موسكو – واشنطون). 

وتجدر الإشارة إلى أن رؤى مفكري العالم العربي والإسلامي إزاء الغرب المنتصر في الحرب العالمية الثانية وسيطرته – فيما بعد – على معظم بقاع المعمورة انقسمت إلى ثلاث رئيسة: رؤية عصرانية : تدعو إلى تبني النموذج الغربي بوصفه نموذجاً للعصر كله أو النموذج الذي يفرض نفسه تاريخياً كصيغة حضارية للحاضر والمستقبل. ويبدو أن هذه الرؤية قد تجاهلت – كما فطن إلى ذلك نفر من أهل الرأي – إلى التمايز بين المجتمعات العربية - الإسلامية والغرب تمايزاً لا يقتصر على المسائل الحضارية والعقائدية إنما مغايرة أيضاً في الأوضاع التاريخية والواقع السياسي. وثمة رؤية (سلفية) تدعو إلى تحصين الذات بالتماهي مع التراث والبحث عن سبل درء الخطر الثقافي الأجنبي إستناداً إلى الموروث العقدي والثقافي. وهناك رؤية ثالثة تعبر عن موقف إنتقائي للثقافة إذ تدعو إلى الأخذ بأحسن ما في النموذجين أعلاه (الغربي والسلفي) والتوفيق بينهما في صيغة واحدة تتوافر لها الأصالة والمعاصرة. ومن الواضح أن هذه الرؤية التوفيقية لم تفصح عن الآليات الناجعة التي يجب إتباعها للموءامة بين هذين النموذجين برغم التباين الواضح لمنطلقاتهما الأيدولوجية. هذا من جهة ، ومن ناحية أخرى، فإن حركة الواقع العيني تثبت أن مسار الحداثة الغربية لا ينفك يتجسد عملياً ويترسخ في فضاءاتنا الثقافية ونمو معارفنا وتوجهاتنا المجتمعية كما وأن المؤسسات الدولية التي يسيطر عليها الغرب لا تفتأ تسعى إلى تجذيره عبر هياكلها ومؤتمراتها ، فضلاً عن إكراهات الثورة الصناعية والتقنية(الجانب الحضاري) مما يعقد الجهود للتوفيق بين هذا النموذج الغربي والنماذج المحافظة من العالم الإسلامي. ومما ذاد الأمر سوءاً الخطاب المبشر بالعولمة (Globalization ) والذي يعتبر حدثاً جديداً في نهاية القرن العشرين وفواتيح القرن الجديد. فلا عجب إذن أن بشر المفكر الأمريكي فرانسيس فوكاياما في مؤلفه الموسوم بـ "نهاية التاريخ وخاتم البشر" بالديمقراطية الليبرالية نقطة لنهاية التطور الأيدولوجي للإنسانية والصورة النهائية لنظام الحكم البشري وبالتالي في ظنه إنها تحمل "نهاية التاريخ". وإعتقد فوكاياما أن هناك عاملين أديا إلى إنهيار كل النظم الاستبدادية في العالم أولهما: المنطق الاقتصادي للعلم الحديث وثانيها: الصراع من أجل المنزلة وعزة النفس. ولا ريب أن هذه المقولة تعوذها العلمية رغم إستنادها إلى بعض المعطيات الحالية للتطور الإجتماعي، فهي تفترض وضع إستاتيكي (ثابت) وليس ديناميكي (متحرك) للتطور البشري السياسي والإجتماعي ، فطالما أن التطور العلمي والإقتصادي لن يقف عند حد معين، لا يستطيع أكثر الناس إيغالاً في الخيال التنبؤ بما ستؤول إليهأ أحوال البشرية خلال العقود القليلة القادمة،  فلا مندوحة إذن من القول بأن السياسي والإجتماعي والاقتصادي لن يقف على حال. وبإستقراء للتاريخ نلحظ أن مقولة "نهاية التاريخ" ليست جديدة البتة. فقد إدعى المفكر الألماني "هيجل" في القرن التاسع عشر بأن الليبرالية والتعددية تمثل "نهاية التاريخ". بيد أن ما حدث لاحقاً أن كثيراً من النظم الشمولية ظهرت بعد هذه الدعوة الهيجلية (شيوعية وفاشستية ونازية) كما برزت العديد من المذاهب الفكرية والفلسفية (الوجودية والسيرالية والعبثية والنهلسية والعدمية) ، علاوة على الكثير من المذاهب والتيارات القومية والدينية مما يدحض هذه المقولة السياسية. أما المفكر الأمريكي الآخر صمويل هنتنغتون فقد زعم بأن نهاية المعسكر الشرقي وأفول نجم الاتحاد السوفيتي (1989م) سيعقبها صراع بين الحضارات الحية (الحضارة الغربية الأوربية المسيحية "بفرعيها" ؛ الحضارة الأوربية الشرقية المسيحية الارثوذكسية "روسيا وجنوب شرق أوربا" ؛ الحضارة الإسلامية ؛ الحضارة الهندية والحضارة الصينية الكونفوشوسية). وأن صراع الحضارات سوف يكون العلامة المميزة على الساحة السياسية الدولية التي ستسير عليها خطوط التماس بين كل حضارة وأخرى. 

وإعتقد الغرب بعد سقوط المعسكر الشرقي أن نموذجه الليبرالي هو الأصلح للبشرية فعمل – ولا يزال – على بسط سلطة وهيمنة تفوق الوصف على كل شعوب الأرض ذات الثقافات المتنوعة بل أصبح مصطلح "العولمة" وبخاصة الثقافية –كما إستبان للكثيرين_ مرادفاً لمصطلح النزعة المركزية الغربية (Western-Centralism). أي اعتبار الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، المركز الوحيد الذي ينسج على منواله ويستمد منه الأسس والمعايير وطرائق العيش. 

وإستناداً إلى ما سلف، بدأت شعوب دول "العالم الثالث" بوجه عام والمسلمون على وجه التخصيص يشعرون بوطأة العولمة الغربية ويكتشفون أنها ليست بأكثر من قناع لمفهوم "النزعة المركزية الغربية" ومثيرة بذلك مجموعة من التظلمات من عقد النقص والشعور بالتهميش لدى هذه الشعوب  وبخاصة العرب والمسلمين الذين تأثروا أكثر من غيرهم من أسلوب الهيمنة الغربية (فلسطين والعراق وأفغانستان نماذجاً) .

ولعل من الأسئلة التي ما فتأت تؤرق المهتمين بالشأن الثقافي مصير الخصوصيات القومية والثقافية لدى العرب والمسلمين في إطار هذه الهيمنة الغربية. وهل بإمكان هؤلاء إقامة حوارات ثقافية مع الغرب بغية الحفاظ على خصوصياتهم القومية والتعامل معه بندية حضارية تحكمها القيم الإنسانية النبيلة. وفي تقديري أن التعايش الثقافي بين مختلف القوميات في العالم لا يتم إلا عبر الحوار والتسامح الإيجابي والإعتراف بالآخر واللغة المشتركة ووجود عقلية مهيأة لهذا الأمر . فالإعتراف الثقافي كمدخل للحوار مع الآخر – على حد تعبير الباحث التونسي الدكتور عبد السلام المسدي – هو المدخل الطبيعي للحوار معه. وهو المسوغ القدير لتزكية فعله إذا أنصف وإعتدل ، وللإعتراض عليه إن شط وحاد عن الجادة. والمعلوم أن الاعتراف بالآخر هو الهدف الذي أنشئت من أجله منظمة اليونسكو (UNESCO). ولقد اجتهد كل الذين تعاقبوا على إدارة هذه المنظمة الدولية على ترجمة فلسفتها (البحث عن الوئام الحضاري من خلال الاختلاف الثقافي) واعتبروها نوعاً من الميثاق غير المعلن. ولما تسنم مختار أمبو – (السنغال) في 14/نوفمبر 1974- إدارة اليونسكو واصل العمل على نهج أسلافه وربما كان أكثر حماسة لأنه كان إبناً للقارة السمراء التي دفعت أكثر من شقيقاتها ضريبة الإستعمار. 

ويلزم التنويه إلى أن الولايات المتحدة بدأت ترتب وقتذاك لطرد المدير العام لليونسكو (أمبو) واتهمته بأنه حليف للمنظومة الشرقية والإسلامية المشاكسة للثقافة الأنجلو – سكسونية ومن ثم انسحبت من هذه المنظمة الدولية ولم تعود إليها إلا في 29 سبتمبر/ 2004م في ظرف سياسي بالغ التعقيد عندما اعتلى غلاة المحافظين الجدد سدة السلطة في عهد جورج بوش الإبن بهدف بسط ارادتها على اليونسكو وحتى تكون صورتها متماهية مع صورة هيئة الأمم المتحدة التي تقع أصلاً تحت نفوذها. وتومئ هذه الخطوة أن العولمة الغربية أصبحت جزءاً من السياسة الدولية. وتوهمت الولايات المتحدة وحليفاتها أن الخصوصيات الثقافية لبعض شعوب دول "العالم الثالث" النامية (العرب مثلاً) بمكونها الروحي (الإسلام) تشكل تهديداً حضارياً للغرب فالصقت تهمة "الإرهاب" بالثقافة العربية – الإسلامية كما عملت على تضييق هوامش الحريات الثقافية والدينية للجاليات الإسلامية المقيمة في بلدانها سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (2001م) والتي لاتزال ملابساتها حتى الآن لغزاً محيراً للمختصين في العلوم السياسية والدراسات الإستراتيجية وهل هي بتدبير من "تنظيم القاعدة " الراديكالي بقيادة أسامة بن لادن أم من جهة أو جهات أخرى لها مصلحة حيوية في إثارة التوتر بين العالم الإسلامي والغرب؟. 

وإذا كان هو واقع الحال، وجب على المهتمين بأمر الحوار الثقافي بين المسلمين والغرب العمل على إقناع الأخير أن يعدل من علاقته مع العالم الإسلامي وأن لا ينظر إليها بإعتبارها علاقة مركز متحكم بأطراف هامشية إذا كان هدفه الأسمى هو الحفاظ على إستقرار وأمن العالم. فالحضارة الغربية – كما يستبان عملياً – ذات نظرة إستعلائية حيث يتطابق مفهوم الإنسانية عندها بمفهوم "المواطنة الغربية". فالشعوب الأخرى لديها لا تنطبق عليها صفة المواطنة "Citizenship " بل هم مجرد أهالي وسكان وقاطنين ليست لديهم أنظمة سياسية بالمعنى الحقيقي إنما عادات وأعراف وأوضاع مرعية. وليس أدل على ذلك من سياسة الكيل بمكيالين التي يتبعها الغرب في تعامله مع الشعوب الأخرى ؛ فشعار "عبء الرجل الأبيض – White Man Burden  " لا يزال ساري المفعول منذ عهود الاستعمار البغيضة بل هو المحرك الأساسي للسياسة الغربية. 

خلاصة القول ، إن الدول العربية والإسلامية تواجه خطر الإستلاب الثقافي الكامل ما لم تعمل بأعجل ما تيسر على إحياء تراثها وإستلهام ما به من إيجابيات بغرض المحافظة على الجذور والهوية ولتأكيد الذات وبعث الثقة فيها. ولا ريب أن هكذا توجه يتفق ووثيقة اليونسكو القائلة نصاً وحرفاً بأن "الذاتية هي الشرط الحتمي لتقدم الأفراد والجماعات والأمم لأنها التي تحرك الإرادة الجماعية وتشكل أساسها". ووثيقة اليونسكو في إشارتها لخصوصية الهوية الثقافية للشعوب في مواجهة الإعلام الغربي وما يبثه من برامج إستلابية تؤكد أن هذه الهوية "تطرح من الآن فصاعداً كمبدأ من المبادئ الدافعة للتاريخ. فهي ليست تراثاً جامداً - ولا مجموعة من التقاليد – بل هي دينامية داخلية. هي عملية إبداع مستمر للمجتمع بموارده الذاتية، تغذيها التنوعات الداخلية القائمة بصورة واعية ومقصودة وتقبل الإسهامات الآتية من الخارج بإستيعابها وبتحويلها عند الإقتضاء". ومن ناحية أخرى ولكيما تنجح مبادرة حوار الثقافات والحضارات التي دعى إليها العاهل السعودي، فعلى الدول الغربية أن تعمل علي إحترام الخصوصيات الثقافية للدول الأخرى وأن تكف عن البث الفضائي الإلكتروني السالب عبر الأقمار الصناعية والذي لم يعد فقط مقلقاً للدول التي تباينها نظماً سياسية وإنما صار مقلقاً أيضاً حتى للدول التي تتشابه معها من حيث عقائدها السياسية.

المصدر: http://www.sudanile.com/75093

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك