العولمة، الحوار والتعددية الثقافية
نور الدين ثنيو
يرى الفيلسوف نيتشه )1900-1844(. إن المفردات الأكثر تداولا وشيوعا هي الأقل دقة والأكثر عمومية, ولعّل كلمة العولمة من هذا القبيل. فمن فرط تداولها واستخدامها في حقول عديدة من المعرفة. صارت واحدة من الكلمات التي تحتاج الى تحديد وضبط حتى لا تنفتح على المعنى ونقيضه. وتستخدم في غير الأغراض والمعاني التي تنطوي عليها فعلا . فخاصية العولمة. كما يحوي مضمونها هو هذا التوجه نحو الشمولية والتعميم وربط الأجزاء في أفق يعني العالم كلّه . ومن هنا أيضا مصدر غموضه وضباب يته لأنه يعني الجميع. فهو بالتالي يصبح عرضة لمختلف أنواع التحديد ومحاولة التحكم أو احتكار مدلولاته . ولأنه من طبيعة المعرفة المعاصرة – بحكم التطور الهائل الذي انتاب علوم الإنسان والمجتمع -، فان المفردة القوية مثل العولمة تتحلى بخاصية العلائقية. بمعنى أنها تنطوي في ذاتها وتثوي أكثر من علاقة. وتستطيع أن تدخل في علاقات بينية وعلاقات معنوية sémantiques. علاوة على العلاقة الإجرائية التي تتحدد وتستخدم عند التطبيق وفي الواقع .
إن مصطلح العولمة هو من الغنى والقوة أن صار يتحدد بأكثر من معنى. وهذه الخاصية هي التي تجعلنا نتعامل معه تعاملا إجرائيا إن على مستوى الخطاب بحيث يوضح لنا معنى العالم المعاصر. أو على صعيد الواقع بحيث يساعدنا على تقريب أطراف وجهات العالم بصورة أفضل ليستفيد منها كل إنسان في كل جوانبه الإنسانية أيضا .
مع العولمة كسيرورة تاريخية وتوسع في مدلولاتها تتأكد جملة من الأمور. لعّل أهمّها الاعتماد المتبادل بين المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية . فإذا كان الغالب على موضوع العولمة هو الاقتصاد فان هذا الأخير يحتاج الى سياسة تضبطه لتضفي عليه إمكانية التطبيق وتبرير برامجه وخططه، كل ذلك على واقع اجتماعي لا يكف عن التقدم والتطور، يحتاج بدوره الى إعادة التفكير فيه بواسطة المصطلح الاقتصادي والسياسي الجديد. وهكذا دواليك .
هذا من ناحية. ومن جانب آخر فان العولمة هي هذا التوجه نحو التعميم. وربط العالم كلّه في شبكة علائقية مكثّفة، مما يعني فتح مجال عام واسع أكثر مما توفّره الدولة / الأمة . فالمجال العام الذي تفرزه العولمة هو فضاء حضاري جديد يفلت من احتكار الدولة الوطنية. لصالح الجماهير التي تطمح الى مشاريع وأفكار أكثر مما توفره الدولة القومية. وهكذا. فعصر العولمة هو عصر تجاوز ونخطي الدولة / الأمة وتقليم السيادة المطلقة فيها، سواء بإعادة تحديد للأقاليم أو إعادة تحديد السيادة. أو إعادة النظر في الحراك السكاني الذي صار ينتقل عبر القارات والأوطان في عالم الواقع أو العالم الافتراضي الذي أصبح يتفوق على الواقع ذاته. أو الواقع الفائق على حد تعبير المفكر الفرنسي جان بودرياد 1
فالعولمة علامة قوية على بداية عصر المعلومة l' age de l' information. والمجتمعات التي دخلت عصر العولمة هي تلك التي صارت المعلومة فيها قوام وجودها، حيث تتمثل المعطيات والأرقام والمعلومات نسبة كبيرة من إنتاجها الاقتصادي . فالعولمة ايذان بملاد عالم ما بعد الحداثة الذي يظهر فيه الواقع مختزلا الى أرقام ومعلومات ومعطيات يتعاطى ويتعامل معها الإنسان كواقع جديد، يطلق عليه الواقع السبرّاني قوامه الأثير والصورة والرقم والفضاء والصوت والكلمة والافتراضي le virtuel
إن التطور الهائل الذي انتاب العالم المعاصر يقدّم شهادة كبرى على حقيقة الثقافة او الثقافات الزائفة والهويات الطوباوية الوهمية التي تحكمت في العديد من المجتمعات المتخلفة. وصارت بسبب الإيديولوجيات الشمولية والخطابات الشعبوية عاجزة عن الانخراط في سيرورة العولمة التي لا تتعامل إلا مع الثقافات المنتجة القادرة على التواصل مع الآخر في علاقة جدلية من الإبداع والخلق و الغنى .
إن ثقافة العولمة لا زالت عبارة عن اتجاه متواصل نحو امتلاك الوعي العالمي بحقائق الثقافة الكونية قصد الاستقرار على منسوب من الهوية الإنسانية المشتركة لكافة الطوائف والأجناس والقوميات في مجال مشترك . والنقاش الذي يفرزه هذا التواجد المشترك هو النقاش العام الذي يتمرّس عليه الإنسان المعاصر بصورة قوية عبر تبادل المعلومات والوسائط والإعلام.
تعود مفردة العولمة ومفهومها. على أكثر تقدير الى نهاية الثمانيات من القرن العشرين. بعدما عمت أساليب تقديم المعلومات وتشكلت على أساس ذلك مجتمعات المعلومات . فقد كانت العولمة واقعة العصر التكنولوجي والمعلوماتي وعلامة فارقة على أن العالم يترابط يوميا ويلغي الجغرافية بإلغاء المكان واختزاله وإعادة النظر في الزمان. كما أنه لا يكف عن إعادة النظر في مدلول الجغرافية نفسها عندما تعني الحدود والأقاليم والأوطان التي صارت كلها موضع تعديل وتغيير وتحوّل فلا يمكن أن نجاري البعض الذين يعيدون العولمة الى عصور غابرة ويؤكدون دائما أن تاريخ الإنسانية شهد عدّة عولمات .
فالعولمة مدلول ومعنى وأساس لمفهومه يوم بدأ الحديث عنها. لأن هذه اللحظة هي لحظة التحوّل الكيفي والنوعي الذي سمح بميلاد المصطلح وبالتالي أسس لما بعده وأن ما قبل ظهور المصطلح يمثل ما قبل تاريخ ظاهرة العولمة التي لا تلغيه لكنها تتجاوزه الى واقعة جديدة بكل مقاييس العصر. إن العولمة مفهوم إجرائي نفهم به الواقع الراهن والماضي الممتد الينا لنعيد قراءته وصوغه صياغة تتناسب مع شروط وعقل العولمة عقل ما بعد الحداثة .
السلطة العالمية
واقعة العصر الراهن هي بصدد إفراز ظاهرة السلطة العالمية الجديدة التي تتشكل بوصفها مجموعة من السلط تأبى الانطواء تحت مركزية واحدة. فهي آيلة الى التشكل بعيدة عن المركز الأميركي حتى ولئن كانت أمريكا تمثل محورا أساسيا في صياغة الجمهورية العالمية الجديدة , فالعولمة على هذا الأساس هي آلية قوية لتوزيع السلطة على عدّة مراكز حضارية لا تقتصر فيها القوة والمال والسلطة والرمز والمعنى على الولايات المتحدة الأمريكية أو الدول الغربية وحدهم فقط. بل آلية العولمة لا تكف عن كشف حوافز أخرى في مناطق أخرى غير تلك التي حظيت بالسمعة القوة والرفاهية. فالإمبراطورية كمجال متعدد جديد يرحب بكل الطاقات والكفاءات ذات القدرة على التكيف مع حقائق العالم الجديد. والعالم الجديد هو محصلة نتائج العولمة والتعدد هو خاصيتها البارزة. ويفهم التعدد في صلته بالجماهير الغفيرة التي تتحرر من ربقة السلطة الواحدة وتتاح لها بالتالي إمكانات التعبير الفرداني. كما أن التعدد يعني أيضا التعددية الثقافية. كما يعني. وليس أخيرا. تعدد مراكز القرار والسلطة والثروة والمعنى[i].
إن التعددية الثقافية واحدة من مظاهر العولمة . فقد جاءت لتحل محل الثقافة العالمية la culture universelle التي سادت في الخطابات العربية والغربية. فقد جرى التعامل مع الثقافة العالمية على أساس توجه دائم لتعميم نمط الثقافة الغربية المتأتية من تاريخ أوروبا السياسي والفلسفي والاقتصادي، عندما كانت تعني حقوق الإنسان والمواطن، عصر التنوير. الاقتصاد الرأسمالي والسوق، الديمقراطية والحريات الفردية والعامة، كلها تريد أن تؤكد استقلالية الفرد والكائن الأوروبي، وأدى هذا الفهم للثقافة العالمية الى اعتداء سافر وخطير على ثقافة الشعوب الأخرى التي لم تتوفر على هذا التصور للإنسان الغربي الذي حمله على الاعتداء العنيف وخرق حرمات الثقافات الأهلية والمحلية وذهب الى اعتبارها ثقافة وحشية بدائية وغير عقلانية . وعليه، فعندما نقترب أكثر من مدلول الثقافة العالمية نجدها تنطوي حقيقة على رصيد أوروبي بوجهه المشرق والقبيح، لذا جاءت العولمة في عصرها المعلوماتي الفائق لكي تنقل هذه الثقافة من الثقافة العالمية الغربية الى التعددية الثقافيةmulticulturalisme . وفي هذا السياق، وتفاديا لكل سوء قراءة نجد أن هذا المصطلح صهره التاريخ الثقافي الأمريكي نفسه الذي حقق العولمة الثقافية قبل الحديث عنها . وإذا كانت العولمة في جوانب منها تعني الأمركة. فيجب أن نساعد أمريكا لكي تترك بقية العالم يتصرف كما تصرفت هي مع الجماعات البشرية والقوميات والاثنيات التي وفدت إليها.
فقد استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية، ولوبر صراع مرير، أخذ في الغالب مناهضة العنصرية الى إن اعترفت في الأخير. بعد الحرب العامية الثانية بالثقافات المختلفة للمجموعات البشرية التي انصهرت في الدولة الأمريكية منذ تأسيسها. وكان لهذا الاعتراف نتائجه الإجرائية سمحت بظهور اثنيات وقوميات وأجناس في المجال العام، أخذ رموزها وممثلوها كلمتهم في النقاش العام وارتادوا الوظائف العامة المعبرة عن مجال الدولة . وعليه. فقد كان الاعتراف السياسي والقانوني بحق الأقليات والجماعات الثقافية هو الحل السحري لمسألة الهوية التي تقر لأن التنوع والتعدد والاختلاف هي القاعدة الذهبية التي تتوكأ عليها مقومات الهوية. ولعّل هذا التفوق الأمريكي الكبير في مجال الثقافة متأتي من الاعتراف المبكر بالتعددية الثقافية كنمط حياتي اجتماعي قانوني سياسي. ومن هنا نفهم مصدر المعاداة والكراهية التي تكن لأمريكا في أجزاء كبيرة من المعمورة. بسبب أنها لا تطبق القاعدة الذهبية التي اهتدت إليها على بقية العالم ومنها موقفها السياسي والثقافي حيال العرب والمسلمين ومنطقة الشرق الأوسط على وجه التحديد ولا زالت الى اليوم تمارس حوائل وموانع لتحول دون ظهور الحق الفلسطيني في المجال الدولي العام
[2] .
إن العولمة تجري مجرى العادة في حياتنا المعاصرة. فقط الدول المتطورة والقوية عسكريا واقتصاديا هي التي تحول دون تعميمها على سائر المجتمعات والشعوب والأمم. هناك لا شك خلاف كبير بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية لا يني يتفاقم ليس بسبب الحرب على العراق فحسب وإنما أساسا في مسألة السيادة التي لا زالت أمريكا تنظر إليها كمبدأ غير قابل للانتقاص ولا يجوز النيل منه تحت أي طائل رغم ما تفرضه العولمة من ضرورة التخلي عن بعض من السلطة الوطنية المطلقة لفائدة الحاجة الى لغير . وعليه فالعولمة كما تفصح عن مضمونها وسيروتـها حقيقتها الداخلية ليست بحال الأمركة. إذا لم نقل أن أمريكا هي الحائل الأكبر للعولمة بسبب اعتراضها على تعميم منطق العولمة على الجميع . أمريكا ضد العولمة هوالعنوان الصحيح في الوقت الحالي .
إن نوعية الحكم الذي يساعد ويلائم منطق العولمة هو الحكم الراشد أي la gouvernance عندما يعني الحكم الذي يتفق على لوائحه ونظمه وإجراءاته الجميع أو المجموعة التي اتفقت عليه . فعلى الصعيد الدولي هناك نوع بدأ يشق طريقه نحو التطبيق ويتقدم بشكل حثيث في أوروبا هو الحكم بواسطة الاتفاق على مجموعة من قواعد العمل والسير وكيفية فض النزاعات بين الوحدات التي تدخل في إطارها مثل الاتحاد الأوروبي، اتفاقية كيوتو المتعلّقة بالبيئة. اتفاقية إنشاء محكمة الجنايات الدولية وهذا النوع من الحكم لا يعني إطلاقا انتقاصا من السيادة الوطنية بقدر ما يكبح جماحها في زمن لم يعد كله زمن الدولة القومية المطلقة فالكوفيرنانس تنظيم سياسي اجتماعي واقتصادي قائم على قناعة مسبقة بقواعده وطرق تسييره ورضا بقبول نتائجه وتحمل تباعانه. وعلى خلاف منطق الحكم القائم على السيادة المطلقة مثل أمريكا وعلاقتها ببقية العالم .
في الحقيقة أن خطاب العولمة لا يزال خطابا إيديولوجي. بمعنى أنه يتطلّع الى انجاز عولمة بوجه إنساني ولأن حركة العولمة هذه لم تستقر بعد على أصول واضحة ولا على آليات
ولا على ثقافة متينة. تمثل المنسوب المشترك لكافة الإنسانية. ولعّل هذا هو مكمن الحافز الذي تنطوي عليه حركة التواصل التي تتم على صعيد العالم سواء بين المجتمعات والأفراد أوبين الدول والحضارات. فقد تكون هذه فرصة رائعة لكي تساهم جميع الثقافات. مهما كانت بعيدة عن المراكز الحضارية الغربية، للإدلاء بنصيبها ومواقفها من أجل صياغة البيان الإيديولوجي للعولمة، حتى لا تزيغ عن المقصد النبيل الذي يجب إن يسعى إليه المجتمع الدولي اليوم الذي صار يأبى الخلل والتلاشي وعدم الاكتراث بسبب قوة التدمير التي تتربص به . فالعولمة كإيديولوجية تؤشر فعلا على إن العالم لا يزال يبحث عن أرضية ثقافية واضحة ومشتركة يجمع عليها الجميع وتساهم في إثرائها الثقافات المحلية والوطنية والأهلية . فثقافات الشعوب لم تكف عن الإبداع والخلق والكشف خاصة إذا تمثلنا المفهوم الحديث للثقافة الذي يعبر عن كل صور وألوان الإبداع المادي والمعنوي والرمزي واللغوي سواء تعلق الأمر بالغناء وطبوعه والرقص وأنواعه، الفنون بكل أشكالها. التفكير في الدين والعلم والتطبيقات التكنولوجية . فظاهرة العولمة تتحفز وتتوق الى الاهتمام بكل شيء. وكل شيء هو من اهتمام العولمة .
وهكذا. فإيديولوجية العولمة هي ما بقي على الإنسان المعاصر إن ينجزه في صرح الحضارة الإنسانية الجديدة خاصة التفكير في آليات اجتناب الدمار والعنف والحيف والظلم والإرهاب التي زادت حساسية الشعوب والمجتمعات والأفراد برفضها . وبتعبير واضح وصريح ما يمثل الحقل الإيديولوجي للعولمة هو هذا الصراع والتوتر الذي بسببه تمادي وتمدد النفوذ الاقتصادي الرأسمالي على سائر المعمورة والذي طال مختلف الثقافات والعادات وأنماط الحياة . ففد أدى الإنتاج الرأسمالي الجشع الى إرباك ثقافات أصيلة حتى داخل المجتمعات الرأسمالية الغربية والى وقت ليس ببعيد. النصف الأول من القرن العشرين سادت حالة من الانزياح الثقافي وانكماشه أمام الإنتاج الاقتصادي الكاسح الفردي – نسبة الى شركة فورد الأمريكية – وهونظام متداعي لا يتوقف إلا على الكوارث وعتبات الحروب والأزمات الكبرى مثل الأزمة الاقتصادية لعام 1929 التي وضعت النظام الرأسمالي في المحك ويجبر لكي يعيد الى نفسه الاتساق مع مقتضيات العصر الآيل الى التواصل وتكثيف العلاقات الدولية وربط أجزاء العالم نحو مصير واحد. هكذا. ظهرت الإدبولوجية الماركسية كمحاولة لتهذيب وإصلاح والثورة على طبيعة النظام الرأسمالي الاإجتياحي والمنفلت من عقاله، لا يأبه إلا بالربح وزيادة فائض القيمة . مهما أدى ذلك الى تدمير الثقافات المحلية والى إرباك سلوك وتفكير الأفراد حيال الآلة الإنتاجية الرأسمالية.
ومن هنا نفهم التأويل الإيديولوجي الذي قدمه الكاتب الأمريكي صامويل هانتنغتون عندما تحدث عن صراع الحضارات. فالنقطة المركزية في أطروحته. أن العالم مقبل، إذا لم يكن شرع فعلا، على حروب وصراعات أخرى غير تلك التي شهدها العصر الرأسمالي وعصر الحرب الباردة. هذه الصراعات سوف تنجم عن ردود أفعال الدموية التي تشنها المجتمعات التقليدية ضد الحضارة الغربية عندما تصدمهم قيم ومثل وأفكار الحداثة الغربية . والصورة النموذجية لهذا الصراع هو السجال الفكري[3]، والمعارك الإيديولوجية[4] والحروب الدموية[5] التي نشبت بين الإسلام والغرب .
الحوار في ظل ثقافة العولمة
ما يسّوغ الحوار هو قيام المجتمعات والدول والأمم والحضارات على الاختلاف والتعدد. وأساس البحث عن الحضارة الإنسانية الجديدة هو التنوع القائم في كل وحدة من هذه الوحدات الإنسانية . واليوم وبعد كل الذي شهدته البشرية في القرون الماضية كركام ورصيد تاريخي نعتمد عليه في تصوراتنا وتجاربنا. تتضح حقيقة الحوار في كل أبعاده : عندما يتعلق بالسياسة. صراع الأحزاب السياسية والنقاش البرلماني، وعندما يتعلق بالثقافة.هو حوار الحضارات والأديان وفي الجانب الأنطولوجي الوجودي عندما يتعلق بحرية انتقال الإنسان ووجوده في بيئات مختلفة والحوار أو الصراع الذي يظهر بين الهوية والبيئة الجديدة ومحاولة التعامل الايجابي مع الواقع القائم على التأثير والتأثر .
الحوار كفن التخاطب قصد الفهم والإفهام. سبيل من سبل إنتاج الحقيقة في سياقها التاريخي . فكل حوار يصطبغ بالشروط الاجتماعية والثقافية، فهو، بالتالي لا يخرج عن اللغة التي يجري بها الحديث. وهكذا. فالحوار له تاريخ ويمكن التواصل معه في سلسلة من الأطر التي تفرضه, وللوقوف على نوعية الحوار وموضوعاته يمكن بالتالي تحديد تاريخ الفكر الإنساني وتعقب منظوماته وإعادة عناصره الى الوحدات الإنسانية التي يتشكل منها ومن ثم تحديد إشكالياته التي تحكمه عبر مراحل وحقب تاريخ نشاط الفكر وانجازات العلم .
فالنسبية. مبدأ عقلي. صار مشتركا بين جميع البشر في عالمنا اليوم. والحقيقة العلمية تبقى دائما نسبية. وهذا ما كشف عنه المفكر توماس كون في كتابه بنية الثورات العلمية. والنقاش الذي أثير حوله، حيث أوضح أن كل حقيقة علمية أو نظرية تفصح عنها وتوضحها اللغة التي تعبر عنها. فالنظرية صحيحة في إطارها الإبيستيمولوجي ونظامها اللغوي التي ندرس وندرس بها. وما دام النظرية العلمية هي صياغة لغوية. فمن هنا الحاجة الى نقاس وحوار بين الثقافات واللغات قصد السيطرة على نسبية الحقائق والإلمام بها. إن الحقيقة العلمية لا تخرج. كما يرى توماس كون. عن البرادايم الذي يؤطرها وتستمد منه صحتها النسبية .
إن الحوار الذي يجري في ظل العولمة يبحث عن ثقافة العولمة. والعولمة ليست شرا مطلقا، كما يرى بعض المناهضين لها لأنها تعني وتعبر عن أكثر من نصف العالم المتقدم . والعولمة هي نتاج التقدم العمراني، التكنولوجي والعلمي والإنساني. فقد تطورت وتيرة التاريخ نفسه بسبب النمو الفائق للمجتمعات الغربية. وأساس العولمة إذن هو التقدم المتواصل للحضارة الغربية التي تمتد أفقيا نحو المجتمعات الأخرى لكي تعمق التجربة الحضارية فيها .
أمّا الوجه السلبي في العولمة كما يراه البعض الآخر في المجتمعات المتخلفة. التي عادة ما ترفع التحذير وتبدي التخوف من آثارها بسبب الضعف الهيكلي الذي تعاني منه لأنها لم تتخلص من الاستعمار إلا الى عهد قريب. لعل أساس ما تخشاه المجتمعات المتخلفة أن بعضها لم يصل بعد الى بناء دولته القومية ذات توجه سليم يراكم التجارب ولا يجهضها لكي يحرز على مقومات المواطنة فيها، ويردم الفجوة التي لا تني تتزايد مع الوقت بين العالم المتطور والعالم المتخلف مع الأخذ بعين الاعتبار نسبية التقدم والتخلف، لأن كثير من المجتمعات التي خرجت من حقبة الاستعمار شهدت انجازات ومشاريع تنموية وحققت نسبا من التعليم والصحة ومؤسسات إدارية، سياسية، قانونية ودستورية، لكن قياسا على ما أصبحت عليه الدول الصناعية المتطورة. خاصة أمريكا، يظهر إن بعض الدول المتخلفة دخلت مآزق عصية عن الخروج منها بسبب دخولها في صراع مع الذات فضلا مع الآخر. أي أنها أصبحت تشعر أنها تتخلف عن تاريخها الخاص، علاوة على الفجوة العميقة التي لا تنفك تتفاقم مع الوقت . ولعل شرط العولمة هو هذا، أي شعور الإنسان بمدى تخلفه عن الآخر. إن لحظة العولمة توفر فرصة لقاء المجتمعات في مواجهة أو مقابلة الآخر أوفي علاقة في ما بينها. وهكذا فان مغزى الحوار في ظل العولمة، أنه يعبر عن اللحظة التي يفكر فيها الإنسان المعاصر من وحي قضاياه الراهنة من مختلف جوانبها، عندما يكون العالم كله ماثلا أمامه . فالعربي الذي يعي لحظة العولمة لا يستطيع أن يفكر في قضايا مجتمعه إلا ويأخذ في حسبانه تطورات ورهانات العالم الغربي. فالتفكير من وحي ثقافة العولمة، يتم بواسطة منطق شبكي، علائقي يتوجه نحو استيعاب الظواهر والقضايا في علاقاتها المتشابكة. أي في أسبابها القريبة والبعيدة، المباشرة وغير المباشرة، العامة والخاصة ... الخ.
تواصل الأنا والآخر .. أو الوجه الآخر للحوار .
يندرج موضوع العقل التواصلي ضمن إشكالية الأنا وعلاقتها بالآخر في إطار ما يعرف بالمكانية التعارف والعيش معا، أي كيف يمكن تواجد أكثر من ذات في المجتمع الواحد والمجتمع الدولي الناشئ. فقد كان الإنسان الفرد يتحدد في علاقته بالتاريخ ضمن القبيلة والعشيرة ثم الدولة الإمبراطورية وأخيرا الدولة القومي. واليوم هناك حقيقة تاريخية واجتماعية جديدة تتطلّع إليها كل الإنسانية هي وجود الإنسان/العالم le citoyen/monde، أي ذلك الإنسان المعلوم في وطن العالم. يتميز بقدرته على الامتثال والتجاوب مع مقتضيات وواجبات الحياة الدولية والعالمية المعاصرة
فقد صار الإنسان في الوقت الراهن وسوف يستمر لاحقا. يتحدد ليس بالدولة القومية فقط التي تعطي له حق المواطنة .. بل يتحدد أيضا بإمكانية الخروج من الدولة ذاتها عندما تخترق الحدود المعترف بها. والمتمثل في المنسوب الذي يجب أن لا تنزل دونه . فظاهرة التطور الفائق الذي حصل لوسائل الاتصال والمواصلات. انجرت عنها ظاهرة الإنسان المتخطي للحدود لا يكتفي بشروط العيش التي تفرضها دولته. فيعمد الى اللوذ بالخارج. الأمر الذي أدى الى زيادة الوعي بقوانين الدول الأجنبية ولوائح وإجراءات الدخول والخروج ومعرفة طبيعة الحياة فيها كسبيل للاستقرار فيها والعيش مع طوائف وأجناس مختلفة ... وهكذا. امتد الوعي ليس بالذات/ الأنا فقط بل الى الآخر أيضا . فمعرفة الغير ومتابعة أخباره وأحواله صار جزءا من اهتماماتنا المعاصرة . ولعل من النتائج التي سوف تفرزها هذه الظاهرة. بل هذا ما بدأنا نتلمسه ونشعر به. هوسيرورة التخلص من الأنانية المفرطة. والتعلق بالذات والمبالغة في الإشادة بها والعناية بها و تحقيق المصالح العرضية والظرفية على حساب مصالح حقيقية تأتي على مدى زمني لاحق . فأكبر دولة اليوم في العالم[6]1 لا تستطيع أن تكتفي بذاتها ولا تستطيع أن تلوذ بأي سياسة اعتزالية مهما كانت. خاصة بعد أحداث أيلول / سبتمبر 2001... بل وقبله. منذ عهود الاستعمار البغيضة. حيث استطاعت الدول المستعمرة أن تراكم ثروات و خبرات وإمكانات هائلة في إطار جدلية التعامل مع الآخر المحلي. الأصلي. الأهلي بنوع من أنواع الحيف والجور والإجحاف. فالآخر الأوربي الغربي والأمريكي، لا يزال يشعر بصلة تاريخية حيوية الى الأرض والشعوب التي احتلها سابقا. كما أن الأفريقي، الأسيوي الأمريكي اللاتيني لا يزال هو أيضا يشعر بصلة حيوية بالعالم المتقدم ويسعى الى الّلحاق به على أكثر من صعيد.. وقد حققت بعض الشعوب هذا المستوى من الحياة الحديثة .
وهذا ما يقود. كما لحظنا في فقرة السيادة العالمية. إلى وجود ظاهرة الإمبراطورية في مفهومها ما بعد الحداثي. عندما لا تكتفي المجتمعات المعاصرة بقوة مركزية واحدة أو سلطة مادية أو سياسية فقط. ولا منطقة جغرافية واحدة. بل الكل يدخل في عالم من العلاقات البينية والاعتماد المتبادل. حتى الحلقات الضعيفة لها قيمة في هذا العالم المعولم. وتكون ذات شأن خطير إذا لم تحظ بعناية معتبرة بما تثيره من ردود أفعال مدلهمة وكارثية. ثم الرّجات الارتدادية القريبة والبعيدة. الفورية واللاحقة بسبب دائما طبيعة شبكة العلاقات الدولية والأممية المعاصرة. وعصر ما بعد الحداثة .
لم يعد الآخر هو الجحيم. كما كان يرى جان بول سارتر. فقد شهد العالم المادي منه والمعنوي الأخلاقي حالة من التطور أوصلته الى مشارف لم يعد يقوى فيها على مزيد من الدمار والحروب وصور التخريب. لأن الإنسان صار بإمكانه أن يتصور من الكوارث ما يلحق الفناء بهذا العالم. بل الآخر في الحضارة الإنسانية الجديدة هو ما يوحي بالاستئناس والثقة والاطمئنان إليه. طرف يساهم بوعي أو بدونه في بلورة شخصية الذات نفسها. كما يساهم كعنصر في توليفة مركبة على صعيد المؤسسات الدولية. والخبرة العالمية المشتركة. والأعمال الجماعية الكبرى
إن الإنسان أو المجتمع لا يسعه الحال إلا الدخول في علاقات ومستويات مع باقي العالم وأفراده، ولا يستطيع مهما حاول أن ينفرد بكل شيء. أو يقوم بكل شيء بمفرده . إن الخوف . الذي أصبح هاجسا يطارد الإنسان حيثما حل وارتحل. يجب أن يتوارى عن عالم الإنسانية الجديدة. ويحل محله السلام وافتراض النوايا الطيبة في الآخر بدل معاملته من واقع الطرف العدو أو مقولة اعرف عدوك .
جدلية الأنا والآخر
صارت إشكالية الأنا والآخر واحدة من أهم الموضوعات التي تشكل الفكر المعاصر. وهي تطرح من جملة ما تطرح في إطار العلاقات بين الأمم والدول والشعوب .. لكنها تطرح أيضا في إطار المجتمع الواحد .. لا بل حتى على مستوى الإنسان الفرد الذي تكثفت لديه المعرفة والوعي الى أن صار يسأل نفسه ويضعها موضع السؤال ويرى أنه ذات تنطوي على أثر الآخر فيه. وأن الذات لا يمكن أن تتحدد بمقوماتها الخاصة فقط. وإنما تتحدد برؤية الآخر لها وأثر الأخر فيها .
وقد كشف الإنسان المعاصر. خاصة بعد الدراسات الانتروبولوجية المتقدمة. حيوية العلاقة بين الأنا والآخر أو إشكالية الغيرية وما يعرف بمحاولة البحث عن الحقيقة التي لا يمكن الإلمام بإطرافها وجوانبها إلا ضمن رؤية متعددة الأوجه وبعد تقليب الموضوع في أبعاده ورؤاه المختلفة. كأسلوب علمي وموضوعي على ماذا تنطوي حقيقة الذات. ويرى بعض الفلاسفة المفكرين أن الذات / الأنا هي أيضا الأخر وعبّروا عن ذلك بأن ذواتهم واقعة دائما تحت تأثير ونفوذ الآخر. وشدّدوا على أهمية أن الأنا لا تقوم إلا على وجود الآخر ليقابلها ويكملها ويحدد هويتها حتى لا تستلب وتتغرب عن ذاتها .
ولعل أهمية الأنا كآخر. أي قدرة الأنا/ الذات على رؤية الآخر وهويقاسمها تحديد الهوية. فإمكان الأنا أيضا أن تنظر الى الأخر عندما تنتقل إليه الذات نفسها . فقد تزايد في العقود الأخيرة الالتفات الى الرعاية والتربية والاهتمام والرفق بالفئات التي لفضها المجتمع وهمشها أو أعطاها مكانة اجتماعية غير لائقة. مثل الشيوخ. العجزة. الأطفال الأحداث. المعوقين. المشردين والمرضى.العاطلين عن العمل... كلها فئات صارت تحتاج الى عناية وتحظى بها بالفعل. بعد ما تمكن الإنسان المتعلم المعاصر من الاهتمام بالغير . فالغير / الآخر هوما يمكن أن تصير إليه الأنا. فالإنسان مهما كان معرض لكي يعيش تجربة الشيخوخة. والإصابة بعجز أو التعرّض لأحداث تغير من مصيره ويعرف بالتالي قيمة الأخر في حياته. علاقة الأنا بالآخر تتزايد بشكل ملفت وتعبر عن تطور حالة الوعي الذاتي التي تنطوي على أهمية الآخر في بلورة الأنا ومتانة موقفها في مواصلة التحديات وتخطي الصعاب .
هناك حوار يجري دائما بين الأنا عندما تعني النفس. أي عندما نكون ما نحن عليه. وبين الآخر للأنا عندما نريد أن نكون مثل الآخرين أي البعد الجماعي أو الاجتماعي للذات . فالذات دائما في حوار مع خاصيتها في صلتها بالمجتمع. فهناك مستويان للهوية : النفس le même . والمختلف. وهذا الاكتشاف للذات البشرية هو من محصلات العولمة التي لا تكف عن تقليب الأمور على وجوهها المختلفة لتعثر على مزيد من ثروة النفس .
لكن. مع ذلك أو بالرغم من ذلك. يبقى الوجه البشع للرأسمالية المتوحشة هي المهدد الخطير للذات الإنسانية . فالرأسمالية الفائقة المعصوبة العينين لا تني تلتهم فضاءات ومجالات ومنه أيضا النفس الإنسانية وعقول البشر . إن الاهتمام الفاحش بالسوق والسلع والمزيد من الثروة والمال أدى من جملة ما أدى الى النيل من ذات الإنسان المفكرة التي أصابت ليس جسده الذي تروّض مع السلع المادية. بل الى المنطق الذي تفكر به. وصار في بعض الأحيان تنفلت من معايير قياس الصحة من الخطأ. والتمادي في الخطأ والخطيئة. مثل الإدارة الأمريكية الحالية ذات التوجه النيوليبرالي الذي امتلكها هاجس السيطرة والاستحواذ بحيث تتدخل في كل شيء وتريد أن تؤثر على الجميع وتعطل كل ملكات وآليات النفع العام ومحو الكرامة الإنسانية لدى الآخرين . فبسبب أحداث 11 ايلول / سبتمبر 2001. راحت الإدارة الأمريكية تخترق حدود الدول وحدود النفس الإنسانية وكرامتها لاستعادة شرف ضيّعته في نيويورك وواشنطون في يوم مشهود من شهر سبتمبر[7] .
إن الخطر الداهم يوميا لليبرالية المتطرفة والرأسمالية الأصولية لا تكف. كما يرى دوفير عبر الوسائل الهائلة المتوفرة لديها من النيل المتواصل من إنسانية الإنسان ومحاولة امتلاكه عبر ما هو متيسر لها من القدرة والسلطة والقوة . فقد أدت الرأسمالية الى التأثير على الذات المفكرة كما حددها الفيلسوف الألماني كانت. كما أدت الى النيل من الذات النفسية أوالعصابية كما حددها فرويد. ثم الذات ال الماركسية كما حددها ماركس. وهي تحاول اليوم اختراق آخر ما تبقى في عالم الإنسان : روحه ومنطقه ورغباته. أي تحاول أن تصّيره. كما ذهب الى ذلك الفيلسوف الفرنسي دولوز آلة من الرغبات machine à désirs
نعم. الرأسمالية المتطرفة لا تكف عن تحويل الإنسان الى مكينة من الشّهوات والرّغبات والأوطار عبر وسائل مغرية يفقد فيها الإنسان القدرة عل التفكير والركون الى النفس المطمئنة وشل قدرة العقل على التمعّن في الأمور قبل البثّ فيها واستخلاص نتائجها .
ولعّل هذا ما جعل. في ظل العولمة المتمادية. بعض المناهضين للرأسمالية المتطرفة[8] في وجهها النيوليبرالي. الى توكيد انسانية الإنسان وشحذها لمقاومة التأثيرات السلبية لمنطق السوق وعملة السلع. وعبادة المادة. واختزال العقول والتفكير في لحظة الحاضر . فقد دأبت منذ سنوات مجموعة من المنظمات الإنسانية غير حكومية على الانبراء والتصدي لتداعيات الرأسمالية في عصرها التكنولوجي. ووضعت نصب مهامها كرامة وفكر الإنسان. في إطار عمل إنساني شامل لكل المجتمع الدولي.
في التعددية الثقافية .
العولمة هي سياق جديد لبداية لحظة الإفراز التلقائي لمنجزات عصر العلم والتكنولوجيا. فالعالم اليوم. وبفعل قوة العولمة. التي تعني شبكة التواصل الفوري مع كل أطراف العالم. تدفق لا يتوقف لمعطيات الحضارة الإنسانية المتقدمة. وعليه. تظهر العولمة علامة قوية على بداية زمن ثقافي وحضاري يعنى الجميع وينخرط فيها الجميع أيضا. لأنهم أرادوا أم لم يردوا هم مشمولين بزمن ثقافي جديد هو العولمة عندما تعني الزمن المعاصر الفائق الذي يريد أن يكثف في لحظة واحدة كل أبعاد الزمن المعروفة.
إن ثقافة العولمة هي إلمام بروح العصر الذي نعيشه واهتمام متواصل وواع بقضاياه في مختلف جوانبه و. كما يقر بذلك المنطق الشبائكي. الذي يحاول دائما استقصاء عناصر الموضوع . فالثقافة في العصر المعولم. هي ما بقى للشعوب والمجتمعات من التقاليد والأعراف والسلوكات والإبداعات الأصيلة التي استحقت إمكانية الاستيعاب والفهم من قبل باقي المجتمعات والشعوب . فإذا كان يمكن الحديث عن منسوب ثقافي عالمي يشترك فيه كل العالم. فهو عن ثقافة أصيلة بذات الشعوب التي تستطيع أن ترتقي بها الى مصاف عالمي تصلح لإمكانية الإبداع على منوالها. ويمكن بالتالي تحرير الخصوصيات وعدم استغلالها كأصوليات دغمائية مناهضة لمنطق التاريخ. مثال ذلك ظاهرة العصر الراهن الإسلام السياسي أوالحركات الأصولية المتطرفة . إن هذا الموضوع لم يعد قاصرا فقط على الباحثين العرب والمسلمين. بل اتسعت دائرة الاهتمام به الى سائر المجتمعات خاصة الدول المتقدمة . فقد تفوق عدد كبير من الكتاب والباحثين الغربيين في تقديم أطروحات وأراء يصعب إغفالها أو التغاضي عنها في حقل البحث عن مشكلة الإرهاب في العالم. ومعرفة طبيعة الحركات الإسلامية ذات التوجه التغييري.
ومهما قيل عن أسلوب وطبيعة ومرامي هذه الحركات ومبرر وجودها. فإنها حركات فرضت الحديث عن الإسلام ومسألة الدين في المجتمعات الغربية كما في المجتمعات المسلمة. علاوة عن الحديث عن الإرهاب والعنف والأصولية. والتطرف والغلو... والذي قيدت له سياسة عالمية. في المدة الأخيرة. عرفت لدى الإدارة الأمريكية الحالية بمكافحة الإرهاب العالمي . ومن المنتظر أن يستقر هذا الصراع على أصوله الحقيقية وأبعاده الشرعية. لأن المنطق الشبائكي لا يلبث أن يبحث ويحلل ليعالج هذه المسألة عندما تتوفر سياقها المناسب – خروج المحافظين الجدد من الإدارة الأمريكية مثلا -لكي توضع مسألة الإسلام السياسي والإرهاب الدولي في إطار غير الإطار الذي يعالج فيه اليوم وتوضع عناصر الإشكالية في موضعها الصحيح. خاصة بعد ما تأكد أن السياسة تفرض الأسماء والمصطلحات .
إن الاهتمام بثقافة العولمة يزيل أو يؤدي الى إزالة عقبات كبيرة كانت تقف حيال الفكر الديمقراطي الذي يريد أن يفصح عن حقيقة العلاقة بين السلطة والحقيقة. فلا مكان للأحادية زمن العولمة .. الكل مستعد للحديث والتفكير في كل القضايا مهما كانت حرجة. ومهما حوصرت وتكتم عليها حراس العقائد والإيديولوجيات. لأن خاصية العالم الراهن هو الشفافية والخطاب الصريح بدل الخطاب المخاتل. وهكذا.وهذا ما تشهد به النوازل الجديدة في عالم الصناعات الالكترونية التي قلصت من ظلال المستور وفتحت من مجالات رحبة وواسعة من إمكانات الكشف والاطلاع والمعرفة . فالعولمة. فضلا على أنها تقلص المسافات وتلغي الجغرافية. فإنها تبدد سوء التفاهم بسبب اللحظة الفورية وآلية تقليب الحقائق على أكثر من وجه.
إن الإشكالية التي تثيرها العولمة في صلتها بالثقافة. هي من نوع الثنائيات التالية : العالمية والخصوصية. الاستثنائية الثقافية. نمطية الثقافة الغربية. الأحادية والتعددية. كلها مسائل مشروعة تفصح عنها العولمة كظاهرة معاصرة. تعبر عن راهنية العالم ومحاولة الإلمام به برمته . فما دام النمط الثقافي الذي تكرسه العولمة هو التعامل الايجابي مع الإحداث والوقائع والمواقف. فان إثارة موضوع النمطية الأحادية في وجه الخصوصيات والاستثناءات الثقافية. يمكن أيضا التعامل معها بصورة ايجابية. وذلك بإعادة تكييف هذه العلاقة والنظر إليها من مواقع جديدة تتيحها العولمة التي تقدم يوميا جوانب أخرى من النظر. ولعل أول هذه القراءات الجديدة لإزالة وهم الثقافات الخصوصية وخشيتها من الاندثار إمام العولمة هوإن الثقافة الغربية ذاتها ثقافة متعددة. وأصولها متأتية من حضارات مختلفة. كما أن الحياة الديمقراطية فيها كشفت عن تنوع ثقافي واجتهادات فكرية بلغت حد التناقض والتناظر مثل المادي والمثالي والرومانسي والطبيعي والديني والإلحادي والأخلاقي والإباحي. الخ .
الوجه الثاني للتعامل الايجابي مع الثقافة المعاصرة هو أن الحداثة ساعدت كثيرا شعوب العالم المتخلف من بلوغ مستويات متقدمة. فضلا على أن شعوبه تحررت أيضا بواسطة ثقافة الغرب المتنوعة. واختارت منه الفكر التحرري. وثقافة حقوق الإنسان والحريات العامة والعدالة والمساواة. ومقاومة الاستبداد والطغيان. والبحث المتواصل عن قيم الخير والإنصاف وروح المحبة كعقد للاجتماع المدني والسياسي .
ثالث هذه الوجوه. ولعله أولا. هو الثقافة الأمريكية. التي تظهر عند التحليل أنها حاصل تركيبي لجملة من الثقافات الضاربة في التاريخ لدى شعوب كانت متقدمة أو متخلفة. ثم عملت على إعادة صياغتها صياغة تاريخية وصهر معطياتها في وعاء جديد صار يعرف بالثقافة الأمريكية
وفي ظل هذا الاعتبار الذي يحاول أن يتعامل مع العولمة كفرصة وسيرورة تاريخية صائرة الى لمّ أطراف العالم ويوضع الجميع أمام الجميع. تظهر العولمة كحافز كبير لكشف الخصوصيات والتعبير عن الذّوات والأرضيات ذات الألوان المحلية terroirs.
إن اللحظة الراهنة التي ترنوالى المستقبل تستوعب فكرة التقدم والتغيير المتلازمين كما تدغم الاختلاف والتعدد. وكلها تؤدي الى تعامل نوعي مع الهوية التي تعرف وتعرّف بالثابت الجوهري. فقوام الهوية هوما تعرف به وتتحدد به المجتمعات والقوميات والشعوب والأمم. وقد طرأ تغيير كبير على الحالة البشرية. خاصة مع فتوحات العولمة التي تجبرنا على الدخول والخروج من مجال الى مجال ومن منطق الى منطق ومن موقع الى موقع. بل من عالم الى عالم من العالم العياني اليومي الى العالم الافتراضي، فضلا على التفكير بأكثر من لغة والعمل في أكثر من مكان .
فالتغيير والاختلاف يؤديان الى تغيير نوعي في الهويات الثقافية يجبرها على عدم الارتكان على مقوم ثابت أبدي[9] .. بل المقومات هي دائما في حالة تغيير وتنوع واختلاف .. وهذا ما يفضي الى تنوع الإبداع الخصوصي ما دام الإنسان بوسعه أن يلتقي ويعيش أكثر من تجربة وفي أكثر من مكان ويستوعب أكثر من لغة ويبدع بها كذلك .
وإذا كانت مسألة الهوية عادة ما تطرح في خضم البحث عنها. أو محاولة الرد على الاعتداء عليها أوصيانتها من الاستلاب والاغتراب أو الانمحاء والذوبان في هويات أخرى. فان هذا يكشف لنا عن جوانب أخرى من مسألة الهوّية في العالم المعاصر . فقد تبين أن الهوية ليست ما هي غاية فقط. بل هي أيضا وفي جزء كبير منها. ما تطمح إليه بسبب ما حرمت منه . فالمحدد ليس فقط ما هو موجود ومتوفر كمقوم للذات بل ما تسعى الى تحقيقه هذه الذات .. ولعل أبرز ما تبحث عنه الهويات المعاصرة هو العيش مع الآخرين. خاصة المجتمعات المتخلفة التي تعاني التخلف بسبب غياب الانسجام في مؤهلاتها النفسية والعقلية والاجتماعية. وفي رصيدها التاريخي وإطارها الحضاري الجديد المتمثل في الحداثة والعولمة . وعليه،أو بناء على ما تقدم. أن ثقافة العولمة تمثل الجزء الذي يقبل القسمة المشتركة مع جميع الهويات .
والتلازم الذي أثير بين العولمة والهويات الثقافية وجد خاصة في المجتمعات التي تعاني أصلا مشكلة الهوية أو تعيش مأزق الهوية . والعولمة جاءت كسيرورة وسياق لتنبه الى مدى تأخر الهويات عن ركب الحضارة الإنسانية الجديدة . ولنأخذ مثل المجتمعات العربية. ومنها خاصة الجزائر. فقد عاشت ولا تزال تعيش إشكال الهوية قبل وفي سياق العولمة . فقد استطاعت الشعوب العربية إن تفتك الاستقلال من الأجنبي لكنها لم تستطع تحقيق الاستقلال الذاتي الداخلي المعبر عن المقوم الجوهري والذي تفصح به عن طريق الإبداع والخلق والابتكار عن ثقافة جديدة لا يعيقها الدين ولا اللغة ولا روح العصر الذي تعيش فيه. فقد تبين. بلا ظل من ريب. أن العرب يعانون من مشكلة اللغة. كما يعانون من مشكلة الدين بسبب توقف الاجتهاد لقرون طويلة وضعت مسافة زمنية بين الفكر والمسائل التي يجب أن يفكر فيها. فلا زالت قضايا وإشكاليات الفكر الإسلامي الكلاسيكي هي ذاتها التي يجتهد فيها الفكر الإسلامي المعاصر. فضلا على الخلافات المذهبية والفقهية وغياب القضايا الكلامية الحديثة واستمرار نفس الإشكالية التي طرحها رواد الإصلاح والحداثة مطلع القرن العشرين ... لا بل نلحظ تراجع كبير في بعض المجتمعات. مثل الجزائر التي دخلت دائرة لولبية تفقد فيها يوميا رصيدها من التماسك الاجتماعي. ورأسمالها الرمزي والمعنوي والأخلاقي. فضلا عن انعدام الاجتهاد الديني والسياسي وتقلص استعمال اللغة العربية والفرنسية في مجالات التعبير عن ذاتية المجتمع الجزائري .
وهكذا. فالعولمة علامة على وجود هويات سابقة عليها. وفضلها يعزى الى أنها لفتت نظر النخب كما الشعوب الى نواقص وهشاشة بعض مقوّمات الهوّية ومدى صدقية ومصداقية الخطابات الاحتفالية التي تداولتها الأنظمة التي جاءت بعد الاستقلال. خاصة بعد الإفلاس المروّع الذي منيت به مشاريعها التنمية والشعارات التي لم تجد ما يقابلها على مستوى الواقع . والعولمة من هذه الناحية جاءت لتكشف مدى زيف الهويات القائمة. منبهة الوعي الى هشاشة الثقافة كمقوّم للهوية. كما أن العولمة ذاتها علّمت على وجود مكامن حيوية في العديد من الثقافات كان ينظر إليها زمن الاستعمار نظرة أناسية anthropologique .
نحو العيش معا .. كمجال للتعددية الثقافية .
إن العيش معا le vivre ensemble لا يلغي الهويات الأساسية الفردية والقومية. بل يعيد صياغتها في معطيات جديدة مثل معطى العولمة التي تظهر قدرة فائقة على توفير إمكانات إعادة صياغة الواقع وعلاقة الإنسان به . فبإمكان الإنسان الذي يعيش هويته الخاصة سواء أكانت ثقافية أو سياسية أن يعيش أيضا مع الآخرين هوية جماعية تفرزها الحياة المشتركة الجديدة . كل شخص في هذا العالم إذا توفر على قدر كاف من الوعي بلحظة العولمة يدخل المجتمع الدولي وهو يتمتع بكل مقوّماته الذاتية، يستلهم كيانه في عمق أعماقه. ويغوص في عالمه الروحي والوجداني والتاريخي والفكري يستوحي منه أسلوبه في التعبير عن ذاته في عالم الهوية الجماعية .
فالعيش معا كأسلوب تواجد أكثر من طائفة وقومية في مجال اجتماعي سياسيي عام أدّى من جملة ما أدّى الى اثارة موضوع التعددية الثقافية le multiculturalisme كواقعة جديدة في عصر العولمة لأنها تأتت من لحظة الاستخدام الفوري لوسائل الإعلام والاتصال التي وضعت الإنسان في مقابل الإنسان. أي هويته في مقابل هوية الآخر للبحث عن سبيل للعيش معا عبر فرز وتوفير مجال جديد تفصح فيه كل القوميات والشعوب والطوائف مهما اختلفت أصولها التاريخية وتطلّعاتها المستقبلية عن ذاتيتها وثقافتها وسلوكها الحضاري نحوالذات ونحو الآخر أيضا . فقد سادت فترة – قرابة القرن أو أكثر- محاولة الإنسان الانتصار، زمن الاستعمار. على الإنسان نفسه. ثم جاءت لحظة الإنسان الذي يواجه نفسه عندما حاولت العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة أن تجبره على البحث عن نفسه ومن تلقاء نفسه بإعدام كل المؤثرات الخارجية والميتافيزيقية عن الظاهرة و بعد حديث النهايات الذي طال كل المراجع والصّوى والمعالم التي اهتدى بها الإنسان منذ فجر التاريخ. منها الدين. الله. القوى الخرقة. الأساطير ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- إن الاقتصاد المعولم. هو بهذا المعنى اقتصاد افتراضي. حيث اللامادي يحتل مكانة مركزية. وهو ذو طابع إنتاجي. علاوة على التهامه للمعنى )بمعنى ان المادة لم تعد هي قوام الاقتصاد ومعياره ( . أنظر في هذا المعنىNicolas Guilhot , les enjeux de la mondialisation , In les enjeux du débat public contemporain , éd. La Découverte 1999, p.14.
-إن العولمة هي واقعة العصر الأولى. كما يرى المفكر اللبناني علي حرب . أنظر كتابه المهم حديث النهايات فتوحات العولمة ومأزق الهوية. المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 2000 , يمثل هذا الكتاب. أهم الكتب التي تتحدث عن العولمة من واقعها الحقيقي ومن صلبها منخرطا في أروقتها المتقاطعة ولغاتها المتعددة . يقول الأستاذ علي حرب في هذا الكتاب : « إن العولمة تخلق لأول مرة الإمكان في أن يتعامل الناس كوسطاء بعضهم لبعض. بدلا من أن يكونوا أوصياء أو وكلاء بعضهم على بعض . ولعل هذا ما يثير فزع أو قلق المثقفين والدعاة الذين طالما تعاملوا مع أدوارهم بوصفهم النخبة أوا لصفوة التي تمارس الوصاية على الهوية الثقافية أو على المعرفة الحقيقية . » ص.11.
[i] - أنظر في هذا المعنى الجديد للسيادة وكبف تتشكل في عصر العولمة وما بعد الحداثة الكتاب المهم “ الإمبراطورية” للمفكر الايطالي أونطوني ونيقري و صديقه ميكايل هارد . Empire, Michael HARDT et Antonio NEGRI, Exils ed. Paris,2000
[2] - صلب السؤال في المسألة هو لماذا تتلكأ الإدارة الأمريكية المتعاقبة على حل القضية الفلسطينية . وما السياسة التي انتهجتها حيال هذه القضية فهي لإخفاء السؤال الحقيقي :لماذا ترفض الحل النهائي لقضية الشرق الأوسط.
[3] - مثل الخلاف في تصور الإسلام لحقوق الإنسان. الديمقراطية. الدين. التسامح. الحرية ... الخ .
[4] - لا زال الخطاب الإيديولوجي الاستعماري يسود علاقات الشرق والغرب .
-[5] إذا اقتصرنا على السنوات الأخيرة من القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين. نقول أن الحروب ضد أفغانستان والعراق والتحرش ضد إيران وسورية . هي من جملة الحروب التي يشنها الغرب. أمريكا على وجه الخصوص. ضد العالم العربي والإسلامي. علاوة على أن دولة إسرائيل. الجبهة الأمامية للمشروع الاستعماري في العصر التكنولوجي الفائق. تسخر في عملية معقدة ومحبكة. قصد استنزاف طاقة المسلمين ودحر كل محاولات الإقلاع الاقتصادي والحضاري .
[6] وهذا ما حاول أن يظهره الكاتب الفرنسي ايمانويل طود في كتابه الأخير ما بعد الإمبراطورية . فقد صارت أمريكا مشكلة لهذا العالم بعد م كانت مرجعا لحل عدد من مشاكل العالم في السابق . وهي اليوم تحتاج الى باقي العالم أكثر مما يحتاج إلهيا . و والمخرج ه والتواصل مع العالم على أساس من العدل والإنصاف والمساواة. لأن العصر الفائق لم يعد يسمح بالاستخفاف بهذه الأمور ...وإلا الانهيار والتفكك. يقول الكاتب : «في بدء العالم يكتشف الديمقراطية ويعن بإمكانه تخطي الولايات المتحدة الأمريكية. بدأت هذه الأخيرة. وبصورة مفارقة جدّا. تفقد خصائصها الديموقراطية وتكتشف بأنها لا قبل لها من الاستغناء الاقتصادي عن سائر العالم . Emmanuel Todd , Après l empire, essai sur la décomposition du système américain , Gallimard ,Paris ,2002,p.31
[7] بسبب أحداث أيولل/ سبتمبر 2001، انفردت الإدارة الأمريكية بتحديد ما هو الإرهاب ومنهم الإرهابيون وخّرت سياسة وإستراتيجية لمكافحة مؤسسة الإرهاب الدولي . رغم أن ظاهرة الإرهاب خرجت من الجهة التي وفّرت شروطه وامكان حدوثه أو روح الإرهاب على حد تعبير المفكر الفرنسي جان بودريارد. Jean Baudriallard ,l ésprit du terrorisme , éd. Galilée ,Paris , 2002.
[8]-اليوم. صارنا نتحدّث عن الوجه الآخر للعولمة. وأنصار هذا الاتجاه صاروا يعرفون ب Altermondialistes. . أي ليسوا مناهضين للعولمة في المطلق. وانما هم منخرطون فيها مع الوعي بىثارها ومحاولمة التأثير فيها والتدخل وفق منطق العلاقة البينية Interactivité
[9] من أهم الكتب التي تحدّث عن مسألة الهوية والاختلاف. كتاب الاستاذ محمد شوقي الزين Mohammed Chaouki Zine , Identités et altérités , réflexions sur l identité au pluriel , éd. El-Ikhtilef , Alger , 2002 .