المسيحية والاسلام بين القربى الكيانية والقربى الوجودية
المسيحية والاسلام بين القربى الكيانية والقربى الوجودية
بقلم الاب مشير باسيل عون
تؤمن المسيحية وتعترف بان الله اراد للانسان ان يشترك في الطبيعة الالهية، ويؤمن الاسلام ويعترف بان الله اراد للانسان ان يشترك في تحقيق مشيئة الهداية الالهية على الارض وحسب. فالمسيحية تقول باختبار شخصي ليسوع المسيح يجعل من المؤمن المسيحي قادرا على التيقن الروحي من ان الله اصطفاه ابنا له. اما الاسلام فيذهب الى ان الله ما فتىء منذ بدء النبوة في مستهل الخليقة حتى اختتام النبوة في تنزيل القرآن، ما فتىء يكشف للانسان طريق الهداية نحو الخير والصلاح والكمال والسعادة. فاذا بالوحي المسيحي وحي الله بذاته في تجلي يسوع المسيح، واذا بالوحي الاسلامي وحي المشيئة الالهية بذاتها في تنزيل كلام القرآن.
وبناء على هذا الاختلاف اللاهوتي الاصلي، تؤمن المسيحية، وقد اقتدت بنهج الوحي الالهي الذاتي، وتعترف بان الله يدنو من الانسان حتى منتهى الدنو وبان الانسان، بفضل هذا الدنو الفائق الوصف، يدخل في حركة الوجود الالهي دخول الابن الشريك الذي اسبغت عليه نعمة الشركة الالهية هذه ويؤمن الاسلام، وقد احتذى بصراط وحي المشيئة الالهية، ويعترف بان الانسان يلج في حضرة العزة الالهية ولوج الخليفة الذي منح افضال الاشتراك في تدبير شؤون الخليقة.
فالمسيحية تؤمن بان الله اقترب حتى الاتحاد الكياني بالطبيعة البشرية لكي يتسنى للطبيعة الانسانية ان تتحد بالطبيعة الالهية، والاسلام يؤمن ان الله قريب من خليقته بعطفه ورحمته وحنانه، اي بصفاته وافعاله لا بكيانه، اذ انه لا ينتقل انتقالا كيانيا الى دائرة الانتماء البشري. فالقربى المسيحية هي القربى الكيانية لان الله يؤهل الانسان ان يتحد كيانه البشري كله بالطبيعة الالهية، والقربى الاسلامية هي القربى الوجودية لان الله يؤهل الانسان ان يستذكر معاني الرحمة في قلبه، وان يستحضر روح الله في مسرى وجوده، وان يشترك في تدبير الرحمة المعد لابناء الارض كافة.
الفرق بيّنّ بين الديانتين المسيحية والاسلامية. ولكن الدفاع الاسلامي عن التنزيه الالهي لا يبرر تكفير المسيحيين، والدفاع المسيحي عن القربى الكيانية لا يبرر الانتقاص من مقام القربى الوجودية، كأن يدعي المسيحيون انها لا تروي الظمأ، ولا توائم عظمة التدبير الذي اراده الله للانسان. ويقين العارفين الانقياء من الديانتين ان القربى الكيانية قائمة على اصل القربى الوجودية، وان القربى الوجودية تطل بالانسان على مشارف القربى الكيانية.
ايمان المسيحيين بان الله اتحد بالانسان ليأتي بالانسان الى الاتحاد بالله لا يجعل من المسيحيين منكرين للعزة الالهية، ولا يمس السمو الالهي، ولا يبرر للمسيحيين ان يتعالوا على الآخرين ويستصغروهم. فالله في صميم كيانه يظل اسمى من تصور الاسلام واسمى من تصور المسيحية. ولكن السبيل الى اكتشافه في المسيحية هو القربى الكيانية، كما يختبرها المسيحيون في شخص المسيح، والسبيل الى اكتشافه في الاسلام هو القربى الوجودية، كما يختبرها المسلمون في الوحي القرآني. وفي كلا الاختبارين تتجلى ارادة الله في الاقتراب من الانسان ومحبته.
آن الاوان للمسلمين ان يدركوا ان تجلي الله في شخص المسيح، والمسيح هو على هذه العظمة من البهاء الانساني والكمال الخلقي الفريد، لا ينتقص من سموه الفائق الوصف لأنه تجلى بمحض ارادته على نحو ما يؤمن به المسيحيون. وتتجلى عظمة الله وعزته في انتماء المسيح الى المشيئة الالهية وخضوعه لمن يدعوه الآب السماوي.
آن الاوان للمسيحيين ان يدركوا ان تجلي كلام الله في القرآن، والقرآن فيه ما فيه من سمو الدعوة الروحية تتلبس بها ارشادات اخلاقية تبررها اسباب النزول في عصر النبيّ محمد، لا يحصر الله في حيّز التنزيل الكلامي ولا يمنع المسلمين من اختبار تجليات الله في تنوع الالهامات التي يقذفها روح الله في افئدة المسلمين الاتقياء المواظبين على استجلاء معاني القرآن في مسرى الوجود التاريخي ومصطرع النضال الانساني.
فلا التجسد حصر لله، رغم ما يميل بعض المسيحيين الى اذاعته، ولا التنزيل حصر لله، رغم ما ينزع بعض المسلمين الى اظهاره. واذا كان الله، كما يحلو لاصفياء الذهن في الديانتين، يتجاوز كل تصورات البشر، فلينعم المسيحيون باختبار القربى الكيانية في شخص المسيح، وهم يحملون المسيح على اوسع مدى من الغنى الالهي الذاتي، ولينعم المسلمون باختبار القرى الوجودية في الوحي القرآني، وهم يحملون القرآن على اوسع مدى من غنى الكشف عن المشيئة الالهية. وليس من المستغرب ان تنبثق مثل هذه الدعوة من اقلام اهل العلمانية في لبنان، وهم الذين يحرصون ان يختبر كل لبناني سرّ الكشف الالهي بما يوافق انتماءه وحسه ومنزع فؤاده. فاذا كان اللبنانيون العلمانيون وبعضهم على شيء من المحايدة الدينية والاستقلال الفكري، يؤثرون التحريض على حريّة الاختبار الايماني، أفلا يجدر بأهل الاختبار الايماني ان يكتموا في ضميرهم الديني عنفَ الدفاع عن الله ويعززوا في وعيهم الانساني فضيلة التسالم والتوادّ والتراحم؟
وكما أنّ جسدية شخص المسيح لا تبطل في نظر المسيحيين سموّ الكيان الالهي، كذلك تاريخية الكلام العربي لا تبطل في نظر المسلمين سموّ الكلام الالهي. فالمسلمون آثروا الخفر والاجلال في اختبارهم للألوهة، والمسيحيون آثروا الجرأة والداّلة في اختبارهم للألوهة. وأهل الديانتين جميعهم ينسبون الى الله نمط التجلي الذي يؤمنون هم به. وهذا النسب إنما هو محض فعل ايماني لا نقاش فيه في مستوى الاقتناع الباطني. والواقع أنّ ما ينسبه الانسان الى الله لا يجوز انكاره على المؤمن المختبر للكشف الالهي إلاّ اذا تبرّرت بمثل هذا النسب اهانة الانسان في وجه من الوجوه. وحسن ان يأتي هذا الاختلاف دليلاً على التنوّع الاصلي اللصيق بالطبيعة البشرية، اذ ان منطق الفرادة البشرية ينفي ان تساق الجموع سوق الخراف، ولو أتى السوق شهادة لأسمى تجليات الحق الالهي. فاليقين ان الحق الالهي هو الذي أراد بمشيئته الممتنعة الوصف تأصيل هذا التنوع في اعمق اعماق الكينونة الانسانية. وقد يصبح النقاش اللاهوتي ضرورة قصوى حين يعمد الانسان، وقد اعتصم ببداهة الاقتناع الباطني، الى تبرير قتل اخيه الانسان. بمثل هذا النقاش يمكن ردع المتطرّف عن غلوائه. فطالما ان المؤمنين الاتقياء في الديانتين المسيحية والاسلامية لا يخالفون وصية الرحمة والمحبة في مسلكهم الانساني، فليكشف الله، اذا شاء، في آخر الدهر، حقيقة الوجه الذي يختلف في تلمسه ابناء البشر الضاربين في مجرى التاريخ الناقص.
لا يجوز على الاطلاق ان ينتقص المسيحيون من سموّ الروحية الاسلامية المبنية على الوحي القرآني، ولا يجوز على الاطلاق ان يكفّر المسلمون المسيحيين لظنهم انهم يشوهون صورة الله. فالله لا تشوّه صورته بهذا اليسر الذي يخيّل الى بعض المغالين في الديانتين. وكل دعوة نزيهة الى الدفاع عن الله في الوحي القرآني وفي الوحي الكتابيّ إنما هي في حقيقة ذاتها دعوة الى الدفاع عن الانسان وكرامته وحريته وحقه في عبادة الله عبادة توائم حسّ المؤمن وتستنهض ضميره وتستجيب لإلهامه الباطنيّ. ولينهض الجميع من مسيحيين ومسلمين ليدافعوا عن الانسان الذي تهان كرامته في الشرق وفي الغرب، وتغتصب حريته، وتداس حقوقه، وتسلب طاقاته، وتستغل امكاناته. وليس القول بالقربى الكيانية او القول بالقربى الوجودية هو الذي يبرر التعادي والتناحر والتقاتل. فالقائل بالقربى الكيانية من المسيحيين هو اشد الناس دفاعاً عن حرية الانسان. والقائل بالقربى الوجودية من المسلمين هو اشد الناس دفاعاً عن كرامة الانسان. ولست أرى تناقضاً بيِّناً بين الكرامة والحرية، إلاّ في حال التشدد المستميت في انفاذ احكام شرائع المؤسسة الدينية المسيحية والاسلامية. ولا غرابة ان يكون مثل هذا التشدد يستهوي بعض المغالين من أهل الديانتين حين تُصوَّر لهم احوال الاقتدار في السياسة ان تجسيد المشيئة الالهية في حدود المدينة الانسانية يُبطل للآخر شرعية التنعم بحريته المطلقة في الانتماء والتفكير والتعبير والعمل التغييري المسالم.
أزفت اليوم ساعة التلاقي الحقيقي بين المسيحية والاسلام في صفاء توقهما الروحي الى اسعاد الانسان. وليُقبل اهل الديانتين على تجديد اجتهاداتهما في تأوّل معاني الوحي الالهي حتى يستقيم لهم فعل الاسعاد الاسمى للانسان. ومن شاء ان يتذوق تحاور العلماء في استجلاء اختبارات المسيحية والاسلام، فالحق ممتد امام الجميع تكسوه ازهار البهجة الروحية التي لا تعادلها انعاشاً للوجود الانساني واكمالاً له إلاّ بهجة الفوز بتحرير الانسان من سلاسل القهر الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.
ومما لا ريب فيه ان حوار اللاهوت له منفعة عظيمة لأهل الايمان ولأهل العلمانية في لبنان. غير أنّي لست ارى كيف يمكننا تحرير هذا الحوار اللاهوتي وانضاجه واثماره طالما لم يتحرر الخطاب اللاهوتي المسيحي في لبنان من عتيق مقولاته في تصوّر غيريّة الدين الاسلامي وخصوصيته وفرادته، وطالما لم يتحرر الخطاب اللاهوتي الاسلامي في لبنان من قديم احكامه في ادراك غيرية الدين المسيحي وخصوصيته وفرادته. وفي جميع الاحوال، أثبتت خلاصة الحضارة الانسانية في مطلع الالف الثالث ان مقولات التكفير والتحقير والاقصاء قد سقطت سقوطاً لا معدل عنه من لغة التواصل الانساني.
ولذلك يدعو اللبنانيون المسيحيون شركاءهم اللبنانيين المسلمين الى التخلي عن المقولات اللاهوتية الدفاعية التي حتمت عليهم في زمن المجادلات المسيحية الاسلامية في القرون الوسطى ان يقذفوا المسيحيين بتهمة الكفر الذي يستوجب الدينونة. فاختبار القربى الكيانية بين الله والانسان في المعتقد المسيحي ينبغي للبنانيين المسلمين في اليوم الحاضر ان يحملوه على معنى العشق والرغبة الشديدة في الاتحاد بالحب الإلهي. فالمسيحية تعشق الله في المسيح، وتعشق المسيح في الله. فلو ان المسيحيين اختاروا كائناً غير المسيح يعاينون فيه تجلّي الرقّة الالهية في أبهى اعتلان لها، كأن يروا الألوهة تتجسد في صنم جامد او ملك حاكم او فكر فاتح، لأتت غيرة الاسلام على شيء من الحقّ حين يقتصر المسلمون في التعبير عن استنكارهم اللاهوتي على دفاع الشهادة الايمانية المسالمة لحقيقة التنزيه الالهي. ولكن المسيحية عاينت في أرق الكائنات واعذبها أوثق وصال بالعزة الالهية، فنعتت المسيح بكلام الله وبروح الله وبابن الله. والنعوت تظل سبلاً لاهوتية لا قبل لها بأن تغلق باب الاجتهاد اللاهوتي في المسيحية.
فلينظر المسلمون إذن ملياً في معاني العشق المسيحي قبل الاندفاع في خطاب التشدد اللاهوتي. واذا ما عكف الشركاء المسلمون في لبنان على استجلاء معاني هذا العشق، ارتاح شركاؤهم المسيحيون واقبلوا يتفحصون التصورات والمقولات والمفردات التي بها يلتمسون التعبير عن سرّ اختبارهم الروحي. وكلما رسم عالم دين لبناني مسلم صورة بهية عن المسيح، خفّ عالم دين لبناني مسيحي الى التأمل في هذه اللوحة اللاهوتية الاسلامية، واقبل يستطلع فيها ما يعينه على اغناء خطابه اللاهوتي العربي وتنويع تعابير هذا الخطاب عن معاني الاختبار المسيحي الاصلي، اختبار اعتلان وجه الله على محيّا المسيح. وحده التأمل المسيحي في معاني القربى الوجودية المعتلنة في الوحي القرآني والتأمل الاسلامي في معاني القربى الكيانية المتجلية في الوحي الذاتي لله في شخص المسيح، وحده مثل هذا التأمل المسيحي الاسلامي قادر على اخراج الحوار المسيحي الاسلامي اللاهوتي من مضايق الاحكام المتكررة ومهالك التصورات الخاطئة ومصارع التنابذ المكتوم. اذا شاء اللبنانيون المسيحيون والمسلمون ان يجددوا عدتهم المعرفية الدينية ويصقلوا تعابيرهم اللاهوتية ويرفدوا شركاءهم العلمانيين بعناصر الاغتناء الروحي، فليقلعوا عن تكرار مسبوكات صياغاتهم اللاهوتية العتيقة وليستبقوا المسيحية العالمية والاسلام العالمي الى ابتكار سبُل التفكير اللاهوتي المشترك والبحث المتضامن عن افضل المقولات اللاهوتية التي تعين اللبنانيين جميعاً على تذوق غنى الرسالة المسيحية والرسالة الاسلامية. وحده الابتكار الاسلامي اللاهوتي الجريء يحرّر اللبنانيين المسيحيين من تجارب القنوط واليأس والاستسلام، ويظهر لهم ان شركاءهم اللبنانيين المسلمين يحرصون كل الحرص على فهم المسيحية قبل التسرّع في رفضها، وعلى محبّة المسيحيين قبل التطرّف في تصنيفهم وتفنيد آرائهم والاستظهار عليهم بالفكر الأصوب والمعتقد الأقوم والمسلك الأفعل.