ثقافة الحوار في مواجهة تحديات العولمة
حازم القصوري
1) ـ حدود وأبعاد
الإنسان ـ أي إنسان، فرداً أم جماعة ـ لا يمكنه أن يعيش خارج بيئته أياً كان الزمان أو المكان؛ ولذلك فهو مرتبط بالوسط/ العالم وتغيراته المتسارعة على كل صعيد، ومستوى... فأي مثقف عاش في عزلة، انتهت به هذه العزلة إلى العجز من تطوير حياته وأدواته وحاجاته، ومن ثم وقع في الخلط والخلل، والزيغ والجهل والنقصان، وأصبح عاجزاً عن تطوير مجتمعه...
إذاً، الحياة بكل متطلباتها تفرض على الإنسان والشعوب عملية التواصل فيما بينها؛ وهو تواصل يجري بأشكال شتى على مختلف الصعد السياسية والثقافية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية والإعلامية والتقنية.... وعلى مختلف المستويات الفردية والجماعية، دولاً ومؤسسات ومنظمات وهيئات... ويمكن للمرء أن يتوقف عند الصعيد الثقافي بوصف الثقافة ذات اتجاهات شتى؛ مادية ومعنوية.
ومن ثم فالثقافة تقع في رأس الحاجات العليا للبشرية؛ وتغدو أداة ووظيفة وهدفاً في آن معاً. لذلك تعددت مفاهيمها وتعريفاتها؛ وأشهر تعريفاتها أنها مجموع المعارف والخبرات والعادات والتقاليد والطقوس التي تتحول إلى أنساق فكرية وسلوكية(1)... أو هي مجموع النشاطات الاجتماعية والإنسانية مادياً ومعنوياً.
فالثقافة ـ في هذا المقام ـ تجسّد محطة الوعي الكبرى لدى الإنسان بكل ما يحتاج إليه، وتؤسس لاستثمار العقل البشري في اتجاهات ثقافية متنوعة ومتعددة تبعاً لأنماطها الروحية والمادية، والشعبية والرسمية، والتربوية والعلمية والأدبية والفنية، الإيجابية والسلبية. وهنا أيضاً ثقافة القيم الخلقية والجمالية، وثقافة الإبداع والاختراع و... وتقانة المقاومة والحرية... وثقافة المساومة والهزيمة، والاستسلام، وثقافة الغزو، والثقافة المضادة(2)...
أما المثاقفة فهي اكتساب فرد ما أو جماعة ما ثقافة الآخر بأسلوب إرادي ولا إرادي؛ أي وفق منهج علمي مدروس أو أسلوب عشوائي عفوي. فالمثاقفة حاجةً لا غنى عنها للأفراد والجماعات و... وهي تتجه اتجاهات نظرية أو سلوكية حياتية، وترتبط بالتصرفات تارة فتغدو تقليداً عند هذا الفرد أو ذاك... كما ترتبط بالفلسفات والرؤى تارة أخرى؛ وكل يريد أن يفرض رؤيته أو ثقافته على الآخر، وكذا هي سياسة الشعوب والدول... وفي مثل هذه الحال تصبح المثاقفة غير متوازنة، وغير طبيعية، وغير موضوعية... وهذا ما يمكن أن يتجلى في ثقافة العولمة (Globalization) التي راحت تفرض أنماطها على ثقافة العالم وعقله في الاقتصاد والتجارة، والتقنيات والأسفار، والإعلام والفضائيات والاتصال والمواصلات، والحاسوب والشابكة، والتزيين والأثاث، والأطعمة والأزياء، والعلوم والمعارف، والفنون والآداب والنقد(3)... وقد أصاب ثقافتنا العربية، وعاداتنا الاجتماعية تغييرات غير قليلة لصالح ثقافة العولمة، وفق ما سنشير إليه في نهاية البحث.
ومن ثم فالثقافة الحقيقية تشترط المثاقفة بين الثقافات والشعوب على أساس التوازن والعدل الإنساني؛ وإن كان طرف ما أكثر تقدماً وارتقاءً من طرف آخر، علماً أنه لا يمكن لأي مثاقفة مهما كانت أشكالها إلا أن تجري بالحوار والتواصل الصحيح دون فرض أو قهر بالقوة. ثم إن قضايا الحوار الثقافي تعد ـ اليوم ـ واحدة من أبرز قضايا الفكر العربي المعاصر... ولا مراء لدينا في أن كل ثقافة تتصف بخصائص ذاتية تميزها من بقية الثقافات، طبيعة ووظيفة،... وهذا يضع نصب أعيننا أن الثقافة العربية التي تكونت منذ آلاف السنين(4) قد اندمجت بالإسلام حتى صارت العروبة جوهراً؛ والإسلام روحاً، ومن ثَمَّ اصطبغت بالعمق والاتساع لأجناس شتى.
وإذا كنا نريد أن نتعلم أنماط الثقافة ونحرص على تبني أشكالها الإيجابية، فإنه ينبغي أن نتحرر من الأشكال السلبية فيها نفسياً وفكرياً واجتماعياً فنقلع عن تبني مفاهيم الخوف والاستلاب والتبعية، والهزيمة، والإرهاب فضلاً عن مفاهيم الثقافة الاستهلاكية،... وأن نتبنى أشكالاً إيجابية، بناء على مختلف المستويات وتعدد الانتماءات؛ أي علينا أن نتمسك بمعادلة ثبات الذات هوية وثقافة، ثم نثري الاتجاهات الثقافية لدينا بكل ما هو مفيد ونافع وجديد.
إذاً، هناك اتجاهات أخرى للثقافة والمثاقفة فنقول ثقافة وطنية وقومية وإنسانية، وثقافة علمية؛ وأدبية ونقدية، وثقافة إعلامية واقتصادية وسياسية واجتماعية و... وفضلاً عن ذلك فهناك خلط بين الناس في مفهوم الثقافة والمدنية؛ كما خلطوا بين مفهومي الثقافة والحضارة؛ فإذا كانت الثقافة مجموع مدخلات الذهن البشري من الخبرات والمعارف والعادات والفنون والآداب و... قديمها وحديثها قد تحولت إلى أنساق معرفية وعلمية وفنية و... وسلوكات ... فإن الحضارة أوسع مفهوماً وهي حضارة إنسانية تتبنى المفاهيم الخلقية والمعنوية والمادية القديمة والحديثة، لخدمة الإنسان كي يتقدم ويرتقي، ما يعني أن الحضارة تتجاوز الزمان والمكان والجنس واللون، وتتفاعل في غيرها من الحضارات التي صنعها شعب ما وأمّة ما في مكان ما وزمان ما(5)... وما تزال تستند إلى هذا المبدأ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها... وبهذا فإن الثقافة تمتد إلى المضامين الفكرية في مجمل المعارف وإلى بعض الظواهر المادية والتقنية والفنية للحياة... على حين تمتد الحضارة إلى كل جوانب الثقافة ومفاهيمها، وإلى الحياة بكل أبعادها ووجوهها.
وإذا كانت الثقافة والحضارة تحتاجان إلى عقل واعٍ ومنهج وعلم ومعارف وتقنيات وفنون و... فإن المدنية تحتاج إلى مثل هذا، أي إنها تحتاج إلى كل ما هو مادي؛ وأما الخلق النبيل والروح السامية فإن كليهما تفترضه الثقافة، الوطنية والقومية، والإنسانية، كما تفترضه الحضارة، علماً أن أي تطور مادي مدني قد تتحول أشكاله أو تتغير أو تفنى.... ما يعني أن الشكل الحضاري ثابت، وأن أشكال المدنية تختلف من شعب إلى شعب ومن أمة إلى أمة، وإن انتقلت فيما بين الشعوب والدول والأمم كالأسلحة والإعلام، والعلوم، والفنون، والموسيقى والآداب... إذ يختلف التطبيق فيما بينها تبعاً للمبادئ الفاضلة والتصورات العقلية...
وحين سيطرت المدنية المادية على الحضارة الغربية منذ القديم كان العرب والمسلمون يسعون إلى حالة من التوازن بين المادة والروح ولا سيما بعد مجيء الإسلام الذي غدا روح العروبة. فالبنية الثقافة الجديدة هي التي أخذت تحدد خصائص المجتمع العربي ـ الإسلامي، علماً أن علماء الأنثروبولوجيا، وأقطاب علم الاجتماع المعرفي يذهبون إلى أن العناصر الروحية تتشيا بأنماط شتى مثل الأفكار والأخلاق والعادات والتقاليد، والقوانين والآداب واللغة والفنون... وهي التي تميز مجتمعاً من مجتمع آخر. ومن ثم فإن تحليل البنية الثقافة العربية بكل مستوياتها واتجاهاتها تعزز فكرة أصالة الحوار عند العرب والمسلمين، بوصفها فكرة ساعدت على التطور الحضاري للأمة.
ومن هنا تصبح معرفة دلالة الحوار ـ اصطلاحاً ـ ضرورة لفهم ثقافة الحوار التي غدت كينونة وجودية عند العرب والمسلمين. فالحوار (Dialogue) هو مراجعة الكلام في شأن ما، أو رأي ما؛ لتعزيزه، أو تصويبه، أو تطويره، أو التخلي عنه... ما يفيد بأنه نظام لغوي للتخاطب بين المتحاورين يتضمن رسالة ذات مضمون ما وطنياً أو قومياً أو إنسانياً، ذاتياً أو اجتماعياً، سياسياً أو ثقافياً أو إعلامياً أو أدبياً و... ومن ثم فالرسالة بمكوناتها الثقافية توصل إلى حالة من التماثل أو التجانس، أو التفاهم، أو... بوصفها رسالة تقريب حضارية تتنافى مع الصنعة والتزيّد، وتبتعد عن التلفيق والتحريف و... وهذا يبرز أن مفهوم الحوار يختلف عن مفهوم الجدل؛ وإن كانا يلتقيان في جوانب المراجعة الكلامية، إلا أن النقاش في الجدل غير مثمر؛ وقد ينتهي إلى نتيجة عقيمة(6)، علماً أن الجدل قد يعني الحوار نفسه بكل سماته وخصائصه، لقوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها؛ وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركما( (سورة يونس ـ 88).
2 ـ أصالة الحوار عند العرب:
لسنا نشك لحظة واحدة في أن العقل العربي ـ منذ القديم ـ قد انفتح على ثقافة الآخر، وواصَلها وحاورها داخلياً وخارجياً دون أن يصاب بعقد فكرية أو اجتماعية، أو دينية؛ فقد حاور العقل العربي الثقافات القديمة هندية كانت أم فارسية ويونانية، أفاد منها واستوعب فلسفاتها، وآراءها وأفكارها دون أن يصاب بالخوف والاستلاب والرعب والتطرف... على الرغم من أنها انشغلت ـ أحياناً ـ بالمفاهيم المادية أو المفاهيم المجردة، ولاسيما تلك التي ارتبطت بالذات الإلهية والروح والنفس، وتطرفت في معاملتها إلى حد إنكار الوجود الإلهي أو الاختلاف مع العقل العربي...
وهذا يعني أن المثاقفة تحتاج إلى شرطين: شرط الحرية، وشرط الحوار العاقل والمتوازن... ومن ثم لا يمكن لأي مجتمع أن يعزل ثقافته عن شروطها الزمانية والمكانية؛ والمعرفية والاجتماعية، أي إن شرط التغيير والتقدم ينبثق من صميم المثاقفة مع الآخر، والاتصال بقيمها ومفاهيمها المادية والمعنوية. وهذا ما عرفته الثقافة العربية حين نزعت إلى الانفتاح على ثقافات العالم القديم، في الوقت الذي اتّصفت بالحيوية والقدرة على التفاعل معها دون أن تفقد خصائصها الموروثة. ولا شيء أدلّ على هذا كلّه من الطبيب العربي الجاهلي (الحارث بن كَلْدة الثقفي) الذي فتح عقله على الفلسفة الهندية؛ فخبر معارفها وطبها، وتلقف منهما ما قدر عليه حتى صار طبيب العرب وحكيمها في الجاهلية... ثم تجددت عملية المثاقفة في العصور الإسلامية بعد فتح بلاد السند والهند والشام، و... ونقل العرب علوم الرياضيات والفلك والفلسفة،... وما من أحد يغفل عن الأرقام (الغبارية) التي نستعملها اليوم، ونطلق عليها ـ أحياناً ـ الأرقام (الهندية) ... وقد استندت المثاقفة لدى أجدادنا إلى حرية الحوار وموضوعيته وفق ما رسمه النص القرآني، ابتداء بمحاورة الله (سبحانه وتعالى) لإبليس؛ ومروراً بالقصص الحوارية الكثيرة بين الأنبياء وغيرهم، كحوار (موسى وفرعون) و(الرجل الصالح وموسى) و(نوح وابنه وقومه) و...وانتهاء بالحوار بين المتوافقين والمتخالفين في العقيدة والثقافة والجنس و...
هكذا تأسس الحوار في حياة المسلمين، وكان الرسول الكريم قد حاور المشركين وغيرهم، ومضى يحقق تثبيت دعوته استناداً إليها، سواء كانت حواراً شفهياً أم مكتوباً، كما جرى في معاهدة (صلح الحديبية)؛ وكذلك فعل الخليفة عمر (رضي الله عنه) في (العهدة العمرية)... ثم راحت ثقافة الحوار تتضح بين القوم الذين ينتمون إلى أمّة واحدة، وبين الأقوام الذين ينتمون إلى أمم شتى؛ وبرز حوار الثقافات، والأديان، والفلسفات في العصر العباسي.
وما من أحد ينسى البيروني (973 ـ 1048م) الذي واصل الثقافة الهندية أربعين سنة، فأنتجت هذه المثاقفة كتابه المعروف (ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة)... فالعرب عرفوا في القرن الخامس عدداً من الكتب الهندية ولاسيما الملاحم مثل (المهابهارتا والراميانا، والفيدا)، ولما انتشر الإسلام في بقاع من الهند بنى المسلمون واحدة من أعاجيب الدنيا (تاج محل) الذي جمع بين الطراز العربي وعدد من الطُّرُز الهندية والفارسية... فالثقافة العربية ـ الإسلامية استجابت لتجليات ثقافة الحوار في كل شأن من شؤون الإنسان الحياتية، والاجتماعية والفكرية والدينية و... واستندت في ذلك كله إلى حوار داخلي بعيد الآثار،وعميق الأغوار. فهي لم تترك شيئاً بعيداً عن متناول الحوار، بما فيها الحوار حول الذات الإلهية؛ ورسالات الأنبياء(7).
وهذا كلّه يثبت أن الحوار في الثقافة العربية ـ الإسلامية حوار داخلي من جهة وحوار خارجي من جهة أخرى، وأياً كان هذا الحوار أو ذاك فقد عني بمبدأ التكامل بين الأنا والآخر.
وبناء عليه فإن ثقافة الحوار، أو المثاقفة كانت وسيلة العرب لتطوير ما لديهم من معارف وخبرات وفنون وآداب وعلوم و... وتحويلها إلى أنساق فكرية واجتماعية تقوي مشاركتهم في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ وتشعر الواحد منهم بأنه جزء أصيل في بناء الحياة؛ أي إنه عضو فاعل فيها، وليس مجرد رقم من كتلة أرقام... ولهذا كان علمه أو كتابه يوزن بالذهب... وكانت وسيلتهم إلى تلك المشاركة الحوار الذي يستند إلى الحق والعدالة والحرية... أي إن ثقافة الحوار التي لا تستند إلى تلك المبادئ إنما تؤكد العبودية والتبعية والاستلاب و... فثقافة الحوار تنمو وتتطور وفق هذه الشروط التي تؤكد عملية التوازن في المثاقفة التي تؤسس احترام الذات بمثل ما تؤسس احترام الآخر وثقافته أياً كان الاختلاف معها، أو مع أفعاله، وتصرفاته..
3 ـ أقسام الحوار وطبيعته:
تبيّن لنا مما تقدم أن ثقافة الحوار تبرأ من الاستهزاء واللعن والطعن والغمز واللمز... لأنها تستند إلى الحرية في الاختيار والتقدير المتبادل؛ فحين أنشد المثاقفة الحرة فأنا ـ بالضرورة ـ أعترف بحرية الآخر وأعلي من مكانته، ما يشي بأن هذه الرؤية تعمق إنسانية الإنسان في داخله في الوقت الذي تكوّن أنموذجاً ثقافياً بديعاً... أي إن ثقافة الحوار تنفتح على المناخ الاجتماعي والفكري والسياسي والديني بأسلوب يسعى إلى الاعتراف بالآخر... ويقبل به أياً كان انتماؤه أو عرقه أو لونه أو... اللهم إذا استثنينا الكيان الصهيوني، لأنه كيان طارئ، غير شرعي قانوناً وشريعة...
ولعل هذا يعني أن ثقافة الحوار تنقسم إلى قسمين:
1 ـ الحوار الذاتي (الداخلي ـ المونولوج).
فالحوار الذاتي الداخلي ذو قيمة كبرى في هذا المقام؛ لأنه أداة مراجعة المرء لأعماله وسلوكه وآرائه وتصوراته وأبحاثه، ليصل فيها إلى درجة يرضى عنها، ويتقبلها المجتمع بقبول حسن؛ ولا تعارضُ القيم الخلقية، ومبادئ الشريعة السمحاء لقول أمير المؤمنين عمر: ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم))... والمقصود بالمحاسبة والوزن مراجعة ذاتية يجريها المرء بينه وبين نفسه بحوار ذاتي موضوعي عاقل، محايد...
ومهما كانت قيمة الحوار الذاتي، فإن النية لن تتجه إليه، بل ستتجه نحو محاورة الآخر.
2 ـ الحوار الموضوعي (الخارجي ـ مع الآخر)، والآخر قد يكون فرداً أو جماعة، دولة أو أمة موافقاً أو مبايناً أو مغايراً في العرق والانتماء، والجنس والثقافة، والرأي والموقف و... وربما تصل المغايرة إلى درجة العداء والصراع... في حالتي السلم والحرب وعلى المستويين الداخلي والخارجي، أي على مستوى الثقافة الوطنية، وعلى مستوى التحديات التي تتعرض لها هذه الثقافة، وخاصة تلك المتمثلة بثقافة العولمة، علماً أن محاورة الآخر قديمة قدم البشرية.
ومحاورة الآخر تنطلق من وعي الذات لنفسها بعد أن امتلكت المنهج والمعرفة سواء كانت فرداً أم جماعة، فوعي الذات لنفسها يمثل وعي الذات لمفهوم الاختلاف مع الآخر وثقافته، وفهم الكيفيات التي تعتمدها؛ وإدراك الماهية الحقيقية لها تفوقاً وتقدماً، نقصاً وتخلفاً، ... ولهذا فإن ثقافة الحوار تبرز تحقيق وعي الذات، وتحقيق وعي الآخر لتقوم بعملية تنوير تؤدي إلى المثاقفة التي تنفتح على العالم بأسلوب عاقل ومتوازن وعادل ومتكافئ.
وقبل أن نتناول ذلك علينا أن نبرز أهم خصائص ثقافة الحوار.
4ـ خصائص ثقافة الحوار:
إن تأصيل ثقافة الحوار مع الآخر تخلق حالة من التوافق بين الذات والآخر لتحقيق المنافع الخاصة والعامة للأطراف المتحاورة؛ وإن لم تبلغ مرتبة التطابق أو الاندماج. ولعل هذا يرسي بينها أجزاء غير قليلة من عملية التسامح، ومن ثم التعاون والتفاعل بدلاً من تأجيج حالات الكراهية والصراع.
فإذا كان مجتمعنا العربي والإسلامي يعاني اليوم من ازدياد الآثار الناجمة عن حالات العنف والقهر غير المشروع نتيجة استخدام القوى المعادية للقوة المفرطة مادياً ومعنوياً، تقنياً وعسكرياً؛ إعلامياً ومعرفياً، فإن هذا المجتمع أحوج ما يكون لتوظيف ثقافة الحوار لمنافعه وصالحه، ولاسيما أن تلك القوى الظالمة قد وصمت مقاومته المشروعة للاحتلال الصهيوني بالإرهاب...
لهذا لابدّ لنا من إبراز خصائص ثقافة الحوار؛ بوصفها مشروعاً عربياً وإسلامياً حضارياً في الفكر العربي المعاصر؛ إذ لم تكن في يوم ما طارئة عليه؛ أو مفروضة من الخارج على ثقافته، ومنها:
1ـ اعتراف كل طرف بالآخر.
2ـ احترام كل طرف للآخر، وعدم الوقوع في استخفاف أي منهما بالآخر في منزلته وثقافته، وجنسه ولونه و...
3ـ الإيمان بالندية والمساواة في منزلة الطرفين، إذ لا يجوز الانطلاق من العصبية والهوى، أو الهيمنة والتسلط... ومن ثم تنمية روح الإبداع، وتشجيع العناصر الشخصية الذاتية...
4ـ الانفتاح على الآخر نفسياً وفكرياً وموضوعياً، وعدم وضع شروط مسبقة لمراجعة أي مسألة أو موضوع؛ وعدم اللجوء إلى توظيف إمكانيات التفوق في الحديث لإثبات الذات على حساب الآخر...
5ـ إشاعة التفكير النقدي الحر، والمستند إلى العقل، وتنمية روح المبادرة، وتحمل المسؤولية، وتبني مناهج وتربية تلبي ذلك كله.
6ـ الوعي بالذات، هوية وكينونة؛ واعتماد الرغبة في الحوار، والثقة به في صميم تنمية الديمقراطية الواعية والإعلاء من منزلة الإرادة والمعرفة وتبني القيم الفاضلة للوصول إلى أهداف مشتركة تفيد الجميع... فالحوار بهذا المبدأ يحقق العدالة، ويبعده عن السقوط في الجدل العقيم غير المنتج... فالحوار ينبغي أن يقوم على نظام خلقي راقٍ على كل الصعد والمستويات للوصول إلى وظيفته وهدفه المرجوين.
5ـ وظيفة ثقافة الحوار:
وبناء على كل ما تقدم فإن ثقافة الحوار تصبح حاجة ضرورية فيما بيننا قبل أن تكون حاجة لنا مع الآخر، ثقافة حوار ترتفع عن الصخب والضجيج والمهاترة، والرفض، والغضب والإقصاء على مستوى الأفراد والمؤسسات والمنظمات، والأنظمة الفكرية والسياسية والاجتماعية، والدينية... ولعل القصور أو الجهل بثقافة الحوار وفهمها يؤدي إلى إشكاليات كبرى، إذا لم نقل إنه يؤدي إلى التخلف والانحدار، والفقر والتطرف والتعصب، والهوى، و... واستمرار الوقوع في الشعوذة والمراء والنفاق، والمراوغة و... فالحاجة إلى المعرفة مخبوءة في الذات الإنسانية ـ كما رأى سقراط ـ وهي تتجدد باستمرار بوساطة الحوار الذي يكسب الإنسان معارف مغايرة غير مألوفة له؛ فضلاً عن تصويب ما اعوجّ منها، أو هجر ما تخلف، أو جَمُد...
ولعل غياب ثقافة الحوار في الداخل الوطني والقومي ـ في بعض المراحل ـ قاد إلى المزيد من الكبت والإحباط، وفقدان حرية التعبير وحرية الرأي،... فساد منطق الاستبداد والقهر؛ بدل أن يسود منطق العقل والعدل والحق... ما يؤكد أن ثقافة الحوار ضرورة ملحة لإنقاذ الثقافة الوطنية من السقوط أو الانحراف أو الفساد والتشوه... ومن الاستبداد الفكري والسياسي والديني والاجتماعي... فالمجتمع الذي يفقد القدرة على التواصل الحواري الحضاري مجتمع فاقد لشرط الحياة والتقدم والنهوض، والقدرة على مواجهة الأخطار المحدقة به على الصعيدين الداخلي والخارجي... ولهذا لا بد من تنمية ثقافة الحوار من الطفولة حتى الشيخوخة؛ في الأسرة والمدرسة والمؤسسات والمجتمع... وعلينا ألا نربي أطفالنا على الطاعة العمياء، وقبول أي أمر دون أي مناقشة أو فهم أو قبول... ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نذكِّر أنفسنا بقصة عبودية عنترة. فعنترة نشأ على العبودية التي ورثها من أمّه (زبيبة) وورث لونها الأسود على الرغم من أن أباه شداداً كان من سادة عبس. ولمّا تربَّى على الطاعة العمياء في مجتمع تسود فيه العلاقات القبلية لم يكن ليهمل تربية ذاته خلقاً وفروسية، حتى اشتُهر بهما. ما جعله يحمل قيمته في صفاته؛ ويصبح قادراً على حوار أبيه وانتزاع حريته منه؛ فحينما احتاجته قبيلته جاءه أبوه يساومه على حريته مقابل الدفاع عنها وحمايتها من الغازين فكان له ولها ذلك محققاً حريته بصفاته شجاعة ونجدة...
ومن ثم فلما كان الحوار أداة تواصل وتفاهم واستيعاب ومراجعة مفيدة للانتقال إلى ما فيه خير المتحاورين كان عليهم معرفة قواعد الحوار، وعدم الجهل بها... ثم إن الحوار يستند إلى وظيفة وهدف محدودين بوصفه يدور على موضوعات ما خلقياً واجتماعياً، ثقافياً وسياسياً، اقتصادياً وتقنياً، أدبياً وفنياً، دينياً وفلسفياً، و... ثم يستمد مكوناته من طبيعته ومادته، وَفْق معاييره التي تبعده عن مجرد الحوار للحوار كما يحدث في عالم اليوم لدى بعض الدول التي تقبل بالحوار للإيهام والتضليل... بينما تنوي شيئاً آخر... فحينما يصمم كل طرف على أن يغلّب رأيه على الآخر فإنه يقع في مناقضة صريحة لمعايير الحوار العقلاني الموضوعي؛ وهو ما نهى الله عنه في قوله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل ـ 125).
فالحوار وفق هذا التصور ينتج تعاوناً إيجابياً فيما هو متفق عليه؛ وإلا فعلى كل طرف أن يعذر الآخر فيما اختلفا فيه... وألا يجعلاه سبباً للبغضاء والشحناء والفرقة والاقتتال و... ثم إن قصور التصور، أو الجهل بالحوار وقواعده يؤدي إلى حالة من الكراهية، والحقد... واستثارة الشر وتأجيجه بالعنف، والصراع المادي والمعنوي،؛ أي إن ذلك يؤدي في أضعف الحالات إلى القابلية والرِّضا بكل ما يفرضه الآخر، كما ذهب إليه المفكر (مالك بن نبي)، وفيه ما فيه وعليه ما عليه. ولعل ذلك يعني أن الصراع دليل على انقطاع الحوار بين هذا الطرف وذاك؛ وهو انقطاع يؤدي إلى إشكاليات كبرى، أولها عدم الاعتراف بالآخر أو السقوط في القابلية والرضا بكل ما يقدّمه المحتل من رؤى وأفكار، وثانيها انعدام التكافؤ والتوازن بين المتحاورين؛ ما يشي بالهوى والعصبية، ثم بالاستخفاف به والاعتداء عليه، لاستغلاله، أو تسخيره لمنافعه الخاصة(8)...
ولعل هذا يذكرنا مرة أخرى بالحوار العربي ـ الصهيوني، فهو لا ينطلق من مفهوم الحق والعدالة؛ لأن الصهيونية تبنت مفهوم (الأغيار) ونفيهم وفق مبدأ (الغوييم).... فالعقيدة الصهيونية تمارس ثقافة الاستئصال للطرف الآخر العربي الضعيف، العاجز، ما يثبت انتفاء الحوار أصلاً؛ فالكيان الصهيوني المدعوم من الدوائر الغربية ولاسيما الأمريكية يقوم على نظام فكري عنصري إلغائي، علماً أنه احتاج إلى الأمم المتحدة لإنشائه، والاعتراف به... إذ كان نشوؤه خارج الإطار الطبيعي لنشأة الدول... وما يزال كذلك. ما يؤكد انتفاء الكينونة الإنسانية للحوار المتوازن القائم على أساس المساواة والتكافؤ والعدل بين العرب والكيان الصهيوني؛ إنه حوار أبعد ما يكون عن مفهوم الإسلام للحوار بين المسلم والمشرك في قوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين( (سبأ 24).
فالآية تتبنى احترام الإنسان ومحاورته أياً كانت عقيدته أو موقفه المغاير والمعادي، من دون هوىً أو عصبية، أو إلغاء أو استئصال... فهي تعتمد مبدأ الندية والمساواة مع الإنسان المشرك بوصفه آدمياً، وليس بوصفه كافراً... فالآية لم تقع في نفي الآخر وإسكاته، وفرض رؤية الإسلام عليه... بعكس ما تذهب إليه الحركة الصهيونية وما ذهب إليه جورج بوش الابن إثر أحداث (11/ 9/ 2001م) حين قال: «من ليس معنا فهو ضدنا»... فالحوار القائم على إلغاء رؤية الآخر، وعدم الرضا بها أو قبول المناقشة فيها، يؤكد مفهوم الهيمنة لطرف على طرف، بل إنه يقتل القيم الخلقية الإنسانية التي تقوم عليها معايير الحوار وقواعده... فإدارة الاختلاف بين الدول والشعوب تعتمد على الحوار العاقل والهادئ واستيعاب ثقافته، والإذعان للحق، أما الكيان الصهيوني فإنه خارج إطار أي حوار، لأنه ممن ينطبق عليه قوله تعالى: (وقالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير* فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير( (الملك ـ 10 ـ 11)
فمهما كان الخلاف عظيماً بين الدول والشعوب والأشخاص في التصور والثقافة والمواقف والتصرفات فعليها أن تلجأ إلى ثقافة الحوار والإيمان به مبدأ للتكيف فيما بينها، والسعي إلى حالة التغيير الذاتية والموضوعية نفسياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً و... فثقافة الحوار تؤمن بالتخلص من مبدأ (الناس على دين ملوكهم) وتتبنى مناهج مبتكرة في حالات التغير والتحول لاكتساب مهارات جديدة لا تُناقض حالة التكيف والتوافق بين الشعوب. إن ثقافة الحوار لا تعتمد مبدأ التغير للتغير، وإنما تعتمد مبدأ التغير للمبادرة والتلاؤم والتكيف والتقدم والابتكار والارتقاء و... من دون استقطاب أو إلغاء و..... إذ لا يمكن تطوير عناصر تكوين الشخصية الاجتماعية والثقافية وصياغتها صياغة متطورة على أي مستوى من دون ذلك... وبناء عليه فإن حالة التلاؤم مع التغير تحتاج إلى وعي به وإرادة وقيم ومعرفة وقدرة على فهم الهوية وخصائصها المشتركة حتى لا يذوب كل محاور بثقافة الآخر وآرائه. فإذا كان الحوار يملك مسوغاته الموضوعية فإن المهمة الأولى للحوار تتجسد بنزوعه الإنساني لممارسة التفاعل الثقافي والفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي و... ومن ثم فإن الجاهل العاجز والمتخلف إذا ما دخل في هذا الحوار فلن يكون له موقف مفيد، بل سيكون حواره وبالاً عليه وعلى قضيته...
إذاً؛ هناك مسوغات كثيرة لأهمية ثقافة الحوار ومنافعها، أولها أنه أداة مثاقفة وتواصل وتفاهم، وتوافق، وتقريب للخلاف بين الرؤى والمشاعر والعقائد والثقافات، والعادات والتقاليد و... فضلاً عن إشاعة قبول الآخر والارتقاء بعواطف القبول الحسن، ثم المحبة ونبذ الكراهية، والتعصب...
فثقافة الحوار الموضوعي تؤدي إلى تلاقح ثقافي وانفتاح على المفاهيم والمصطلحات والمعارف والعلوم والنظريات و... ما يجعلها تتكامل وترتقي لخدمة الإنسان وسعادته، لأن الإنسان هو الغاية، وما توضع الخطط بكل صنوفها داخلياً وخارجياً إلا لخدمته وإسعاده...
لهذا لابد من تربية ثقافة الحوار بين الأجيال على المستويين الداخلي الوطني/ القومي، والعالمي الإنساني، ما يفرض على المثقفين الأحرار والعلماء الشرفاء في أي أمة أن يربوا الأجيال على قيم الحوار الخلقية وثقافته الأصلية المفيدة... وعليهم أن يكسبوهم مهارة الحوار وتقنياته؛ وفي طليعتها المعيار الخامس الذي أشرنا إليه من قبل... ولو افترضنا جدلاً أن السياسي المتعصب لا يرغب في ذلك؛ فعلى أولئك المثقفين والعلماء والأدباء و... أن يرتفعوا عن المصالح الضيقة، وعن أنانية السياسي ومنافعه الخاصة، إلى آفاق ثقافة الحوار لئلا يقع مجتمعهم في الجهل والتخلف، والضعف والعجز... ومن ثم السقوط في أتون الخصومة والعداوة ثم الصراع والاقتتال... وثانيها أن ما هو مطلوب ـ اليوم ـ بين أبناء الوطن الواحد أن ينفتح أحدهم على الآخر في صميم مبدأ المواطنة المستندة إلى الحقوق والواجبات، وإلى العدل والتكافؤ والكفاءة لإنتاج ثقافة مشتركة أساسها الحوار الفعَّال الذي تسوده روح التسامح والتوازن... وتأدية الواجب الوطني،... فمن يحرص على حقوق الآخرين يصبح أكثر حرصاً على حقوقه في صميم مبدأ الغيرية على الجميع، ما يعني تماسك وحدة المجتمع، وإشاعة المحبة والألفة بين أبنائه.
فثقافة الحوار تؤصل الثقافة الوطنية التي تعزز الوحدة الوطنية التي ترتقي في صميم التآخي والتسامح والتعايش المشترك... فكلما تعمقت ثقافة الحوار بين أبناء الوطن والأمة تعمق النظام الاجتماعي الديمقراطي السياسي؛ ما يؤدي إلى تمتين البيت الداخلي، وتحصينه من الفتن والفساد والمؤامرات الخارجية... أي إن ثقافة الحوار وفق خصائصها التي أشرنا إليها تزيد التفاعل بين القوى الاجتماعية وتؤدي إلى تكاملها، أياً كانت مذاهبها وأعراقها، إذ لا فرق بَيِّناً بينهم في صميم المشاركة الوطنية.. وهذا كله يعزز مفهوم المواطنة السليمة، ويؤصل لمفهوم الانتماء الأصيل، ويثبت أن الوحدة الوطنية ليست اختراعاً، وإنما هي وجود حقيقي؛ فاعل وراقٍ، وخَلاَّق.... وهذا يعني أننا كلما عمقنا ثقافة الحوار الداخلي انتهينا إلى تكوين بنية اجتماعية ممتدة النسق في البنية الفكرية الثقافية المتجانسة، ما ينتج عنها خصوصية متطابقة لمرجعيات متنوعة، أياً كانت طبيعتها وماهيتها...
فثقافة الحوار تجعل من العقد الاجتماعي الاختياري للأفراد مشروعاً اجتماعياً ينهض بالفرد بمثل ما ينهض بالمجموع... ومن ثم تغدو المواطنة انتماء حراً واعياً في كل مستوياته ومعانيه... فثقافة الحوار وفق خصائصها الموضوعية التي ذكرناها سابقاً تأخذ وتعطي على قدم المساواة، استناداً إلى مبدأ الكفاءة؛ ولا ترى أن الوطن مجرد غنيمة... وبهذا يغدو مفهوم التشاركية مفهوماً حقيقياً، أساسه الإخلاص والجد والصدق، والإيثار والابتعاد عن الأنانية والسلبية والكراهية والحقد والانعزال والانغلاق....
وبهذا كله فثقافة الحوار تستجيب للفطرة الإنسانية الحرة ومع التنوع والتعدد الكامن في الطبيعة... أي على كل مجموعة بشرية أن تدرك قيمة التجانس في صميم التعدد والتنوع؛ وعليها أن تتحمل مسؤوليتها نحو ذلك...
وبعد؛ فإننا نصر على أن طريقة الحوار ذات قيمة كبرى بين أبناء العروبة جمعاء لا تقل أهمية عن وظيفته وهدفه على الصعيد الوطني، فهو يملك كثيراً من المعاني المستسرة وراء العبارات والكلمات سواء كانت سؤالاً وجواباً أم سرداً وتقريراً ووصفاً... ومن ثم بمقدار ما يملكه الحوار من حيوية وجاذبية يمكنه أن يحقق الأهداف المتوخاة منه في التلاقي على العناصر المشتركة بين أبناء الأمة وهنا يقع على المحاور مسؤولية الإقناع والتشويق في وقت واحد.... أياً كان الحوار ثنائياً بين شخصين، أم حواراً جماعياً بين فريق وفريق...
ولا يسعنا إلا أن نختم كلامنا بالتركيز مرة بعد مرة على طبيعة الحوار في صدقه وشفافيته وعفويته ليكون نافذة روحية لتحقيق العدالة التي ترمي إليها الثقافة لتحقيق سعادة البشرية لقوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا...( (الحجرات ـ 13)
فالحوار ـ بهذا التصور ـ يخرج الإنسان والشعوب وثقافاتها من الانغلاق والعزلة، والتخلف والجهل، والتحجر والتزمت وينطلق بها إلى آفاق إنسانية رحبة... إنه ينطلق بها إلى تعميق الغايات النبيلة التي تكسب عملية التنمية والتكامل نهوضاً وارتقاء في كل نشاط فكري، وسياسي، وتعزز السلوك الاجتماعي الأخلاقي بين الناس...
وبناء على ما تقدم كله نذكِّر بأن أعظم عيب يصيب الأطراف المتحاورة أن تفقد مسؤوليتها الخلقية والإنسانية في ثقافة الحوار، أو أن تكون جاهلة بقواعده ومنهاجه ومعارفه... أو أن تتجاهل ذلك كله؛ لأنها حينئذ تنطلق من تصورات ثابتة، وعقائد منحرفة، كما هو حاصل اليوم في حوار الثقافات والأديان... أو كما هو حاصل في ثقافة العولمة وما تفرضه أنساقها على البشرية في عالم اليوم.
6 ـ ثقافة العولمة ـ مفهوماً وأشكالاً:
تعد ثقافة العولمة قديمة(9) ـ على نحو ما ـ إذ عرف القدماء أشكالاً شتى لها، والعولمة (Globalization) المأخوذة من المصطلح الإنكليزي (Globle) ويقابلها (غلوبوس) في اللغة الروسية وتعني الأرض، أو الكونية أو الكرة الأرضية التي تعني بدورها الطبيعة الكونية، والكوكبية(10). وهي تتميز بالشمولية والمركزية لذلك ترجمها بعض الباحثين بالكوكبة بدل (العولمة)(11)، فهي نظام فائق يربط الناس بمصير اقتصادي واحد، ومن ثم امتد إلى السياسة والثقافة والمجتمع، واللغة والأدب والفن...
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نفرّق بين مفهوم (العولمة)، الذي صار يقابل الهيمنة والسيطرة بأنماطه كلها وبين مصطلح (العالمية) (globalizm)؛ فهذا المصطلح شاع قبل (العولمة) بزمن طويل، وهو مشتق من (العالم) ويدل على أي ظاهرة مادية أو معنوية اكتسبت صفة الانتشار في دول العالم انتشاراً عفوياً أو قسرياً، ولكنها لم تكتسب صفة الأيديولوجيا والمنهج العلمي في الانتشار، علماً أن بعض الدارسين خلط بينهما(12). وكذلك هو مصطلح الكونية (Univeralizm) الذي يدل على قيم أو أفكار أو أشياء انتشرت في الكون كله، أياً كانت طبيعتها علمية أو معرفية أو عقيدية، أو عادات وسلوكات أو...
وهي أشكال مازالت مستمرة حتى اليوم؛ ومن أبرزها (العقائد والمذاهب، والمفاهيم والفلسفات، والعلوم والمعارف، والفنون) فضلاً عن الحروب والحكايات والأمثال والآراء النقدية والفنية و.... وليس بعيداً عنّا ما عرفناه من مفاهيم الدادائية والسريالية.
لهذا فالعولمة تختلف عن غيرها، على تعداد تعريفاتها، إذ صار لها تعريفات عدة، نتيجة اضطراب الرؤية والتحليل والتفسير(13)؛ ومنها أنها تعني قيادة العالم من مكان واحد؛ ما يعني سيطرة أنماطها السياسية والفكرية والثقافية والاقتصادية، وربما التقنية والإعلامية والعسكرية و...(14) والعولمة ـ لغة ـ «هي تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله»(15)، ما يعني أن يغدو العالم واحداً لا خصوصية فيه لأحد أياً كان حزباً أو فئة، مذهباً أم عقيدة، دولة أم قومية. لهذا عرفها محمد عابد الجابري بقوله: هي نظام يقفز على الدولة والأمة والوطن، نظام يريد رفع الحواجز والحدود أمام الشبكات والمؤسسات والشركات متعددة الجنسيات (16). فالعولمة ـ بهذا الوعي ـ إعادة إنتاج العالم والأفراد والدول والقوميات والثقافات والاقتصاد والسياسة و... بصيغة جديدة تحاكي النمط الغربي عامة، والأمريكي خاصة حياة وسلوكاً ومنهجاً ورؤية...
7ـ تحديات ثقافة العولمة:
تفرض ثقافة العولمة تحديات كبرى على الشعوب والأمم والدول، لأنها تريد أن تفرض أنساقها، مستفيدة من كونها مركز النظام العالمي الجديد(17)، ومرتكز الإنتاج بكل أشكاله المادية والمعنوية، ومنها الأشكال الثقافية والفكرية والعلمية والأدبية والنقدية، والسياسية والاجتماعية، ومستمدة قوتها ـ كذلك ـ من امتلاكها لمراكز الإعلام، والبحوث القوية والفضائيات، والتقنيات والقوة العسكرية... ولا مراء لدينا في أنها حققت شيئاً من ذلك منذ الربع الأخير من القرن العشرين بالقوة المادية والمعنوية، التي سارت على طريق فرض أنساقها وتجلياتها... لتبرز في العشر الأخير منه هيمنة القوة الأمريكية وحدها، ما جعل العولمة تقابل الأمركة وتهدد الهوية الثقافية (18)(Identity) للدول والشعوب، بمثل ما تهدد الدولة الوطنية (state-Nation) لما تملكه من أدوات فاعلة كالمعلوماتية والإعلام والتقنيات والاقتصاد والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، والمنظمات غير الحكومية؛ وشبكة كبيرة من العلاقات الدولية، فضلاً عن نظريات شتى في الثقافة والسياسة كالديمقراطية؛ والحقوق المدنية والحريات العامة.
لهذا قال عالم الاجتماع المعروف (أنطوني جيد نس): «إن ظهور نظم معولمة أو عالمية يعني أن العالم الذي نعيش فيه مختلف تماماً عمّا سبقه من المراحل والعصور»(19).
فالعولمة تُحْدث تغييراً متنوعاً على كل المجالات والصُّعُد في الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والعلم و... ما يؤكد أنها تعيد تشكيل الوعي الإنساني من جديد في إطار الأنظمة التي تتبناها والمنظومات التي تتسارع في تقديمها.
وهذا يفرض على الأمة العربية أن تجند طاقاتها وقدراتها لتقليص الفوارق بينها وبين الدول والأمم، وأن تكشف مساوئ مفاهيم الصراع أياً كانت وجوهها وفلسفتها، وأن تثبت خطأ من يتبناها كما رأيناه في فلسفة الباحث الأمريكي (صموئيل هنتنغتون) لفلسفة (صدام الحضارات)... وهي فلسفة شاعت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين حين تبناها عدد من الساسة الغربيين وعلى رأسهم قادة المحافظين الجدد في البيت الأبيض إبان إدارة بوش الابن...
إن ثقافة العولمة تتفرع وتتناسل وتتشابك وتتداخل بمفاهيم كثيرة كالهيمنة والاستغلال والاستعمار الذي تروجه بعض الدوائر الغربية بحجة الاحتواء ومحاورة الآخر، أو بحجة الواقعية السياسية والإعلامية، والتقنية والعسكرية... ولعل هذه الواقعية تفرض ذاتها لما تنتجه من علاقات متغيرة في ضوء القوة التي يملكها طرف دون طرف، ما يعني تجاوز مفهوم المصالح المشتركة والحقوق في الثقافة وغيرها؛ بل يصل الأمر إلى المسّ بمقومات السيادة الوطنية واتخاذ القرار السيادي بحجة المرونة والقبول بالأمر الواحد... وبهذا كله فإن هناك تعارضاً يصل إلى مرتبة التحدي الأكبر بين الحضارة العربية بكل أبعادها الزمانية والمكانية وبين الحضارة الغربية بوصفها انقلبت إلى حضارة هيمنة نتيجة تصورات أصحابها... أي إن الحضارة الغربية لم تعد تتسم بمصطلح الحضارة التي ترتقي بالأبعاد الخلقية للبشرية على الرغم من الارتقاء في مرتبة المدنيّة... وهنا يكمن الصدام بين الحضارة العربية وثقافتها وبين ثقافة العولمة التي شكلت المدنية الأخيرة للغرب أساسها العضوي.
إذاً، العولمة ـ كما تظهر اليوم ـ توظف كل ما لديها من قوة مادية ناعمة، وقوة معرفية وعلمية، وقوة تقنية فائضة، وقدرة عسكرية فائقة، و... لفرض ثقافتها، ورؤيتها على الآخر... ما يثبت أن هناك تحديات كثيرة على ثقافتنا، وثقافات الشعوب، والمجتمعات، والدول... وهي تشي بأن ثقافة العولمة لا تهدد فقط هذه الثقافات؛ وإنما تهدد وجود كيان الدول والأمم، لأنها تنزع عنها خصائصها الثقافية وتجعلها تابعة لثقافة مركزية واحدة تقودها إدارة واحدة.
وعلى المثقفين والعلماء والكتاب والمفكرين و.. أن يفكروا في ذلك كله ويبحثوا بوعي وتصميم عن الأساليب الناجعة لتحقيق ثقافة موضوعية خيّرة؛ دون أن يقنطوا، أو أن يتخلوا عن ثقافتهم الوطنية بكل ما تتضمنه من تأكيد الهوية الخاصة للانتماء، والتاريخ والتراث و... شرط ألا يقعوا في حالة الاستلاب والدهشة من ثقافة العولمة وتقدمها، أو من بعض جوانبها الإيجابية؛ فالعولمة بحد ذاتها ليست كلها شراً(20)، ولا يمكن أن تكون برمتها ثقافة شيطانية، على الأقل في جوانبها المادية، التي توظف تبعاً لمن يمتلكها... ولهذا على الجميع أن يفطنوا لأساليب الحوار الملتوية والخادعة، ولا سيما حين تنطلق من مشكاة شعارات براقة، تخدع الناس بزينتها وبهرجها بيد أنها لا تنطوي إلا على سعي حثيث لهيمنة أصحابها وتصوراتهم وأساليبهم على الطرف الآخر... وليست شعارات إشاعة الحرية والديمقراطية في الشرق الأوسط عنا ببعيدة... فقد سعت الإدارات الأمريكية المتتابعة إلى فرض رؤيتها للحرية والديمقراطية على الوطن العربي، ظناً منها أن الغرب أكثر حضارة وتقدماً من الآخر، فقد أرادت له أن يتخلى عن كل ما يملكه من ثقافة وتراث وقيم... وكل ذلك يعني سيطرة ثقافة على أخرى؛ وهذا ينتج انتفاء العدالة والقيم الإنسانية النبيلة التي تحقق جوهر الوجود الإنساني الكريم. فكل مثاقفة لا توافق الحق إنما هي مثاقفة ظالمة ومستبدة و... مذكّرين بأنه لا يجوز لطرف أن يستعمل امتلاكه للمعرفة المتقدمة، وقوة حجته في الحوار لانتزاع التنازل أو الإقرار من الطرف الآخر. وهذا ما حذر منه الرسول الكريم: ((إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار))(21).
فثقافة الحوار تستند إلى نظام خلقي راقٍ، يتجنب الضغط والإكراه والنفي والإلغاء؛ واستغلال القدرات والمهارات والمعارف... إذ لابد من احترام إنسانية الإنسان لقوله تعالى: (ولقد كرّمنا بني آدم( (الإسراء ـ 70).
ثم إن انتفاء خصوصية الأفراد والشعوب والدول اعتداء صريح على مبدأ التكيف والعدالة؛ ومن ثم انتفاء للقيم الحضارية الأصيلة فإذا كان بعض أنماط ثقافة العولمة يفرض غزواً ثقافياً من نوع ما، قد يصل إلى درجة الغلبة ثم السيطرة ـ وفق مفهوم الغالب والمغلوب ـ فإن قدرات ثقافة المقاومة الوطنية تستطيع أن تتصدى لذلك؛ علماً أن الثقافة العربية لم تكن ضعيفة في يوم من الأيام؛ إذ استطاعت أن تمتص لحظة الصَّدْمة الأولى للمحتلّ، ثم أخذت تعزز الصمود في وجهه، لتثور عليه من بعدُ، كما وجدناه في بلاد المغرب العربي ولاسيما الجزائر التي صمدت أمام التشويه والتحريف الداخلي وكذلك وقع في غير ما دولة عربية مثل لبنان والعراق ومصر... فالغزو الثقافي للعولمة، أو القهر الثقافي الذي نال من عدد من الثقافات... لما يملكه من تقنيات رفيعة ومتقدمة يتعذر عليه صهر الثقافة العربية لما تتصف به من حيوية وقدرة على المواجهة، تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً(22)... أما الضعف الثقافي العربي فإنما يتمثل بالقائمين على الثقافة والمؤسسات الثقافية والعلمية والتربوية والسياسية. ويتجسّد هذا في القرارات التي أخذت لتغيير المناهج تلبية لمتطلبات العولمة في بعض البلاد العربية، وهو أخطر ما تواجهه اليوم. فالعولمة السياسية أخذت تتدخل في العولمة الثقافية، وتفرض على العرب تغيير بعض مناهجهم، بحجة عدم العداء مع الآخر. لهذا شرع عدد من المسؤولين العرب نزع كل ما يتعلق بمصطلحات المقاومة والجهاد من الكتب المدرسية لمادة التربية الدينية وأمثالها. لقد نسي هؤلاء المسؤولون، وأقطاب سياسة العولمة ما يقوم به الصهاينة الذين يربون أبناءهم على كراهية العرب ووصفهم بأشنع الصفات، متناسين الكارثة التي سببها الصهاينة للشعب العربي عامة والفلسطيني خاصة، على الأقل ابتداء بنكبة (1948م) ونكسة (1967م) وانتهاء بالمذابح التي ارتكبها الجيش الصهيوني في لبنان (2006م) ثم في غزة (2008م). ولعل آخر ما تفتّقت عنه الذاكرة الصهيونية العنصرية أن (جدعون ساعر) وزير التعليم الصهيوني ألغى مصطلح (النكبة) من مناهج التعليم بوصف هذا المصطلح يذكر بالكارثة التي ارتكبها الصهاينة بحق الشعب الفلسطيني، فضلاً عن أن الوزير الصهيوني رأى فيه ما يشجّع على التطرف الفلسطيني، لأن إحياء يوم النكبة يثير مشاعره... لذا نشرت صحيفة معاريف الصهيونية في (28/7/2009م) ما انتهى إليه (ساعر) من أن الاحتفال بذلك اليوم خروج عن القانون الصهيوني، وسيفرض على كل مخالف لقرار الوزير عقوبة بالسجن لمدة ثلاث سنوات.
فأي امتهان أبشع من هذا الانتهاك الصريح لحقوق الإنسان!!؟ إنه امتهان لحرية التعبير، واستخفاف بحرية الرأي؛ وازدراء بحرية المعتقد في دولة تزعم أنها دولة ديمقراطية. ومن ثم لا يسمع من الدوائر الغربية أي احتجاج عليه؛ فالنكبة التي سحقت شعباً بأكمله، لا قيمة لها ولا يجوز التذكير بها؛ والمجازر التي ارتكبتها عصابات القتل الصهيوني بحق الملايين من الشعب العرب لا توازي عند أرباب ثقافة العولمة وعند الصهاينة تلك المحرقة التي تعرض لها مئات معدودة من اليهود في ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية. فكل من ينكر المحرقة الصهيونية ـ في عرف الغَرْب ـ معادٍ للسامية، ويستحق أقسى العقوبة؛ أما من يشطب مصطلح النكبة من حياة الفلسطينيين والعرب فليس مجرماً!!!.
وحين نخص ثقافة الحوار والتحديات التي تواجه الثقافة العربية عامة والهوية خاصة في مواجهة العولمة فإننا نمدُّ نظرنا إلى التراث الإنساني الذي يعدُّ صفوة تجربة الأمم على مدى قرون عدة؛ وهي تجربة تتجسد تفاعلاً وعطاءً بين الشرق والغرب، تفاعلاً يتميز بخلابة التصور الذي يكشف روح الإنسانية المتعالية على الرذائل..
وفي هذا المقام نذكِّر بأننا شهدنا في القرن العشرين أشكالاً من تجليات العولمة المعاصرة التي ألقت بظلالها على العالم بأسلوب عفوي أو قسري في كل ميادين الحياة والثقافة والأدب والفن والعلم و... و...، ويمكننا أن نشير إلى ما تقوم به ثقافة العولمة من خلط مدروس في بعض المفاهيم والمصطلحات، مثل مصطلح المقاومة والإرهاب. ولا مراء لدينا في أن مفهوم المقاومة يجسد حالة التوق إلى الحرية والكرامة؛ والسيادة والاستقلال، على حين صار مصطلح الإرهاب يعبر عن قمة الاعتداء على حق الإنسان في الوجود الكريم. وهذا يعني أن المقاومة ضرورة وجود للدفاع عن الذات الإنسانية، على حين أن الإرهاب يتعارض مع هذه الرؤية. لهذا كله حاولت الدوائر الغربية المهيمنة على ثقافة العولمة وصم حركات النضال التحرري الوطني الفلسطيني وحركة المقاومة الوطنية اللبنانية والعراقية بالإرهاب.
ويعد هذا الإجراء رسالة موجهة إلى كل قوى المقاومة الوطنية لكي تنصاع لإرادة أرباب العولمة، وعلى تلك القوى إعادة صياغة مفاهيمها وفق الرؤية التي يتبناها مركز قيادة العالم من واشنطن.
وبناء على هذا فإن ثقافة العولمة لم تجترئ على توجيه اللوم إلى الكيان الصهيوني الذي ارتكب جرائم بشعة بحق البشرية، بل طفقت تصف ما ارتكبه الجيش الصهيوني من مجازر في فلسطين ولبنان بأنه دفاع عن النفس. فأي ثقافة مأزومة هذه هي التي تدين البريء وتجعل الضحية إرهابية، على حين يوصف الوحش المفترس بالحمل الوديع المحب للسلام؟!!
وأياً كانت الغلواء المتجبّرة لبعض أشكال العولمة السياسية والثقافية فإنه يُفْرض علينا مواجهتها بمزيد من الوعي والتسلح بكل ما يخدم قضايانا بما فيها استعمال ثقافة الحوار مع المستبد ومواجهته لإنهاء آثار اعتدائه الصريح على حقوق الإنسان، لأن مقاومة الشعب العربي إنما هي مقاومة ضد مغتصب للأرض والتراث والثقافة.
وهذا وغيره يحثّ الباحث على الإشارة إلى عدد من مفاهيم الحداثة التي استغلتها العولمة لصالحها، كما هو في الأدب والنقد والفن مثل (الدادائية والسريالية، والتحليلية والتفكيكية و...). وقَدْ رَوَّج عدد غير قليل من المثقفين للحداثة بإطلاقها وأشكالها كلها وفق ما تبنته العولمة؛ وراح يدعو إلى القطيعة مع التراث بل مع الماضي كله، ما يؤكد أنه دخل في مفاهيم العولمة التي تلغي خصوصية ثقافات الشعوب والدول والأمم و...
ولعل ثقافة التطبيع مع الكيان الصهيوني ووفق الرعاية الأمريكية ترتبط بما لا يقبل الشك بثقافة العولمة التي تزعم إشاعة المحبة بين الدول، وهي ثقافة تفرض أنساقها ومتطلباتها على الثقافة العربية؛ ولا سيما حين تتخلى عن ثقافة المقاومة، لصالح ثقافة التطبيع، ما يعني تخلي الثقافة عن كثير من خصائصها التقدمية والنضالية.
ولست في صدد التفصيل في هذا الجانب؛ ويكفي ما بيّناه من علاقتها بالعولمة، التي تساوي في بعض أشكالها ثقافة الأمركة التي باتت تعزز ثقافة التطبيع مع كيان صهيوني غاصب للأرض العربية...
وفي هذا الصدد يمكننا أن نشير إلى عولمة التكنولوجيا التي تؤدي إلى تغيير جذري عند الشعوب يكون لصالح الدولة المنتجة؛ ما يفرض في نهاية المطاف عولمة اجتماعية وثقافية تابعة. وتعد عولمة النشر في الكتاب الإلكتروني(23) وأثره في استكمال السيطرة على الثقافات من أبرز أنماطها. وهنا يمكننا أن نذكّر بكتاب (الحرب الثقافية الباردة) للكاتبة الإنكليزية (فرانسيس ستونر سوندرز)(24). وهو ينطوي على منظومة الحرية الثقافية الأمريكية التي تحكي قصة الهيمنة؛ وقصة الجاسوسية على دول العالم، علماً أن أمريكا غدت تنشر كتباً تراعي خصوصية كل دولة، وكلها تخدم مصالحها الخاصة؛ أي إنها تنشر كتباً حسب الطلب مراعية بذلك عدم إيذاء الشعوب إيذاء مباشراً... وقد عُنيت بنشر الكتاب الإلكتروني أيما عناية، لأنه غدا أكثر انتشاراً، ويسمح لمتلقيه أن يرجع إليه بكل حرية وسهولة... ولهذا نشرت أمريكا في عام(2008م) نحو (285) ألف كتاب إلكتروني وورقي...
وهذا يستدعي منا سؤالاً مهماً، كيف يمكن للعرب تجسير الفجوة الرقمية(25) بينهم وبين الغرب عامة وأمريكا خاصة؟!. إن تقدم الوسائل التقنية يفرض تحدياً كبيراً على العرب لمواكبة التطور العالمي؛ وإعادة تنظيم علاقتنا بها بشكل جيد... فالتحدي التقني الإلكتروني لم يعد مقتصراً على الفجوة الرقمية، أو على الأمية التقنية، وإنما غدا تحدياً ينذر بتدمير بنية الأمّة في ماضيها وحاضرها... فثورة المعلومات التي تحدثها التقنيات الحديثة لا تتوقف عند القدرة على الاتصال بين البشر وإنما تمتد إلى خلخلة كل ما هو سائد في مجتمع ما، وخاصة حين يمتد تأثير البرامج الإعلامية وما تبثّه الفضائيات إلى كل ما يستشعر المرء حاجة إليه مهما كان ساذجاً، كالمادة الإعلانية أو الترفيهية.
فثقافة العولمة بأذرعها التقنية الجبارة أحدثت فجوة رقمية هائلة بين دول الشمال ودول الجنوب وسعت إلى تهميش الثقافات؛ وإن لم تستطع استئصالها. ولعل ما يبرز أمامنا من وسائل ثقافة العولمة في هذا المجال أنها تلجأ إلى الهيمنة المتدرجة مستغلة كل الإمكانيات الإعلامية والتقنية لديها، ومستفيدة من الجذب النفسي لما تفرضه أنماط السلوك التي تحدثها ثقافة العولمة، ما يعني أن العولمة أخذت تخلق الأنموذج الكوني المُفَضَّل على مقدار ما تنتجه الحياة الغربية عامة والأمريكية خاصة، وتقدمه للشعوب.
وهي ـ كذلك ـ تنتج تحديات أخرى جمّة على صعيد المصطلح والمفهوم واللغة والمعرفة... عامة(26)، وهذا يدفع بالهوية الثقافية إلى الاستلاب، ثم التدمير؛ لأنها فقدت الوعاء الأصلي لها وهي اللغة التي تشكّل المفاهيم، والثقافة.
وإذا تجاوزنا هذا كلّه فإن لغة العولمة، وهي حالياً الإنكليزية، سوف تفرض تصورات أصحابها؛ فتغير كثيراً من القيم والمبادئ والعادات لأولئك المتعاملين مع وسائل التقنيات الحديثة (الحاسوب، الشابكة، الناسوخ، الفضائيات) وغير ذلك... أي إن ثقافة العولمة أصبحت تفرض على الشعوب لغتها وثقافتها وأفكارها وأدواتها وتجعلها شعوباً مستهلكة لكل ما تنتجه الدوائر الغربية، وتعمل على إقناعها بالثقافة الاستهلاكية بكل أشكالها وتجلياتها... فهي ثقافة أيديولوجية، تتبنى مشروعاً اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً وفلسفياً يسعى إلى الهيمنة على مقدرات الدول والشعوب(27). ولا مراء لدينا في أن أنماط الثقافة الاستهلاكية سوف تتجذر في نفوس الأفراد وحياة المجتمعات، وهي بدورها ستنتج قيماً اجتماعية جديدة تواكب تلك الأنماط، وتجعل الفرد المستهلك عبداً لها، ما ينتج عنه في نهاية المطاف تهديد صريح للهوية ذاتها.
وهذا كله يفرض على حياتنا وثقافتنا تحديات جمّة تنشأ ـ أولاً ـ من طبيعة الخوف على الهوية وخصائص ثقافتها، ـ وثانياً ـ من الدعوات الملحة للحفاظ عليها على الرغم من عجز الأدوات التي تملكها الثقافة الوطنية...
وأياً كانت التحديات صعبة فإننا لا نريد أن نضع الثقافة العربية في مواجهة ثقافة العولمة بوصفهما ثقافتين متصارعتين، وإنما نريد جادين تحقيق الوعي بكل منهما ماهية وطبيعة ووظيفة وغاية لئلا تقع ثقافتنا فيما وقعت به بعض الثقافات من حالات التلاشي، أو الذوبان، أو العجز أو القصور. فلما كانت ثقافتنا ثقافة أصيلة وحيوية كانت ـ على الدوام ـ تُعير وتستعير، وترفض الدونية، وإن وقع أبناؤها في التخلّف المعرفي. وهذا كلّه يخلق لدينا حالة من المواكبة لكل ما هو جديد ومفيد لتعزيز المشروع الثقافي العربي النهضوي؛ إذ لا يمكن تحقيق هذا المشروع في سياق تاريخي منغلق أو منعزل عن التقدم الإنساني ـ فتعزيز الهوية الثقافية العربية ينبثق من صميم هوية الأمة، ومواكبة كل تطور معرفي وتقني يحدث في العالم، وتوظيف ذلك للنفع الوطني والقومي.
المراجع
1 ـ الإمبريالية بقناع إنساني ـ جان بريكمون ـ ترجمة عبود كاسوحة ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 2009م.
2 ـ حوارات في الحضارة السورية ـ د. بشار خليف ـ دار الرائي ـ دمشق ـ ط ـ 2008م.
3 ـ السياسة الدولية: النظرية والتطبيق ـ أَليس لاندو ـ ترجمة د. قاسم المقداد ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 2008م.
4 ـ الشهود الحضاري للأمة الوسط في عصر العولمة ـ د. عبد العزيز برغوث ـ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ الكويت ـ 2007م.
5 ـ العرب والتكنولوجيا والتوزيع العالمي للمعرفة ـ د. يحيى اليحياوي ـ المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر ـ بنغازي ـ ليبيا ـ 2006م.
6 ـ العرب والعولمة في عالم متغير ـ د. مفيد الزيدي ـ المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر ـ بنغازي ـ ليبيا ـ 2005م.
7 ـ العولمة وتهيئة الموارد البشرية في منطقة الخليج العربي ـ علي بن إبراهيم النملة ـ الرياض ـ السعودية ـ ط2 ـ 2009م.
8 ـ العولمة والدولة الوطنية ـ سرتية صالح حسين التاورغي ـ المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر ـ بنغازي ـ ليبيا ـ 2007م.
9 ـ مشروع القومية العربية إلى أين ـ د. حسين جمعة ـ دار الفرقد ـ دمشق ـ ط1 ـ 2006م.
10ـ المقاومة: قراءة في التاريخ والواقع والآفاق ـ د. حسين جمعة ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 2007م.
11ـ نحن والعولمة/ الكوكبة: فكراً ومصطلحاً، توثيق التاريخ التأسيسي ـ د. معن النقري ـ دمشق 2008م.
(1) انظر كتابنا: المقاومة قراءة في التاريخ والواقع والآفاق 119-148
(2) انظر المرجع السابق 119 وانظر مشروع القومية العربية إلى أين 109..
(3) انظر الإمبريالية بقناع إنساني 30-32.
(4) انظر حوارات في الحضارة السورية 21-22 و26 و38-44 و119-121.
(5) انظر مشروع القومية العربية إلى أين 44 وانظر حوارات في الحضارة السورية 29 و31 و35-36 و122-129.
(6) انظر سورة النحل ـ 15.
(7) انظر مثلاً سورة المائدة 32 وسورة الكهف 34-37 وسورة نوح 509 و21-22 و26-27.
(8) انظر مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي ـ مالك بن نبي ـ دار الحكمة ـ بيروت ـ 1985م.
(9) انظر العرب والعولمة في عالم متغير 43-56.
(10) انظر مشروع القومية العربية إلى أين 94 وما بعدها، و119 وما بعدها، ونحن والعولمة/ الكوكبة 66-70 و99-101.
(11) انظر نحن والعولمة/ الكوكبة 15-24 و34 و40-41 و53-57 و65.
(12) انظر نحن والعولمة/ الكوكبة 90-91 و94 و102-103 و112-117، والسياسة الدولية 97 وانظر مشروع القومية العربية إلى أين 120-121، والعرب والعولمة 20-21.
(13) انظر العولمة وتهيئة الموارد البشرية 15 ـ وما بعدها، و47 وما بعدها.
(14) انظر مشروع القومية العربية إلى أين 119 ونحن والعولمة/ الكوكبة 24-27.
(15) العولمة والدولة الوطنية 29.
(16) المرجع السابق 32.
(17) انظر السياسة الدولية 41-42 و61-65 و104 و111-124 و141-142.
(18) انظر العرب والعولمة 59-84 والشهود الحضاري 95 والعولمة والدولة 31-32.
(19) انظر الشهود الحضاري 90.
(20) انظر العولمة وتهيئة الموارد البشرية 28-34، والشهود الحضاري 104-109..
(21) جواهر صحيح مسلم / كتاب الأقضية ـ باب حكم الحاكم لا يغير الباطن/ الحديث رقم (820).
(22) انظر العولمة وتهيئة الموارد البشرية 63-67.
(23) انظر العولمة وتهيئة الموارد البشرية 109 ـ 112.
(24) ترجمة طلعت الشايب، وقدّم له عاصم الدسوقي ـ وصدر عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة، العدد 279 ـ في إطار (المشروع القومي للترجمة).
(25) انظر العرب والتكنولوجيا 42-43 و81-89 و93-118.
(26) انظر المرجع السابق 52-58.
.(27) انظر العولمة وتهيئة الموارد البشرية 19.
المصدر: http://7azemel9souri.blogspot.com/2010/11/blog-post.html