البداهة اللغوية والعُجمة
يولد الإنسان وهو صفحة بيضاء، ثم يتم النقش عليها من خلال عوامل كثيرة متشابكة ومتداخلة، فللوالدين والدين والبيئة والمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان وينتمي إليه والإعلام والتعليم والأسفار والتجارب… إلخ أثر بارز في تشكيل هوية الإنسان.
ولكل مجتمع هويته اللغوية التي يتميز بها هذا المجتمع عن غيره من المجتمعات.وهذه الهوية اللغوية لها مستويات متعددة داخل اللغة الواحدة فيما يُطلق عليه اللهجات.
فالمجتمع المصري -مثلاً- له هوية لغوية عامة يُعرف بها المصريون بين باقي إخوانهم العرب، وهذه الهوية اللغوية لها مستويات متعددة؛ فالصعيد له هويته اللغوية المتميزة عن الهوية اللغوية لأهل الشمال، والهوية اللغوية لأهل الإسكندرية وغرب الدلتا لها ما يميزها عن عموم الهوية اللغوية لأهل الشمال.
والبداهة اللغوية أعني بها: الكلمات التي تعبّر عن المعاني والأشياء دون تفكير أو رويّة في العقل الجمعي لمجتمعٍ ما. وهذه البداهة تنغرس في العقول منذ نعومة الأظفار وتنطلق بها الألسنة عند الحاجة إليها.
وهي تنغرس عن طريق الأبوين ثم المجتمع المحيط؛ فذو اللسان العربي -مثلاً- إنما نطق بها؛ لأن أبواه تكلما بها أمامه، أو لأنه عاش في المنطقة العربية واختلط بأهلها فتكلم بلسانهم حتى وإن لم يكن من جنسهم.
واللغة لا تبقى أبدًا نقية خالية من مفردات دخيلة عليها، وهذه الظاهرة قديمة قدم المجتمعات.
فاللغة العربية -مثلاً- منذ الجاهلية وحتى الآن قد فتحت أبوابها لدخول كلمات أجنبية سواء ألحقتها بأبنيتها الصرفية وأنزلتها على صيغها وأوزانها، وما يستتبع ذلك من تغيير في بنية الكلمة، أو لم تُلحقها فأبقتها على هيئتها في لغتها الأصلية.
وهو ما عُرف قديمًا باسم: “المُعرّب والدخيل“.
وقد كُتب في ذلك كتب، ومن الكتب المهمة في ذلك كتاب “المعرّب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم” لأبي منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي (ت: 540 هـ)، وقد قال عنه خليل عمران المنصور في مقدمة تحقيقه للكتاب: “إن كتاب (المعرب) للجواليقي من بين كتب العربية النادرة التي بحثت في هذا المجال وتناولت موضوعًا هامًّا يبحث في الكلمات الأعجمية التي دخلت العربية وكثر استعمالها، ودخل عليها بعض التحريف، وبعضها الآخر بقي على حاله”([1]).
“وطبيعة تلك الألفاظ الأجنبية أنها في أغلب حالاتها (تعبِّر عن أمور غير مألوفة في شبه الجزيرة، من: أزهار وطيور وخمور وأدوات منزلية، وغير ذلك من كلمات تتطلبها مظاهرُ الحضارة والمدنيَّة لدى الأمم العريقة.
على أنهم في القليل من الأحيان اقتبسوا -أيضًا- بعض تلك الألفاظ الأجنبية التي لها نظائر في لغتهم في المعنى والدلالة)”([2]).
وقد كان في اللغة العربية كلمات فارسية وتركية وهندية ويونانية … إلخ، ولم يقدح ذلك في الهوية اللغوية للعرب؛ إذ كانت اللغة العربية لغة العلم والحضارة، وكان لها تأثيرها العميق على لغات الشعوب الإسلامية غير العربية، كـ: الفارسية والتركية والكردية والأوردية… إلخ.
ولم يقف تأثير اللغة على الشعوب الإسلامية ولغاتهم، بل تعدت إلى الشعوب غير المسلمة ولغاتها، “تقول الباحثة ميري سيرجينتسون: من اللغة العربية استعارت اللغة الإنجليزية أكبر عدد من الكلمات المستعارة من الشرق، ويقدر عدد هذه الكلمات بنحو ثلاثة آلاف كلمة، يوردها أضخم معاجم اللغة الإنجليزية وأوثقها باعتبارها كلمات مستعارة من العربية إما بطريق مباشر أو غير مباشر.
وقدم الأستاذ تيلور بحثًا عنوانه: (الكلمات العربية في اللغة الإنجليزية (Arabic Words In Inglish، ذاكرًا فيه ما يزيد على ألف كلمة عربية في الطب والكيمياء والفلك والبيولوجيا والجراحة دخلت اللغة الإنجليزية”([3]).
لكن الهوية اللغوية للشعوب العربية أصبحت في خطر؛ إذ إن الاستعمار (الاستدمار) حاول طمس الهوية اللغوية للعرب.
وهناك نوعان من الاستعمار:
الأول: لا تهمه إلا الموارد وكيفية استغلالها لمصلحته تاركًا -في غالب الأمر- الشعوب وما هي عليه في لغتها ودينها وهويتها، وذلك ما كانت تقوم عليه سياسة بريطانيا في الغالب.
الثاني: يعمل إلى جانب استغلاله للموارد على محو الهويات الوطنية وفرض هويته على الشعوب المحتلة، وذلك ما كانت تقوم عليه سياسة فرنسا.
وهذا الطمس للهوية اللغوية أثمر أيما إثمار، فزادت العُجمة في البنية اللغوية حتى إنها صارت تدخل في البداهة اللغوية للمجتمعات.
فاستخدمت المفردات الأجنبية، وتم تنحية المفردات العربية في مقابل ذلك.
فتجد -مثلاً- في بعض البلدان العربية ينتشر استخدام الأرقام الفرنسية بدلاً من الأرقام العربية في البيع والشراء، وكذا عند كتابة أرقام الهواتف يقولونها بالفرنسية.
هذا إلى جانب طوفان الكلمات الأجنبية الدخيلة التي تستخدم بدلاً من الكلمات العربية؛ فمثلاً: العُطلة أصبحت (Vacances) أو (congé)، والحبل أصبح (Corde)، والضغط أصبح (Pression)، والشقة أصبحت (Appartement)، وأكيد أصبحت (Bien sûr)، والقرية أصبحت (Village)، والإسهال أصبح (Diarrhée)، والإمساك أصبح (La constipation)، والعملية أصبحت (Opération)، والقيصرية أصبحت (Césarienne)… إلخ.
وهذا ليس على مستوى النخب، بل هو عامّ في المجتمع بكل مستوياته، ويستوي في ذلك القومي والعلماني والإسلامي.
وهذا يؤكد أن العُجمة صارت في البداهة اللغوية للمجتمعات، وأنها غير مستغربة أو مستهجنة بين أبناء المجتمع اللغوي العربي.
والصدمة تحدث عندما يلتقي عربيان من بلدين مختلفين فيتكلم كل واحد منهما ببداهته اللغوية فلا يتفاهمان، فيضطران لاستخدام اللغة العربية الفصحى، أو استخدام لهجة أحد البلدان تكون من الشهرة بحيث يمكن التفاهم بها فيما بينهما.
وهذه العُجمة الداخلة في البداهة اللغوية للمجتمع تعمل على زيادة الفجوة بين العرب من الخليج إلى المحيط.
وعلى الشعوب أن تعي أن هويتها اللغوية في خطر، وأن تعمل المؤسسات والأنظمة على التمكين للغة العربية، وأن تقوم النخبة المثقفة بدورها المنشود في الرقي باللغة العربية ونشرها وبثها ومقاومة طمس الهوية اللغوية، حتى تظل البداهة اللغوية عربية إلا من القليل المتسامح فيه.
([1]) المعرب، مقدمة المحقق.
([2]) كمال بحو، د. إدريس بوكرع: مقالة المعرب والدخيل عند أهل اللغة القدماء، موقع الألوكة.
([3]) د. أنور محمود زناتي: مقالة أثر اللغة العربية في اللغة الإنجليزية، موقع الألوكة.
المصدر: https://islamonline.net/26729