البُعدُ التغييريّ للثّقافة ودَورُ المُثَقّف فيه
نبيل علي صالح
تتقوّم الثقافةُ بالأفكار الإبداعيّة المتخلِّقة من وعي المثقّفين على اختلاف انتماءاتهم ومَشاربهم الفكريّة والأيديولوجيّة. وترتكزُ تلك الأفكار -على وجه العموم- على مِعياريّة القيَم وجوهرانيّتها. أعني بها قيَم الحقّ والعدل والحريّة والكرامة الإنسانيّة التي تخصُّ عالمَ الإنسان في سعيه لنيلِ كماله المُمكن له.
من هنا تبدأ وتنطلق قوّة المثقّف وسلطته، كفاعلٍ عقليّ حريص على تلك القيَم والأخلاقيّات وضنين بها، وعامل على تمثّلها، وقبل ذلك: الدعوة إليها، والعمل على تركيزها في مختلف مُداولاته ومناقشاته ومحاججاته على الصعد كافّة.
والمثقّفُ، من خلال تركيزه على القيَم، يريد أن يقول الحقيقة كما هي عارية شفّافة في بُعدها التكويني الأوّل.. بخاصّة الحقيقة السياسيّة والفكريّة الكاشِفة التي يحاول السياسي -وكلّ مَن يعمل معه ومن حوله في الشأن العامّ القائم على سلوكيّات نفعيّة انتهازيّة- حَجْبَها وإخفاءَها والتلاعب بمضمونها. فالسياسيّ، كذاتٍ سلطويّة متترّسة بالعنف، يريدُ من المثقّف أنْ يعمل دوماً على خدمة مَصالحه من خلال تكذيبه للواقع، وتلوينه بما يريد، وتسمية الأمور والأشياء بغَير مسمّياتها الحقيقيّة، وإلّا فالويل والثبور وعظائم الأمور.
هنا تكون لحظة التحدّي، وسلوكيّة الاصطدام بين سلطتَين مُتعارضتَين في الأصل والجوهر، واحدة تتحشّد وراء رأسمالها الرمزي المعياري (قيَم الحقّ والحريّة)، والأخرى تواجِه بأدوات القوّة العضويّة (الثروة وامتلاك مَواقع البطش). والنصر غالباً ما يكون حليف سلطة السياسي الذي يُواجِه المثقّف بمغريات المال والنفوذ والتخويف، وكلّها ستنجح في كسب ولائه إلّا مَن رحم ربّي، وهؤلاء القلّة ممَّن يرفضون ويُواجِهون، يدفعون الثّمن الباهظ لقول الحقّ وتركيزهم على القيَم، وقناعتهم القائلة بعدم إمكانيّة معرفة الذّات على حقيقتها العارية من دون تفكيك حمولاتها السياسيّة والعمليّة، وهتك أستارها المَصلحيّة، والتّحرر من أوهامها وخزعبلاتها النضاليّة الدونكيشوتيّة. فما زالت دولنا ومجتمعاتنا العربيّة تعاني من «نقصِ مَناعة» سياسي واجتماعي وعَملي مُقيم منذ قرون، ومن أعراضه المُعاصِرة سرعة ظهور الأمراض أو الأزمات الاجتماعيّة وغير الاجتماعيّة على جسد الأمّة (التي ينتمي إليها المثقّف العربي)، وربّما استفحالها إلى درجة رفض تقبُّل العلاج والأدوية الناجعة.
ولعلّ من أبرز مظاهر حالة نقص المَناعة هذه، استمرار تفجُّر الأزمات والمشكلات الداخليّة في كثير من بلداننا ومجتمعاتنا العربيّة، وهَيمنة عقليّة العنف والتعصّب، واشتعال الحروب والصراعات، وبقاء تلك المجتمعات رهينة الاهتزازات الأمنيّة والعسكريّة والتصدّعات الاجتماعيّة، وعدم الوصول إلى حالة الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي المُفترَض. فها هو العالَم العربي يعيش منذ بدايات العام 2011 حروباً داخليّة وصراعات إقليميّة مُكلفة، كالصراع مع المُعارضة السياسيّة والقوى والتنظميات والجماعات العنيفة والحركات الانفصاليّة والاحتلال والتدخّلات الخارجيّة.. وهذا كلّه يأتي على خلفيّة واحدة وهي عدم تأسيس دولنا على أُسس قويّة متينة وصلبة من البناء القيَمي الرصين، والانتماء الوطني الفاعل، والتَّشارُك المجتمعي الخلّاق والمُبدع والتعدديّة السياسيّة والفكريّة.. بما يجعل تلك الدول قادرة على احترام التنوّع الفكري والسياسي والقومي والإثني، وتحقيق العدالة والمساواة بين مواطنيها، لمنْع اشتعال الصراعات بين أبنائها ممَّن ينتمون إلى تكوينات متعدّدة ومتنوّعة.
والواضح لنا، أنَّ استمرار بقاء كثير من بلداننا العربيّة في حالتها المهتزّة اللّا مستقرّة هذه (والتي ستبقى تؤثِّر على إنتاجيّتها ومستقبل أبنائها) لا تعود لفشلها في التنمية فقط، وعجزها عن تأمين التمكين الاقتصادي والاجتماعي لشعوبها، مع وجاهة هذا السبب وأهميّته، بل تعود أيضاً إلى ظروف تلك البلدان ومسبّباتها ودوافعها الكامنة والمترسّخة بقوّة في بنية تلك المجتمعات والدول المحكومة بآليّات سياسيّة وثقافيّة تقليديّة لم يتمّ تحديثها أو تطويرها أو حتّى محاولة تجديدها أو إصلاحها استجابةً لحاجات الناس وتكيّفاً إيجابيّاً مع مقتضيات العصر وتطوّراته الكبيرة الهائلة.
ولأنّ الأمور تأتي بحسب منطلقاتها ومقدّماتها، لن يتغيّر هذا الوضع من تلقاء نفسه أو بفعل ساحر، طالما أنّ محرّضاته الفكريّة، ومحفّزاته السياسيّة، ودوافعه التاريخيّة، قائمة وفاعِلة ونشِطة بشكلٍ شبه يومي.. وطالما أنّ القسر والضغط والإكراه والإقصاء والاستبعاد هو سيّد الموقف في معظم الدول العربيّة والإسلاميّة.. وطالما أنّ هناك مَن أبنائنا مَن يشعر أنّه مظلوم ومحروم ومُستبعَد ومُحارَب وغير قادر على الوصول إلى حقوقه «المواطنيّة» المدنيّة البسيطة في تحقيق الحاجات الماديّة والمعنويّة، والعيش الحرّ المستقرّ والآمن، والتمتّع بثروات بلاده.. بل وأكثر من ذلك، طالما أنّه يعتقد أنّ حقوقه مهضومة ومضيّعة ومسروقة، وحاضره مُقفَل، ومستقبله ضبابي غير واضح المَعالم والاتّجاهات والخيارات، ولا أمل له بتغيير حاله وأحواله نحو الأفضل.. وأيضاً طالما أنّ التفكير بتنمية البشر الاقتصاديّة والعلميّة والمعرفيّة هي آخر هموم أصحاب الشأن من النخب السياسيّة الحاكِمة في المنطقة، والمُمسِكة بمَفاصِل الأمور تمسّكاً مُطلقاً (والمدعومة من أولي الأمر في الخارج الاستعماري).. بما يعني أنّ مآسينا ستتكرّر على الدوام، وستتصاعد بالتالي في بلداننا مَوجات متتالية من العنف والعنف المضادّ، ستأتي على شكل صراع الهويّات المُغلَقة، وحروب البحث عن المصائر المفقودة في المَديات المنظورة، ولاسيّما مع وجود قوى كبرى مُهيمِنة، إقليميّاً ودوليّاً، ليس لها من شغل سوى أنْ تستثمر في جروحاتنا وتستغلّ الأمراض والشروخات التاريخيّة التي تستنزِفنا لصبّ مزيدٍ من الزّيت على النيران المُشتعلة والفِتن المُتنقِّلة هنا وهناك.. وكانت سياستهم في ذلك كلّه تقوم على استراتيجيّة التخويف (تخويف الأمّة من بعضها البعض) التي مكّنتهم – بكلّ سهولة- من التلاعب بواقع الشعوب ومستقبلها ومصيرها منعاً للتغيير وإصلاح الحال ولو بالحدود الدنيا.
من هنا تأكيدنا أنّه ما لم تتخلّص مجتمعاتنا من تلك الأمراض الداخليّة القابعة بين أحشائها، لن تقوم لها قائمة في المدى المنظور، وستكون استعادتها لعافيتها وطبيعتها مسألةً في غاية الصعوبة، بل شبه مستحيلة. وستبقى الثقافة النقديّة تتحدّث وتسلّط الضوء على مَكامن الفساد، والمُتاجَرة بالوطنيّات والشعارات، وتمسيح الجوخ، والسكوت على الأخطاء، وتجميل القبائح، والارتهان للخارج، كأمراض ناجمة عن الخلل الرئيس وهو التسلّط والاستبداد وعدم بناء حُكم المُواطَنة الصالح.
وعندما يتصدّى المثقفُ لمسؤوليّاته النقديّة، بمضامينها التغييريّة الحقيقيّة لا الديكوريّة المظهريّة، في نقدِ بنيان الدولة القائمة، أيّ دولة، في شعاراتها الخُلّبيّة المُفارِقة وتصرّفاتها الرعناء اللّاعقلانيّة، فهو لا يستهدف وجودها، بل يؤكّد أنّه لا يجب ولا ينبغي مطلقاً التفريط بــ«الدولة» تحت أيّ ظرف كان. الدولة بما هي كيان مؤسّسي قيَمي وإداري راسخ وناظِم لضمان حركة الفرد والمجتمع في حاضره ومستقبله. وبما هي دولة العدل والحقوق والكرامة. دولة الخدمات والرفاه والتنمية الحقيقيّة.
لكنْ للأسف، لا يرى المثقّف في واقعه العربي الماثِل أمامه سوى مظاهر ومَواقع الهَيمنة والتسلّط واستباحة الحُرمات العامّة، خصوصاً من قبل الدولة الشموليّة التسلطيّة. يرى تسلُّط العرب على بعضهم، وتسلُّط الآخرين عليهم، والغرق الكامل في مستنقعات الأحقاد والكراهيّة العمياء، وقيامهم بدفع بُلدانهم وشعوبهم لتتحمّل سلبيّات تلك السياسات التي اعتمدوها ضدّ بعضهم بعضاً منذ زمن طويل، حيث كانت تتفجّر بينهم المشكلات وتشتعل الفِتن بين وقت وآخر، وهي بمعظمها مشكلات عميقة مخفيّة دوماً مثل نارٍ تحت رماد.
طبعاً نحن عندما ننتقد الحكم السياسي العربي ودولته التحديثيّة الرثّة التي بَنتها نُخب مُفارقة طيلة عقود، لا يجب أن نغضّ النظر عن واقع المجتمع نفسه، بثقافته ووعيه التاريخي غير العقلاني. فهذه التُّربة مالِحة للأسف، وهي ما فتئت تولِّد أشكالاً مشوّهة من الأحزاب والتيّارات الدينيّة والعلمانيّة المنتمية إلى الفكر الشمولي الذي هو، بالضرورة والماهيّة والبنية، فكر إقصائي إلغائي، لا يرى غير ذاته العَليّة، ولا ينظر سوى إلى رهاناته وقناعاته ومَصالحه الحتميّة.. لا يعتقد بشيء اسمه حوار أو مُشارَكة أو تفاعُل خلّاق. مَن يخالفه الرأي، خائنٌ عميل أو كافر مرتدّ وُجب قتله وتصفيته. وهذا النمط من الفكر والتفكير الخلاصي الأحادي مولِّد دائم للأزمات والحروب والصراعات، ولا يعيش ولا ينتعش إلّا في أجواء التوتّر والتناقض والاستقطاب والتنابذ. والمشكلة الأكبر أنّ المُمسكين بمَواقع القوّة والقابضين على مَفاصل السلطة في عالَمنا العربي يغذّون باستمرار تلك الأجواء التنابذيّة التناقضيّة، ويعملون دوماً على إبقائها حيّة ماثلةً في النصوص وفي النفوس على السواء.
إنّنا نعتقد أنّ دورَ المثقّف يجب أن يبقى دَوراً عقلانيّاً نقديّاً لا دَوراً عاطفيّاً تمجيديّاً، بخاصّة في ظروفنا وأوضاعنا. أمّا بيانات هذا المثقّف ورهاناته ونصوصه، فيجب أن تبقى خاضعة لمعيار العقل والقيَم بأعلى تجلّياتهما الواقعيّة المسؤولة.. ولا أتحدّث هنا عن المثقّف النضالي الذي مضى زمنه، بل عن المثقّف بأبسط تعابيره ومعانيه في قوله الحقّ والصدق فحسب، على الرّغم من صعوبتهما في زمن الكذب الأكبر.
وعلى هذا الطريق، ما زلنا كمثقّفين نُراهن على الأمل الحقيقي، بأنّه عندما يشعرُ كلُّ مواطنٍ في أيّ دولة بأنّ مستقبله مضمونٌ وآمنٌ، وأنّ له الحقّ القانوني والدستوري المكفول بالكامل في ثروات بلده ومَواردها وقدراتها، وأنّ هناك عدالة ستتحقّق في توزيع تلك الثروات والمَوارد الكبيرة، وأنّه قادر ٌعلى المُشارَكةِ الفاعِلة في تقرير مصيره عبر المؤسّسات الاجتماعيّة والمَدنيّة والرسميّة، عندئذ سيشعر لوحده -ومن تلقاء نفسه- بالمسؤوليّة العالية التي ستمتلئ بها نفسه، ما سيدفعه إلى ساحات العمل ومَيادين الإنتاج، وسيُقْبِل على البناء الحضاري، بكلّ جدٍّ ووعي وثقة ومحبّة لعَمله وبلده؛ لأنّ المحفّزات والمحرّضات توافرتْ، وهي العدالة، والقانون، والمساواة.. وهذا من أهمّ شروط إقلاع التنمية الحقيقيّة في بلداننا العربيّة.
المصدر: http://www.omandaily.om/622064/