فرنسا والإسلام أي التعايش
فرنسا والإسلام أي التعايش
محمد القاضي*
ربطت فرنسا صلاتها بالشرق منذ عهد بعيد، إذ يعود أول اتصال بينها وبين المشرق العربي إلى أيام الخليفة هارون الرشيد العباسي والملك شارلمان. كما شاركت في الحروب الصليبية التي شنتها الكنيسة الكاثوليكية على المسلمين في المشرق إضافة إلى حملة نابليون وما نتج عنها من اتصالات بين الشرق والغرب، ثم احتلالها للجزائر، واستعمارها لدول عربية أخرى. كل هذا جعل من فرنسا دولة وثيقة الصلة بالعالم العربي وبالحضارة الإسلامية، وكان من الضروري كذلك أن يتجه الباحثون والدارسون الفرنسيون إلى الاهتمام بثقافة هذه البلدان ودراسة شعوبها دراسة اجتماعية تمكنهم من السيطرة أكثر على منابع المعرفة العربية الإسلامية.
غير أن الخطوط الكبرى لمنهج الاستشراق الفرنسي قد تبلورت مع (أنطوان سلفستر دوسالي) (1758-1838م) الذي يقول عنه المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون: "إنه كان عالما ضليعا ومدققا في فقه اللغة، ففرض على العالم الأوربي الصرامة والدقة الفكرية، وبقي أسلوبه في العمل حتى يومنا هذا الأسلوب نفسه الذي يتبعه عدد غير قليل من المستشرقين الكبار(1). وتأتي فرنسا وألمانيا وهولندا وانجلترا والفاتيكان على رأس الدول الأوروبية التي أنشأت كراسي الاستشراق في مدارسها وجامعاتها منذ القرن الثاني عشر الميلادي. "وتطور الاهتمام بتعليم العربية بعد ذلك في عصر النهضة الأوروبية، إذ قامت اللغات القومية واستقلت بنفسها للتعبير عن المعارف والعلوم والآداب المختلفة، ومن هذه اللغات الفرنسية المتفرعة أصلا عن اللاتينية، فصرنا نرى بعض العلماء الفرنسيين يسعون إلى تعلم العربية، أو نرى الدولة تتوجه إلى تحريض بعض رعاياها على تعلمها وتعليمها، ليكونوا واسطة اتصال وأداة تفاهم مع العرب في مختلف الميادين، وليعملوا مترجمين في مكتبة الملك ومراسلاته وسفاراته وقنصلياته في المنطقة العربية، وليشرفوا كذلك على مصالح فرنسا التجارية في الشرق العربي، وكان من أسباب الاندفاع إلى تعلم العربية أيضا سقوط القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، وتهديد العثمانيين المسلمين لأوربا المسيحية في أواخر القرن الخامس عشر والنصف الأول من القرن السادس عشر للميلاد.. إن تعليم العربية كان يهدف إلى الاطِّلاع على الحضارة العربية، ونقل علومها، ومعرفة الإسلام وأسرار قوته عن كثب"(2).
وكان من أهم المدارس والمعاهد التي أسهمت في تعليم العربية بقسط كبير أو صغير وتعزيز الدراسات العربية داخل فرنسا وخارجها على حد سواء، وهي بحسب تسلسل ظهورها على مسرح التاريخ كالتالي:
1- الكوليج دوفرانس: أوجده الملك فرانسوا الأول سنة 1530م، وهو لا يزال قائما إلى اليوم محافظا على مكانته العلمية الرفيعة التي اشتهر بها في التاريخ الفرنسي بصفة خاصة والأوروبية عامة.
2- مدرسة فتيان اللغات: وكانت أسباب نشأتها أو الظروف التي دعت إلى ظهورها –حسب ما يذكر مؤرخوها- تلك السياسة الإسلامية التي أخذت فرنسا تتبعها، خدمة لمصالحها التجارية والسياسية، منذ الحروب الصليبية إلى العصر الراهن، وهي السياسة الفرنسية المتبعة مع المنطقة العربية والقوى البشرية التي تعيش فيها، إضافة إلى ما يجاورها من شعوب إسلامية أخرى.
3- المدرسة الوطنية للغات الشرقية الحية: وتعود فكرة إنشاء هذه المدرسة إلى (لوي لانغليس) الذي وجه بشأنها رسالة إلى الجمعية الوطنية الفرنسية سنة 1970م أوضح فيها أهمية تعليم اللغات الشرقية للمصالح الفرنسية الحيوية واقترح إنشاء كرسي للعربية، وثان للتركية، وثالث للفارسية في كل من باريس ومرسيليا لخدمة السياسة والتجارة والعلم معا في فرنسا.
وكانت هذه المؤسسات الثلاث من أبرز المراكز الاستعرابية والاستشراقية لتعليم اللغة العربية والاهتمام بحضارتها من هذا الجانب أو ذاك، وهي التي حملت لواء الاستعراب عشرات السنين فخرجت أجيالا وطبقات من المستعربين الملمين بالعربية وحضارتها، وكانوا همزة وصل بين العرب والفرنسيين، والجسر الواصل بين الثقافة العربية والفرنسية خلال القرون الأربعة الأخيرة.(3) علما بأن مؤسسات أخرى علمية وثقافية وتعليمية داخل فرنسا وفي مستعمراتها السابقة كانت لها إسهامات كثيرة في مجال تنشيط حركة الاستعراب الفرنسي، كما كان لها يد طولى في العلاقات القائمة في الماضي –كما في الحاضر- بين فرنسا والأمة العربية، بل إن دورها في العلاقات المستقبلية بين الطرفين سينمو ويزداد باطراد ومن غير توقف نظرا لتوثق العلاقات ومن أبرز هذه المؤسسات وأهمها:
1- جامعة السوربون.
2- جامعات باريس والمعاهد والمراكز التابعة لها داخل فرنسا وخارجها: كمعهد الدراسات الإسلامية، ومركز الدراسات العالية للإدارة الإسلامية، ومركز دراسات الشرق المعاصرة، والمعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق وغيرها.
3- الجامعات الفرنسية في الأقاليم: بوردو، مونبيلييه، ليون، ستراسبورغ وغيرها.
أما أهم المكتبات الشرقية فيها فهي: المكتبة الوطنية في باريس، والمكتبة الشرقية، ثم مكتبات الجامعات المتحدة، وفي فرنسا مجالات خاصة بالاستشراق بعضها يعود إلى سنة 1665م (مجلة العلماء)، أما عدد تلك المجلات فيبلغ (ثلاثين مطبوعة)، وبلغ عدد المستشرقين الفرنسيين منذ القرن السادس عشر حتى سنة 1978م ما يزيد على 360 مستشرقا، بينهم ثلاث أو أربع سيدات(4). ويجب أن نتذكر هنا أن حركة الاستشراق الفرنسي قد عاصرت في بدايتها الأطماع الاستعمارية للدول العربية والإسلامية، وقد استخدمت فرنسا الكثير من المستشرقين في أغراض سياسية استعمارية بعيدة عن العلم، وذلك من أجل وضع خططها السياسية مطابقة لما تقتضيه الأوضاع في البلاد الإسلامية من ناحية، ولتسيير هذه الأوضاع طبق ما تتطلبه هذه السياسات في البلاد الإسلامية من ناحية أخرى لتسيطر على الشعوب الخاضعة فيها لسلطانها. علما بأن هذا لا ينفي وجود مستشرقين وصفوا بالموضوعية والشجاعة الأدبية في دراساتهم الإسلامية والحضارة العربية، منصفين ومتعاطفين مع الشعوب التي يدرسون تراثها دراسة علمية جادة، فحققوا، وفهرسوا، ونشروا كتبا تعد اليوم مراجع مهمة للباحثين والدارسين. يقول المستشرق مكسيم رودنسون: "إن الدراسات الاستشراقية اليوم معظمها دراسات جادة وليس أمامها أي خيار آخر من أجل إثبات وجودها العلمي ومصداقيته عند الباحث المتخصص أو القارئ إلا باتباعها منهجا علميا دقيقا يتوخى تقديم الفائدة والكشف عنها بعيدا عن الميول الدينية المسيحية أو اليهودية وتعصبها اتجاه المجتمعات ذات الانتماء الديني المخالف لها وإن الدراسات الاستشراقية الحديثة التي كتبها جيلي أو الجيل اللاحق من المتخصصين المعنيين بشؤون الشرق العربي الإسلامي لم تكن سوى دراسات تتوخى الكشف العلمي بصدد الموضوع الذي تتناوله، وإن كان هناك شيء (تنتقد) بسببه فهو يأتي انطلاقا من نظرة مسبقة أو رؤية غربية للعالم دون أن تكون هذه النظرة ذات تعصب أو مراهنة على حيادية البحث العلمي"(5).
الرأي نفسه يتبناه المفكر الجزائري المقيم في فرنسا الدكتور "محمد أركون" حيث يقول: "إنه بعد انتهاء الفترة الاستعمارية بدأ المستشرقون ينتقلون إلى ممارسة جديدة انتقادية لمهنتهم، وشرعوا ينتقدون ما صدر عن العلماء قبلهم في الفترة الاستعمارية من مؤلفات، وأخذوا يبحثون عن مناهج جديدة يمكن أن يطبقوها لدراسة الحضارة العربية وأجبروا من خلال هذا الانتقاد الذاتي إلى مراجعة المناهج التي تستعمل لدراسة الحضارة العربية ذاتها"(6).
أما الدكتور "إدوارد سعيد" فإنه ينوه بأعمال بعض المستشرقين الفرنسيين حيث يرى أنه "لن يحتاج المرء إلا إلى ذكر الإنجازات الفائقة لباحثين مثل جاك بيرك، مكسيم رودنسون، إيف لاكوست، روجيه ارنالديز-الذين يختلفون اختلافا واسعا فيما بينهم في طريق التناول والنية- ليدهشه المثال الرشيمي الخلاق (لماسينيون) الذي لا يخطئ الإدراك أثره الفكري العميق عليهم جميعا.. الرمز الناضج لذلك التطور الحاسم في الاستشراق الفرنسي(7). إن تأثير ماسينيون في الاستشراق الفرنسي ومحترفيه عميق للغاية، ورغم أنه اتهم في بعض الأوساط الإسلامية –كما يحكي هو نفسه- بالانتماء إلى الطابور الاستعماري الخامس، والتقنع بالتصوف لبلوغ مآربه، ورغم تكريسه بعض عناصر المذهبية الاستشراقية التقليدية فإن من الإنصاف أن نقول: إنه -بحساسيته الإنسانية القوية، وثقافته الموسوعية العالية المتفتحة- كان أول مستشرق حاول وضع الاستشراق على محك العلوم الإنسانية، بل أدمجه كذلك فيها، وهذا من خلال مقالات عديدة في السوسيولوجيا الحضارية واللسانيات وعلم النفس والتاريخ، كان رائد التجديد والتطور من حيث إنه تميز عن كل سابقيه بقدرات إبداعية مخصبة، وبسعة أفق قلما تحصل حتى عند العلماء من أمثاله، وهو على هذا الصعيد جدير بالتنويه ووافر الإعجاب(8).
أما المخطوطات العربية اليوم في المكتبات الفرنسية المختلفة، والتي جمعت عبر المراحل التاريخية المختلفة، فإنها تزيد على سبعة آلاف مخطوطة يعود تاريخ نسخها إلى عصور تاريخية مختلفة، فمنها ما يعود إلى القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) ومنها ما يعود إلى القرن الثامن عشر الميلادي (الثاني عشر الهجري)، قبل انتشار الطباعة في البلدان العربية على وجه العموم. وتضم المكتبة الوطنية في باريس وحدها (87) مصحفا، وقد قدر "كوركيس عواد" خبير المخطوطات المعروف جملة هذه المصاحف بنحو خمسة آلاف ورقة معظمها كتبت في القرن الثاني والخامس للهجرة، وطائفة كبيرة من هذه المصاحف مكتوبة على ورق الغزال بالخط الكوفي، ومن أقدم المصاحف المكتوبة بالخط الحجازي المصحف الذي يحمل رقم 326 عربيات، ناسخه مجهول وغير مؤرخ، كما تحتفظ المكتبة الوطنية كذلك ضمن نفائس المخطوطات بالمصحف الذي خطه ياقوت المستعصمي سنة 688هـ، والمصحف يحمل رقم: 7616 عربيات، وكتب على ورق ذي لون ضارب إلى الصفرة وعدد أوراقه211 ورقة. واستهل بصفحتين مزخرفتين بـأشكال هندسية جميلة، على جانبيهما طرتان، وعلى ظهر الورقة الثانية وردت سورة الفاتحة وأول البقرة يحيط بها إطار على جانبيه زخارف نباتية(9).
"وكان لنشر أمهات المخطوطات العربية في فرنسا خاصة، وأوربا عامة نشرا محققا- أثر عميق في إحياء تراثنا وإظهاره للنور على أوسع نطاق ممكن للإفادة منه، وقد أدى ذلك إلى تطوير نهضتنا الحديثة ودفعها إلى الأمام أشواطا بعيدة. ويرى الأستاذ الرئيس "محمد كرد علي" أنه: لولا عناية المستعربين بإحياء تراثنا لما انتهت إلينا تلك الدرر الثمينة التي أخذناها من طبقات الصحابة، وطبقات الحفاظ، ومعجم ما استعجم، وفتوح البلدان، وفهرست ابن النديم، ومفاتيح العلوم، وطبقات الأطباء، وأخبار الحكماء، والمقدسي، والاصطخري، وابن حوقل والهمذاني، وابن جبير، وابن بطوطة، إلى عشرات من كتب الجغرافيا والرحلات التي فتحت أمامنا معرفة بلادنا في الماضي، وبها وقفنا على مقدار حضارتها"(10).
الفرنسيون والاهتمام بالإسلام:
اهتم الفرنسيون بالدين الإسلامي اهتماما علميا في بداية القرن السابع عشر، فقد كتب (بودييه) كتابا شرح فيه حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ بعثته وحتى وفاته كما تناول بعض المستشرقين الكتابة عن الإسلام، ففي سنة 1731 طبع الكونت (دي نوفليه) تاريخ العرب وحياة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وفي سنة 1788م كتب (دي باستوريت) كتابه الذي تحدث فيه عن ديانات الشرق وأفرد في مؤلفه صفحات كثيرة عن الإسلام، وهكذا عرف الفرنسيون الإسلام وكثر عدد الباحثين والدارسين للإسلام عندما اتصل هؤلاء بمسلمي شمال إفريقيا، واهتموا بعد ذلك بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية مما جعل بعض الفرنسيين يتعرفون عليه، وكان من أوائل الفرنسيين الذي أسلموا: (الفونس إيتين، ونونبه، والمستشرق إيتيان دينيه)، وقد اتخذ هذا الأخير الجزائر مقرا لإقامته بعد إسلامه، فكتب كتبا منها: "حياة الصحراء" و"ربيع القلوب" و"الشرق كما يراه الغرب" وقد أشار فيها إلى الإسلام بكل تقدير وحب ووفاء. وهكذا تعرف الفرنسيون على الإسلام من خلال كتابات المستشرقين الذين اعتنقوا الإسلام. وأصبح اليوم من حيث أهميته العددية هو الدين الثاني في فرنسا. وتشير الدراسات إلى وجود مليونين ونصف المليون من المسلمين في فرنسا ينحدرون من بلدان مختلفة كالجزائر والمغرب ومصر وتونس ولبنان وليبيا وسوريا والعراق وموريتانيا وباكستان وتركيا، وهناك حوالي أربعين ألفا من الفرنسيين اعتنقوا الدين الإسلامي حديثاً، إن معظم المثقفين الفرنسيين الذي يعتنقون الإسلام متأثرون بكتابات الفيلسوف (رونييه غينيون) أو (لويس ماسينيون) أو ببعض المؤلفات الصوفية، وتقول (إيفافيتري) المسؤولة السابقة عن قسم العلوم الإنسانية في المعهد الوطني الفرنسي للبحوث العلمية: "إننا لا نهدي إلى الإسلام بل نعتنقه، ويجب أن يكون واضحا للجميع أن المعتقدات الإيمانية في الإسلام لا تفرض على المؤمنين التنكر لديانة آبائهم.. وإن الأفكار التي يكونها الغربيون عن الدين الإسلامي خصوصا في ما يتعلق بالقدر والجهاد خاطئة.. إنني من جيل "جارودي" فلقد درسنا معاً وكُنَّا نشعر أن الإسلام بعيد جدا عن أفكارنا وطبعنا، وكنا في ذلك الوقت نجهل الديانات غير المسيحية. وبعد أن بَدَأْتُ أشك في الكاثوليكية تعلمت السنسكريتية والبوذية، بعد الحرب العالمية الثانية، قررت متابعة دروسي الجامعية والتخصص في الفلسفة، وذات يوم أهداني أحد الأصدقاء كتابا في اللغة الإنجليزية بعنوان (إعادة بناء الفكر الديني الإسلامي) لمؤلفه محمد إقبال، عندما قرأته أعجبني كثيرا لأنه أجاب على بعض تساؤلاتي حين عرض لأفكار كبار مفكري الإسلام الذين كنت أجهلهم تماما، ولقد ظهر لي الدين الإسلامي دينا عالميا غير مختص "بشعب مختار"، وهو بمثابة قاسم مشترك بين جميع الديانات؛ لهذا يمكننا إضفاء صفة (العالمية) عليه لأنه يغتني بالثقافات الأخرى. وتضيف قائلة: ذهبت مرتين إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج وإني أصلي خمس مرات يوميا، وإني أصوم وأتلو صلاتي بالفرنسية والعربية، ولقد أعجبت كثيرا بكتابات لويس ماسنيون"(11).
إن موجة الإسلام الجديدة في فرنسا هي من بين القضايا التي تأخذ باهتمام مجموعة من الباحثين الفرنسيين، كما أصبحت محور اهتمام ومناقشات الصحافة والإعلام في فرنسا، فلا تخلو الصحافة الفرنسية من المقالات والدراسات والبحوث المسترسلة حول موضوع (عودة الإسلام) وتنامي انتشاره في العالم، وشديد تأثيره على الحياة العامة في فرنسا عبر حضور جمهور المهاجرين العرب والمسلمين. وظهر نموذجان من التخصص في موضوع (شؤون الإسلام) عبر الإنتاج الفكري والصحفي الفرنسي، النموذج الأول ينشطه الأساتذة والباحثون الجامعيون الذين يهتمون بالعالم الإسلامي ثقافة وفكرا وحضارة (المستشرقون- والمستعربون). منهم من يؤكد على جانب تطور الفكر الإسلامي واستمرارية تأثيره على الحياة السياسية في المجتمعات الإسلامية، ومنهم من يرى أن الفكر تحول إلى إيديولوجية سياسية بحتة، وآخرون يعتقدون أن الإسلام (دينا وسياسة وفكرا) هو بمثابة رد فعل الشرق على الحداثة الغربية.
أما النموذج الثاني، فيكمن في نشاط العدد الوفير من الصحفيين الذين تخصصوا عبر تجاربهم وتحقيقاتهم، ومتابعتهم للأوضاع السياسية والاقتصادية والدبلوماسية في العالم العربي والإسلامي. إن إنتاج هؤلاء يختلف في قيمته مع نتاج الجامعيين، إن هدف عملهم ينحصر في الوصف والتقرير والوقوف على الأحداث الجزئية، في حين أن الدراسات والبحوث تهدف إلى الوقوف على القوانين الموضوعية والعامة بالتطور مثل المجتمعات وثقافتها وحضارتها. علما بأن بعض الكتابات تتخذ من المهاجرين العرب موضوعا للتشهير بالإسلام والمسلمين وخصوصا في أثناء الحملات الانتخابية. وترى الأحزاب اليمينية العنصرية أن موجة انتشار الإسلام في صفوف السكان الفرنسيين هي أخطر حرب يمكن أن تعلن ضد فرنسا.(12) وعبر الصحفي "جاك جوليار" عن استغرابه الشديد للسرعة التي يتم بها انتشار الإسلام في فرنسا، وأكد على أن هذه القضية يقف وراءها سبب جوهري واحد، هو كون بعض العلماء المسلمين استطاعوا تبسيط مبادئ العقيدة الإسلامية وتنقيتها من أفكار التشدد والجحود، ثم اعتبار الإسلام عقيدة لا تكرهك على اعتناقها، وهذه هي النقطة الأساسية التي ساعدت على انتشار الإسلام في صفوف الفرنسيين، إنه دين السماحة، وحيث لا إكراه في الدين.(13) والفرنسي بطبعه إنسان عنيد، لكن عندما تشعره بأن الدين الإسلامي دين الحوار والسلم، ونبذ الاستغلال، وعدم التعدي، فعلى الأقل يجد نفسه خاضعا منذ صباه لخطاب واسع من الأخطاء ويحاول ما أمكن حسب رأي "جوليار" أن يملأ مواقعها بعلامات استفهام واضحة، وهي المرحلة الأولى من البداية التي تعني وضع الأسئلة في أماكنها الصحيحة. ومن جهة أخرى تتساءل السلطات الفرنسية عن دواعي تشبث الإنسان المسلم بتعاليم دينه إلى هذه الدرجة، وعجز كل مظاهر الحياة الفرنسية عن التغلب عليه وإذابة هذا الاعتقاد، ويرى الكاتب الفرنسي (جيل كيبيل) المختص في القضايا العربية والإسلامية وصاحب كتاب (تخوم الإسلام). "إنه من الخطأ أن ننظر إلى الفرنسي المسلم بالمنظار نفسه الذي يمكن أن يكون عليه المسلم في دول المغرب العربي. فبالنسبة للأول هناك إرث متراكم من الصعب عليه أن يتخلص منه، وأقصد هنا خصوصية العيش والتصرف في فرنسا، أما بالنسبة للآخر فإن الأمر لا يُطْرَحُ له على شكل معضلة، إنه وُلِدَ مسلما وَشَبَّ على ذلك، ويحمل معه كل موروثاته العقدية والتربوية، ومن جهة أخرى من الصعب جدا أن تفرض على الفرنسي أي شيء مهما كان نوعه، يتسم بالشدة والإكراه والجحود، وأعتقد أن الإسلام لم ينتشر في المجتمع الفرنسي بهذا الشكل الذي هو عليه الآن إلا لأنه دين الحوار: الحوار بكل أشكاله، ومن كل جوانبه..
وأعرف أنه من الصعب كذلك إخفاء الجرائم التي تتعرض لها الجالية المسلمة من دول المغرب العربي، فهي محط ممارسة إرهابية من قبل بعض التنظيمات الفرنسية المتطرفة، وأعتقد أن رد الفعل الأول من الإنسان المسلم في فرنسا هو تأكيد تشبثه بهويته وخصوصية معتقده كنوع من التسلح".(14)
إنه من الطبعي أن يواجه المسلمون في فرنسا معوقات قانونية وسياسية واجتماعية خطيرة وبشكل يومي، وفي هذا الإطار ورغم أن الحكومة تعترف بالحرية الدينية لكل الجماعات غير المسيحية- فإن هذه الحرية تظهر في بعض الأحيان محدودة وسطحية وتكتفي بالتعبير عن الاحترام العام لمعتقدات الفرد الدينية فقط، وفي حالة المسلمين نادرا ما تحمست الحكومة الفرنسية لبناء المساجد وتأسيس المراكز الثقافية الإسلامية والمدارس الدينية، إذ من العادة أن تحاول هذه الحكومة سواء أكانت اشتراكية أم يمينية عرقلةَ تزايدِ مثلِ هذه المؤسسات الإسلامية بحجة أن الحكومة الفرنسية تحول جاهدة دون "انفصال" المسلمين عن المجتمع الأوروبي الذي تحاول الحكومة دمجهم فيه، لذا نرى أن هذه المؤسسات تشيد عادة بمساعدة الدول الإسلامية وبعض الجمعيات الإسلامية المحلية، وكمثال على هذه المعوقات نذكر منها ما يلي:
§ كانت الساحة قد عرفت في السنوات الأخيرة بروز مسألة حجاب الرأس التي رفضت الفتيات المسلمات نزعه في المؤسسات التعليمية على الساحة الإعلامية، واشتد النقاش حول علاقة ذلك بمبادئ الجمهورية اللائكية، والاستفزاز الذي يشكله ارتداء الحجاب لغير المسلمين، وتفرع النقاش إلى أمور أكثر جدية بما فيها عدم احترام القوانين الفرنسية. (مذكرة وزير التربية فرانسوا بيرو، دستورية المذكرة أو عدم دستوريتها)، وسبل الطعن في القرارات الإدارية المترتبة فيما بعد إلى مناقشة موضوع يتعلق "بالهوية الفرنسية".
أما جريدة (لوموند) التي لا تكف عن التغني بالرصانة والدقة- فقد أنجزت ملحقا خاصا عن الإسلام في عددها الصادر (13/10/1994م) ضم مجموعة من المقالات لأسماء فرنسية إضافة إلى استطلاع للرأي نشرت نتائجه بالملحق نفسه حيث ورد في الاستطلاع أن الإسلام يعد الدين الثاني في فرنسا لكنه دين غير محبوب، فقد تحدثت عن القهر الذي تعاني منه المرأة في بعض بلدان الشرق، وقطع يد السارق، والانتصار لتعدد الزوجات واستفراد الرجل بالعصمة، وجلد الزاني.. وكأنه لا يوجد في الإسلام إلا هذه الأمور، بينما أغفلت كل حديث عن النبل والتسامح والإخاء والعدالة والمروءة والحلم وغيرها من الفضائل. والشيء ذاته لجأت إليه صحيفة (الفيغارو) و(النوفيل أوبسرباتور) و(الليبيراسيون). "والمدهش في الأمر أن التليفزيون الفرنسي بقنواته المختلفة يبذل جهدا حثيثا لإثارة الكراهية ضد المسلمين حتى صار يمنع المثقفين الفرنسيين الذين يعارضون تلك اللوثة الفرنسية من الظهور على شاشته وفي برامجه، والباحث الفرنسي المعروف "فرانسوا بورجا" وهو من أكثرهم تفهما وإنصافا نموذجٌ لضحايا هذا الموقف الغريب، حيث لا يُسْمَحُ له بالظهور في برامج قناة تليفزيونية ألمانية (آ.ر.تي) والذي يستعين به هم الألمان وليس الفرنسيون!
ولكننا نسجل أيضا بتقدير بالغ موقف العديد من المفكرين الفرنسيين الذي يسعون إلى تفهم الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية بشكل دقيق. فيعقدون الندوات ويصدرون كتبا يدافعون فيها عن الإسلام والمسلمين منفذين بذلك ادعاءات المعادين بالحجج والبراهين. يقول الأستاذ المتخصص في الإسلاميات (برونو آتين): "إن الإسلام كان ذا صورة رومانسية عندما كان بعيدا عنا لكنه الآن يعشعش بيننا ويعيش في أوساطنا فهل يجب أن ننسى التاريخ؟ إن الإسلام الذي كان موجودا في فرنسا كان "مُدَجَّنا" أو متوطنا لا يثير أي احتكاك، ولقد نسي الفرنسيون اليوم أن الجنوب الفرنسي كان مسلما قبل عشرة قرون. يعتقد الفرنسيون اليوم أن المشاكل ازدادت بتزايد أعداد المسلمين المقيمين في وطنهم، لكنهم نسوا أن عدد المسلمين في الستينات كان أكثر مما هو عليه اليوم. والحقيقة أن الغرب لم يكن ينتبه لوجود الإسلام طالما كانت الشيوعية هي عدوه الأيديولوجي الرئيسي. لكن بموت الشيوعية اكتشف الغرب أن العدو الداخلي (الذي تمثل في الإسلام) هو أخطر عليه من العدو الخارجي القابع خارج الحدود، ويجب عدم جواز التعميم وتحميل الأمر إلى الدين الذي يحرم قتل النفس، وهو لا يفرق بين البشر في أي شأن من شؤون الحياة ويقول: (لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى)(15).
***************
الهوامـش
*) باحث مغربي.
1- انظر مجلة (الفكر العربي) عدد خاص عن الاستشراق الجزء الأول (31) ص: 62 (لم الاهتمام بالاستشراق؟ د.شكري النجار).
2- انظر كتاب تاريخ الدراسات العربية في فرنسا/ سلسلة عالم المعرفة/ عدد: 167/ الدكتور محمد المقداد/ ص: 95/96.
3- المرجع نفسه/ ص: 128.
4- مجلة الوطن العربي/ عدد: 40/ ص: 62.
5- انظر مجلة (رسالة الجهاد) الليبية/ عدد: 70/1988م ص: 59/ حوار معه أجراه مندوب المجلة في فرنسا.
6- استجواب معه نشر في جريدة (الأنباء) الكويتية/ عدد: 2/5/1983م/ ص: 32.
7- انظر كتاب الاستشراق ص/268/269.
8- انظر دراسة الدكتور سالم حميش عن الاستشراق الفرنسي في ركب العلوم الإنسانية/مجلة (المستقبل العربي) عدد: 162 غشت 1992م/ص: 15.
9- انظر جريدة الشرق الأوسط عدد: 19/6/1993م/ص: 19 (المخطوطات الإسلامية في المكتبة الوطنية بباريس/ جليل العطية).
10- انظر كتاب الدراسات العربية في فرنسا/ مرجع سابق ص: 89.
11- انظر صحيفة (لوموند) الفرنسية/ عدد: 12/7/1983/ ص: 12، وقد اعتنقت الإسلام سنة 1966م.
12- انظر الملحق الأسبوعي لصحيفة (الأنباء) المغربية/ عدد: 15/16 ماي 1988م، (حوار مع جيل كيبيل) حول سؤال الإسلام في فرنسا/ ص: 9.
13- المرجع نفسه/ ص: 9.
14- المرجع نفسه/ ص: 9.
15- مداخلته في ندوة (الإسلام في الغرب) التي انعقدت في باريس ونظمها مركز الدراسات المعاصرة بباريس/ نقلا عن جريدة القدس/ عدد: 2/5/1996م/ ص: 14.