التواصل مع الآخر تأصيل لمنهجية التعايش
التواصل مع الآخر تأصيل لمنهجية التعايش
بقلم: مرتضى معاش
يحفل التاريخ البشري بأحداث مأساوية خلفت تراكمات كبيرة في حدود النفس البشرية الجمعية حيث شرخت العمق الداخلي ورسخت ثقافات سلبية لازالت مشتعلة لحد هذا اليوم. فقد كان محور التاريخ هو تلك الصراعات العنيفة الدامية التي خاضتها المجتمعات والأمم والأفراد لتفوق الوصف والخيال في وصفها حتى تقترب إلى مرحلة الجنون، فالتاريخ البشري تاريخ مجنون كتب بالدم وخط بالسيف وصحف بالأشلاء وسطر بالمقابر.
هذا الصراع لاشك انه يعبر عن حقيقة مأساوية تصطبغ بها النفس البشرية وهي ان معظم الأمم والمجتمعات والبشر لا يستطيعون ان يحققوا تعايشا مسالما مع إخوانهم البشر في ظل التوافق والتصالح والعدالة، مع ان تأملاً فطرياً بسيطاً يجول في خاطر كل إنسان يستغرب من عدم قدرة الإنسان على تحقيق هذا التعايش البسيط الذي استطاعت بعض الحيوانات ان تحققه بغريزتها.
قد يعبر الصراع البشري المستنزف عن صراع على المصالح أو نزاع على الأرض أو استغلال للقوي على الضعيف وهو صراع قد يبرره بأنه صراع تفرضه غريزة حب البقاء أو قانون البقاء للاصلح، ولكن الأخطر من ذلك على مر التاريخ هو الصراع الذي تلون بالأيديولوجية فصبغ معاركه بالمبادئ والقيم لتصبح سيفا يقلم رؤوس المخالفين والمعارضين على مذابح المعابد فيأكله حلالا طيبا. وهذا هو أسوء الصراعات البشرية التي تكتنه بالعنصرية والعرقية والقومية والدينية والطائفية فيصبح القتل هو مبدأ بحد ذاته يجتزئ الآخرين بدون هوادة.
لقد خلفت تلك الحروب المأدلجة ذاكرة سوداء متشائمة في التاريخ كان آخرها حربين عالميتين كانت دوافعها عرقية وعنصرية، وهذه الذاكرة تخاف ان تفتح أوراقها وتتصفح دفائنها وهي تواجه اخطر أسلحة مدمرة يمكن أن يحملها البشر لتدمير أنفسهم تدميرا مشروعا مبررا.
ان القراءة التاريخية لمعظم الأمم والحضارات تعطينا نتيجة واضحة وهي ان الأمم التي استطاعت ان تتقدم وتتطور وترتقي سلم الحضارة هي الأمم التي استطاعت ان توجد حالة التجانس والتعايش والتفاهم بين مختلف الفئات والقوميات والطوائف والأديان وفي مختلف جوانبها النفسية والاجتماعية والسياسية بحيث كتب لها البقاء التاريخي على مرور الأجيال لقدرتها على تحقيق الوفاق الإنساني والسلام العام. والامة الإسلامية التي أنشأها رسول الله محمد(ص) شاهد حي لازال يزخر بنماذجه الرائعة. وهكذا أمة فإنها تستطيع ان تجمع النسيج البشري في إطر متوافقة من اجل البناء المشترك والحياة السليمة والعدالة العامة بعيدا عن الحرب والقتل والعنف.
أما الأمم التي غرقت في صراعاتها وخلافاتها السلبية فقد تحولت إلى فتات مهمش لا يقوى على تجميع أجزائه حتى تقضي عليه قوانين التاريخ القاسية، وقد رأينا كيف سقطت الأمم عن عليائها نتيجة لذلك التعصب والتمرد ضد الآخرين بحيث تتحول حياة تلك الأمة إلى جحيم ملتهب لعدم قدرتها على التفاهم والتعايش.
ان قدرة أي أمة في تحقيق قوتها ورقيها هو في قدرتها على استيعاب الآخرين وضمهم في مسيرتها وتحقيق الوفاق الجماعي الشامل.
وان عجز أي امة يتبين من نبذها للاخرين وتشتيتها لافرادها واختيار تقطيع اوصالها لكيانها عندما ترفض مبدأ التوافق.
لان التعامل الإيجابي والمتفهم مع الآخر الفكري أو المذهبي أو الديني أو القومي.. هو العنصر الأساسي في حركة التاريخ المتقدمة نحو المستقبل، اذ ان حركة الإنسان لا تتكامل عناصرها بشكل عملي إلا بتكامل الجسم الإنساني العام، فالإنسان لوحده لا يشكل إلا وجودا يمثل وجها واحدا والوجه الآخر هو الإنسان الآخر الذي يمثل البعد الآخر المكمل للوجود الإنساني.
وإذا كنا قد بحثنا سابقا دور الحرية في التقدم ودور الاستبداد في التخلف فأن قضية الآخر تمثل النتاج العملي لهذين الدورين، فالاستبداد رفض الاعتراف بالآخر وتوكيد على سلطة الذات المطلقة، والحرية هو اعتراف بوجود الآخر لأنه لا معنى للحرية مع عدم قبوله وانكاره.
ان الإطار المنهجي لبحث حركة التاريخ نحو المستقبل يتكامل عندما نخوض بحث مشروعية الآخر نظريا وواقعيته عمليا. ذلك ان الحياة الإنسانية قائمة على تحقيق التكامل الاجتماعي المتنامي عبر التواصل البشري والانفتاح الفكري والتلاقح العقلي والعلمي والتبادل التجاري والتعايش السياسي، فمع الانغلاق الإنساني على ذاته وقوقعته يتخلف عن أهم قواعد التاريخ التقدمي وهو التواصل والانفتاح.
الآخر قد يكون قريبا جدا مثل الذي يتشارك مع آخرين في عمل أو جماعة أو اتجاه، وقد يكون بعيداً ولكنه قريب باعتبار آخر مثل الذي ينتمي إلى جماعة أخرى ولكنه ينتمي إلى نفس المجتمع، وقد يكون بعيداً حيث ينتمي إلى مجتمع اخر، وقد يكون ابعد مثل الذي يعيش في إطار أمة أخرى أو دين آخر.
وفي كل الحالات فان التعامل مع الآخر لا يعتمد على مستوى البعد والقرب بل ينبع أساسا من السلوك النفسي والاجتماعي للفرد، فالانغلاق الذاتي للفرد والتربية الثقافية إذا افرزت سلوكا سلبيا فان التعامل سيكون سلبيا مع كافة المستويات باعتبار ان السلوك يتشكل من خلال التراكمات النفسية والثقافية والفكرية، واذا كان إيجابيا فينعكس ذلك على القريب والبعيد بلا استثناء. لذلك نرى المجتمعات أو الأفراد المتصادمين ينعكس تعاملهم السلبي مع الآخر في صراعهم حتى مع اقرب الرفاق اليهم في المبدأ والعمل. فإنكار ورفض الاعتراف هو بحد ذاته سلوك صدامي عام يصدر من خلال القنوات النفسية والثقافية والعقائدية للفرد، فهكذا فرد يبقى عاجزا عن التفاهم عن أي كائن لانه يبقى تحت سيطرة روحه التصادمية. وفي الطرف الآخر فان الفرد المتسامح والايجابي نراه قادرا على التواصل مع الآخرين والانفتاح عليهم على كافة المستويات.
حقيقة الآخر وحتميته
ان معظم تصرفاتنا تدل على ان أسلوب تعاملنا مع الآخر القريب أو البعيد أو الأبعد هو أسلوب إنكاري وتصادمي، حيث اصبح الانغلاق هو السمة الأساسية في سلوك الأفراد والجماعات مع قطع خطوط الاتصال والتواصل، فقد اصبح الآخر في إطارنا النفسي والثقافي والفكري مجرد هامش على وجودنا لا يشكل أي تأثير إيجابي في حركتنا الذاتية والاجتماعية، فهل تهميش الآخر هو واقع حقيقي ينبعث من القوانين التاريخية والكونية..؟ أم هو وهم خيالي يختاره المنغلقون لحماية احلامهم الوردية من السقوط أمام الواقع المر الذي يرفضون تجاوزه..؟
ومهما حاولنا ان نجيب فان التفكير العقلاني القائم على الموضوعية والتجرد في طرح الأحكام هو الذي يجيب على هذه التساؤلات فان الحياة لايمكن ان تقوم بدون وجود الآخر قياما فيزيائيا أو فكريا أو نفسيا أو اجتماعيا وحينئذ فان تهميشه هو محاولة للتمرد على قانون الحياة.
الحتمية التكوينية
ينبعث جمال الحياة وأعجاز الباري تعالى من ذلك التنوع والاختلاف في كافة رحاب الكون، وهذا الاختلاف يدل على آيات الله العظيمة التي تبين قدرته سبحانه وتعالى، حيث يقول تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم والوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين) الروم22 فالتنوع الكوني حتمية قام عليها قانون الكون ولايمكن إنكار ذلك لان تجاوز هذه الحتمية سوف تنعكس آثاره سلبيا على حياة البشر عامة. وربما يكون جمال الكون هو في ذلك التنوع والتوازن الرشيق الذي خطته يد القدرة والعظمة. فبدون التوازن لايمكن تحقيق حياة تتألق بهذا الجمال، ولكن عندما يتدخل الجهل البشري والنزعة النفعية في ضرب التنوع والاختلاف يختل التوازن ويذبل الجمال.
ويتمثل التنوع الكوني في الإنسان بشكل خاص في تنوع الإنسان واختلافه شكلا وقالبا وفكرا حتى لايمكن ان تجد أي تطابق كاملا بين أي إنسان واخر، فكل إنسان هو مخلوق مختلف بحد ذاته عن الآخرين، وقدرته على الاختيار وحريته في التفكير هي قمة فرادته واستقلاليته عن الآخرين. والقرآن الكريم حافل بالآيات التي تبين الاختلاف التكويني في الكون والإنسان، حيث يقول سبحانه: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود118.
ان الإنسان بطبيعته السوية لديه استعداد وقابلية للتنوع والتغير في حركة دينامية حية وهذا هو ما انتج تنوع اشكال الحياة وتباينها وتنوع اشكال فهم الحياة وصور التعبير عن الحياة وتنوع النظر إلى الكون والوجود ففي التنوع والتعدد والاختلاف حياة الإنسانية وارتقاؤها. ومع حتمية التنوع تكوينا تبرز حقيقة مهمة هو ان ما يجمع البشر اكثر مما يفرقهم فالحياة وحدة مع الاختلاف وتباين في إطار الوحدة، لان التنوع لا يعني التنافر الإنساني المطلق ولا يعني النفي الوجودي المتبادل وانما يعني ضرورة الاعتراف والإيمان بالتعدد والتنوع ضمانا لسلامة الحركة القائمة على التفاعل بين أشكال متنوعة من الصور والأفكار. فالتباين ليس عامل هدم بل هو حافز حركة قائمة على التفاعل المشترك في إطار عقلاني لبناء وحدة انسانية متفاعلة. ومع التنوع يمكن تشكيل تعايش منسجم يحافظ على استقلالية الفرد وحقوقه.
الحتمية الاجتماعية
مع ذلك التباين التكويني والتنوع الإنساني تبرز حتمية التنوع الاجتماعي فالإنسان يعيش في وحدة اجتماعية تعتمد على التوحد في إطار التكامل بين الحاجات والطاقات المختلفة،فنحن لا نستطيع ان نكتفي بالحياة مجرد الحياة ولا نستطيع ان نواصل وجودنا كبشر دون روح المعاشرة الاجتماعية. فالمجتمع قام أساسا على التبادل والتعايش بين البشر من اجل التطور والنمو في إطار التعاون والتكاتف ولا يمكن للمجتمع ان يقوم إلا في حدود هذه الحتمية وإلا فانه عندما يلغى استقلال الإنسان وحريته ورأيه يفقد مبررات تشكيله فيجبره على الاندماج في المجتمع اندماجا اكراهيا فتنتفي حينئذ الغايات المبدئية من تشكيل المجتمع وتكامليته التفاعلية.
ومع عدم الاعتراف بالآخر يتوقف المجتمع عن مسيرته التكاملية والتصاعدية بافتقاده لروح التنوع والتفاعل بين أجزاء المجتمع. يقول تعالى في كتابه الحكيم: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات)المائدة48.
ان الحاجة الأساسية للفرد في المجتمع هي معرفة نفسه وطاقته وجوهره وذلك عبر معرفة الآخر والتعامل والتكامل معه حتى يستطيع ان يكتشف نفسه، فالناس اجتماعيون ويعملون في علاقات مع بعضهم البعض وفي مواجهة أناس آخرين يتعلم الإنسان ويتعايش تأسيسا على حياة اجتماعية مشتركة، وهذا التعلم انما يجري فيما بين الناس وليس في داخلهم ولكي نتعلم كيف نعيش حياة اجتماعية سليمة لابد من الوصول إلى فهم الآخرين. يقول بعض الحكماء: نصف رأيك مع أخيك وإذا بان منك أخوك بان شطرك وإذا اعتل خليلك فقد اعتل نصفك.
ويقول الإمام علي(ع): الناس صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى ان يعطيك الله من عفوه وصفحه.
حرية الذات مع حرية الآخر
لا يمكن تحقيق التكامل الاجتماعي المنشود دون تحقيق الاعتراف بالآخر والإيمان بحقه وحريته لان: العديد من الغايات التي يهتم بها الناس لايمكن الوصول إلى تحقيقها إلا بفضل تعاون الآخرين وان هذا التعاون غالبا ما لا يكون بالإمكان الوصول إليه بالإكراه. فكيف يمكن تحقيق الحرية والوصول إليها دون ان تتحقق بصورة متكاملة للجميع، فالتغافل عن حرية الآخرين أو قمعها يقود نحو القضاء على وجود الحرية والتشكيك بمشروعيتها. ويفسر لوك الحرية بهذا المعنى: ان حرية الإنسان هي حريته في ان يتصرف ويسير كما يشاء ضمن إطار ما تسمح به تلك القوانين التي يعيش في إطارها وله بالتالي ان لايكون موضوعا لعسف إرادة الآخر.
ان الاعتراف بحرية الآخر والتواصل معه يعني الاعتراف بحريتي فكيف يمكن ان تكون الحرية مشروعة لي ما دامت محرمة على الآخر، فعندما يعترف المجتمع والفرد بحرية الآخر ويرضى بالتواصل طوعا وبادراك لما يقوم به فانه يربح الحرية لنفسه ويكون صانع خيار أخلاقي هو من مقومات الحياة الحرة. ومن هنا وجهتنا الأحاديث والروايات الشريفة لاحترام حقوق الآخرين وعدم تضييعها حيث يقول الإمام علي(ع): لا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه فانه ليس لك بأخ من أضعت حقه. ويقول(ع) أيضا: اجعل نفسك ميزانا بينك وبين غيرك واحب له ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها واحسن كما تحب ان يحسن إليك ولاتظلم كما تحب ان لاتظلم.
لماذا لا نعترف بالآخر..؟
كثيرة هي الأسباب ولكن من أهمها:
أولا:الأسباب النفسية
تشكل العوامل الذاتية اكثر العناصر في محورية الذات، لان النفس الإنسانية عندما تسرف في تقدير ذاتها وتستعلي على الآخرين وتحس بالتفوق بالمطلق ترفض الاعتراف بغيرها، والاستبداد ينشأ من هذا المنطلق. هذا بالإضافة إلى سيطرة الروح الأنانية والمصلحية في الإنسان التي تحاول ان تحتكر كل شيء لصالح منافعها الخاصة، هذه الأنانية قادت ولاشك إلى كثير من النزاعات والصراعات العبثية. ويرى توكفيل: ان الفردية بحد ذاتها صيغة مخففة من الأنانية التي تدفع كل فرد من أفراد المجتمع إلى عزل نفسه والابتعاد عن الآخرين، وهكذا تبدو الفردية وكأنها في البداية تضعف القيم الإيجابية في الحياة العامة للمجتمع ولكنها على المدى البعيد تعادي وتدمر كل هذه القيم فتتحول إلى أنانية صرفة.
ثانيا: الأسباب الثقافية
ان الكثير من الأفراد والجماعات المنعزلة تتجنب التعامل والتواصل مع الآخر نتيجة لعوامل ثقافية ضاربة في عمق البناء الأساسي لسلوك هؤلاء الأفراد والجماعات. فالفرد قد ربي من صغره على احتقار الغير والإحساس بتفوقه عليه والشعور بثقة عمياء بنفسه وصحة فكره المطلقة والإيمان المطلق بجماعته ظالمة كانت أو مظلومة. وهذا هو احد موارد التعصب الاعمى للفكر أو القوم أو العرق،لان: التعصب هو في أساسه نظرة سلبية للغير والمتعصب يتجه بتفكيره أساسا الى الآخرين في حقد أو حسد أو احتقار وميل إلى إلحاق الضرر بالغير اكثر مما يميل إلى تأكيد مزاياه الشخصية أو كسب منفعة لنفسه.
ثالثا: سوء الظن بالآخر
ان التجارب السيئة التي يمر بها الإنسان في الحياة تجعله يشك بالآخر ويسيء الظن بالجميع خصوصا عندما لا يستخدم التحليل المنطقي في الاستفادة من تجاربه. وكذلك فان التربية الأسرية والاجتماعية لها دور في إساءة الظن عندما يعمم استنتاجاته بشكل كلي. فالفرد عندما يواجه ظلما أو اضطهادا أو استغلالا يتحول هذا الأمر عنده إلى حالة دائمة مع شعور دائم بالتآمر عليه. وقد كانت التجارب المرة التي مرت بها الأمة في العقود الأخيرة مدعاة لإساءة الظن في كثير من الأفكار والمناهج عبر التعميم المخوء... فكل حزب هو عميل وكل ما هو من الغرب كفر وكل تكنولوجيا حديثة فهي محرمة وهكذا...
ان سوء الظن يرجع في واقعه إلى أسلوب خاطئ في تحليل الأمور وخصوصا عندما يستند إلى استدلالات سطحية لا تعتمد المنطق والعقلانية، واذا كانت أحكام الفرد أو المجتمع ارتجالية وعاطفية وانفعالية فأن سوء الظن من أهون الأشياء خصوصا عندما يختص الأمر بحوادث تجرح الشعور جروحا تؤدي إلى الإحساس بالنقص والضعف وان كان هذا الشعور واهما.
وقد ورد في الأحاديث الشريفة قدح في إساءة الظن وذم للمسيء ودعوة لحسن الظن، فقد روي عن أمير المؤمنين علي(ع) : ان المؤمن أخ المؤمن لا يشتمه ولا يحرمه ولا يسيء الظن به. وأيضا عنه(ع) : ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا.
وتنشأ معظم الخلافات التصادمية نتيجة لسوء الفهم وعدم القدرة على التفاهم مع الطرف الآخر والتشكيك بنياته، فعندما تفترس الفرد الشكوك المظنونة الناشئة من دواع واهمة يفقد القدرة على تفهم الآخرين والتفاهم معهم.
رابعا: الخوف من الآخر والشعور بالضعف
الإنسان بطبيعته كائن ينتابه الضعف عندما لا يقدر على تجاوز المحن والصعاب، وشعوره بالخوف هو الذي يحرك فيه كوامن الحذر والاحتياط، وقد يتحول هذا الامر إلى حالة مرضية عندما يفقد ثقته بنفسه ويتحول خوفه إلى شعور بالضعف الدائم والهزيمة من الآخر، لذلك يتراجع إلى داخله متحصنا بأسوار حديدية أمام هجوم الآخر كما يتوهم، وحينئذ فهو ينكر كل شيء يرتبط بالآخر سواءا كان صحيحا أو خاطئا محقا كان أو باطلا مفيدا له ام غير مفيد، فيصبح عدوا دائما له ومحورا للشر، ويمكن رؤية هذا الأمر في الأمهات اللواتي يزرعن الخوف في أبنائهن من كل غريب وقريب.
كما ان المجتمعات والامم التي ركبها الوهن الفكري والعجز الثقافي هي الأخرى تحارب الآخر لانه يشعرها دائما بضعفها فتخاف ان تتواصل معه خوفا من ان يغزو أفكارها ويحصد أفرادها، والجماعات الإسلامية في السنوات الأخيرة مثال على ذلك حيث سورت كيانها ضد كل انواع الاتصال خوف من تعرضها للاختراق الفكري والثقافي واندساس افكار ورؤى تعتبرها مضرة باهدافها.
والغريب في الامر ان الخوف وروح الانهزام لاتزيد الفرد أو الجماعة إلا ضعفا واندثارا، لانه عندما يفتقد الارتباط مع الآخرين يفقد الفرد القدرة على فهم معطيات الصراع والمتغيرات وبذلك يبدأ بفقدان أوراقه وتتساقط أفكاره وينكشف وهنه فيرتمي في أحضان الغير مستسلما استسلاما مطلقا. وتفقد الجماعات أفرادها عندما لا تستطيع ان تقدم لهم عناصر القوة والبقاء. يقول الإمام علي بن أبى طالب(ع): اعجز الناس من عجز عن اكتساب الاخوان واعجز منه من ضيع من ظفر به منهم.
خامسا: العزلة والانعزال
تشكل العزلة من العوامل المهمة في فقدان القدرة على التواصل، وقد تكون أسباب العزلة نفسية أو ثقافية أو جغرافية أو اقتصادية، ولكن المنعزل ينأى بنفسه عن الآخرين مشكلا لنفسه عالما خاصا، فتنشأ الأسر الصغيرة التي تكون لنفسها حياة خاصة بها كالأسر الاقتصادية الإقطاعية والتكتلات العشائرية والأحزاب المنغلقة والمجتمعات النائية في الجبال والجزر والمناطق البعيدة حيث تشكل لنفسها ثقافة خاصة وحياة منفصلة. ويصعب على الانعزاليين التفاهم مع الآخرين لافتقادهم لغة الحوار والتفاهم. ويمكن رؤية اغلب الشعوب المتحضرة من
خلال زاوية تواصلها مع العالم الخارجي فالبلاد التي تطل على مناطق منفتحة على العالم الخارجي هي اكثر تحضرا من المناطق البعيدة والنائية كالتي منعزلة في الجبال أو الجزر.
تبعات إنكار الآخر ونتائج فقدان التواصل
يرتبط وجود الإنسان ككائن اجتماعي بارتباطه باخيه الإنسان ارتباطاً حتميا في جميع جوانب الحياة، فالإنسان الذي يفتقد التواصل مع الناس يعتبر سلوكه شاذا يشوبه المرض وبالتالي يعتبر فاقدا لقدرته على ممارسة وظائفه الطبيعية في الحياة. وقد تنشأ من رفض الآخر تبعات أثار تبرز بشكل مميز في حياتنا ويمكن قراءتها على هذا الشكل:
أولا: التواصل السلبي مع العالم الخارجي
يتقدم الفرد وتنمو المجتمعات بنمو تواصلها الإيجابي الذي يحافظ على أسسها مع تطور تدريجي ينعكس اطرادا على أشكال وصور حياتها، فالمجتمعات المتقدمة في عصرنا كاليابان مثلا هي التي استفادت من هذا التواصل الإيجابي ولكنها حافظت علي قيمها ولم تنصهر في المجتمعات الأخرى وهذا يدل على وجود قدرة واعية في تفهم الآخر والاستفادة بشكل متبصر من خلال التبادل الفكري والعلمي والحضاري. ولكن مع فقدان التواصل الإيجابي والحوار المتفاهم تتحول لغة التبادل إلى لغة سلبية قائمة على التصادم والشك والتلقي الثقافي السيئ، فنحن نعيش اليوم مثلا حالات سلبية متكاثفة مع العالم الخارجي بافتقادنا للتواصل الإيجابي فهناك من يستخدم العنف كلغة أساسية مع الغير وهناك من ارتأى العزلة المطلقة عن التأثر والتأثير وهناك من انصهر انصهارا كليا في الغير حتى فقد مكوناته وقيمه. هذه اللغة في التفاهم والتواصل تجعلنا غير قادرين على فهم حقيقتنا وفهم حركة العالم الخارجي وهو ما انعكس كثقافة تساجلية على تعاملنا مع بعضنا البعض، انها غربة حقيقية يعيشها الفرد عندما يعجز عن التفاهم مع عالمه الخارجي كالاخرس أو الاعمى الذي يفقد بعض الادراكات الحسية ولكن بشكل اسوء لانه فقدان لادراكات حدسية.
فالهروب من الحاضر والعيش الارادي في جيتو منغلق يؤدي إلى انحسار الثقافة وتحوصلها وتحجرها وقد تموت، ولكن هذا التقوقع في العصور السابقة كان ممكنا ولكن في عصر المعلومات الاثيرية والعولمة الجانحة والمعلوماتية الواسعة تعجز الحصون عن صد هذه الهجمات ولكن بعد انهيار الحصون ينفرط العقد وتسقط القيم لتذوب في بوتقة الغازي، وتتحول العزلة إلى عزلة نفسية هي اقرب منها إلى المرض والموت.
ثانيا: عدم فهم التطورات والمتغيرات المحيطة بنا
العالم يعيش بصورة متصاعدة، تغيرات متسارعة ومتصاعدة في مكوناته الحضارية والثقافية نتيجة للثورة التقنية والمعلوماتية التي أنتجت نماذج فريدة في تشكيل العالم يصعب اللحاق بها أو فهمها. ومع وجود الشك في الآخر وعدم التواصل معه يصبح من العسير التجانس مع التغيرات والتطورات، وهذا يقود لوجود تأثيرات سلبية متزايدة لأننا سنكون تحت قبضة عالم متنام لا نعرف ماذا يجري حوله. فالأمية السياسية والاقتصادية والثقافية تزداد اتساعا في مجتمعاتنا عندما نجهل ابسط قواعد الاتصال والحوار، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فان التطور الحتمي الذي يلحق في البنية التحتية لمجتمعاتنا خصوصا مع بروز الأجيال الحديثة التي نمت في رحم رياح العولمة يجعل الأمر اكثر صعوبة بفقداننا للتواصل الداخلي وعدم وجود لغة حوار منفتح تقودنا نحو التجانس والتنسيق والعمل المشترك مع ان الحقيقة هي سيطرة لغة التصادم والقطيعة والحوار من طرف واحد.
ومع عدم القدرة على استيعاب المتغيرات الحتمية التي تهب علينا نصبح اسرى لمسيرة القدر وقوة سلطان الآخرين.
ثالثا: الانحراف وتراكم الأفكار السلبية
لقد اثبتت إفرازات الواقع ان اغلب الانحرافات العقائدية والاخلاقية تنشأ في الأجواء المنغلقة والاستبدادية، لان عدم وجود التواصل المستمر يلغي حركة الحوار والتخاطب البناء في المجتمع مما يساهم في ترسيخ الأفكار السلبية ونمو الأفكار الضالة التي تنشأ في الأذهان لشبهات بسيطة لم تجد جوابا ونقاشا من الآخرين. لذلك نرى الكثير من المجتمعات المنعزلة تصبح مرتعا للانحراف بعد ان فقدت التواصل مع عالمها الخارجي وحتى فقدت التواصل في قواعدها الداخلية. والشباب معرض في عالم اليوم إلى ان يستقي أفكاراً منحرفة من الغير ان لم توجد هناك أسس لتواصل وحوار داخلي وخارجي يمنهج عملية الاتصال بصورة منطقية وعقلانية، لذلك نشأت في بلادنا الكثير من الحركات العنيفة والأحزاب الغريبة نتيجة لعدم وجود هذا التواصل المنهجي. وقد يتحول الامر إلى عزف منفرد عندما يحاول ان يتواصل مع العالم الخارجي دون الداخلي فيذوب في ذلك العالم وينصهر فيه.
رابعا: تسلط الجمود والركود وموت الابداع والفاعلية
بالتنافس يحيى الإنسان ويتحرك ويبدع وينمو، فاغلب الحضارات والإبداعات ظهرت عندما واجهت تحديات وتواصلت بشكل إيجابي مع الآخرين لان إبداع الآخر يستثير ويحرك روح التنافس. والتواصل الفكري يؤدي إلى وجود أفكار جديدة عبر التفاعل والتكامل والتضاد، فلا يمكن تحقيق عمل إبداعي ما لم يكون في إطار تفهم لإبداع الآخرين. والآية القرآنية قد تؤدي هذا المعنى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما أتاكم فاستبقوا الخيرات) المائدة48.
وعندما تواجه إبداعات الغير مواجهة استنكارية فهذا يقود إلى قتل الإبداع في داخلي لانه بنكراني لإبداع الآخر اقتل روح التنافس في فكري وروحي اذ ان: الرفض هو نتيجة تحجر وتقوقع وعجز عن التمثل أو التفاعل الخلاق وليس رفضا واعيا لديه القدرة على طرح البديل فالثقافة المتحجرة تستهلك طاقتها في إعادة إنتاج ذاتها كما هي والانغلاق ضد المؤثرات الخارجية.
ان العزلة ستقود حتما إلى فناء الفرد واضمحلال المجتمع واكثر المنعزلين قد واجهوا هذا المصير لان روح الإبداع والخلق والإنتاج قد ماتت فيهم، ففي رفض الآخر رفضا مطلقا دعوة إلى مخاصمة كل الثقافات المعاصرة والاستهانة بها والاستدبار عن التعرف العلمي والموضوعي للثقافات الحية، وفي هذا النهج خروج من العصر والحياة إلى الموت الحضاري التدريجي بينما المطلوب ان نعيش عصرنا وان نكون فاعلين فيه ومتفهمين له وكلها أمور لا تتحقق بغير التعامل مع الآخرين.
خامسا: فناء الجماعات
ان النتيجة الأساسية لموت الإبداع والتفاعل هو فناء الجماعات المنغلقة، لأنها بانغلاقها تفتقد مقومات البقاء والاستمرارية اذ تكون قادرة على الاستمرار عندما تضخ باستمرار بالأفكار والرؤى والانتاجات التي تنبع من خلال الاتصال بالآخرين والتفاعل معهم، وحينئذ فإنها تستنزف أفرادها وتخسر كفاءتها الذين يتوقون نحو التواجد الإنساني الفاعل بالحيوية والنمو والتقدم. فالجماعة الحقيقية القابلة للاستمرار والقادرة على الفعل والابتكار لأجيال طويلة هي التي تستجيب للمتطلبات الحقيقية للواقع ولا تغرق في أوهامها الزائفة حيث ان الجماعة المتعصبة المتربصة بالآخرين عن إحساس بالضعف والفقر أو توهم كاذب بالعلو والمجد قد تكون بسبب إرهابها وعصبيتها عالية الصوت في هذا العصر ولكنها لابد ان تخمد وتموت بعد ذلك، لذلك نرى ان التراث الإيجابي الذي خلفته الحضارة الإسلامية لازال يرفد الأمة بالحيوية والمثل والقيم، اما الصيحات الفارغة للبعض كالخوارج مثلا وغيرهم فقد اندثرت إلا ما بقي منها كأمثولة يستدل بها على جهلهم وسطحيتهم.
فالجماعات الفانية هي الجماعات التي تحرّم الحوار على افرادها وتعتبره دنسا، وهي التي تكفرّ الآخرين وتخرجهم عن الدين، وهي التي تنصب حول كيانها وأفرادها سورا حديديا يعزلها بشكل مطلق عن العالم الخارجي، وهي تتصور انها تمتلك الحقيقة المطلقة حيث لاشيء ابعد من ذلك، وهي التي تستخدم العنف لضرب خصومها وتطويع أفرادها... فهل هناك استمرار لهكذا وجود..?
سادسا: سلطان العنف
العنف هو الذي يستخدمه البعض عندما لا يستطيع ان يستجيب لمتطلبات التواصل والحوار، فعندما يعجز الفرد عن إقامة التفاهم والاتصال الموضوعي مع الآخرين يلجأ للعنف لاثبات وجوده وفرض قيمه اذ ان استخدام العنف في غير موقعه يبين ضعف الفرد أو الجماعة في التواصل والاندماج بشكل سليم في المجتمعات البشرية وفقدان القدرة التفاعلية على الحوار والتفاهم والتكامل.
ان التواصل يهدف إلى إقامة أسس الحوار والتعايش وإنهاء العنف من الصراعات الدائمة، وبعبارة أخرى فان التواصل لا يلغي الصراع والاختلاف الذي هو حقيقة ثابتة ولكنه يقوده نحو التدويل السلمي والاعتراف المتبادل بالحقوق والأعراف.
سابعا: تمحض الفردية وجموحها
أحد سلبيات الانقطاع عن الآخرين هو الجموح المطلق نحو الذات وإيجاد محورية تعتمد على الذات فقط وإنكار المجتمع والاستغناء عن الآخرين وهذا هو الذي يؤدي إلى نشوء الاستبداد والفردية المحضة. بينما الحقيقة الاجتماعية تفترض ان يندمج الفرد مع المجتمع ويتعايش معه مع الحفاظ على استقلاليته الفردية في إطار اجتماعي عام يقوم على الحوار والتبادل والتكامل وقد قال ارسطو سابقا: ان الفرد الذي يعيش الاكتفاء الذاتي المطلق إما وحش أو إله. وربما فان فقدان القدرة على التفاهم مع الآخرين يؤكد أوهام الفرد في تفوقه المطلق ويوحي له باستعلائه وأحقيته.
واذا كانت الدكتاتورية هي من أهم المشاكل المستعصية في بلادنا فان تعميق روح التواصل والتعايش والحوار يمكن ان يمهد إلى وجود أجواء ديمقراطية حرة تؤول نحو الاستقرار والأمن وتأد الصراعات العنيفة المدمرة، لأنها تؤسس روحا جماعية تعاونية.
كيف نستطيع ان نتواصل..؟
إننا ننشد أن نحقق روحا جديدة تفيض بالفكر والإبداع وسلوكا يتحمل المسؤولية في الحوار والتفاهم بعيدا عن الصراع العنيف والقطيعة الانعزالية والاحتكار الاستبدادي. لابد أن نتحرك لإيجاد حركة اتصال فيما بيننا وبين الآخرين لنكون قادرين على الفعل والتأثير في عالم اصبح لا غنى فيه عن الحوار والتفاهم بعد أن قلصت التكنولوجيا كل عوامل البعد المادي والجغرافي وبقي علينا تحمل المسؤولية في تقريب الأرواح والأفكار والأنفس ونزع الضغائن والأحقاد وإطفاء روح الانتقام وتمكين روح النقد الموضوعي والعلمي وإخماد فورات الجهل.
لكي نتواصل لابد من:
1- التأكيد على القواسم المشتركة التي تقرب النفوس والأفكار أولا وإغفال التقاطعات التي تبعد وتقطع الاتصال. فالجماعات العاقلة هي التي تركز على بناء القواسم المشتركة لتحافظ على مصالحها لأنها تعي أنها في دخولها بنزاعات منفعلة سوف تقضي على كل مصالحها. فاكثر الأفراد والجماعات تقدما هي التي تعتمد معايير أخلاقية مشتركة بين الأفراد حيث تحقق الإجماع على الالتزام بقواعد أخلاقية ومعنوية تشكل أساسا لبناء الثقة المتبادلة والتفاهم والتعايش فيمكن بعد ذلك تعميم الثقة بين الأفراد مما يرسخ حقيقة التواصل البناء. ان إيجاد معايير مشتركة تحت نظام القيم والمصالح المشتركة يبرمج الكثير من النزاعات والصراعات في إطار التنافس الخلاق والإبداع والتطور.
2- إيجاد روح التعاون والتعايش في النفوس عبر تنمية الروح الجماعية في الفرد واخراجه من القوقعة التي تحدد فكره وسلوكه، هذه الروح هي تعبير حضاري عن إمكانية الإنسان في مد جسوره مع الآخرين فكلما زاد تعاونه مع الغير ارتفع حسه الإنساني وتعاظمت طاقاته الذاتية وتسامت قيمه الأخلاقية واصبح متمكنا اكثر على العطاء بحيث يصبح نموذجا يحتذي به الآخرون. ويمثل رسول الله( نموذجا مثاليا في قدرته على تحريض الروح الجماعية بالتعاون والتشارك في مجتمع جاهلي كان فيه قتل الآخر من أهون الأشياء، لذلك استطاع) ان يجمع المتضادات والمتناقضات وصبها في حضارة إنسانية رسمت تأثيراتها التقدمية الكبيرة في التاريخ البشري. يقول الإمام علي(ع): من استصلح الأضداد بلغ المراد.
3- أحد العوامل التي تؤدي بالإنسان إلى قطيعة أخيه هو عدم تحمله للرأي الآخر المضاد إحساسا منه بالضعف أو الجهل، ولكن ما لا يدركه ان الرأي الآخر على العكس من ذلك ينمي إمكانية الإنسان الفكرية والثقافية ويزخه بألوان متنوعة ومتضادة بالرؤى تغنيه وتثريه. فإذا وسع الإنسان صدره أعطى مساحات واسعة لعقله في استيعاب الفكر الآخر فانه يكون قادرا على التواصل الإيجابي المثمر، وعن الإمام علي بن الحسين(ع): وحق المشير عليك ان لا تتهمه فيما لا يوافقك من رأيه إذا أشار عليك فإنما هي الاراء وتصرف الناس فيها واختلافهم.
ان التوجيهات الشريفة الواردة لا تحضنا فقط على تحمل الآخرين بل على صلة من قاطعنا وهذا من روائع الخلق الإنساني المتميز، فعن علي(ع) : احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة وعند صدوده على اللطف والمقاربة وعند جموده على البذل وعند تباعده على الدنو وعند شدته على اللين وعند جرمه على العذر.
وهنا فان سلوك المسلم اتجاه تصرف الآخر هو فعل نابع من تربية وملكة مارسها بوعي وفهم لذلك فانه يتحمل الرأي الآخر عن مسؤولية ابعد من تحمله فقط بل على تواصله مع من يقاطعه.
حسن الاستماع
ومن هذا الباب فان حسن الاستماع للآخرين هو من مصاديق تحمل الآخر والتفاعل معه لان من طبيعة الإنسان الجاهل ان يتكلم فقط ويحب الآخرين ان يسمعوه وعندما يصل دوره لا يستمع إليهم باهتمام أو يقاطع المتحدث أو يمارس العنف عندما يتكلم أو يسمع، انه يستعمل حاسة واحدة فقط. وهذه مشكلة أخلاقية وسلوكية تنتشر في الكثير من المجتمعات تهدد الحوار الموضوعي والهادف بالفشل. وعن علي بن الحسين(ع) : وحق الناصح ان تلين له جناحك وتصغي إليه بسمعك فان اتى بالصواب حمدت الله عزوجل.
وقال الإمام علي(ع): (إذا لم تكن عالما ناطقا فكن مستمعا واعيا). ومعنى هذا الكلام ان معظم الناس عندما يتكلمون يتصورون أنفسهم علماء وهم ليسوا كذلك فيوجههم الإمام(ع) إلى الاستماع الواعي إلى الآخرين للاستفادة من العلماء الحقيقيين. ويرى البعض: ان القدرة على الاستماع هي الأداة الرئيسية للوصول إلى تفاهم وتواصل مثمر بين الناس خاصة في مواقف الخلاف والصراع وفي تخفيف الميول العدوانية في لحظات التوتر والانفعال العنيف فعندما نستمع بانتباه إلى محدثنا محاولين فهم حاجاته فان من الصعب علينا ان نمارس ضده أي شكل من أشكال السيطرة لاعتقادنا بأننا وحدنا على حق، ان الإصغاء الفعال يشكل صمام أمان يحمينا من الوقوع أسرى أفكارنا المسبقة أو انفعالاتنا المحمومة.
ولا يكفي الإنصات وحده فقد استمع إلى الآخر وقد أوحيت إلى نفسي بصحة فكري وخطأ فكرته مسبقا قبل ان استمع إليه، والاستماع الصحيح ان استمع إلى أفكاره قبل كلامه.
4- القبول بمبدأ الخطأ وان كل واحد منا لا يمتلك الحقيقة لوحده
ان اخطر أخطاء الإنسان انه يلبس أفكاره بالعصمة والحقيقة الكاملة ويلغي أفكار الآخرين ويعتبرها خطأ مهما كانت الاستدلالات وهذا يبعد المسافات ويقطع التواصل ويرسخ الانعزال في الجزر النفسية. ويتم التواصل المنطقي بالاعتراف المتبادل بان الحوار هو الذي يوفر الأجواء لمعرفة الحقيقة والتواصل هو الذي يقود الناس إلى المشاركة الجمعية للوصول إلى الحقيقة دون أفكار مسبقة بالتعصب والتفرد والإرهاب. فإننا إذا تفاهمنا على الأمور بشكل عقلاني قد ندنو معا من الحقيقة حتى ولو لم نصل إلى اتفاق وهذا الدنو من الحقيقة لايمكن الوصول إليه من خلال النقاش إلا بفضل التسامح المتبادل والتبني المتبادل باستحقاق الطرف الآخر ان ننصت إليه. وقد قال فولتير سابقا: ما هو التسامح ؟ انه نتيجة ملازمة لكينونتنا البشرية، اننا جميعا من نتاج الضعف كلنا هشون وميالون للخطأ لذا دعونا نسامح بعضنا البعض ونتسامح مع جنون بعضنا البعض بشكل متبادل وذلك هو المبدأ الأول لقانون الطبيعة والمبدأ الأول لحقوق الإنسان كافة.
وقد وردت روايات شريفة في هذا توجه الإنسان للاستفادة من رأي الآخر والتقارب معا نحو الحقيقة، فعن أمير المؤمنين علي(ع): ليكن آثر الناس عندك من أهدى إليك عيبك وأعانك على نفسك. وعنه(ع) أيضا: افضل الناس رأيا من لا يستغني عن رأي مشير. وعن رسول الله(ص): المؤمن مرآة المؤمن. وعن الإمام الحسن بن علي(ع): الرجل ثلاثة: رجل رجل ورجل نصف رجل، ورجل لا رجل، فالرجل الذي هو رجل من كان ذا عقل واستشار ذوي العقول، والرجل الذي هو نصف رجل من كان ذا عقل واستبد بعقله، والذي هو لا رجل من لم يكن ذا عقل ولم يستشر ذوي العقول.
ومن المبادئ الأخلاقية التي تحقق هذا الامر هو روح التواضع الذي يتمتع بها الفرد فكلما زادت حقيقة التواضع فيه كلما ازداد في داخله إحساسا بالجهل بينما هو في الواقع يتنامى علما وبصيرة، يقول الإمام علي بن الحسين(ع) في دعاء مكارم الاخلاق: ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها ولا تحدث لي عزا ظاهرا إلا أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها.
وعلى العكس من ذلك فان التكبر والاستعلاء يغري الإنسان بإحساس كاذب بالكمال والاكتفاء فينكر افكار غيره بينما هو يتضاءل جهلا وعميا. يقول رسول الله(ص): ما عبد الله بمثل العقل وما تم عقل امرء حتى يكون فيه عشر خصال.. واما المعاشرة لايرى أحدا إلا قال هو خير مني واتقى، انما الناس رجلان: فرجل هو خير منه واتقى، واخر هو شر منه وادنى، فإذا التقي الذي هو خير منه واتقى تواضع له، واذا التقي الذي هو شر منه وادنى قال عسى ان يكون خير هذا باطنا وشره ظاهرا فإذا فعل ذلك فقد علا مجده وساد اهل زمانه.
الإسلام والآخر
يشكل الآخر والغير في المبادئ الإسلامية وجودا أساسيا حيث ينصب الكثير من الخطاب الإسلامي الوارد في كيفية التعامل الإيجابي مع الآخر، لان الإسلام دين للعالم جميعا لا يختص بفئة منعزلة متعصبة حيث قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، وما أرسلناك إلا كافة للناس. فالأسلوب الذي يعتمد الانغلاق والقطيعة مع الآخر لا يمثل الإسلام لان الإسلام كدين عالمي يمتلك مبادئ حيوية لايمكن ان تنسجم مع وضع التصادم والانغلاق الذاتي. وعن علي(ع): ارض الناس بما ترضاه لنفسك تكن مسلما.
ويمكن فهم رؤية الدين الإسلامي لهذا الامر من خلال تعامله مع الآخر الأبعد وهم اهل الذمة والعهد من غير اتباع الدين الإسلامي، حيث وردت روايات كثيرة تحث المسلمين على احترام غير المسلم والحفاظ على حقوقهم، فقد قال رسول الله(ص): من ظلم معاهداً كنت خصمه. وقال(: من آذى ذميا فقد آذاني. ويقول الإمام علي بن الحسين(ع) في رسالة الحقوق: واما حق اهل الذمة ان تقبل منهم ما قبل عز وجل منهم، ولا تظلمهم ما وفوا الله عز وجل بعهده وكفى ما جعل الله لهم من ذمته وعهده وتكلهم إليه فيما طلبوا من أنفسهم، وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك فيما جرى بينك وبينهم من معاملة.
ويقول سير. ت. ارنولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام: ان القوة لم تكن عاملا حاسما في تحويل الناس إلى الإسلام فمحمد نفسه قد عقد حلفا مع بعض القبائل المسيحية واخذ على عاتقه حمايتهم ومنحهم الحرية في اقامة شعائرهم الدينية كما اتاح لرجال الكنيسة ان ينعموا بحقوقهم ونفوذهم.
ويقول آدم متز في كتابه تاريخ الحضارة الإسلامية: ان الكنائس والبيع ظلت في الدولة الإسلامية كأنها خارجة عن سلطان الحكومة معتمدة في ذلك على العهود وما أكسبتهم من حقوق وقضت الضرورة ان يعيش اليهود والنصارى بجانب المسلمين فاعان ذلك على خلق جو من التسامح لاتعرفه اوربا في القرون الوسطى كان اليهودي أو النصراني حرا ان يدين بدينه.
ومن روائع التاريخ الإسلامي في كيفية التعامل مع الآخر البعيد: ان عليا(ع) صاحب رجلا ذميا، فقال له الذمي: اين تريد يا عبد الله؟ قال: اريد الكوفة. فلما عدل الطريق بالذمي عدل معه علي، فقال له الذمي: أليس زعمت تريد الكوفة ! قال: بلى، فقال الذمي: فقد تركت الطريق، فقال: قد علمت، فقال له فلم عدلت معي وقد علمت ذلك ؟ فقال: هذا من تمام حسن الصحبة ان يشيع الرجل صاحبه هنيهة إذا فارقه وكذلك أمر نبينا، فقال له هكذا، قال نعم، فقال له الذمي لا جرم انما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة، وانا أشهدك اني على دينك فرجع الذمي الذي مع علي وقد اسلم.
وفي نموذج رائع آخر ذكر التاريخ ان يهوديا شكا علي بن أبى طالب للخليفة عمر، فقال عمر لعلي(ع): قم يا أبا الحسن فاجلس بجوار خصمك، ففعل علي(ع) وعلى وجهه علامات التأثر فلما فصل عمر في القضية قال لعلي أكرهت يا علي ان تساوي خصمك ؟ قال: لا، لكني تألمت ناديتني بكنيتي فلم تسو بيننا- الكنية تعني التعظيم- فخشيت ان يظن ان العدل ضاع بين المسلمين.
وقد امرنا الخطاب الإسلامي الوارد في القرآن والسنة بالحوار وان الحوار هو الطريق الافضل لتحقيق غايات الدين السامية، يقول الله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين) النحل125 فتقرر هذه الآية ان وظيفة المسلمين هي الحوار الحكيم والوعظ الحسن مع الآخر دون إصدار الأحكام عليهم واستخدام القوة والعنف ضدهم. ويقول تعالى: (ولا تجادلوا اهل الكتاب إلا بالتي هي احسن)العنكبوت46 وأيضا: (لكل امة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الامر وادع إلى ربك انك لعلى هدى مستقيم وان جادلوك فقل الله اعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون) الحج67.
ان الإسلام يعطي رؤية واضحة في الحفاظ على حقوق البعيد واحترام حريته، ولاشك ان هذا الامر يتأكد اكثر في الآخر القريب حيث الحقوق الدينية والاجتماعية والمشاركة الاجتماعية اوسع، فهل تبقى المقاطعة والتصادم علامة بارزة في سلوكنا اتجاه بعضنا البعض ام نحرر سلوكا جديدا ينبعث من روح الإسلام وهديه فنتلاقى مع الآخرين ونتواصل معهم ونوجد قواسم مشتركة عبر الحوار النقدي الموضوعي والخلق الإسلامي الرفيع في التواضع والاستشارة وسعة الصدر.
لاشك ان كل واحد منا لا يستطيع ان يدخل التاريخ الجديد نحو المستقبل لوحده لان ارادة الإنسان في التاريخ هي ارادة فرد متحدة مع ارادة الآخرين لتحقيق حياة مشتركة قائمة على الفعل المشترك والاحترام المتبادل للحريات والحقوق.
مجلة النبأ عدد 47 http://www.annabaa.org