بناء المفاهيم في النظرية الاجتماعية الإسلامية التدافع نموذجاً
حسان عبد الله
تعُد مسألة تحرير المفاهيم، من الضرورات المعرفية لبناء النظرية الاجتماعية الإسلامية، فالمفاهيم لبنةِ التصورات والقيم التي تتضمنها النظريات بشكل عام، لأنها تمتلك في ذاتها تحيزات النموذج المعرفي الذي يقع خلف بناء هذه النظريات, ومن ناحية أخرى فإن هذه المفاهيم تقدم المبادئ التفسيرية للظواهر الاجتماعية والتي تنعكس بدورها على طبيعة الأدوات المستخدمة وطريقة استخدامها، كما يتحقق أيضًا في المفاهيم المرجعية الفكرية للنظرية وتعتبر ممثلة لها.
لذا فإن الباحث في العلوم الاجتماعية من المنظور الحضاري الإسلامي عليه أن يقوم بعمليتين مزدوجتين: الأولى: تفنيد / مناقشة / نقد المفاهيم الرئيسة في النظرية الاجتماعية المعاصرة التي تستمد مرجعيتها الفكرية من النموذج المعرفي المادي الذي دشنته الحضارة الغربية الحديثة وروجت له. والغرض من هذه العملية يتحدد فيما يلي:
1- الوقوف على المفاهيم المركزية للنظرية الاجتماعية المعاصرة.
2- لبحث في الأصول / المبادئ التي تقع خلف هذه المفاهيم ومسلماتها المعرفية، التي تقوم عليها أصول النظرية.
3- الوعي بسياقات “المفاهيم” وظروف نشأتها وتطور تلك النشأة.
أما العملية الثانية التي ينبغي للباحث في مجال الاجتماع الإسلامي القيام بها فهي تحرير المفاهيم البديلة للنظرية الاجتماعية القائمة، فإن فكرة النقد في المرحلة/العملية الأولى متتابعة مع فكرة البناء/ التحرير لمفاهيم بديلة في هذه المرحلة، فالباحث لابد وأن يبدأ تأصيله وطرحه الاجتماعي من المنظور الحضاري الإسلامي مما هو قائم أي القيام بعمليتين هما وجهان لعملة واحدة هما النقض (بالضاد) وإعادة البناء. فلا يمكن تجاوز الحالة المراهقة للنظرية الاجتماعية المعاصرة أو تجاهلها.
“الصراع” في النظرية الاجتماعية الغربية
يقع مفهوم “الصراع” في بؤرة النظرية الاجتماعية الغربية في منتصف القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر وارتبط ذلك بانتشار الحروب بين الدول الأوروبية قبل أن تُصدَّر فكرة “الصراع” خارج حدود القارة الأوروبية، وتطورت هذه الفكرة في أشكال مختلفة من مسيرة الاستعمار الغربي للعالم والرغبة للهيمنة عليه.
بُنيت النظرية الاجتماعية الغربية على مجموعة من المقولات الفلسفية التي تحفز على “الصراع” ومنها مقولات توماس هوبز (1588-1679) في بناء الدولة والعلاقات الإنسانية الداخلية والخارجية والفلسفة الأخلاقية التي ترى ” أن الإنسان لا اجتماعي بطبعه, والإنسان ذئب أخيه الإنسان، وأن القوة والغدر فضيلتان في مجال العلاقات بين الدول، وأن الحرب بين الدول هي الأصل، وأن الناس لا يمكنهم أن يتعاونوا كما يتعاون النمل والنحل, وأن العقد بين الناس لا يكون إلا بالسيف، فالعهد بدون سيف ليس إلا كلمات…”[1]
كذلك-أيضًا- تأثر الفكر الغربي بالفلسفة الداروينية و التي لا ترى الإنسان إلا حيوان أي طين؛ لذلك ظهرت مفاهيم القوة والغلبة والقهر في مجال العلاقات الإنسانية الغربية، وصولًا إلى مقولة صدام الحضارات لصموئيل هنتجتون (1927-2008) والتي تقوم على مقولة حتمية الصدام والصراع بين الثقافة الغربية والعالم الإسلامي.
مثل هذه المقولات البنائية للنظرية الاجتماعية الغربية والتي تزخر بها كتابات الفلاسفة الغربيين المؤسسين للمدرسة الوضعية، تفسر لنا بوضوح منطق الحروب التي خاضتها أوروبا ضد بعضها البعض أولاً مثل حرب الثلاثين عامًا ( 1618-1648) وحروب أخرى إلى أن انتقلت أوروبا بحروبها خارج القارة من خلال عصر الاستعمار الغربي للعالم. والتي انطلقت من مفاهيم ” حق القوة” و”البقاء للأقوى”، وهو ما أدى فقط إلى شهود العالم في الفترة من (1945-1989) حوالي 138 حرباً أسفرت عن مقتل 23 مليونا من البشر”[2].
إن النظرية الاجتماعية الغربية وضعت الإنسان في مركز الكون (نظريًا) ولكن هذا الإنسان لا تحده حدود ولا تقيده قيود ولا يرتبط بأي قيم (باستثناء سلم القيم والمعايير الذي يقرره هو). ومن ثم أصبح الصراع قانون الحياة الأوحد وأصبحت القوة الآلية الأساسية وربما الوحيدة لحسم كل الخلافات والإشكاليات والتناقضات. ولا شك أن الشواهد المعاصرة تؤكد ذلك المعنى، فانتشار الحروب في العالم الآن مركزها المصدر والمخطط هو الغرب لإفناء طاقات الأمم وسهولة السيطرة على مواردها وإضعافها. وبدلًا من أن يصبح العالم مادة استعمالية لكل الجنس البشري، أصبح العالم ومعظم البشرية مادة استعمالية للجنس الأبيض (صاحب القوة). وبدلًا من أن يقف الإنسان في مركز الكون وقف الإنسان الأبيض فيه ومارس إحساسًا بهذه المركزية وضرورة المحافظة عليها وفرضها على الآخرين (وهذا أمر متوقع تمامًا في غياب المطلقات الأخلاقية[3].
إن فكرة الصراع مثلت قلب النموذج الغربي معرفيًا وأخلاقيًا، هذه الفكرة التي مثلتها الداروينية في صورتها الاجتماعية عند الغرب، حيث حاولت الأيدلوجية الغربية نقل قانون الداروينية من الطبيعي إلى الاجتماعي.
ومن ناحية أخرى النسق الدارويني الذي يؤصل لفكرة الصراع الإنساني بل الكوني هو المدخل المعرفي للخطاب الأيديولوجي الغربي في النظرية الاجتماعية وهو ما من شأنه أن يصيب تلك النظرية بالاضطراب فيما يتعلق بالقياس إلى الفطرة الإنسانية التي تسعى إلى الانسجام والتعايش الاجتماعي وتُعلي من قيم الوئام والانسجام البشري واللحمة والوحدة ” فالنسق الدارويني نسق تطوري مفعم بأخلاقية الصراع وشريعة القوة والغلبة بوصفه مدخلاً مناسبًا إلى الخطاب المعرفي الحديث الذي شكل بنية النظرية الاجتماعية أمر يختلف تمامًا عن تحديد مصادر هذا النسق وتفرعاته التي تتخطى هذه النظرية الاجتماعية ذاتها، إن ذلك من شأنه أن يظهر التوترات المتأصلة في الثقافة المتذبذبة [ثقافة النموذج المعرفي الغربي] هذه التوترات التي تَحُد من إمكانيات تصحيح الخلل الملازم لها، والذي يتعزز ويتفاقم ويترسخ في ممارسة النظرية الاجتماعية”[4].
إن اعتبار الصراع قاعدة للنظام الاجتماعي وللتاريخ عمومًا يحمل في طياته بذور عقيدة التدمير الذاتي والتي تعمم على النظرية والاجتماعية المعاصرة، وتم تعزيز ذلك بنسق من المفاهيم تُفرض على النحو التعسفي ذاته فتقيد البحث ونطاق التركيز. كذلك فإن ثنائية استقطابية ترتكز عليها “ديناميات” الصراع والمواجهة تتمكن من قلب النظرية الاجتماعية الغربية وفي مقدمة هذه الثنائيات ثنائية: القيمة والحقيقة، والواقع والمثال، والمادي والروحي، والمقدس والمبتذل، والنظرية والممارسة، والفلسفة والعلم، والعقل والوحي، وربما كانت ثنائية الذات والموضوع أهم من هذا كله.
“التدافع” مقابلًا لـ”لصراع”
من المفاهيم المركزية التي تقوم عليها النظرية الاجتماعية الإسلامية مفهوم “التدافع” وهو مفهوم قرآني أصيل نحاول أن نتتبعه في القضاء اللغوي والقرآني، ومردوده في بناء النظرية الاجتماعية. ونطرحه هنا مقابلًا لمفهوم الصراع في النظرية الغربية المعاصرة.
التدافع لغة من الدفع: الإزالة بالقوة، ودفع فلان إلى فلان شيئًا ودفع عنه الشر على المثل.. ومنه دفع الله عنك المكروه دفعًا، ودافع الله عنك السوء دفاعًا[5].
وفي القرآن: الدفع إذا عُدِّيَ بـ(إلى) اقتضى معنى الإنالة نحو قوله تعالى {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ }[النساء / 6]، وإذا عُدِّيَ بـ (عن) اقتضي معنى الحماية، كما في قوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا } [الحج/38]، وقال {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } [البقرة/251] [الحج/ 40] وقوله { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } [المعارج/2] أي : حام[6].
إن الاستخدام القرآني – كما في آيتي [البقرة 251 / الحج 40 ]– يضع معنى “دفع” سواء كان فعلًا أو أسمًا في سياق متميز من الردع الهادف [الحماية من الشر بدفعه]. وكما هو الشأن في الطبيعة عند وقوع الزلازل بسبب النشاط الجوفي للأرض الذي تتدافع على إثره الحمم ثم تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي، فإن النزاع بين الإرادات الإنسانية ينجم عن اختلال واهتزاز في النظام الاجتماعي تتولد عنه حالة تدافع لإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي[7].
وفي ضوء ذلك فإن “الصراع” – في النظرية الاجتماعية الغربية- كمبدأ هو إخلال بحالة التوازن الذي يرى أن الوجود قائم على فكرة الهيمنة لمن يمتلك القوة، وأن البقاء للأقوى، بينما التدافع هو امتلاك القوة لإعادة “التوازن” إلى الوجود حال وقوع خلل ما في هذا التوازن. فالصراع – مجازًا – في حالة التدافع “الناس بعضهم ببعض” إنما هو حالة مؤقتة لا دائمة، طارئة لا ضرورة، حادثة لا أصيلة في الكون، فالكون يقوم على مبدئية أخرى تنفي أصالة الصراع، وهي مبدئية “التسخير”.
والباحث الاجتماعي سينظر إلى حالات الصراع والنزاع في المجتمع بوصفها اختلالات أو انقطاعات في النظام الاجتماعي تشكل موضوع البحث الاجتماعي لا منطلقة. إن النظر إلى “القوة” هو أحد مفاصل التمييز بين مفهومي “الصراع” في النظرية الغربية و”التدافع” في النظرية الإسلامية فالأولى ترى أن امتلاك القوة غاية في ذاتها، فضلاً عن وظيفتها أداة في إطار الحياة الاجتماعية. فهنا تصبح القوة غاية للتحقيق وقيمة لامتلاك، ويصبح الصراع هو الآلية المساعدة على ذلك.
أما في سياق مفهوم “التدافع” فإن القوة ترتبط بميدان للممارسة والنشاط ولا تكون موضوعًا للامتلاك. وهذا يستدعي التحقق من الغايات التي تمارس القوة من أجلها، كما يستدعي تعزيز المبادرة والردع الهادفين. وينعكس ذلك ثانية على طبيعة النظرية الاجتماعية ووظيفتها في كل من النمطين الثقافيتين.[8].
إن مفهوم “التدافع” في النموذج التوحيدي يرتبط بمقاومة/ دفع الفساد والشرور التي تعتري الكون والحالة الإنسانية على وجه الخصوص من أجل صد وردع هذه الشرور/المفاسد عن الكون والإنسان وليتم التمهيد للفعل “الصالح” و”النافع” الذي يبقي في الأرض يفيد الإنسان كل الإنسان: {كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد/17].
وكذلك –أيضًا- فإن قول ربعي بن عامر يوضح أبعاد مفهوم “التدافع” وغايته ومضامينه الاجتماعية،وذلك في قوله لقائد الروم ورده عليه الذي خلاصته ” ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن ضيق الأديان إلى سعة الأديان”.
إن الباحث الاجتماعي مطالب بتقديم الإيضاحات شأن التباين بين ركائز النظرية الاجتماعية الغربية والإسلامية في محيط المفاهيم المؤسسة لكلتا النظريتين وما ينبني عليها من عناصر التصورات التي ترسم طبيعة وخارطة التفاعلات الاجتماعية التي تحددها كلتا النظريتين، وهذه – أي مرحلة إبراز التباين – مرحلة ضرورية في بناء النظرية الاجتماعية المعاصرة من منظور إسلامي, وتبدو أهميتها –أيضًا- في تمييز الخبيث من الطيب والنافع من الضار في بناء النظرية الاجتماعية الإسلامية.
[1] انظر: برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية, ص 79
[2] لجنة إدارة شؤون المجتمع العالمي: جيران في عالم واحد, ص 34.
[3] عبد الوهاب المسيري: العالم من منظور غربي، ص130.
[4] منى أبو الفضل: “النظرية الاجتماعية المعاصرة: نحو طرح توحيدي في أصول التنظير ودواعي البديل”، مجلة إسلامية المعرفة, عدد (6) ص85.
[5] ابن منظور، لسان العرب, مج4، ص369.
[6] الراعي الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ص316.
[7] منى أبو الفضل: النظرية الاجتماعية المعاصرة: نحو طرح توحيدي، إسلامية المعرفة، عدد (6)، ص97.
[8] المرجع السابق, ص98.
المصدر: https://islamonline.net/26303