الغرب والإسلام: أضداد أم أنداد
الغرب والإسلام: أضداد أم أنداد
إسماعيل نوري الربيعي*
تفرض التحديات التي ينتجها العالم جملة من المواقف القائمة على الاشتباك والتناقض. ولعل اللافت في الأمر يقوم على حالة التنامي الذي لا يعرف الانقطاع أو حتى التوقف في إنتاج المزيد من التوترات التي تطيح بأي أمل يتطلع نحو الاستقرار، أو حتى تجاوز حالات الشد والجذب الذي يفرض بتفاصيله على الواقع. ومن هذا الحال الذي يقوم على التناقض، يعيش العرب أقصى حالات التقاطع مع الذات، حيث تسود النظرة السوداوية حول كل شيء وأي شيء، حتى ليبدو المشهد في أشد حالاته قتامة.
التركيز على مجال المكونات الذاتية يتمثل عند العرب بشكل لافت للنظر، خصوصا في المواجهة الناقصة التي بات العرب يعيشون محتواها، حيث الخسائر والمرارات تحضر وبكل قوة، من دون أن تحضر حتى إرادة القول، التي كان العرب في الماضي القريب يستحضرونها في بيانات الشجب والتنديد التي تصدر عن المؤتمرات العربية الرسمية. ومن واقع الفقد الذي يرخي بظلاله على الإرادات والاتجاهات والرؤى، يكون الاتجاه نحو التطلع الكثيف لموضوع الهوية، حيث المحاولة المباشرة للبحث بين ثنايا الذات عن المقومات والأسس، التي يمكن استحضارها من أجل المواجهات والتحديات، التي تفرضها القوى المهيمنة والمسيطرة على العالم. لاسيما في ظل الحسم للنتائج والذي جاء في أعقاب سقوط أحد طرفي المعادلة الدولية للعلاقات.
ملامح الضعف التي تطبق برؤاها وكوابيسها على العالم العربي- صارت من الحضور بحيث انعكست على مجال الخطاب، الذي بات يتصدره معطيات الهوية بطريقة ملحوظة. والواقع أن الاندراج الكثيف هذا، تكشفه حالة التردي والهوان، باعتبار الخطوات الواسعة التي اندرجت فيها المجتمعات الأخرى غير العربية، فيما ظل العرب قابعين في مجالهم يعيشون حالات الوهن، الذي يأبى مغادرتهم أو تركهم. وعلى هذا يكون المسار العربي وقد اتخذ خطه الخاص، انطلاقا من تقديم أولويات البحث العميق عن الذات، ومحاولة العمل (1)على ترصد نقاط الضعف والخلل، من أجل العمل على تلافي الأخطاء والتناقضات. ولكن يبقى السؤال الأهم يحضر حول هذا التفتيت الذي يعن على الذات، وكيف يمكن الإفلات من سطوة التبديد والهدر الكامن فيه.
إنتاج العلاقات
تبقى المكونات الداخلية تفصح وبجلاء عن مضمون الانهمام، بكل هذا الكم المتعلق بالضعف الذاتي والقوة لدى الآخر، الانفلات في المجال الخاص والانضباط والتماسك لدى الجهة المقبلة. حتى لتكون الأسئلة الحائرة وقد تمخضت عن إطلاق المزيد من نقاط التداخل التي تفرض نفسها على الواقع لتزيده إرباكا على الإرباك المتوافر أصلاً، وبكثافة يندر وجودها في مجالات تحتويها المجتمعات الأخرى.
يتطلع الخطاب الثقافي العربي المعاصر نحو تدبيج مفهوم الهوية، بطريقة تشمل التيارات والاتجاهات جميعا من دون استثناء. حتى إن الهوية تكاد تكون موضة الثقافة التي لا يمكن الاستغناء عنها. ولعل اللافت في الأمر هو ارتباط هذا التنامي للاستخدام والاستهلاك، من خلال ركوب موجة ردة الفعل التي أفرزتها العولمة، والتحديات التي تفرضها على طبيعة العلاقات السائدة داخل الأمم والمجتمعات. فالتهديد للإمكانات والبواعث الذاتية يحضر بإلفات شديد، من خلال حالة الاستدعاء البالغ الذي تفرده آليات وأنساق الفعل العولمي، الذي لم يكتف بالواجهة الاقتصادية فقط. بل نجد التطلع وقد فرض مدركاته نحو المزيد من الحقول والقطاعات، والتي تظهر للعيان في تلاحم جدلي غير قابل للفرز أو التفصيل.
فالزحف الثقافي الذي تفرضه آلة الاستهلاك التي تسللت إلى العقول، حتى غدت جزءا أصيلا من مكونات التفكير، والذي يجسده هذا الهوس الملحوظ والشغف الكبير بكل الأيقونات التي تقدمها أدوات الإنتاج الرأسمالي القائم على حرية التنافس واقتصاد السوق، حتى ليكون الفرز الواسع المستند إلى ما يتم إنتاجه من علاقات لا تني عن توسيع مجال الانشطار، والذي يتطابق مع مصطلح التنامي البكتيري، حيث الحاجات تولد حاجات، والأنماط الاستهلاكية تفرز متمماتها، ليقع الفرد والمجتمع في سلسلة لا تعرف(2) الانقطاع، من الحاجات الفائضة والزائدة، لكنها وبفرط الاستخدام، تتحول إلى جزء أساسي من مكونات شبكة العلاقات السائدة. وهذا ما يكشفه واقع التغير الاجتماعي، مع الفارق في التقييم المباشر مع العلاقات التي تفرزها ثقافة الاستهلاك. فالكمالي يطغى على الأصل حتى إنه ليغدو جزءا منه بفعل تأثير التداول.
تبادل المراكز
التطلع نحو النهل من المعين الذي تقدمه مضامين الهوية، يجعل من التيارات الفكرية العربية ما يجعلها تتنافح متسابقة نحو تقديم رؤاها وتصوراتها حول طريقة الهضم والوعي الناجز به. ولعل الحضور الأبرز يتمثل في طريقة التفاعل التي يقدمها التيار الإسلامي، الذي يجعل منها مرتكزا أصيلاً لمقومات الذات، من خلال التأكيد على الكينونة الثقافية، التي استطاعت أن تبقى وتصمد، على الرغم من عمق التحديات التي تعرضت لها الأمة. وعلى هذا فإن الارتكان يقوم على الإسلام، بوصفه الأصل الذي تقوم عليه مقومات الشخصية الحضارية، انطلاقا من تكريس الوعي بأن الإسلام لا يقف عند تقديم المدركات العقائدية والدينية، بل إن التسامح الذي يتفاعل فيه يجعل منه نظاما للحياة شديد الاتساع والشمولية.
يقف المفكرون الإسلاميون على طبيعة المعطيات التي أفرزتها الوقائع، لاسيما في المجالات التي شهدت حالات الاصطراع والتصادم المباشر بين التيارات الرئيسة التي كانت تفرض هيمنتها على واقع العلاقات الدولية. حتى إن الكثير منهم راح يذكر بأن العديد من الأدبيات الفكرية الإسلامية، قد بشرت بسقوط الماركسية، باعتبار تقاطعها مع المعطى الروحي الذي يؤسس للتأصيل الإنساني وطبيعة العلاقة مع الخالق. ولا يختلف الأمر في طبيعة النظرة إلى الليبرالية، والتي يتم النظر إليها، بوصفها مركزا للشرور وتصدير الإشكالات والتداخل. بل إن مجال النقد يطال هذه الروح الاستهلاكية والتي يطلقون عليها "بالعابثة" حيث الهدر في أقصاه يكون قد(3) تركز في نموذج دولة الرفاه والغنى الفاحش، والتقشف حدّ الشح الذي يطال مجمل المساحة العامة والشاملة التي تميز تفاعلات المجتمع الإنساني الذي يعاني من الشرور بأجمعها ومن دون استثناء. وعبر هذا التناقض الفاضح يكون التركيز على ملمح الإثم الذي تعتاش عليه الفعاليات الرأسمالية، والقائمة على المنفعة والمصلحة، حتى وإن كانت النتائج يقع عبئها على الإنسان. ومن هذا الفقد للروح الإنساني، والتركيز على معطيات المنفعة المباشرة، يكون الوقوف على ملامح الضعف الكامن في هذا الكائن الرأسمالي، الذي يظهر في صورة العملاق الكبير الحجم، لكنه يعتاش على عقل لا يتناسب وحجمه هذا.
بحثاً عن الندّية
من واقع النقد المرير الذي يوجهه التيار الإسلامي نحو مختلف الاتجاهات والتيارات، الأصيلة منها والفرعية، انطلاقاً من التطلّع نحو تحسس المجال الأسمى والأوحد الذي يقدمه، حيث العلاقة القدسية والاتجاه العالمي، يكون الطرح استنادا إلى حضورية البديل القائم على الهوية العالمية. ومن هذا المحتوى يكون النظر شديد التطلع نحو الآخر، تأثيرا لا نقلاً أو تبعية أو اقتباساً. وعليه تبرز مجالات الفعل البارزة، والتي تمظهرت في موجة من الأعمال المباشرة، نحو المصالح والمرتكزات الغربية، وفي مختلف بقاع الأرض حتى كانت آخرها الغزوة النيويوركية وما أفرزته من وقائع وآثار انعكست على مجمل الواقع الإسلامي.
التطلع نحو المرتكزات الذاتية، والتركيز على مجال الهوية الذاتية، باعتبار الاتجاه نحو استنطاق مكامن الفعل والتأثير، المستند إلى المقومات التي تجعل من الإسلام بديلا لأي اتجاه آخر، إنما ينطوي على شمولية غير مقنعة لدى الآخر. وإذا كان الغرب يقدم مشروعه حول توحيد العالم تحت ذات النمط الثقافي حيث العولمة، من خلال توجيه الإمكانات الواسعة نحو تحقيق هذه الغاية، انطلاقا(4) من الإفادة القصوى من الثورة المعلوماتية والاتصالية، وجميع المرتكزات المساندة والقائمة على الثروة والمعرفة والقوة الجامحة. فإن المقابل الذي يستند إليه التيار الإسلامي إنما ينطلق من هذا المجمل من الشعور الديني المنبث في أخص الجوانب العاطفية. وعلى هذا فإن إرادة الفعل فيه، تنطوي على المزيد من الفقد، والذي يظهر جليا في حساب المقدمات والنتائج.
وهكذا تنسحب النتائج على الإسلام كدين، وعلى عموم المسلمين الذين أُلصقت بهم تهمة الإرهاب، على الرغم من أن الفعل الذي ارتبط بالإسلام يقوم على وعي فرعي قوامه تيار آثر أن يفسر الأحداث والوقائع من خلال تمثلاته الخاصة به. ومن الفعل الخاص ينسحب فعل التعميم ليشمل عالما بأكمله، استنادا إلى التنميط الذي تفرضه النظرة المسبقة. وعبر فعالية التبادل في جاهزية الرؤى، يكون العالم واقعا في إسار التداعيات التي لا تعرف التوقف، هذا بحساب أن الغرب يتآمر على المسلمين، فيما يعيش(5) الغرب الخوف والحذر من هجوم إرهابي قد يحدث في أية لحظة.
البحث في الفواصل
يطرح مفهوم الأصولية نفسه على مستوى الواقع بكل قوة، خصوصا في واقع العلاقات الدولية الراهن، الذي بات يعيش حالة من الاتهامية المباشرة تصل إلى حد تقسيم العالم طرفين متقابلين، يستند كل طرف إليه إلى رموز وإشارات ومفاهيم تتعلق باتجاه تكريس الصورة الثابتة غير القابلة للزحزحة أو حتى التحريك.
تنطلق الأصولية من الإيمان المطلق والاعتقاد الراسخ الصلب، الذي لا يقبل المرونة أو الحلول الوسط. ومن هنا فإن الرسوخ يتمثل في العقيدة التي يتم الإيمان بها فيما يكون للطقوس المكانة الثانوية. إنها عملية تخوض في مجال العقل والفكر المباشر، حيث البحث عن العلاقة الأكيدة، وليس البحث عن مدركات أمامية وثانوية. وهي البحث عن مكمن الشرعية وثوابتها التي لا تقبل اللبس أو التداخل. هذا بحسب حضور الاعتقاد الراسخ، بأن الإيمان لا يمكن تجزئته أو أن الأمر يتقبل أنصاف الحلول. فيما يبرز الميل إلى التفسير(6) الصحيح انطلاقا من البحث العميق عن تلك الفاصلة التاريخية، المرتبطة بأصول التأسيس وحالة التتبع في ترصد ملامح الابتداع وكل ما هو طارئ، قد تم نسجه وإلحاقه، حتى غدا وكأنه من صلب تلك العقيدة.
وفي هذا فإن الأصولية لا يتوقف مسار بحثها عن الوجهة الموغلة في الأصل فقط، كما يعتقد بعضهم، بل إن وجهتها التتبعية تجعل منها في أشد انشغالاتها نحو البحث في هذه الفواصل التي تظهر متناثرة على المدى الزمني الذي ينطلق من مرحلة البدء وحتى اللحظة الراهنة. ومن هذا البحث التعالق في المدى الزماني، تكون الأصولية وقد عقدت أواصر علاقتها مع العقيدة في طابع فريد، يقوم على الانشغال بالمزيد من التحديد والحث على جعل الأصل هو الغاية اللانهائية في كل سير عملها.
تبرز الصرامة في هذا الاتجاه المتطلع نحو تحديد مجال الاجتهاد والتفسير، وإبراز مجال الحث نحو الطاعة المطلقة، التي لا تقبل الاقتسام أو التوفيقية. فالأمر يتعلق بإيمان أو لا إيمان، مسألة غير خاضعة للتأويل أو التدبيج للمقال والكلام. بل إن الوجود كله يقوم على مبدأ التسليم والتصديق بهذه الأصول، حيث وجوب الالتزام الذي يقطع الطريق على كل ملمح للشك. لكنه من جانب(7) آخر يفصح عن مشغلات تتعلق بالجانب الحسي المرتبط بالتفصيلات التي تفرضها وقائع الحياة. فالأصولية لا تقف دائما عند هذا التعالي الذي أدمجت فيه، حتى بات من الصعب تحسس الفواصل فيها، حول العقلي والعملي، إنها الاتجاه الذي ينزع بكل مما لديه من قوى من أجل جذب الحاضر إلى الماضي.
المدركات العقائدية
"الغلّو التطرف"، مفردات طالما تم استخدامها كرديف للأصولية، باعتبار ردود الأفعال الصادرة عن هذا التيار. والذي لا يتوقف عند المجال الديني كما هو سائد الآن، بل إن الديماغوجية التي ارتبط توصيفها بالأيديولوجيات العاملة في الحيز الاجتماعي، تمثل نزعة أصولية لا تقل احتكارا للحقيقة عن مثيلاتها الفاعلة والعاملة في الحقول الأخرى. فالأمر لا يتوقف عند المشغلات الدينية أو السياسية، بل إن الخوض يتفشى في كل مظاهر التفاعل الإنساني، الذي يعّبر عن الميول والاتجاهات والأحاسيس والحدس وكل النوازع الكامنة في النفس البشرية.
وبقدر ما يكون الحديث عن التسامح والفسحة العقلية والتسهيلات التي تتطلبها حاجات الإنسان فإن التكريس العقلي الذي يتوقف عند هذه المجالات لا يعدم أن تتوافر على بعض ملامح الغلو والتطرف. وفي هذا أنشأ العديد من المفكرين عنوانات كتب تترصد بعض هذه المضامين المتداخلة. وإذا كان الإصرار على إلصاق مصطلح الأصولية بالدين الإسلامي فإن الواقع يشير وبجلاء لا يرقى إليه الشك، في هذه الأصوليات المتزاحمة بالمناكب، وفي جميع الأديان السماوية منها والوضعية، ومن دون استثناء.
يبرز مجال الصدام بشكل أشد وضوحا بين الديني والعلماني، ومكمنه يقوم على أساسيات الفعل الاجتماعي. حتى لتكون الفاعليات الناشطة داخل جماعة بشرية ما معيارا على مدى قوة الإيمان وضعفه. وفي هذا اجتهد الكثير من علماء الاجتماع في ترصد مجال المدركات العقدية انطلاقا من الطبيعة الإنتاجية السائدة، ومجالات ارتباطها بالمصدرية والمرجعيات الحافزة. فالتقاطع الإدراكي الذي يتم فرزه من خلال المباشرة، ما بين النسق الديني باعتبار مرجعياته الميتافيزيقية، والنسق العلمي الذي يقوم سنده المنهجي على المرجعية الطبيعية-المادية، تبرزه مجالات المنفعة والمصلحة المباشرة المتغلغلة في صميم الفعالية الاجتماعية. حيث تظهر مكتسبات العلم الحديث(8) في هذا القوام، الذي يوصف بالمجتمع الصناعي، ليكون الشمول وقد طغى على مجمل الفعاليات الإنسانية الأخرى، ليكون الزخم الأكبر وقد تبدى في النزوع الطاغي نحو الإيمان بما هو حسي شديد المباشرة، فيما يتعرض المجال الروحي إلى الإقصاء والتهميش، بحساب الاستمكان والتركز الذي تحققه أسس العلاقات الاجتماعية المتماهية مع الواقع الطبيعي، الذي تكون حلقة الوصل فيه، التركيز على الربحية المباشرة والتنافس الحر، حيث الروح الرأسمالي الذي يجعل من الآلة أيقونته المقدسة.
تفعيل العامل الديني
لا يتوقف مجال الحياة الآلية-الطبيعية على الإعلاء من شأن الفردية، بل إن الانكباب نحو محاولة تحقيق الذات من خلال التنافس يجعل من حالة الابتعاد عن المجال الديني ظاهرة شديدة البروز، لاسيما وأن الدين يحوز على مجال واسع من الطقسية، بل التأكيد على أهمية الالتزام في تطبيق هذه الشعائر والطقوس. فيما يكون الاتجاه السائد في المجتمعات الصناعية قوامه الاندراج في هذا الالتزام المقيم(9) عند مجال العمل الذي يعد الأصل الفاعل في مكنون الحياة المادية. ومن هنا تحديدا تبرز الفواصل التي يمكن فرزها بين المجتمعين المادي والروحي، حيث تغيب الروابط الاجتماعية في النموذج الأول، فيما يتعزز عنصر المشاركة بكثافة عالية في النموذج الثاني، إلى الحد الذي يجعل من هذه الرابطة بمثابة المبرر الشرعي للتدخل في الشؤون الفردية.
فكثيرا ما تكون الدعوة إلى المشاركة في احتفال أو مناسبة أو حتى تقريع أو لوم إزاء فعل اجتماعي معين، داخل نطاق المجتمع الروحي، فيما تندر مثل هذه الحالات في المجتمع المادي الموغل في فردانيته وعزلته. وإذا كان بعض من الدارسين الاجتماعيين يشيرون إلى وجود المظهر الطقسي والاحتفالي في نموذج الدولة القومية، فإن الأمر هنا يعود إلى مجال الإتمام الرسمي، الذي يرتبط باتجاه واحد يكون تأثيره في مجال إتمامي، لا يمكنه الارتقاء إلى حميمية الجانب الروحي ودفقه العاطفي الشديد.
يفصح الواقع الرسمي الذي تجسده فعاليات الدولة القومية، عن هذا الانضواء المباشر نحو العلمانية، والذي يتمظهر في تشكلات متنوعة، قوامها رفض الدين بشكل مباشر، أو العمل على أقل تقدير بفصل الدين عن الدولة تحت شعار الدين لله والوطن للجميع، فيما تقوم بعض النماذج السياسية على الارتباط بالعامل الديني، ومن واقع التفاعل لعناصر الدولة الحديثة وإفرازاتها العلائقية المتشعبة والمعقدة، يكون الاتجاه نحو تفعيل العامل الديني وقد اتخذ مجال الفعل الاجتماعي المباشر، انطلاقا من توجيه الممارسة نحو توكيد الرابطة الجمعية بقوام يتخلله الكثير من الغايات والأهداف التي لا تخرج عن النوازع الداخلية الكامنة في مضامين وغايات النظام السياسي الرسمي. بل إن بعض المناسبات الدينية غدت بمثابة الفلكلور الرسمي الذي ترعاه الدولة بحماس واضح، وفي هذا يكون النظر إلى احتفالات أعياد الميلاد في العالم المسيحي، أو طريقة الاحتفال بشهر رمضان في العالم الإسلامي.
الإفراط بالاتهام
على الرغم من سيادة الدعوة إلى الحوار الحضاري، والسعي الحثيث الذي يبذله العالم الإسلامي نحو تقديم النموذج المتسامح، وأن ما يبدر من ملامح طارئة لا تعبر إلا عن تيار محدد وتفسير خاص تقدمه مجموعة لها مقوماتها وأسبابها ومنطلقاتها. فإن التقابل الذي يبدو عليه الطرف الآخر يعبر عن مدلول الاستمكان والتحديد الذي لا يخرج عن طابع التكريس والتصور المسبق. وإذا كانت المؤسسة الأكاديمية الغربية قد تفتقت قريحتها عن نظريات من أمثال نهاية التاريخ وصدام الحضارات، فإن دارسين آخرين من المدرسة ذاتها، يعمدون دائما إلى استقراء الإسلام من خلال الإسقاط المباشر، المستند إلى العسف القرائي، والمرتبط عادة بالظواهر الطارئة.
لقد شكلت حادثة الحادي عشر من أيلول النقطة الحاسمة في تعزيز هذه الرؤية حول الإسلام. ومن خلال حادثة مفردة صار الاتجاه فيها نحو دمغ الإسلام بعمومه وبرسوخه التاريخي وبعقيدته وأسسه وأصوله، بالتهمة الجاهزة، والتي غدت وكأنها الحقيقة المطلقة غير القابلة للدحض. ومن هذا العصاب المشحون بأثر الحادث صار الاتجاه إلى عقد المقارنة ما بين الدين الإسلامي وبقية الأديان، من خلال استقراء مكامن الملمح الذي يقوم على التسامح والذي يطلق عليه الملاحظون الغربيون تحديدا العلمانية. وصاروا يستجمعون ملامح التحوير والتنويع الذي تجسد في الأديان الأخرى، فيما ينعون على الإسلام توقفه بحسب دعواهم عند الإتمامية التي يؤكدها الإسلام بوصفه خاتم الأديان وأن النبي محمد "صلى الله عليه وسلم"خاتم الأنبياء.
وفي هذه اللجة من الاتهامية المفرطة والموغلة في المباشرة يتم التغاضي عن التيارات الأصولية الناشبة في مختلف العالم، والتي لا تتوقف عند لون أو جنس أو مكان أو حتى زمان. فالأصولية اليهودية تعمد إلى الجهر بأعلى ما تملكه من صوت بأهمية قتل العرب، والانجيليكية المسيحية تعمد إلى دعم تحالفاتها مع الصهيونية في وضح النهار. فيما تبرز التيارات الأصولية على المجالات السياسية والاجتماعية بدءا بالنازية الجديدة التي باتت تنتشر في أرجاء أوربا، مرورا بالحركات العنصرية الناشبة في الولايات المتحدة. بل إن التيار الأصولي الهندوسي في الهند بات يعبر عن نوازعه العدوانية المباشرة بإزاء المسلمين بطريقة لا يمكن إغفالها. وفي ظل كل هذا يكون التطلع نحو تركيز مجال الاتهام نحو الإسلام وكأنه المجال الوحيد الذي ظهرت فيه الاتجاهات والتيارات.
الوثوق بالوعي
في لحظة الحصانة العقدية تمترس المسلمون في نظرتهم إزاء العالم الغربي، هذا بحساب المقارنة الزمنية ما بين الحضور والختام، فالإسلام بكونه يحمل ختام الوحي الإلهي إلى الأرض، جعل من المسلمين ينظرون إلى الأديان الأخرى بتفوق إيماني يقود المؤمن فيه إلى علاقة أكثر خصوبة ونموذجية مع الله. ومن هنا كانت لحظة القلق التي طبعت العلاقة مع الغرب المسيحي، على الرغم من حالة الانفتاح الواسع الذي شهدته مرحلة الازدهار الحضاري العربي، والتوجه المثمر الذي أنتج تلاقحاً معرفياً مع الفلسفة اليونانية.
من هذين المعطيين تتبدى ملامح الشد والجذب بين الطرفين، انفتاح في جانب وانغلاق في آخر، لكن ملامح الانغلاق سرعان ما تكاثفت عندما صارت المسافة تتباعد بشكل ملفت ما بين الطرفين. فالغرب واستناداً إلى التفوق الذي تحقق له، صار يوجه جلّ قواه نحو التوسع، وكانت بلاد الإسلام من بين هذه الجهات. فيما تفاقمت حمى الصدام المباشر بين الغرب الأوربي والدولة العثمانية، حتى لم يعد أمام المسلمين سوى تفهم هذه الأوضاع والتي لم يعد فيها مصدر القوة والتفوق خافياً. حيث أمسك الغرب بزمام المبادرة الحضارية وتوضيح معالم الدفع إلى أمام، من خلال الاستناد إلى منتجات العقل والتجريب الذي انتشر في ذلك الوسط، في اللحظة التي كان فيها المسلمون يعيشون بعض ملامح القوة على يد الدولة العثمانية. إلا أن التركيز والتكثيف الذي بذله الغرب، وبتنسيق عام(10) وشامل، كان قد أدى إلى إبراز المزيد من ملامح الخلل في المجال العثماني، والواقع أن الأمر لم يكن فقط واقعاً تحت مسار التآمر الدولي لوحده، بل إن الركود المعرفي كان له الأثر الأهم في تفاقم الأوضاع عند المسلمين.
تفاعلت أوروبا مع كل المعطيات المتاحة، واستلهمت جميع الإمكانات في سبيل بناء تجربتها، والتي لم تكن وليدة حلقة واحدة. بل كلّ شامل من العلوم والمعارف الثقافية والفلسفية والدينية والاجتماعية، وإذا كانت الكثير من الأمم تنظر إلى الغرب بوصفه متقدماً على الصعيد الثقافي فإن هذا التصور يكشف عن مدى الخطل والابتسار الذي يعتور الوعي المجزوء. فأوروبا لم تبلغ مراحل التقدم الذي وصلته في مصادفة تاريخية، بقدر ما كانت تعبيراً شديد الوثوق للوعي المعرفي للحقب والمراحل التي تم استقاؤها من صلب التفاعل(11) الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي. والذي أبرز الكثير من المحن والأذى والمآسي الممتدة في مسار طويل من التضحيات الفردانية والجمعية.
العبور إلى المعرفة
لقد تعرض "غاليلو غاليلي" لاضطهاد محاكم التفتيش، والتي عدته متطاولاً على الذات الإلهية والمقدسات المسيحية، عند ما أعلن عن نظريته في دوران الأرض، حتى إن جملته الاستدراكية الهامسة، ظل التاريخ يرددها حتى لحظتنا هذه؛ "ولكنها تدور!". ولم يكن الأوربي بهذه الطلعة البهية والجاذبية الأخاذة والعافية المفرطة، فلطالما اجتاحت هذه القارة الأوبئة والمجاعات والاقتتالات والحروب الأهلية الطاحنة، والصراع الطائفي المقيت الذي ما زالت آثاره تحفر في الذات الأوروبي، إن كان في بريطانيا أم يوغسلافيا أم أسبانيا حتى لم تظهر حداثة أوروبا التي قدمتها إلى البشرية جاهزة في غفلة من التفاعل مع الحضارات الأخرى والتي أتاح لها فرصة التوظيب والتصميم والإضافة والاقتباس والتمثل. حتى لم تعد لحظة التقويم الثقافي ساكنة راكدة في مستقر جغرافي، بل إن التكافل الأوروبي جعل من الثورة المعرفية حقيقة راسخة، أبرزتها الجهود المتنوعة والمختلفة لجميع مجتمعات أوروبا، والتي قيض لها أن تحرر خطابها المعرفي بأفق قوامه الحرية والإبداع والانفتاح، المستند إلى رسوخ دور العقل والإفادة القصوى منه.
بسقوط الفارس القروسطي الذي أبّنه سرفاتس في روايته الأشهر "دون كيشوت"، خطت أوروبا إلى حرق المراحل التاريخية استناداً إلى التلاحم الفاعل بين العقل والفعل. عقل: ينقد ويفسر ويحلل ويراجع، وفعل: ينتج ويؤسس لعلاقات اجتماعية متجددة، من دون الالتفات إلى الوراء. فالثورة الصناعية أبرزت تفصيلات المجتمع المدني، حيث أضحت المدينة أداة الجذب والاستقطاب لجموع الفلاحين الذين عانوا من عسر الأحوال. وبسقوط أسطول الأرمادا الأسباني في أواخر القرن السادس عشر تكون البحرية الأوروبية قد دشنت البداية الفعلية، لتوجيه جهودها نحو العالم الفسيح، هذا مع أهمية التوقف عند اكتشاف العالم الجديد على يد كريستوفر كولومبس عام 1492م، والذي لم يقدم على عمله هذا، استناداً إلى عامل الصدفة، بقدر ما كان الاستناد إلى حفز العقل والاستثمار الواعي لمنتجات العقل، والذي يفصح عن تآزر العقول واجتماعها لإنتاج عمل واضح، قوامه الخبرات الملاحية والبراعة التصميمية والبحارة المؤهلين، والتقنيات التي تم إدخالها على تصميم السفينة، بالإضافة إلى الاستخدام الدقيق لأداة البوصلة، والتي كان لها الأثر الأهم والمباشر في معرفة الاتجاهات. إنه الهضم العميق لكل ما هو متاح ولكن بروح التحدي والمواجهة وتجاوز الإحباطات والفشل.
جاهزية التصور
في ظل سيادة وجهة النظر الجاهزة حول الضعف الذي ألم بالعالم الإسلامي بعد سقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية عام 1258م، يتم التغاضي في كثير من الأحيان عن حالة النشاط والدفق للنموذج الإسلامي الذي قادت ورسمت ملامحه الدولة العثمانية التي كان لها الحضور الفاعل والأكيد في مواجهة الصراع مع الغرب. حتى كانت القرون من الرابع عشر وحتى السابع عشر تشير إلى سعة هذه الفعاليات التي عبرت عن الحضور الفاعل للجهد الإسلامي، الذي تمثل في حركات عسكرية جهادية، تمت قيادتها من قبل العثمانيين وكان جنودها رجال البحر في الشمال الإفريقي، والتي برّزت خير الدين برباروس وأخيه عروج.
أبرزت تفاعلات الدولة الواسعة والتي تمددت حدودها على مساحة كبيرة من أوروبا، آليات علاقة متنوعة وفريدة، مع الشعوب التي خضعت لها. فالبحث عن الموارد كان الهاجس الدائب من دون شك. والحصول على التعاون من قبل بعض الجماعات كان تكتيكا ناجحاً حتى حظي العثمانيون بتوجيه جهود بعض قبائل البلقان نحو توفير الحاجات الأساسية من لحوم وأطعمة وخيول يستخدمها الجيش العثماني في حروبه، وإزاء هذا التعاون كان لا بد أن يحصل الطرف المقابل على بعض المزايا، مثل الوظائف الحكومية والإشراف على القوافل التجارية مما كان له الأثر المباشر في تسلل بعض العناصر غير العثمانية إلى جسد الدولة.
لم يقف الأمر على العوامل الخارجية، بل إن تراتبيات لعلاقات الداخلية تعرضت هي الأخرى للتبدل، نتيجة للمتغيرات التي شهدتها المرحلة، وكان لهذا التبدل أثره المباشر على طبقة المحاربين "السباهية"، الذين باتوا يعانون من قلة الموارد المالية ونقصها الشديد، حتى صار الاتجاه من قبلهم للبحث عن البدائل، والتي تمثلت بالاعتداء على نظام التيمار الذي كان يضمن تحديد ملكية الأرض، وجعل الأرض بمثابة إرث عائلي، لتبرز عن هذه التجاوزات، ظهور طبقة جديدة من الملاك بعيدة كل البعد عن الروح العسكرية، بالإضافة إلى إضعاف سلطة الحكومة، والتوجه إلى تعريض فلاحي المناطق إلى الاستغلال الواسع، والذي نجم عنه ظهور الكثير من الفتن والاضطرابات والثورات الفلاحية، لكن المقارنة مع النظير الأوروبي في تلك الحقبة تكشف عن حالة التسامح التي كان عليها الإسلام، من خلال التعامل مع الرعايا العثمانيين في بلدان شرق أوروبا المفتوحة.
التناسخ الطبقي
إن التصوير البشع الذي درج عليه الكثيرون في تصوير الدولة العثمانية، إنما يعود أصلاً إلى السعار العدائي الذي روجت له المؤسسة البابوية في ظل تأجيج الحس الصليبي، والجهود التي كانت تبذلها المؤسسة السياسية ممثلة بآل هبسبورج الأعداء التقليديين للعثمانيين، وإذا ما كانت العلاقة بين الفاتح العثماني وشعوب البلقان قد بلغت درجة رفيعة من السمو والتسامح فإن التطبيق الفردي من قبل ممثلي الحكومة كان يكشف عن الكثير من التجاوزات والمفاسد بل الطغيان في كثير من الأحيان.
تعرضت الروح العسكرية العثمانية إلى الترهل والخمول، بعد أن ظهرت التجاوزات من قبل طبقة السباهية ذاتهم. وكان لهذا الأمر أثره المباشر على طبيعة الأداء العسكري في المعارك، بالإضافة إلى سوء الإدارة التي طغت على الجهاز المسؤول عن توفير العينة والميرة للمقاتلين. وإزاء تنامي الخلل وتفشي الفساد وصل الانحدار إلى السلطات المباشرة للسلطان الذي فقد الكثير من قدراته على إدارة الدولة خلال القرن السابع عشر.
فرضت التطورات الدولية أثرها على واقع الحياة العثمانية، إذ شهدت المنطقة فيضاً واسعاً من وصول الفضة التي بدأ جلبها من العالم الجديد حيث أميركا. مما كان له الأثر المباشر في انخفاض قيمة النقد الذي يحصل عليه الجندي العثماني، حتى إن الدولة وبمحاولة منها لمواجهة هذا التناقض الفاضح في الأجور عمدت إلى توجيه الجنود الانكشارية إلى تعويض هذا النقص، من خلال توفير مصدر دخل آخر، يقوم على الانخراط في مجال النشاط الحرفي. حتى كان لهذا الأمر أثره على التنظيمات العسكرية.
حالة التناسخ التي كانت تولدها الهيئات العاملة في المؤسسة العسكرية، أثمرت عن ولادة طبقة اجتماعية مولدة، قوامها التوجه للعيش في المدن وإهمال القرى والأرياف، التي انتشر فيها الفقر بشكل لافت، حتى صارت الأوضاع تشي بظهور مشاكل داخلية لم تخل من تهديد مباشر للمدن العثمانية من قبل جماعات اللصوص وقطاع الطرق الذين أنهكهم العوز والفقر. فيما تعرضت الدولة للشلل بعد توقيع معاهدة كارلوفتس عام 1699، لتغدو في موضع الدفاع إزاء الاندفاع الأوروبي، لتبرز ملامح التداخل والهزال الذي شمل طوائف الحرفيين وانحلالها، بعد أن عمت الفوضى وصار التطلع إلى استيراد البضائع الأوربية، لاسيما خلال القرن الثامن عشر.
عقدة المأزق
في أتون هذا التشابك المستقر الذي يغطي العالم، حيث العصاب الذي يغلف كل شيء، بدءاً بالعنوان اللافت العريض الذي يتسيد كل شيء، والمرتبط بالإرهاب مروراً بلوثة الصدام الحضاري وسقوط الأيدولوجيا، وتعالي الأصوات المنادية بالحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان. إنه العالم الذي يعيش على طرف البركان، حيث الحمم تفرد نيرانها على هذا المكان وذاك. عالم من التداخل وفقدان السلام حطّ بقلوعه على الواقع، ولم تعد ثمة فواصل يمكن الوقوف عليها، وكأن العالم اليوم في لجة حرب أهلية قوامها القتل على الهوية، واستنادها الدائم على الشك والافتراضات المسبقة. فيما تكون نظرية المؤامرة هي الحاضر الأهم وسط هذه التداخلات، التي باتت تزرع الخوف والقلق والبلبلة وسط قلوب الناس من دون استثناء. بدءا بالغربي الذي احتكمت عقدته إلى اللحظة السبتمبرية، والهجوم الإرهابي الذي يمكن أن يأتي في أي لحظة وتحت توصيفات وتشكيلات مختلفة، وانتهاءً بمواطن العالم الأقل نمواً، الذي اعتاد العيش مع حالة القلق وسوء الظن الذي تصنعه أجهزة البوليس السري، والرافعة لشعار "أن المواطن مجرم دائما حتى يتم إثبات العكس".
على الرغم من الحديث الدائب حول الإنسانية والحقوق والمساواة، التي يعلن عنها الغرب في وصايته على العالم، إلا أن نقطة الصدام سرعان ما تظهر طافية على السطح عندما تتعرض المصالح الذاتية له إلى التهديد، بل إن اللافتات والعناوين المرفوعة سرعان ما تطيش في الهواء وتغدو مجرد ألعاب لفظية لا روح فيها عندما تتلبس الجهة التي تدعي الرعاية والحماية للإنسانية برمتها، حالة التقمص للأفكار والمفاهيم التي طالما أعلنت الحرب عليها والعمل على تقويضها. لكن حرارة الجرح جعلت من الراعي الديمقراطي في أشد حالات الحمية التوتاليتارية، حتى كان الشعار: "معنا أو ضدنا في محاربة الإرهاب". وهكذا يكون الإرهاب حصان طروادة، الذي يتم من خلاله تسويغ المقولات الجديدة والمفاهيم الطالعة والإجراءات العملية والتي تقع عادة على رأس مجموعة بشرية بينها، تم تحديدها وتصنيفها انطلاقاً (12) من المقوم الثقافي، هذا باعتبار تدبيج ملامح العلاقات الدولية وتصنيفها ضمن منظور صدام الحضارات، الذي جاء في سياق التنظير لمعالم النظام الدولي الجديد والعمل على توزيع ملامح العلاقات مع القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الأخرى. وإذا كانت المشغلات قد توقفت عند محددات العامل السياسي في المراحل السابقة، فإن عالم اليوم يتأسس على حالة التفعيل للعوامل المختلفة والحرص على جعلها في تركيب شديد التعقيد، يكون عدم الفهم الغاية الأهم فيها.
مواطن الاتهام
في ظل المتغيرات التي يعيشها العالم تكون المجتمعات الإسلامية قد أضحت تحت عين المراقبة من حيث البحث عن ملامح واتجاهات خابية ربما يمكن الإمساك بها وتحديد ملامح التعامل معها، ولعل الفعل هذا لم يكن وليد لحظة الهجوم على أبراج نيويورك، بل إن الترصد كان قد تم تدبيره منذ فترة طويلة، تعود حتى إلى أيام الحرب الباردة لكن لحظة البدء صارت الأقرب للعيان عندما غدا الإسلام التعبير الأكثر التصاقاً بالمجتمعات التي ينتشر بها، حيث الوعي بهذا الالتحام الذي يقدمه المعنى المرتبط بالهوية. ومن هنا يكون الاتجاه نحو مصدر آخر للنهل والتفاعل. هذا بحساب أن الاتجاه نحو التغريب والتحديث الذي لم يتجاوز خطوط الواجهات والمظاهر لم يؤت أكله وثماره.
الواقع أن الوعي هذا لم يكن وليد مصادفة تم فيها الاكتشاف، فالصراع الذي احتدم بين التيارات الفكرية داخل المنظومة الإسلامية كان طويلاً ومريراً. وإذا ما كان التعبير الذي يحضر اليوم بأن الإسلام كدين أضحى التعبير عن الهوية بوصفه مصدراً لتحديد الموقف إزاء التحديات والمواجهات - فإن الأمر يحتاج إلى مزيد من النظر. والأمر لا يتوقف على العناية بالواجهات، هذا باعتبار أن جلّ النظم السياسية في العالم الإسلامي تنظر إلى الإسلام بوصفه حالة طقوسية تعكس مدى العلاقة بين المرء وربه.
وبالوقوف على بعض النماذج التي جعلت من الإسلام نهجاً ومساراً لها في تحديد سمة المواطن وعلاقته مع السلطة السياسية، فإن الانشغال هنا يكون عادة في بعض التفصيلات الاجتماعية والتي لا تتخطى في الأغلب، تطبيق الحدود أو الحرص على تكريس الجانب الشعائري، وبعض الجوانب التنظيمية أن كان في مجال الإدارة أو في بعض المؤسسات القانونية. ومن كل هذه المظاهر الرسمية تبدو المعادلة وكأنها قد توقفت عند حدودها الشكلية، ليكون الاستتباع في مجال الفعل الاجتماعي المستند إلى الجانب المظهري، كترصد بعض الظواهر المتعلقة بالمظهر والأزياء واللحى، أو حتى بعض اتجاهات الميل الاجتماعي نحو التردد الكثيف نحو المساجد، وظهور بعض المطبوعات التي تركز على الإسلام وشرح الأصول والمعاملات فيه. وهكذا يتم التحديد بوصفه انضواء يقترب إلى حد بعيد من مقومات الاتهام، الذي يبدأ نظرياً على أنه محاولة لتوكيد المعنى، جاءت لحظة الإمساك به والتشبث الحميم بالشرعية، لكنه لا يبرأ من أعراض تمدد مواطن الاتهام المسبق والحذر القوي الشديد الذي يحاول تحديد اتجاه يجب التنبه إليه.
استقراء الملامح
بين الصحوة والانبعاث تتسلل مفردات من نوع التطرف والإرهاب وإذا كان التوقف عند بعض مظاهر الإسلام السياسي، الذي ارتبط بنماذج سياسية محددة فإن التعميم سرعان ما يتم إلصاقه بالجانب الاجتماعي حتى وإن تبدت بعض الأفعال من قبل بعض الحركات الأصولية التي تحاول أن تقدم رؤاها وتصوراتها الخاصة على صعيد الواقع. وإذا كان الانتشار العالمي لهذه الظاهرة في أكثر من مكان وموقع فإن الأصل الإحيائي للإسلام الحر والمتسامح لم يكن البتة وليدة ردة فعل.
من عموم الجهود الذي تبذلها المجتمعات الإسلامية، يتبدى فعل التأصيل نحو بناء تجارب حية نابضة بالحياة المتنوعة، والمتطلعة إلى مزيد من التحول المثمر والإيجابي. وإذا ما برزت بعض اتجاهات الخطل، وعدم التطابق من بعض التيارات الداخلية فيه- فإن هذا الأمر لم ولن يكون حكراً على المجتمعات الإسلامية. فالممارسة الحية والمتفاعلة لا بد أن تعزز الكثير من مواطن الاختلاف والتعدد وعدم المطابقة. وهذا هو واقع حال الفعل الاجتماعي الذي يقوم أصلاً على التغير ومقاومة التنميط والانخراط في النموذج الواحد.
لقد أشار الغرب في مجمل تجربة صراعه مع المعسكر الشرقي، إلى أن سر تفوقه قام على معطى التنوع لديه وجهوزية التنميط لدى الآخر. وفي حمى تحديد ملمح الخلل هذا، الذي أضحى بمثابة السلاح الاستراتيجي التقليدي بيد الغرب استحكمت عقدة البحث هذا العامل. ولم يكن من الصعب اكتشافه في عالم يزيد تعداد سكانه على المليار نسمة، لكن الإصرار على ملاحقة شعارات مثل: "الإسلام هو الحل" أو "الصحوة الإسلامية"، يكون بمثابة مثار الانتباه من لدن هذا الغرب، الذي يحاول تلقف الظواهر وجعلها خاضعة للفحص والاستقصاء في مختبراته.
في استقراء ملامح الاستتباع يتمسك الغرب بالإشارة إلى أن المد الإسلامي يحضر وبقوة شديدة في كل دولة من العالم الإسلامي، إن كان شخصياً أم كان حركياً. والمفصل هنا قوامه الاقتراب من هذه النقطة شديدة الحساسية والمتعلقة بالرأي العام الإسلامي. حتى كان السؤال الأشد حذراً وقلقاً قد تسيد معظم استطلاعات الرأي، حول إن كان أسامة بن لادن إرهابياً أم لا؟ والذي يعكس مدى الانشغال الذي يتسيده القلق، حول العلاقة القائمة بين اتجاهات ميل الناس العاديين، وردة أفعالهم، إزاء الجانب الحركي والتنظيمي الذي يبدر عن بعض المنظمات العاملة في المجال الإسلامي.
البحث عن الفهم
في تتالي المحن التي مرت على العالم الإسلامي، توقف مجال التفكير حتى كان الاجترار والتقليد والاتباع هو السائد لزمن طويل وفي لحظة الالتقاء الحضاري مع الغالب المستعمر، بدأ صراع الأفكار وصدمة التلقي والتي خلقت مستنبتات فكرية قوامها الكثير والعديد من التيارات الفكرية التي تم تسويقها واعتناقها بطريقة فريدة، حيث الاعتناق الصارم والشديد لمقولاتها، والعمل على اصطناع الاحتراب والتصادم الداخلي، إلى الحد الذي صار اعتناق التيارات والأفكار الشغل الشاغل في تلك المجتمعات، وتم إهمال الغايات والمقاصد.
لقد أبرزت تيارات الوعي المستورد اهتماماً بالغاً بالاصطلاحات والمفردات والديباجات، بل بالرموز الفكرية التي ميزتها. وفي ظل الاتجاهات الواسعة التي طبعت مجال اشتغالها، لا يمكن إنكار الأثر المدوي والفاعل الذي أحدثته في المجال الاجتماعي. حين تحقق لها قيادة الفعل الوطني والتحصل على القاعدة الشعبية العريضة، لاسيما في مجال المناداة بالاستقلال والحرية والتقدم، والعمل على تكريس مبدأ المساواة والعدالة. إلا أن خيبة الأمل سرعان ما تكشفت ملامحها على الواقع عندما بدأ التقهقر والتراجع يتبدى في حضورية لا يمكن إغفالها. لاسيما في مجال الوعي الشعبي ذاته، الذي استوعب فعالياتها على صعيد الأمل بالتغيير للطبقات الكادحة هذا بالنسبة للتيار الماركسي، والأمل بقياد الأمة نحو الوحدة والحرية بحساب التيار القومي. وتعدد الأهداف والآمال التي غرستها التيارات الأخرى.
يأتي التيار الإسلامي ليخاطب الجميع بلغة مفهومة خالية من التعقيد أو الإبهام، بمرجعيات واضحة ومعان غير مختلطة. فيما يكون المكنون الذاتي شديد الحضور حيث التداعي الحر للمثل والرؤى، التي يمكن تمثلها من دون تكلف، لدى مختلف الطبقات والفئات والشرائح. لكن ملمح التقاطع هنا يكون واضحاً في هذا التصور الجاهز الذي ينطلق منه الآخر في تحديد الاتجاهات، عندما يتم تصوير المشهد في ظلامية يسودها الاختلاط والتداخل، هذا باعتبار بعض الأنشطة شديدة الفرعية، التي تقوم بها بعض الحركات المتطرفة، والعمل على جعلها وكأنها الأصل الثابت في التيار الإسلامي. منطق الانتقاء والتحديد هذا، والذي يقوم على ردة الفعل يعتوره الكثير من الخلط الذي يؤدي إلى مزيد من الاشتباكات، في ظرف عالمي ودولي شديد التعقيد، يستدعي الوعي الصارم باللحظة وترك الانقياد خلف سراب التقييمات الجاهزة والصور المنمطة.
العالم يقرأ الإسلام
تكشف التحولات التي يعيشها العالم عن هذا التبلور الحاسم في مسار التيارات والاتجاهات الفكرية، والمرتبطة بطبيعة الاحتكام إلى العوامل المباشرة، التي تكون بمثابة أداة التفعيل الحاسمة في ظهور الأشكال والممارسات الجديدة. فالتغيير الذي يكون بمثابة سمة العالم الاجتماعي، إنما تبرز مؤثراته وتفاعيله، من هذا الارتباط بواقع النشاط الذي يبذله الناس من أجل تحقيق غاياتهم الذاتية أولا، حتى تبرز الاشتراطات الأوسع الشاملة لمجمل الأنشطة الكلية. ومن دون الاستناد إلى محدد أحادي يكون بمثابة التوقف عند ترّصد أية ظاهرة إنسانية، يبرز مجال التفحص في هذه الاستتباعات التي يفرضها الواقع، ويجعل منها ظواهر شديدة الإلفات، تدعو الجميع إلى ملاحظتها وأهمية التوقف عندها.
وإذا كان العالم مركزا أنظاره حول الإسلام والمسلمين، برؤى وتصورات بالغة الحراكية والأهداف والغايات والارتباطات، فإن واقع التحولات الداخلية في الإسلام ذاته، يفصح عن الأكثر والأهم، هذا بحساب المقارنة(13) مع أية ملاحظة تأتي من خارجه من أجل الادعاء بتفحصه واستقرائه.ومن هنا تحديدا تبرز أهمية الوقوف عند الأثر الاجتماعي الذي تجسده التفاعلات الإنسانية في المجال. فالمجتمع الإسلامي لا يمكن النظر إليه بمواضعات واشتراطات يتم استكناهها من خارج السياقات التي تحكم العالم برمته. فالمسلمون بشر يعيشون على هذه الأرض يؤثرون ويتأثرون، كما أمم ومجتمعات أخرى. وإن حالة التركيز التي توجهها آليات الفحص والاستقراء والدرس، لا تعني بتقديم الافتراضات المسبقة حول النقص أو عدم الاكتمال، أو أن هناك خللا أو عيبا في الأمر، هذا بحساب الادعاء بالشرعية طبعا.
إن التركيز الذي يبذله العالم اليوم، يجعل من المسلمين في أشد حالات التوتر من هذا العصاب الذي يتنادى بالمسلمين ويعمل على ترصد حركاتهم وسكناتهم وما يتعلق بهم، حتى ليغدو الأمر وكأن المسألة تتعلق بكائنات جديدة وطأت الأرض في الحادي عشر من سبتمبر-أيلول، لا قبل ولا بعد.! ومن دون الخضوع لتمايزات العقل والروح العلمي والادعاءات المنهجية، نجد العالم وقد نزع عنه كل شيء وغدا في أتون من المباشرة، التي تعتاش على الهياج وتبضع من الاتهام، حتى ليكون الإفراط والإيغال فيه، عبر هذا الشمول (14) الذي يطال لا المسلمين فحسب بل الإسلام برمته كدين وحضارة وأفق إنساني، فيما يكون الاعتياش من قبل أطراف أخرى على إذكاء الجانب المعتم من التاريخ ومحاولة إشباعه بالتحريضات.
التوزيعات الأشمل
ها هو ذا العالم يتوقف بكل ما يملك لتفحص المسلمين، ومحاولة الغور في التفصيلات المتعلقة بحياتهم وممارساتها والتفاعلات البارزة في أدق شؤونهم. وبقدر هذا النزوع الطاغي الذي يفرد مساحاته على الواقع، يقع المسلمون ضحية لسوء الفهم والإخضاع القسري لمبدأ الاجتزاء. حتى لتكون النظرة وقد تر سخت عند نموذج بعينه غير قابل للمناقشة والدرس والتفحّص. ومن هذه الوطأة الشديدة يكون الإغفال عن مجمل التحولات التي أبرزها العالم الإسلامي للاندماج في العالم الحديث، الذي تكون وسائل الاستذكار وقد جهّزت تهمة الاندماج القسري الذي بدر عن الآخر في سبيل دمجه في تجليات نموذج الحداثة وتطبيقاتها وتراتبياتها.
لقد تفاعلت جملة من العوامل في رسم وتحديد صورة العالم الإسلامي الراهن. والذي يتم تقديمه من قبل الآخر باعتبار الربط بالاستثناء، في الوقت الذي تفصح فيه القاعدة عن التطوّرات والتمايزات التي تعيشها المجتمعات الإسلامية، بكل ما تملك من مقومات إنسانية وحضارية وخصوصيات تفصح عن محلّيتها وطبيعة اندماجها بالإسلام الواسع والشامل، الذي حقق لها هذه القسمات والتميزات المتفردة.
كانت التوصيفات والى عهد قريب توجه تركيزها نحو المجال الجغرافي، في ظل تغييب كامل لأي إشارة إلى الإسلام، حتى إن الإشارات تترى إلى الشرق الأوسط أو دول جنوب شرق آسيا، أو حتى الدول العربية. وفي الاستثناءات القليلة والمحدودة تبرز التسمية "الإسلامي" في نطاق الارتباط بحادث أو مناسبة. لكن المواضعات التي تفرزها مجالات المباشرة يكون فيها عنصر التقسيم والفصل وقد تبدّى في أشد حضوره وأعتى صوره، لتكون الصورة في توزيع أكبر وأشمل، يقوم على استحضار ملامح الصراع القديم الذي قسم العالم إلى معسكرين؛شرقي وغربي. فيما يكون التقسيم اليوم على واقع التوزيع الحضاري، انطلاقا من نظرية صراع الحضارات، ليكون الانشغال بهذا المحدد الذي يبسط ذراعيه على المشهد الدولي، ليزيده انقساما عبر توجيه دالّة التحالف نحو أهداف وغايات قوامها توكيد الخطر الداهم الذي جاء ليهدد مقومات ومكامن الوجود. فيما تكون النتيجة إفصاحا لمجال الموجّهات التي تفردها القوة الأوحد في سبيل البحث عن مكنون المصالح، والتي لا تأتي عادة من الارتكان إلى مضمون السلام والتصالح، الذي سينجم عنه توافقا وتداولا يقوم على المساواة وتكافؤ الفرص.الغاية الأصل هنا تبرز في هذا التطلع إلى إبراز مجال القوة ولا بد من وجود ضحية.
مسألة رموز
في أشد حالات زحف الرموز وتداولها، يكون الحضور في الوسط الاجتماعي وقد اتخذ بعده الاتهامي المباشر. فعلى سبيل المثال ورث النظام الرسمي العربي خلال الفترة المبكرة من عمره السياسي قضية المناداة بمعاداة الشيوعية، والتي كانت تهمة تطال المعارضين له. وفي هذا الانضواء الأيديولوجي يتجسد الإشكال في فقدان اجتماعي واسع عانى منه المجتمع العربي على مدى طويل. ولم تكن الأحوال لدى المجتمعات ما قبل الرأسمالية الأخرى بأحسن حالا فالتوزيع الذي تبرزه ملامح التبعية، يفصح عن هذا الاستغراق(15) الذي يقوم على محاولة التطلع نحو الإمساك بالقوة، حتى وإن كانت تصّب في صالح الجهات الأكثر قربا من مركزية المصلحة.
اليوم تحضر تهمة من نوع آخر قوامها "الإرهاب"، والتي يمكن تجسيدها أفقيا وعموديا، هذا بحساب النمط العلائقي الذي تظهر فيه. فالسلطة المباشرة تحدد ملامح الاتهامية الصادرة عنها بمدى الالتزام وخرقه على صعيد الواقع المعيش. وعبر مضمون تهديد السلام الاجتماعي يكون التقاطع، وقد تمظهر في أجلى صوره عندما تختلط الأحوال والأشكال والمفاهيم، حتى ليغدو الواقع وكأنه في لوثة عقلية قوامها الخوف الذي يحط على العقول من هذا الزاحف المفاجئ الذي يطلق عليه تعبير الإرهاب. فيما يتم تحييد كمّ الأسئلة المرتبطة به.فما هو؟ وكيف يكون؟ وما هي الشروط المتعلقة به، تكون شديدة الثانوية. فالعدو اليوم هو الإرهاب ومن هنا فإن حادث انفجار إطار(16) عربة في الطريق وبشكل فجائي، سيجعل من رجل الشارع تصور عنه صيحة "إرهابي"!!
هكذا يتم تمدد الرموز على مستوى العالم، حتى ليصبح من العسير والشاق الركون إلى مصدرية الرمز، الذي يبدأ بالتداول حتى يعتاده العالم برمته ليكون متماها مع المعاني المتداولة وكأنه أصل غير قابل للشك أو الدحض. وإذا كان الواقع يشير إلى أهمية المكنون الثقافي في الفصل والفرز، فإن الوقائع تفصح عن مكنون الاختلال والتداخل الذي يحيط بالعقول حتى ليكون من الصعب، تحسس موطن الثبات وتعيين ملامح العقل. وإذا كان التسلل إلى إنضاج الرموز والعمل على جعلها وكأنها من صميم الواقع، فإن التفصيلات المتعلقة بالأحداث تكون بمثابة الناقوس الذي يشهد على لحظة الإعلان الرسمي، عن هذا الرمز. ومن هنا يكون الإرهاب في لحظة الطور الثاني من تجلياته، ذلك الطور الذي تظهر فيه ملامح التركيز والاستهداف الأوحد.
صلابة التحديدات
القصدية المفرطة التي يوغل فيها خطاب الإرهاب تجعل منه خاضعا لاشتراطات المركز الذي يتجسد اليوم في القطبية الواحدة، التي باتت حصيلة بيد الولايات المتحدة. وإذا كانت تفاعلات العلاقات الدولية قد أفصحت عن ملامح التبدلات الهائلة والعميقة، فإن التطلع هنا يتخذ مجال الاستهداف الواقع تحت إسار ردّة الفعل. وبحضور هذا الزخم الموسّع من التأثر المباشر يكون العالم وقد وقع في صلابة التحديدات التي تجعل من توزيع العلاقات ما يقوم على ثنائية الأسود والأبيض، من دون الإحساس بأطياف من اللون أو الاعتقاد بأنه ثمة فاصل يمكن الإفادة منها.
توزيع لا يقوم فقط على تحديد المصالح، أو الاشتراطات السياسية، لكن الأمضى والأهم فيه أن يبرز في هذا الربط الكامن مع الديني، والذي يتعالق حضوره في أشد المعاني التصاقا بالمجتمعات. ومن هنا تبرز ملامح الخطورة المباشرة، فإذا كانت المباشرة الاتهامية قد اتخذت اللبوس الأيديولوجي خلال سنوات الحرب الباردة، فإن حقل الاتهام اليوم يتحرك في مجال لا يبتعد توصيفه عن حقل الألغام.
الموضوع هنا يتعلق بجانب شديد الرسوخ، تتمثل خصائصه في مكنون الهوية الأصل الذي يغلب على المجتمعات الإسلامية، والتي باتت مستهدفة اليوم بطريقة شديدة الوضوح لا تقبل اللبس أو الاجتهاد. وإذا كانت آلية الحذف والتهميش التي تقصدها الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب تقوم على جهات أو تيار محدد من عموم الإسلام-فإن طغيان الخطاب على الواقع يجعل من أمر الفرز مسألة في غاية الصعوبة والتعقيد. وهكذا يكون الاتهام وقد تم توجيهه إلى هذا القطاع الواسع من المسلمين الذين يعيشون في الغرب. حتى باتت الأصوات تتعالى من شدة الإجراءات وقسوتها في مسائل الهجرة والإقامة، بل إن الأمر بلغ على مستوى ردود الأفعال الصادرة من بعض الغربيين الذين حددوا نظرتهم إزاء المسلمين بعمومية تثير القلق. قد تكون الحرب الأمريكية التي وجهتها ضد أفغانستان قابلة للاستيعاب، انطلاقا من تحديد الغاية والهدف المرتبط بمحاولة القضاء على منظمة القاعدة بوصفها المسؤولة عن أحداث نيويورك. لكن الاستمرار في توسيع مجال خطاب الإرهاب يجعل من العالم في أشد لحظاته توترا، هذا بحساب التفكير الاجتماعي الذي بات يتسلل إلى مكمن الخطاب السياسي، وفي هذا يكون الخطر وقد اقترب إلى مسافة يصعب فيها الفرز والاستقصاء.
الكائن البدائي
عالم يعيش التقدم ويتماهى مع هذا النزوع الهائل نحو التغير والتطور، وإذا ما تم التركيز حول مجال المنجز الإنساني وأهميته فإن القرن العشرين يفصح عن القفزة العظيمة التي قيض فيها للإنسان أن يحققها، متجاوزاً المنجزات الإنسانية على مدى تاريخها الطويل والعريق. وبقدر عظمة الإنجاز ومصدر القوة الذي تفاعل فيه، فإن الإتمام التاريخي سرعان ما تمخض عن هذا النقص الإنساني الفاضح، والذي تمثل في هذا العنف والدموية الهائلة التي اجتاحت بني البشر، في حربين عظميين راح ضحيتها الملايين. ولم يتوقف الأمر على مجال الحروب لاستنزاف الطاقة البشرية في العالم، بل كان للتيارات التوتاليتارية دورها الدموي في سفك دماء المواطنين لاعتبارات تتعلق بالخلافات السياسية، حتى يفصح التاريخ عن توصيفات يعجز عن تصورها الخيال، إزاء المذابح التي ارتكبتها نماذج من أمثال: ستالين أو هتلر، أو حتى طريقة التفاعل مع المخترعات والمكتشفات الحديثة، والتي أبرزت هذه البشاعة المفزعة والمتمثلة بإسقاط القنبلة الذرية على المدن الآهلة بالسكان. وهكذا تحصد البشرية مكتسبات انتقالها الحضاري وركوبها الموجة الثالثة، حيث الصناعة والتقانة والاستفادة القصوى من العلاقة مع الطبيعة.
التمجيد الذي يعلنه الإنسان لهذه المظاهر الحضارية، التي باتت تفرد بوجودها على واقع العلاقات، يبقى متعالقاً في هذا الجانب المظهري، إذ سرعان ما تكشف الوقائع عن هذا الأصل الوحشي الذي يعتري الإنسان، حيث التطلع الحثيث إلى فرض الهيمنة والحضور انطلاقاً من مدرجات السيطرة على القوة. وهكذا يكشف تاريخ القرن العشرين وحده عن جملة من الصدامات والصراعات والحروب ما لا يعد أو يحصى وتحت مختلف الذرائع والمبررات، بدءاً بالمشاكل المتعلقة بالحدود مروراً بالصراعات الدينية والعرقية والطائفية، وصولاً إلى حالات الاختلاف السياسي والأيديولوجي، وبقدر الأهمية التي يوليها المؤرخون إلى حالة النزوع الإنساني الذي بدأت تقترب منه البشرية على صعيد تثبيت الحقوق المدنية وتدبيج الحقوق المتعلقة بالإنسان وتقرير المصير. إلاّ أن شهوة القتل بقيت ماثلة يقودها هذا الحس الغريب من محاولات رفض وإلغاء الآخر، والسعي إلى ممارسة القتل عن طريق الإمعان في استخدام وسائل العنف غير الشرعية، والتي تقوم على محاولة توسيع مجال القتل إلى أقصى الحدود الممكنة، وهكذا يتمخض البدائي الداخلي ليكشف عن الحقيقة المصطنعة التي يحاول الإنسان الحديث إخفاءها في ثوب التحضر.
دورة الاستبدال
العالم اليوم يعيش حالة من الصدام الدموي المباشر، والذي لم يعد يتوقف عند مدرجات التأثير الفكري أو العداء التاريخي، بل إن الأمر غدا كالسعار المنتشر على وجه البسيطة، وبقدر ما تكون هذه الظاهرة عامة شاملة. فإن المؤثرات التي تقع على كاهل العرب تأخذ وقعها الأشد والأمضى، إذ غدا العنف جزءاً أساسياً من سدى ولحمة الواقع، بل صار يقاس على حضوره، انطلاقاً من حالة التداعيات التي تفرض بحضورها على العرب والمتمثلة بهذا الضعف المنتشر في مجمل القطاعات، وصولاً إلى الحدث المرتبط باغتصاب الأرض العربية، والعمل على استنزاف الجهود والطاقات من خلال توجيه التحريض نحو المعركة المصيرية، من دون أن يتم التطلع الثابت والحقيقي نحو تحديد مسار المواجهة. وهكذا كشفت المواجهات المتتابعة مع العدو الإسرائيلي حالة الخوار والضعف الذي استشرى حتى لم يعد له من علاج شاف أو دواء.
بؤرة الهدر والإضعاف التي تم غرسها في الجسد العربي كانت الحافز الأهم من بين عوامل أخرى لولوج العرب هذا الحال من الصدام الذي استبدل العدو الحقيقي بالأخ الشقيق. ومن هنا صارت دورة العنف تترى من دون انقطاع، حيث البحث عن عدو الداخل الذي بات اختياره يتم وفق التحديدات والتصنيفات التي ترسمها المخيلة الأيديولوجية، ليبدأ الذبح والتقتيل بالأهل دونا عن الأعداء. وهكذا يكون مدار الفقد الذي يتبدى في هذا الإرهاب الداخلي الذي أقام بين ظهرانينا، بتأجيج ومباركة السلطة الحاكمة، ليتحول إلى المجال المقابل الصادر من قبل التيارات والاتجاهات المناوئة، والتي لم تتوقف عند تيار محدد، بل تكاد تكون ردود الفعل قد شملت عموم المشهد الذي يدحض حدود التجربة. إلاّ أن التشديد على التيار الإسلامي توضحه حالة التفاعل الآني، الذي يحدد مجال الحركة الصادرة عن بعض الاتجاهات المتشددة، والتي جعلت من طريق الصدام المباشر سبيلاً واحداً لا يقبل الحياد أو المرونة في سبيل الوصول إلى الغايات والأهداف المرسومة. وفي ظل الصلابة المتبادلة بين القوى السياسية الرئيسة، الرسمية منها والأهلية، يحضر حال التقاطع الشديد مع الغايات الأساسية، حتى ليصبح الانشغال بتداول العنف والعنف البديل وهو الغاية والهدف.
فكرة النهاية
لا يتوقف هاجس الأمن عند مجتمع دون غيره، أو على نظام حكم دون الآخر. فالخوف والخشية والحذر باتت تغطي العالم، حتى ليظهر العالم وكأنه يعيش فوق قنبلة موقوتة، لا يمكن لأحد التوقع متى سيكون انفجارها. ومن هذا التداعي الذي يشمل الجميع، بات الاحتراز وتوسيع مجال الإجراءات الأمنية أمراً شديد البداهة، تراه لدى الدول الغنية والفقيرة منها، ولا يتوقف الأمر على مجال حماية السلطة الرسمية، بل حالة الانغماس في الهاجس الأمني شملت القطاع الأهلي، وهذا ما صار يتبدى واضحاً في المؤتمرات والاجتماعات التي تعقدها الكثير من الهيئات والمؤسسات.
ثقافة الإرهاب باتت تتصدر الحياة الراهنة، فالصدام الحضاري غدا الحاضر الدائم الذي يغطي على العقول، فيما تعلقت الأفكار بهذا الكم الهائل من المباشرة المتعلقة بهاجس الخوف المباشر من هذا الآتي الذي لا يمكن تحديد مواصفاته أو الشكل الذي يظهر عليه. ومن عموم الخيبة التي تعيشها الشعوب قاطبة من دون استثناء، يكون ظلام الإرهاب وقد أطبق بفكيه على مستوى التداول الإنساني، الذي بدأ يعود القهقرى في ترسيم طبيعة النظرة إلى المجتمعات. ولعل التوصيفات السياسية الرسمية باتت تفصح وبكثير من المباشرة عن حدة الروح العدائية التي غيبت ما عداها من التوجهات والأفكار.
الطمأنينة المفرطة التي كانت تستظل بأفيائها الولايات المتحدة - غدت من الماضي بعد الحادث السبتمبري – الأيلولي. لكن ملامح المباشرة والفقد كانت الأشد وطأة وحضورا، وسط هذا الكل من الاستتباعات والنتائج التي تمخض عنها. ولعل السؤال الأهم يتعلق بالمقدمات والنتائج المرتبطة بهذا الحدث، الذي يوصف بالإرهاب لكن المكونات الأصيلة فيه تقوم على فكرة النهاية. هذا بحساب مستوى العمل الذي تم تحقيقه، وطبيعة المكان الذي تم استهدافه، والخسائر البشرية والمادية التي تم هدرها، والنتائج المتعلقة بكل هذا والتي أبرزت مجالاً من العداء الذي لا يعرف الانطفاء أو الخفوت بإزاء وجهة واحدة تم تحميلها كل أخطاء ورزايا العالم، حيث التركيز على الإسلام الذي غدا محملاً بكل الصفات التي يطلقها عليه الأعداء، من دون تمييز أو حتى تمحيص في الأصول والمدركات.
سلامة النوايا
لا يتعلق الأمر بطريقة المباشرة التي عمدت نحوها الولايات المتحدة، لمواجهة مثل هذا التحدي. بل إن القضية هنا وبهذا الشمول الذي يطغى على العالم غدت مسألة تخص الأبعد والأقرب، والأغنى والأفقر، والصديق والعدو. حتى إن الحديث عن ترسيمة جديدة لواقع العلاقات الدولية لم يعد من التهويلات أو المبالغات. بل إن الترسيمة الأمريكية ذات القطب الواحد باتت تظهر في طريقة شديدة المباشرة لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها. وبالوقوف على حسبة الحقل والبيدر، نجد النتائج وقد أضحت في جانب المصلحة الأمريكية، فحصاد القوة والاستتباع المستند على شرعية الضحية، التي تم ترسيمها في مشهد عالمي غير مسبوق تم من خلاله تحريك العواطف والغرائز من خلال المطالعة المباشرة الموجهة إلى العالم أجمع.
بتقديم سلامة النوايا يكون الحديث عن هذا الحدث الإرهابي وطريقة تحديد الاتهام الذي تمت فيه، والذي لا يغيب مجال الإيحاء فيه حول الجاهزية والترصد للإسلام. فيما يحضر السؤال الملتاع حول هذه المجانية المفرطة من الاعتراف الشديد المباشرة، الصادر من قبل الجهة المدبرة. وكأن الأمر يتعلق بمواجهة قوامها الاستدراج والتحدي، الذي تغيب فيه الفكرة الأصل. وبتعداد ملامح الوهن يكون الوقوف على جملة من المعطيات المتعلقة بتفصيلات الحدث، والتي تظهر وكأنها تقوم باستعداء العالم ضد الإسلام وتجييشه.
ومن هنا يتساءل الإنسان في مختلف بقاع الأرض حول الجدوى والغاية المتعلقة باستهداف الأماكن المدنية، وقتل الناس العزل والأبرياء من دون وجه حق أو حتى اختيار، ولماذا تكون النهاية في هذا الحرق والموت والخراب، الذي يتكامل في صورة شديدة البشاعة والمقت.
الحديث عن رفض المؤامرة التي تستهدف الأمة بات الموضوع الأكثر قبولاً وارتياحاً في ساحة الفكر العربي. انطلاقاً من أهمية التأسيس على الاستقراء الدقيق والواضح لملامح العلاقات والأنساق(17) الفاعلة في الواقع. إلا أن طبيعة التداول السياسي الصادر عن الآخر يكشف عن عمق التآمر الصادر من قبل الغرب إن كان في مجال فرض الهيمنة والسيطرة المباشرة الذي يكشف عنه مرحلة الاستعمار، أو في طريق الاقتطاع الخارجة عن السياق التاريخي في اغتصاب أرض فلسطين والمباركة الصادرة عن الغرب نحو الصهيونية العالمية.
المرجعيات الاتصالية
في لوثة البحث عن الدور سقط العرب المسلمون في فخ الترويج والإعلان لاستتباعات الموجه الغربي والأميركي تحديداً. وهكذا وقعت قناة الجزيرة الفضائية، بسلامة نية ربما في توجيه أسهم الاتهام المباشر إلى جهة إسلامية شديدة التحديد واضحة القسمات، بالصوت والصورة وأرقى التقنيات الرقمية الاتصالية. وتحت عنوان "خاص بالجزيرة" انتفخت الأوداج وحلّ الزهو والانتصار بهذا السبق الإعلامي الذي عجزت عن تحقيقه كبريات الفضائيات العالمية العملاقة. حتى ليكون السؤال البريء والبسيط، حول هذا العجز الذي حل بالمؤسسة الإعلامية الغربية بكل ما تملكه من إمكانات، بإزاء هذا الانتصار الباهر الذي توصل إليه العرب المسلمون. ألا يتعلق هذا الأمر باستدراج علني قوامه الحصول على اعتراف صريح وواضح من قبل ابن لادن والقاعدة بتنفيذ هذا العمل، ومن خلال وعاء عربي وإسلامي، لتوكيد المصداقية وقطع الشك باليقين، أمام التساؤلات الحائرة التي أطلقها العالم بكل حدّة وذهول وقلق. فيما تبقى الأسئلة التي تعاني من الاضطراب والمزيد من الارتباك حول حقيقة التسجيلات التي تم إطلاقها، واعتبرت بشكل قطعي هي لابن لادن، لاعتبار الصوت والصورة، وكأن السيطرة على التقنيات من قبل الغرب مسألة غائبة وغير معمول بها.
ها هو ذا الإرهاب يتم إلصاقه بالمسلمين بعد الاستناد إلى المرجعيات الاتصالية، ليكون ضرب أفغانستان وتحديد محور الشر وبناء نظام دولي جديد قوامه المابعدية، التي ينشغل بها الغرب حد الافتتان والهوس. فيما تُرك المجال بهذه الفسحة من المناداة التي لا تنقطع من الدعوات نحو الحوار الحضاري، التي لا تخرج عن التوسل واستدرار العواطف والخوف والخواء الذي استشرى حتى انعدمت فيه الفواصل العقلية والمنطقية، ومن هذا الالتباس للمعاني يسود الاضطراب في الشرح والتفسير، ويتم الإعلان بالجهر الصريح عن البراءة من تهمة الإرهاب، من دون الاستناد إلى التأسيس العقلاني الواضح، القائم على القراءة الواعية والتحليل العميق للمدخلات والعلاقات السائدة. ولكن أي وعي وأي تحليل والعالم كله يعيش حالة الإنذار القصوى.
ما تكشفه الأحداث
يخضع الإسلام في هذا الراهن الذي نعيشه إلى مزيد من التفحص والتدقيق، بل وحتى المتابعة والتفتيش بين ثناياه اهتمام مفرط جاء في أعقاب حادث مفاجئ، لكنه بات بمثابة التفكير الاستعادي بهذا الدين الذي كان يمر على أسماع الآخر، من دون أن يتم الالتفات إليه بإمعان وتفحص عميق. ولعل اللافت في الأمر أن الغرب وبعد هذه الموجة التي يقودها بإزاء الإسلام من الاتهامية-كشف عن الكثير من ملامح الخلل والضعف المعرفي والعلمي بالإسلام. حتى ليكون السؤال الاستنكاري وقد اقترب من هذا الادعاء المستمر الذي تم إلصاقه بهذا الغرب المتقدم الذي لا يدع للصدفة مجالا. بان أن التداول الثقافي كثيرا ما أشار إلى هذا التوسع الهائل والكبير في مجال مراكز البحوث العلمية، التي تعنى بدراسة المجتمعات المختلفة والعناية بالتفصيلات المتعلقة بالتطورات والأحداث والتفاعلات.
لكن طبيعة التعامل الصادرة عن الغرب بإزاء العالم الإسلامي، لاسيما بعد الحادث السبتمبري/الأيلولي، تكشف عن مدى الغياب الذي تعيشه مراكز صنع القرار في الغرب ذاته، وليس على مستوى المواطن الغربي العادي. حتى لتبرز الظاهرة اللافتة حول هذا الإقبال المنقطع النظير، لقراءة كل ما يتعلق بالإسلام والتفصيلات المتعلقة به، كأن الأمر يتعلق بدين جديد ظهر فجأة. وليس ذلك العالم الذي يتوسط الأرض، ليؤثر ويتفاعل ويؤسس مع المجتمعات البشرية الأخرى.
لقد غدا الإسلام مادة للدرس والتقصّي، بعد أن تسيّد الاهتمام والتفات العالم. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن الدرس العلمي والتقصي المنهجي حول الإسلام لم يكن غائبا بشكل نهائي. لكن ردة الفعل وحجمها الصادرة عن الغرب، تكشف عن هذا التداخل والإرباك الذي حط على الجميع، بما فيها مراكز البحوث العريقة والمتخصصة في شؤون الإسلام. وإذا كانت التقسيمات الأوسع والأكبر قد توقفت عند هذه التوزيعات المرتبطة بشؤون الفرق والمذاهب، فإن الأمر اتخذ لبوسا فجائيا حيث طابع الصدمة المباشرة، والتي غدت بمثابة العائق العقلي الذي يصعب الوصول إلى كنه التفسير فيه. هذا على الرغم من الإسهام المباشر الذي لعبته قوى الغرب في تأجيج مجال الحس القتالي والصدامي في داخل الإسلام من خلال استحضار معالم التحالف مع القوى الإسلامية نحو محاربة العدو المشترك، الذي تمثل بالاتحاد السوفيتي في غزوه لأفغانستان. إلا أن تحولات القوى وتبدلات المراكز جعلت من هذا التحالف عداء معلنا بلغ حدّ الصدام الذي يشهده العالم اليوم.
الإسلام الرسمي
في طابع استعادي بدأ الغرب يكرس جلّ جهوده نحو استقراء الملامح الرئيسة في الإسلام. وفي توزيع يحاول من خلاله الوقوف على ملمح التفاعلات المختلفة والمتنوعة القائمة فيه، بدءا من الديني ومرورا بالاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي. ولعل المكمن الأصل في كل هذا أن نقطة الارتكاز التي تحاول هذه القراءات الاتكاء عليها تكون عند التوصيف الختامي أو الإنهائي الكامن في الدعوة الإسلامية. فلا غرو أن الطابع التوحيدي في الإسلام جانب واضح لا يمكن التغاضي عنه فيما يكون التوكيد على هذا الملمح الإنهائي القائم في الإسلام والنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- حيث الختام الذي لا يقبل جدلا أو نقاشا من لدن المسلمين.
وبتأكيد حضور العقيدة والشريعة، فإن التوقف عند الإسلام يستدعي هذه النظرة الحرة، التي تجعل من المسلم مرتبطا بالله بشكل مباشر من دون وسائط أو نظام تراتبي. فالأهمية تقوم على التقوى، فيما يتم الدخول في التفاصيل المعرفية من خلال "الراسخون في العلم" وهم الفقهاء الذين ينالون التقدير والتبجيل، لكن من دون تمييز إيماني أو درجة تقرب أعلى من الله.
الحياة الإسلامية تعيش تفصيلات اليومي، بشكل شديد المباشرة، وإذا ما برز التيار الأصولي الذي يصعد من حدة التشدد حول أهمية الارتباط بأصول الشرع والعقيدة، فإن هذا لا يعني الخروج عن القانون الوضعي الذي يسود الواقع ويعمل على تجسيد حالة الانضباط في المجتمع المدني. فحتى القانون المدني لا يخرج عن أهمية الانضواء في مشروعية التشريع الإلهي، والذي يتم استنباط الأحكام الأساسية فيه، من خلال الارتباط الوثيق بالشرع والدين. ومن هنا فإن ثمة ضابطاً دينياً يظهر بهذا القدر أو ذاك، في صلب العملية التشريعية المدنية.
إن التوكيد على الطابع المؤسسي الذي شمل الحياة الحديثة في العالم الإسلامي لم يجعل هذه المؤسسات خارج نطاق الضبط الفقهي، والذي يتجلّى في المعاملات والمواريث والعلاقات الشرعية والقرابة والعائلة والأسرة. بل إن الفقهاء يكون لهم الدور العميق في ضبط العلاقات التي يحددها القانون، بكل تفرعاته القيمية والعرفية، ومدى تعالق وتآلف المجتمع معه. وإذا كانت المؤسسة الرسمية تعمد إلى تقديم مبدأ التعددية والعمل على توحيد مصالح الرعايا العاملين والمنضوين تحت لواء وجسد الدولة الواحدة فإن الإقرار الرسمي هنا لا يخلو من أهمية عمق الإشارة المباشرة إلى أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي.
بحثا عن الشرعية
في محاولة ترصد التوزيعات والتقسيمات نجد التعالق وقد اتخذ مسار الفرز بين الموقف السياسي الذي تحاول المؤسسة الرسمية حيازته والعامل الاجتماعي المرتبط بمفهوم الأمة، حيث الارتباط بالإجماع الذي تشكله الأغلبية في تحيين موقف ما بإزاء القضايا الكبرى.هذه المسألة يتوقف عندها الكثير من المراقبين الغربيين. ويعمدون إلى دعمها بالتداخل المفضي إلى تعطيل حركة الدولة ومؤسساتها الرسمية في سبيل تحقيق الغايات والأهداف. ومن هذا التداخل المفرط في التلفيقية، يبرز محتوى الخلط في مستوى الفهم الكامن حول الطبيعة الوظيفية التشريعية للدين الإسلامي في صلب مؤسسة الدولة.
فالأمر لا يتوقف عند مطلب أدائي مباشر، قدر تعلقه بوظيفة اجتماعية، قوامها تقديم التنظيمات التي تتطلبها حاجات الفرد الاجتماعي داخل وسطه. وإذا ما برزت الأهمية لفقهاء الدين في المجتمع الإسلامي - فإنها تبقى حاضرة في مجال المكانة والتقدير والاعتبار. وما بين الديني والدنيوي، تبرز سلطة القانون الذي يعمل على الاقتباس والتفعيل المباشر نحو توطيد أواصر الشرعية، لا لنظام حكم واحد بل نحو التوافق مع الاختلافات والتنوعات التي تفرزها أنظمة الحكم، بحيث يكون مجال النظر مركزا نحو قيم الدستور العليا من دون التلاعب بها، نحو تدبيج مصلحة أية قوة طارئة. وعليه فإن الدستور في تجلياته التطبيقية يكون في أشد حالات الارتباط بأهمية وجود قوة داعمة، تجعل منه قادرا على فرز التجاوزات التي تعمد إليها بعض الجهات والقوى. ومن هنا ينشأ التحالف بين الشريعة بكل منظوماتها الاعتبارية والسلطة السياسية، التي تستمد شرعيتها وقوة تأثيرها من خلال هذا الارتباط.
إن التوقف الطويل عند الجانب الطقوسي والشعائري في الإسلام، يجعل من الدارسين الغربيين واقعيين في إسار الأوهام الذي تؤدي بهم نحو الدخول في مساحات واسعة من الاستغراق التنظيري الواقع في إسار اللبس والتداخل. فهم عادة ينظرون إلى الإسلام على أنه وحدة واحدة على صعيد المذاهب، لكنهم من زاوية أخرى يعمدون إلى إفراز مجالات التنوع القائمة فيه، بوصفها دلالات وعلائم انشقاق. ومن هذه الرؤية التسويغية تكون الأحكام مرتبطة بالغايات والأهداف المبيّتة، والمتطلعة إلى تكريس رؤية مسبقة غير قابلة للأخذ والرد. حتى لتكون الوجهة الحاكمة وقد استغرقت في هذا التوحيد المتعسف للإسلام الصادر عن رغبة ثابتة في الاستهداف.
طريقة القراءة
يكشف التقاطع المباشر في مكنون الرؤية الحاكمة بين الطرفين؛ الإسلام والغرب. فهذا الأخير ينظر إلى الإسلام بعين الريبة والشك في صلب اكتماله التاريخي وليس القدسي على أقل تقدير. لكنهم من جانب آخر لا يغفلون الأهمية الحضارية والمكانة التي بلغها الإسلام على مستوى تحقيق المعادل الإنساني وإبراز مجالات التعبير الذاتي بقوة ومكانة واضحة.
من أصل المباشرة السياسية والاجتماعية عكف الإسلام على تحقيق تجربته على مستوى الواقع. بل إن الإنشاء والتأسيس يكون هو الأصل في تحقيق هذا البناء والتشييد، كما في دولة المدينة التي أنشأها الرسول -صلى الله عليه وسلم-. ومن هنا فإن فكرة الدولة -الأمة -جاءت لتعبر عن نفسها في سياق واحد غير قابل للتجزئة أو التقسيم، وإذا ما ظهرت الانشقاقات والانقسامات الداخلية منذ عهد مبكر في جسد الدولة الإسلامية فإن حالة الاستمرار الحضاري بقي يستمد جذوره وشرعيته من مدى الترابط الوثيق بالدين الإسلامي.
أما على مستوى التلاقح المعرفي والفلسفي فإن الحضارة الإسلامية قيّض لها اللقاء والمزاوجة مع التيارات الفكرية الإنسانية، حتى استطاعت أن تجسد نموذجها الفكري الأصيل، بتمثل قوامه التفاعل مع كل أطياف اللون الذي تفرزه الحياة. من دون سيادة لطرف على الآخر، بل إن قيمة الإسلام الحضارية تتبدى في هذه الفسحة الهائلة من تراث التسامح الذي لا يني عن التجلي والظهور في مختلف المراحل والحقب التاريخية.
إن السعي إلى تكريس مجال التداخل هو ما ينشده القارئ والملاحظ الغربي في طريقة استقرائه لواقع العلاقات السائدة في العالم الإسلامي، حتى لتكون الإشارة إلى توزيع الإسلام إلى قسمين: رسمي وشعبي، وكأن هذا الأمر يتعلق بالإسلام فقط، وليس بجميع الظواهر الإنسانية وحتى طريقة التفكير التي تسود العالم. فالإدراك كصيغة عقلية، لا يمكن بلوغه بمستويات واحدة، احتكاما إلى قوام الفروق الفردية، التي تكشف عنها النظريات العلمية الحديثة والطالعة من الغرب نفسه، لكن محاولة تكريس الأثر، تعمد إلى هذه القراءة التجزيئية، من أجل إقرار الرؤى الكامنة في دخيلتهم. ومن هذه الزاوية يكون الوقوف على أنه ثمة إسلام رسمي يخضع لموجهات العلاقات الدولية، وإسلام آخر -بحسب توصيفهم - شعبي، يخضع لإرادة القوى الاجتماعية الحاكمة والفاعلة في بنيات المجتمع الإسلامي، والتي تظهر في تجسيد العلاقات القبلية وقدرتها على البروز والاستقلال عن سلطات الحكم المركزي.
******************
الهوامش
*- كاتب عراقي ذو اهتمامات فلسفية واهتمامات بعلاقات الشرق بالغرب.
1. رضوان السيد: سياسات الإسلام المعاصر، دار الكتاب العربي، بيروت 1997.ص 24.
2. مجموعة مؤلفين، الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1987. ص145.
3. محمد شحرور: نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، دار الأهالي، دمشق 1998.ص 72.
4. مهدي عامل: في تمرحل التاريخ، دار الفارابي، بيروت 2001. ص33.
5. وجيه كوثراني: المشروع النهضوي العربي، دار الطليعة، بيروت 1995. ص82.
6. هالة مصطفى: الإسلام والغرب من التعايش إلى التصادم، دار مصر المحروسة، القاهرة 2002. ص61.
7. برتران بادي: الدولة المستوردة، ترجمة لطيف فرج، كتاب العالم الثالث، القاهرة 1996. ص38.
8. محمد أركون: العلمنة والدين، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، لندن 1996. ص62.
9. اوليفية روا: تجربة الإسلام السياسي، ترجمة نصير مروة، دار الساقي، لندن 1994. ص68.
10. رضوان السيد: سياسات الإسلام المعاصر، دار الكتاب العربي، بيروت 1997. ص27.
11. مجموعة مؤلفين: الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1987. ص128.
12. محمد شحرور: نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، دار الأهالي، دمشق 1998. ص22.
13. مهدي عامل: في تمرحل التاريخ، دار الفارابي، بيروت 2001. ص41.
14. وجيه كوثراني: المشروع النهضوي العربي، دار الطليعة، بيروت 1995. ص69.
15. هالة مصطفى: الإسلام والغرب من التعايش إلى التصادم، دار مصر المحروسة، القاهرة 2002. ص33.
16. برتران بادي: الدولة المستوردة، ترجمة لطيف فرج، كتاب العالم الثالث، القاهرة 1996. ص158.
17. محمد أركون: العلمنة والدين، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، لندن 1996. ص23.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=92