نبيل الملحم الصحافي مشاغب والروائي مشاكس
سوسن جميل حسن
كلام في الرواية والخيالات المريضة
من ترسّخ هم الروائيون وليس أبطالهم، وهذه لعنة حلّت بالرواية
لقد كنت محظوظاً بأن تعرفت على المُنحطين، وسأكون محظوظاً إذا عرفت كيف أفكّك انحطاطهم.
إن الثورة التي لا تراجع نفسها تُسقط لا الماضي، بل تسقط المستقبل.. مشكلتك مع النظام أنه الماضي، غير أن مشكلتك مع المعارضة أنها مطروحة للمستقبل، وهذه هي المنطقة الخطرة.. خسرنا الماضي، هل نخسر المستقبل أيضًا؟ هذا ما يقول نبيل الملحم عن الحراك السوري.
هذا المتمرد على الواقع، الكاره للجمود، المحطّم للمألوف، الناظر بعينيه الاثنتين ومن موقع نقدي للحال السوري، كنت وأنا أتابع ما ينثر على صفحته في الفيسبوك ثم يغادر مثلما لو أنه صار خارج ما ينثر، كما وأنا أتابع حواراته ومقابلاته الصحفية، أرى لديه من النزق ما يكفي ليمنح شخصيته فرادة مثيرة للفضول، لكنني بعد أن التقيت به، (ويا لمهازل المصادفات التي يصنعها القدر السوري)، في الغربة في برلين حيث محطته الحالية في الجغرافية، تأكدت أن لا يمكن التكهن بأنه مستقر في مكانه، أقول بعد أن التقيت به، اكتشفت أكثر من النزق في شخصيته، اكتشفت شيئاً يشبه ما يُدعى بظاهرة “الطنين” في فيزياء الذرة.. الطنين الذي هو كينونة الإلكترون، هذا الذي لا يمكن رصد موقعه، فهو يلعب بالطاقة بمهارة الخفة بين الحضور والغياب في آن، فهو الرجل المبعثر كما يصف نفسه في حواره مع الإعلامي جورج كدر الذي استطاع بمهارة أن يخضّ هذا الرجل النزق ويستخلص من زبدة الكلام ما يشي بأدب مبطن بالفلسفة: “أنا رجل مبعثر، بي كل تناقضات هذا الكائن ساكن هذا الكوكب”. لكنه في هذه الحركة الدؤوبة التي تبعثره يبحث عن المعنى، عن الفرد المفرد: ” أنا رجل يبحث عن الفرد المفرد لا عن القطعان”.
لا يرى نبيل الملحم في المكان مكاناً “كل الأمكنة لا مكان”، كما قال في دردشته هذه مع مجموعة من الشباب على التشات، هو يعرف فقط أنه غادر سوريا ليس لسبب سياسي، وإنما لأن ذاكرة المكان باتت بالنسبة له “ذاكرة مضادة.. ذاكرة الخيبة، لقد دفنت فيها خيالاتي المريضة وخرجت”.
الكتابة بالنسبة إليه لعب مع الحياة” لم تعفني الحياة من استدراجي إلى تجديد اللعب معها”، لكنه لعب وافر الخطورة يحتاج إلى مجازفة وحدّ عظيم من التحدي، فهو لا يجازف قبل أن يشعر بأن الرغبة بالكتابة وصلت إلى مستوى القدرة على خوض المغامرة. لكنه مسكون برغبة التحطيم كالطفل أمام ألعابه، التحطيم لكل ما هو نمطي، التحطيم الذي يفكك الأشياء إلى عناصر وتفاصيل فيتكشف الوهم وينطلق خلف الحقائق التي تصنع الدهشة الخاطفة، كلاهث خلف معنى لا يريد الإمساك به والقبض عليه، كما لو أن المعنى في النقصان وعلى الدهشة ألاّ تكتمل إلاّ بصيرورة التحقق “أعرف هزائم الجمال.. مع المسوخ أبحث عن انتصار الانحطاط، عن سرّ الانحطاط، أظن أن للانحطاط أسراراً أقوى من أسرار البراءة، المنحطون هم المنتصرون وهم من يشغلني اليوم”. هذا ما قاله عن أبطال روايته المنتظرة: الله حين يحكي. ولأن الكتابة هي لعب مع الحياة فهو يعيشها، تمّحي الحدود بينه وبين أبطاله، وإذا استبدت به عاطفة ما تجاه أحدهم فإنه يتوقف عن الكتابة ليكون مخلصاً للرواية، مثلما جعلته الكراهية للمسوخ يحلّ محل الراوي فإذا به يكتشف أنه ينصرهم في الرواية كما انتصروا في الحياة، فهو بذلك حريص على توهجّ شغف الكتابة، شغف الخلق بعناصره المتضافرة لتنجز الحياة، ليس مغروراً لأنه في الكتابة هو الله أو الخالق: إذا افترضنا أن بطل الروائي كائن من لحم ودم، ومزاج ومآل، ومصير وسؤال، فأنا “الله”، وإذا لم يكن كذلك فلن أكون سوى روائي هزيل”. بل لأن: “بناء على زهدي بالأشياء والمكاسب واللهاث وراء كل القيم الواطئة.. أنا ابن قيم “الحب”.. من حقي أن أكون مغرورًا”.
هذا الـ ” مقتول يعيد إحياء نفسه باللعب مع قاتليه” يرى في الرواية أنها ” لا تطرح قيم اللحظة.. الرواية تؤسس لمنظومة قيمية تتجاوز اللحظة لتتصل بالتاريخ”، ولديه “ثمة مخزون مخبّأ منذ سنين طويلة يحثني على أن أكتب” لكن شاغله في الرواية هو مصائر البشر، والشخصيات الروائية التي يطمح بأن يرى من يحاورها من النقاد على أساس أنها من لحم ودم، أي شخصيات حية، وليس أبلغ من وصفه لشخصية نزار في سرير بقلاوة، إذ يقرأها من موقع القارئ، بقطيعة بينه وبين نفسه الكاتب: ” لقد علّمني هذا الرجل كيف أفكّك الاستبداد بالضحك”، “حتى أنا كاتب الرواية اكتشفته ما بعد قراءتي للرواية ربما لأكثر من مرّة”.
“أنا شغوف بمن يصنع حلمًا”. هذا ما قاله لجورج كدر، وقال أيضاً: ومن قال لك إنني شغوف بمن يصنع دولة؟ أنا شغوف بمن يصنع حلمًا…. الدولة هي الشكل الذي انحط إليه الإنسان فقدّس انحطاطه…. المواطنة هي اختزال سخيف للإنسان، هي محاولة لتهذيب تغوّل الدولة.
هذا التصريح يستدعي في ذاكرتي ما قال جيل دولوز: ليس ينبغي البحث عما إذا كانت فكرة صائبة أم مخطئة. ينبغي البحث عن فكرة أخرى مختلفة، في محل آخر. في ميدان آخر، بحيث يمر بين الاثنتين شيء ما، لا يكون في إحداهما ولا في الثانية.
نبيل الملحم في نزقه وتمرده على المألوف والاعتيادي والنمطي لديه الكثير ليقول، لكن علينا أن نجيد الإصغاء ففي حكاياته يبحث “عن مساحة للإنسان”.
ناقد شرس حتى لأعماله، لا يتنازل عن الجمال حتى في تصوير القباحة:
**يهمني أن نقرأ شخصية نزار في “سرير بقلاوة”، نحن غارقون في لعبة الدم، وهو غارق في الضحك.. هو السجين الذي لايكف عن الضحك وإضحاكنا، كيف تفسر هذا؟
*شخصية نزار ليست شخصية عابرة، ولكننا أمام قرّاء ونقّاد عابرين، النقد والقراءات النقدية مازالت كسولة، ليست تلك القراءات التي تقلب ثوب النص على قفاه وتقرأه، ليس بيننا من ناقد يحاور بطلاً روائياً ويحاكيه باعتباره شخصاً من لحم ودم، شخصاً بانعطافاته، ثنائياته، تناقضه، استقاماته، منظومته القيمية، وربما احتضاراته، النقد عندنا يشتغل كما يقول تجار أسواق الهال “مال قبّان”، يأخذ العمل الروائي باعتباره “صندوق قضية”، لا باعتباره ملعب بشر، ولهذا لم يترسخ أبطال روائيون.. إن من ترسّخ هم الروائيون وليس أبطالهم، وهذه لعنة حلّت بالرواية، هي في جزء منها منتوج الحركة النقدية التي يتولاها صحفيون مستعجلون، وفي جزء آخر روائيون منشغلون بالتصفيق، بالاستجابة لاستحقاقات الرأي العام وبالتسويق، نزار في “سرير بقلاوة”، أعقد من أن يُقرأ هذه القراءة المستعجلة، لقد علّمني هذا الرجل كيف أفكّك الاستبداد بالضحك، لم أر ضحكاً يدمي كما ضحك نزار، هو رجل استخف بالأشياء، نعم هو رجل مستخف، مايعني أنه ومنذ البداية كان قد اكتشف سرّ هيبة السلطة فحوّلها إلى مسخرة، لا سلطة السجن فحسب، فقد سبق سجنه أن رفع جلباب الشيخ وكشف عن مؤخرته.. نزار كشف وبالضحك مؤخرة العنف، من عنف العقيد إلى عنف الشيخ، وحين صار إلى سرير “بقلاوة”، باتا ثنائياً يُعرّي هذه المؤخرة.. ثمة مشكلة ناتجة عن تفكيرنا بالسلطة والطغيان، في تراثنا المحكي والمكتوب نحكي عنهما همساً أو صراخاً، بوجوه خائفة أو وجوه صارخة.. وجه نزار لم يكن كذلك، كان وهو يمزق سروال الطغيان، يمزقه ووجهه ضاحك.. حتى وهو في المشرحة عرف طالب الطب وجه نزار من ضحكة نزار وقد رافقته مع موته.. هذا سرّ، حتى أنا كاتب الرواية اكتشفته بعد قراءتي للرواية ربما لأكثر من مرّة.. إن الحريّة الهائلة في شخص نزار، جعلتني أنا الكاتب أقل قدرة على التحكم فيه أو رسم مساره، ولهذا أخذني إلى حيث يريد أن يذهب.. وكذلك تلك المرأة العاهرة “بقلاوة”، من المُعيب والمُحبِط والموجع أن لا يسكن نزار بين قرّاء هذا الزمن.
** في بانسيون مريم، نماذج مختلفة كليّاً.. مريم، أنيس، رضا، وشخصيات تبعث على التأمل.. كيف كان انتقالك من عبثية سرير بقلاوة إلى تأملات بانسيون مريم؟
*هو ليس انتقالاً من سكن إلى سكن لنفس الكاتب الذي هو أنا.. في “سرير بقلاوة” كاتب آخر غير كاتب “بانسيون مريم”، في “سرير بقلاوة” رجل يلعب مع عبث القسوة الجسدية التي تعني السجن بما يحمل من ذاكرات الدم، وفي بانسيون مريم، لعبة أخرى، ثمة ولد يلعب مع المنسيين في محاولة لإحيائهم.. مريم المنسية، أنيس المنسي، وسكان البانسيون من المنسيين، هنا شرط اللعبة مختلف، فبالقدر الذي كان فيه نزار ضحية اللعب، كان سكّان البانسيون ضحية لعب رضا.. ولد جاء ليفتح الستائر على مكان مسترخ، متصالح مع استرخائه.. هنا عالمان مختلفان تماماً.
**أنت مقبل على لعبة جديدة.. قرأت ذلك في حوار لك مع جورج كدر.
**بالتاكيد، لم تعفني الحياة من استدراجي إلى تجديد اللعب معها، ولكنه اللعب الطيّب هذه المرّة، ليس لعبة السجن، ولا لعبة إزاحة الستائر، هي لعبة القيم الراسخة، كنت أظن أن الوفاء ليس أكثر من مسألة صوتية، لفظ، لا أكثر، اليوم ثمة ما تغيّر، ثمة ما يشدني إلى الكتابة عن أربعين سنة من عمر امرأة تستغرق في لحظة بعيدة وتنتجها في كل حظة حتى تمتد في لحظة واحدة لتكون أربعين سنة.. أيّة عبقرية خيال لهذه المرأة بما يجعلها قادرة على “تعييش” لحظة لمدة أربعين سنة؟ هذه عبقرية إن شئت، مشدود للكتابة عنها، غير أنني لن أجازف، إن مجرد الكتابة عن لحظة كهذه تتطلب عبقرية روائية توازي عبقرية تلك “الصانعة” للزمن.. أنا أمام امرأة تنتج الزمن بما لايمكن لأحد أن ينتجه، ولهذا ليست لدي الجرأة للإقدام على مثل هذه المغامرة.. تشدني المغامرة، وما أن أصل إلى كتفها حتى تدفعني بعيداً عنها.. أنا الآن أتارجح مابين الرغبة والقدرة، قدرتي على كتابة رواية كهذه، أضعف من رغبتي.. في لحظة ما، عليك أن تكون بجسد “بغل”، ليحمل رغباتك ووجعك.. ليت لي جسد بغل.
** و “الله حين يحكي”.. هل انتهيت من نسختها النهائية؟
*الآن أعيد كتابتها.. منشغل الآن بالشخصية “المسخ”، الوقائع أعانتني على أن أقترب اكثر فأكثر منها، أن أعرفها، المرأة المسخ، الرجل المسخ، سيكون هذا المسخ وتلك الممسوخة حاضرين في “الله حين يحكي”، لم تشغلني مصائر الأبطال الآخرين، لم يشغلني مصير “سلمى” في هذه الرواية، فهي تخلق وتنمو وتمتد وتؤثر وتعيش في عراك تعرف أنها مهزومة فيه، وكذلك لم يشغلني مصير بطل روايتي وهو راويها، إن القيم الإنسانية الشاهقة عرفتها وعايشتها وعرفت أبطالها.. لا بل هؤلاء صاغوني على شاكلتهم، وأعرف أنهم من المهزومين كما حالي، أعرف هزائم الجمال.. مع المسوخ أبحث عن انتصار الانحطاط، عن سرّ الانحطاط، أظن أن للانحطاط أسراراً أقوى من أسرار البراءة، المنحطون هم المنتصرون وهم من يشغلني اليوم.. هذه الرواية هي انتصار المسوخ، لا تقلل من شأن المسوخ، أظن أنهم سيكونون المنتصرين على الدوام.. ما يحول دون أن أنجز النسخة الكاملة من هذه الرواية، هي الكراهية التي بدت واضحة في التعاطي مع “المسوخ”، لم أستطع أن أؤجل كراهيتي الشخصية لهم، لم أستطيع أن أكون روائياً في رسم ملامحهم، لقد كنت الشخص ولم أكن الروائي الذي يروي.. لم أستطيع أن أكتب اسم تلك المرأة.. أن يكون لها اسم في الرواية، لذلك أسميتها الخنزيرة، لقد لويت ذراع الرواي لأحل شخصياً مكانه وهذا عيب.. وبهذا نصرتهم ثانية .. كما انتصروا في الحياة انتصروا في الرواية.. سأعيد كتابة هذه الرواية وإذا لم أستطع أن أخرج شخصي منها سأتلفها.
**أنت هنا تُقسّم البشر إلى نوعين.. أسود وأبيض.
*لا.. أنا أقسمهم إلى منحطّين منتصرين، وشاهقين مهزومين.. ليس أبيض وأسود، الأسود ليس منحطاً وكذلك الأبيض.. محمد على كلاي أسود، مانديلا أسود، ومارتن لوثر كنغ أسود كذلك.. في هذه الرواية أقسّم البشر إلى نوعين من البشر، بشر “الحب” الذي أحب أن أسميه “الخالد”، وبشر “القوادة”، على الضفة الأولى آلام السؤال ونزيفه، وعلى الضفة الثانية نشوة انتصار السفالة.. بالتأكيد هذا الكوكب بات ملكية حصرية للمسوخ.. “الله حين يحكي” هو اعتراف صريح بنصر المسوخ وانتحار القيم النبيلة.
*أنت تبشر بانتصار الشر؟
**أنا لا أبشّر، أنا أصف، لست مبشّراً بالخير، هذه مهن الكهنة، وكذلك لست مبشراً بالشر، على كل الحالات الخير والشر ليسا ضدين، هما وحدة الأضداد، ماحصل أن ثمة خللاً حصل في عالمنا جعل الثاني حاضراً والأول خائباً مهزوماً، لقد كنت محظوظاً بأن تعرفت على المُنحطين، وسأكون محظوظاً إذا عرفت كيف أفكّك انحطاطهم.
**سأسألك.. لماذا الكتابة؟
*الكتابة فعل شغف، لست شغوفاً بما يكفي للكتابة، غير أنني لا أمل من إعادة إنتاج الشغف.. هي ليست عملية ذهنية كما يبدو، وكذلك ليست تقنية كالنجارة أو الحدادة أو عالم الأعمال، لقد بتّ رجلاً حطباً في لحظة ما، ربما يعود ذلك لانتكاسات عميقة بي وبالمحيط، بحلمي وبأحلام المجموع.. الآن أشعر بأنني أعود للاخضرار قليلاً لكن الاخضرار لم يبدأ من القلب.. ابتدأ من الرأس.. هذه المسافة مابين القلب والرأس لابد من قطعها.. حين أقطعها لابد من الكتابة.. ثمة مخزون مخبّأ منذ سنين طويلة يحثني على أن أكتب، هو باختصار ما لا أستطيع وصفه لولا جملة كتبها دستيوفسكي، مع هذه الجملة بات ما قبل غير ما بعد بالنسبة لي: “إنها تقف في قلبك متل قطع الزجاج .. رغم معرفتك أنها تؤلم روحك ..إلا انك تخبئها هناك”، لو استعدت الكتابة لكتبت نثاثير الزجاج التي تختبئ في القلب ربما منذ أربعين عاماً.. الكتابة في لحظة ما، هي ولاّدة الشغف أن لم تكن مولودته.. في الأمس كان الشغف ولاّد الكتابة.. اليوم الكتابة هي محاولة استعادة الشغف.. لولا ذلك لانتحرت.. لا أريد الانتحار.. بل أريده ولا أجرؤ عليه.
*هل تجد برلين مكاناً مناسباً للكتابة؟ هل ستبقى مقيماً فيها؟
*لا أعرف المكان النهائي الذي سأكون فيه.. كنت أفكر في غرناطة، قلت ذلك لرجل متألم، فاجأبني “غرناطة مناسبة للانعزال والموت بهدوء”، أرعبني كلامه هذا، أنا رجل عاش في الضجيج، في احتفالات طاولة النرد واللعب مع المراهقات، لا أريد مصيراً كهذا، غير أنني لم أعد قادراً على تحديد مكان.. لن أعود إلى سوريا، لأخلق ضجيجا جديداً.. لا أرى مكاناً.. كل الأمكنة هي لامكان.
**أنت خرجت قسراً من دمشق؟
*نعم.. خرجت قسراً، ولكن انتبه، ليس لسبب سياسي، لقد باتت ذاكرة المكان بالنسبة لي ذاكرة مضادة، ذاكرة الخيبة، لقد دفنت فيها خيالاتي المريضة وخرجت.
**أوربا هل هي المكان المناسب للكتابة الروائية؟
*بالنسبة لي اليوم ليس ثمة مكان، مع ذلك أعاند كي أخلق مكاناً.
*ماذا تنتظر من الغد؟
**أنتظر صدور “خمّارة جبرا” هذه روايتي الأكثر روائية من باقي الروايات، ما إن ابتدأت بكتابتها حتى احتضرت مع كل شخصية من شخصياتها.. هذه الرواية كتبت بالإبرة والخيط، لقد تأخر إصدارها، أشعر بالاختناق.
**و”الله حين يحكي”؟
*سأعود إليها.. متى؟ لا أعرف.
**ماذا تنتظر من بلادك؟
*بلادي تنهار، ومع كل لحظة يزداد انهيارها.. لن يتوقف الانهيار فيها مادام ثمة شئ فيها لم ينهر.
**ولهذا هربت؟
*يكفي خمس سنوات وأنا عالق تحت أنقاضها.
**والأمل؟ هل أنت من فاقديه؟
*كلمة “أمل” كلمة مستفزة، ليست سوى تزيين الجثة.. لا أحب مهنة مزيّن النساء، يدهشني الحطّابون والمعماريون وحتى قطّاع الطرق.. مهنة مزيّن لا تستهويني .. لن أكون مزيّن أوهام.
**أحد الكتّاب، اتهمك في منشور على الفيس بوك بانك “عدمي وطني”، ماذا تقول؟
*ولا شيء، لا أقول شيئاً.
**ماذا تقول بالكتّاب الذين يعملون على التطبيع مع إسرائيل؟
*مثل من؟
**مثل أمين معلوف.
**سبق واتهم نجيب محفوظ بالتطبيع، لكن ذلك لا يغير من كون نجيب محفوظ هو واحد من “القوى الناعمة” التي تساوي بقوّتها مجموع ما استخدم من سلاح في ثكنات الدول العربية مجتمعة وخصيصاً ثكنات دول “المواجهة”، ذات يوم اتهم محمود درويش بالخيانة العظمى يوم مشى تحت العلم الإسرائيلي، لا أظن أن مجموع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية من فتح أبو عمّار حتى حماس خالد مشعل قدّمت للقضية الفلسطينية ماقدّمه محمود درويش، سميح القاسم نعت بـ “الرقيب في الجيش الإسرائيلي”، وبقي سميح يمثل صلابة الموقف.. على الدوام يستثمر السياسي موقف المثقف ليهجيه ويطرده من الحضرة، وفي حضرة السياسي كل الموائد التي يتسلل من تحتها إلى الحضن الإسرائيلي عامرة ومليئة بالأطباق.. المثقف مستضعف، حائطه واطئ من السهل القفز فوقه ولهذا كان الضجيج حول أمين معلوف.
*لو دعيت أنت إلى إسرائيل هل تذهب؟
**أولاُ لن أدعى فالدعوات في العادة تكون للشخصيات المبهرة وأنا لست مبهراً، ثانياً بوابات إسرائيل مفتوحة ليس من مطار بن غوريون فحسب، هي مفتوحة بدءاً من السوبر ماركت وصولاً إلى وسائد زوجات “الصامدين” و”الممانعين”.. أنا شخصياً لست من زبائن السوبرماركت، وأظن ان وسادتي محمية كما يليق برجل يعرف كيف يكون كاميكازاً إذا مالوثت وسائده.
*بمن تقارن تجربتك الروائية؟
**ولا بأحد.
**هل تقول بأنك لم تتأثر بروائي ما؟
*تأثرت كقارئ ولكن لم أتأثر ككاتب، لا أستطيع سوى القول بأنني منسحر بايزابيل الليندي، ولا يسعني سوى أن أعيد قراءة جورج أمادو مرة في السنة على الأقل، من الصعب أن لا يكون أرنست همنغوي جزءاً من مكوّناتي كشخص، ولست نادماً ولا للحظة على أن ميرسول بطل البير كامو لبسني طيلة مراهقتي.
**من الروائيين العرب.
* باستثناء نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف لا أحد.
**مع أن الانتاج الروائي العربي غزير جداً.
*لم أعثر على رواية تروي سوى معهما، الرواية العربية على وجه العموم رواية قضايا لا رواية مصائر بشر.
**وحيدر حيدر.
*حيدر حائر مابين الشاعر والروائي، في لحظة ما، إذا استبدت الجملة الشعرية بالرواية تقلل من قيمة القصيدة ولا تعطي الرواية.. حين صدور وليمة لأعشاب البحر، وكان ذلك في 1985 وكنت في نيقوسيا امتلكت الرواية، من ذلك العام إلى اليوم أجدد محاولاتي لاستكمال قراءتها وفي كل مرة أفشل.. مع كل قراءتها كنت أراه يغتصب اللغة.
**قاسٍ هذا الوصف.
*ربما لأنني لم أحبها، وربما لأنني لا أحبه شخصياً.
**أنت تخلط مابين عاطفتك من الكاتب وعلاقتك بمنتوجه؟
*غالباً نعم، هنالك كتّاب قد يكونون رائعين، ولكنني لا أعثر على روعتهم هذه لأنني لا أحبهم.
**متل من؟
*متل أمل دنقل.. لا أحبه شخصياً وبعدها لا أحب منتوجه الشعري.. متل مارسيل خليفة لا أحبه شخصياً ولا أحب منتوجه في الأغنية.
**حبك وكراهيتك يحددان قيمة كاتب؟
*لا .. حبي وكراهيتي يحددان قيمته بالنسبة لي شخصياً وليس بالنسبة للآخرين، أنا حرّ في أن أحب أو اكره، ولست حرّاً في طرح قيم نقدية أو معيارية على من أحب او أكره.. حين تكون طبيباً جرّاحاً عليك أن تحب المشرط، خيوط رتق الجراح، ففي غرفة العمليات ليس ثمة أحب – أكره، خارج غرفة الجراحة من حقك أن تحب أو تكره، حين أطالب بتقييم نقدي لعمل ما، علي أن لا أضع نفسي في معادلة أحب – أكره، ولهذا لم أكن ناقداً ولو كنت ناقداً لكنت ناقداً سيئاً بلا شك.
**قلت لي أنك تكره أمل دنقل.. هل من سبب؟
*ذات يوم اعتدى على نجيب سرور بالضرب، كان نجيب منهكاً من السُكر وعاجزاً عن الدفاع عن نفسه، ربما كان هذا هو االسبب المباشر، ثم لم أكن أحب تعاليه وعجرفته.
**هل كنت على علاقة شخصية معه؟
*لا .. أبداً، كنت فتى صغيراً ولكنني كنت ملتصقاً بنجيب وكنت تلميذه.
المصدر: https://www.alawan.org/2016/07/25/%D9%86%D8%A8%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%...