إسلام السّلطة وإسلام الأزمة!
طالب إبراهيم
أعلن وزير الأوقاف السوري أن ترميم جامع الأوقاف في حلب الذي تعرض للتخريب، في سنوات الأزمة السورية الطويلة، يكلف 7,3 مليار ليرة سورية. (دولار=450 ليرة سورية تقريبا).
وبشّر الوزير ذاته أن الوزارة سترمّم كل الجوامع التي تضررت في سوريا على مدار سنوات الحرب.
ترميم الجوامع وبناؤها، سياسة قديمة، هدفها خلق أجيال مطواعة. أجيال تفكر بالآخرة ولا تفكر بالحياة الدنيا. سياسة لا تقتصر على بلدان العالم الثالث، بل تنافس فيها بلدان العالم الأول. في فترة سابقة، وحين استوردت أوروبا عمالا من البلدان العربية والإسلامية لتعميرها بعد الحرب العالمية الثانية، وضعتهم في كانتونات خاصة، وعمرت لهم في كل كانتون جامعا.
بلغت أعداد الجوامع في سوريا 11 ألف جامع قبل عام 2011، وفق ما ذكره الوزير ذاته. في محافظة حلب “شمال سوريا” تواجد قرابة ألف جامع قبل الأزمة، في حين أن المدينة العريقة احتوت على جامعة رسمية واحدة، تم الاعتراف بها عام 1958 كجامعة ثانية بعد جامعة دمشق. جامعة واحدة تتسع لعدد محدود من طالبي العلم، وتنافس بمدرسيها القلائل وكتبها المنسوخة جيوش مرتادي الجوامع هناك.
شهدت مدينة حلب تدميراً كبيرا لحق بمدارسها وجامعتها ودور معلميها ومصانعها ومطاعمها، خلال سنوات الحرب، لكن لسوء حظ تلك الزوائد العلمية والترفيهية والاقتصادية، لم تحظ بما حظيت به الجوامع.
المقارنة السابقة لا تتهجم على حركية بناء الجوامع، وبناء التعليم الشرعي المحميّ بالقرار السلطويّ، لكنها تكشف زيف الاهتمام بالتعليم والثقافة ونشر الوعي، المقارنة السابقة وردت لتدلل على الميزان غير العادل في بناء دور العبادة الكثيف، أمام بناء المدارس والمعاهد والجامعات، مقارنة تكشف سلوك القيادات التنفيذية في سوريا، ومسؤوليتها عن عمليات الهدم في الفكر وفي المجتمع وفق خطط مدروسة بعناية.
بقرار رسمي من الحكومة السورية، تم إلغاء الاتحاد النسائي العام. وبرر مسؤول أمنيّ “عريق” قرار الإلغاء، بأن المرأة السورية تشارك الرجل في سوريا بكل شيء ووجود هذا الاتحاد شكليّ ومن الضروري إلغاؤه.
على الرغم من شكلية الاتحاد النسائي العام في سوريا، وارتهانه للقرار الأمني، لكنه كان صورة إعلامية عمّا يجب أن تكون عليه المرأة السورية، من مشاركتها في صنع القرار، ووجودها إلى جانب الرجل في عملية البناء، صورة المرأة التي تخرج من تحت عباءة الرجل الشرقي، والمجتمع الشرقي إلى فضاء الحرية والمساواة.
شكلية الاتحاد النسائي العام، وعمله البسيط لم يعد ذا قيمة، أصبح صورة زائدة، لا تتوافق مع رغبة الأجهزة السورية المتنفذة في خلق مسارات أخرى للمرأة السورية تختصرها ظاهرة “القبيسيات”. الظاهرة التي تحظى برعاية أمنية وإعلامية ودعوية خاصة، تكللت بالاستقبال الحافل التي حظيت به نساء “القبيسيات” من قبل الرئيس السوري.
“القبيسيات”، جماعة إسلامية نسائية متطرفة. مهمتها الأولى تدجين الفتيات منذ سني عمرهن الأولى لوضعهن في بوابات التدين المتشدد، التدين المحكوم بإرادة قائدة لهن، تسمى “الآنسة”. تحدد لهن ماذا يفعلن وبماذا يؤمن وكيف يخدمن، ومن يجب أن يخدمن.
تنفذ الفتيات إرادة الآنسة بكل ما تقوله وتقترحه، تفرض الطاعة العمياء والمطلقة، لأن رضاها من “رضى الله ورسوله”.
منحت الحكومة السورية، تراخيص العمل للقبيسيات بقرار حكومي رسمي، وخصصت لهن جوامع خاصة، بعد رفضهن بداية زيارة جوامع “العامة” بقرار حكومي.
صورة رعاية منظمة إسلامية متشددة تعنى بالنساء فقط، تختصر توجه القيادات السورية المتنفذة في مهاجمة الجماعات الإسلامية المتطرفة التي لا تخضع لسلطتها، ورعاية جماعات اسلامية متشددة تخدمها.
صورة توضّح خطط السلطة، بتوجيه التربية وتأطيرها وإضفاء طابع إسلامي متشدد، يرسم حدود تفكير السوريين، ومساحة عيشهم وتفاعلات التغيير التي يحلمون بها، تفعيل المجتمع عبر استهلاكه، تثويره عبر ارتداده، عبر مهمة عريضة في اختصار التربية الشعبية، تحت عنوان ثابت هو “تدجين المواطن” تحت عباءة الإسلام “السلطوي”.
يحارب الجيش النظامي السوري ما يصفه الإعلام الرسمي بالجماعات التكفيرية والإرهابية، لكنه يحمي جماعاته التكفيرية، ويرخص لها، ويحميها، ويهاجم من يهاجمها، ويخصص لها مساحات واسعه لعملها اليومي، لاستعمالها في ساحات أخرى.
لا تختلف آليات عمل السلطات المتنفذة في سوريا عن غيرها في البلدان الأخرى. البلدان الموبوءة بالسلطة، وسياسات تدجين الناس.
تملك كل دولة تشارك في الحرب السورية اليوم جماعاتها التكفيرية الخاصة، جماعاتها الإسلامية التي تربت في كنفها في زمن مضى، من أجل استعمالها في ساحات أخرى، تختارها لها.
ميليشيات دربتها وسلحتها ورخصت لعملها، جماعات تكفيرية مرخصة، تأخذ نظريتها وأوامرها من دعاة مرخصين أيضاً، أو من دور مخابرات.
التشدد الديني خليط غير متجانس، مشرد يبحث عن مطية وطريق، السلطة تعطيه الطريق وتحدد له آليات العمل والسوق والأتباع، المخابرات تأويه، ترعاه وتوجهه. كل تيار اسلامي متشدد له جهة سلطوية ترعاه، طرف دولي يغذيه. التشدد الديني قاتل تائه تحدد له السلطات سلاحه وضحاياه، وتحوله إلى قاتل مأجور.
وكما تجمع السلطات المتشددين التائهين، وترسم لهم زوايا جهادهم، أيضاً تحدد لهم زمن صلاحيتهم. تحديد زمن صلاحية المتشددين، يدخل تحت عنوان ثورة التحديث.
اعتبر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أن رعاية العربية السعودية للمتشددين الاسلاميين، كان بقرار من الغرب “الحضاري” لمواجهة المد الشيوعي.
رعاية المتشددين الإسلاميين كان قراراً غربياً، والآن تحددت صلاحيته. ويجب العودة بالمملكة إلى زمن الإسلام المعتدل. الإسلام الذي لا يوجب الحجاب، ويفتي باللباس القصير للمرأة والاختلاط والرياضة. الإسلام الذي يسمح بدور السينما والمسارح وعروض الأزياء.
كان التشدد الديني قراراً سلطوياً والاعتدال الديني اليوم هو قرار سلطوي.
مجموعة قرارات سلطوية ستفتح المجال سريعا لإعادة إنتاج إسلام السعودية وفق متغيرات السلطة، وضرورة إنتاج ما يلزم لهذه التغييرات في تفاصيل المجتمع.
قرارات كانت تنتظر متنفذا يفرضها. فيسارع دعاة إسلاميون مرخصون، لتأليف فتاوى تؤكد صوابيتها.
تبقى قرارات أخرى قيد الانتظار، منها إثبات كروية الأرض، والسفر بين الكواكب، والانفجار الكبير ونشوء الكون، ووحدة البشرية، وغيرها.
تغيرت قضايا الحلال والحرام بقرار، وتغيرت فتاوى تتعارض بالمطلق مع فتاوى سابقة بقرار. تغييرات تكشف مطواعية الشريعة، ومرونتها أمام قرارات سلطوية واضحة.
ما يحدث في العلن من استعمال الإسلام في السياسة، يحدث أضعافه في الخفى. وعملية بناء الدولة وتطوير المجتمع مرهونة بقرار سلطوي، ربما يساعد المجتمع المدني في ذلك، ربما تساعد نضالات المعارضات المدنية، ربما يساعد كفاح المرأة العصرية، لكن العتبة الرئيسية في بناء دولنا المتخلفة هو قرار سلطوي، يختلف تماما عن قرارات استعمال الإسلام وجماعاته التكفيرية. قرار سلطوي ربما تعجز السلطات القائمة عن إقراره.
المصدر: https://www.alawan.org/2018/05/31/%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A7%...