مناقشة آراء برتراند بادي: الدولة والحداثة في الغرب والبلاد الإسلامية
مناقشة آراء برتراند بادي: الدولة والحداثة في الغرب والبلاد الإسلامية
شمس الدين الكيلاني*
1 ـ ملاحظات منهجية:
ينطلق (بادي) من الاعتراف بالأزمة، التي تعانيها فرضية الحداثة الشاملة التي هيمنت على التفكير السوسيولوجي، وحاولت تعميم تجربة النمو الغربية على العالم، فهو يثمَن إيجابياً ولادة علم الاجتماع التاريخي، الذي لا يتجاهل الخصوصيات الثقافية ـ التاريخية للجماعات، فيعتبر اكتشاف التعددية الثقافية كسباً ثميناً من مكاسب التقدم السوسيولوجي الحديث. إلا أنه يحذر من الثقافوية المطلقة، التي يمكن أن تؤدي إلى التضارب. وانطلاقاً من ذلك يقول: "إن مسيرة الحداثة لا تمنع من مواجهة تمددها خارج العالم الغربي"(1).
على الرغم من اعتراف المؤلف بالأشكال المختلفة، التي يمكن أن تتخذها الحداثة، إلا إنه يلحظ وجود معايير مشتركة لهذه الحداثة، وأنه لا وجود لجماعة ثقافية منغلقة كلياً عن الآخرين. فالتفاعلات مستمرة، والعلاقات الدولية القائمة على التبعية والترابط، تُسهم منذ القرن الماضي، على الأقل، في فرض رهانات مشتركة.
لعلنا، إن استنطقنا النص، نكتشف أن (بادي) يعلق أهمية كبرى، للوصول إلى الحداثة، على استقلال السياسي عن الديني، وعلى سيادة التضامنات الاجتماعية الأفقية (= الطبقية) على حساب الأواصر العامودية (= الطوائفية)، وبروز الفردية مع تشكل الطبقات، وظهور فكرة السيادة، والتمثيلية، باعتبارها، عنده، علائم عمومية للحداثة. وكلها، كما نلاحظ، مستقاة من تجربة الحداثة الغربية.
بما إن المؤلف ينطلق من الإيمان، بأن الحداثة السياسية الغربية، تستمد هويتها من صلتها بسياقها التاريخي، وإن خصوصية المنهج الاجتماعي ـ التاريخي، هي في اتباع طرق المقارنات المتتالية، فهو يحاول القبض على إشكاليات الحداثة في بلاد الإسلام، والغرب، عن طريق المقارنات المتتالية لظروف نشأة الدولة ـ السياسة، قديماً وحديثاً.
2 ـ مقارنات /الدولة عند الثقافتين:
يتعقب (بادي) في عدة فصول، موقف الثقافتين من الدولة، والطرق المختلفة لبناء الدولة، فيلحظ أنه، في العصور الوسطى، برز في أوربا مدى (= مجال) سياسي مستقل، وظهر توتر بين الطائفة (= جماعة حرفية لا دينية) والفرد. ولعبت التراتيبية الكنسية الكاثوليكية دوراً أساسياً في بناء الديني والسياسي في مجالين متباينين مستقلين(2)، وإن المؤسسة الإمبراطورية الجرمانية لا تخرج عن هذا النموذج: التمييز بين السياسي والديني. وقد أبرز البابا غريفوار السابع المصدر الشعبي، والدنيوي لسلطة الأمير، مقابل الأصل الإلهي لسلطة البابا(3)
في القرن الثالث عشر، كرس توما الأكويني هذا الاستقلال للسياسي عن الديني، عندما صور هذه الثنائية كنظام شاءه الله. وفي القرن الرابع عشر، أعلن دنس سكوت، وغليوم دوكام، أن الفرد وحده قادر على الوصول للحقيقة، وعلى تنظيم مناسب للمدينة. و باسم هذه الفردية سيعامل دوكام السلطة السياسية كمحمول للأفراد، وهذا يقود إلى العلمنة(4)
في سياق مقارنته، يلاحظ (بادي) أن الحداثة في أوربا، نهضت عبر التحرر من النظام الإمبراطوري، بينما تحدد المجال السياسي الإسلامي عن طريق إنشاء الصرح الإمبراطوري، على حساب التفكك القبلي، وتجاوز الطوائفي ـ المذهبي. مما جعل إبراز الفردية في العلاقات الاجتماعية أكثر صعوبة. ويتفق مع /غولد زيهر، وماكس فيبر، في التركيز على الدور الذي لعبته "السلطة المحاربة" في بناء الإمبراطورية الإسلامية، وفي تحديد نموذج الحكم. ويشير إلى توتر آخر في التجربة السياسية الإسلامية، بين الوجه الديني المعطى للخليفة مقابل الممارسة والضرورة (سلطة القهر والتغلب)، مما جعل الثقافة الإسلامية تتميز، عبر التاريخ، بالتوتر الشديد الذي يجعل نظام الضرورة يتواجه مع نظام الشرعية، وكان لهذا نتيجة رئيسية، فجرّت السياسي إلى مجالين: الضرورة، الشرعية، بينما ساهمت الثقافة المسيحية في توحيدها، ممهدة السبيل لجدلية مفهومة بين الحكم والمعارضة(5)
لأن (السياسي) يستمد شرعيته من مجاله في التجربة الأوربية، بينما شرعيته تُستمد، في التجربة الإسلامية، من خارجه: من الديني أو من النموذج المثالي (الخلافة). وخلافاً /للأكويني/ الذي حول العقل إلى أداة لمعرفة العدل، دون المرور بالشرعية، فإن الفارابي و ابن سينا، و ابن رشد حاولوا التوفيق بين العقل والوحي/ الشريعة.
يلاحظ (بادي) ثلاث محطات حكمت جدل الثقافة الفقهية حول الدولة:
1 ـ لحظة الماوردي (القرن الحادي عشر)، الذي حاول التوفيق بين استمرار الخليفة والسلطة الفعلية لأمراء الأطراف، معتبراً الخليفة ممثلا للنبي، يرسم صلاحياته تبعاً لحاجات الدين، ويعطيه الحق في توكيل حكمه إلى من يشاء، ولم يعترف الماوردي بالكفاءة الناجمة عن سلطة الخليفة، وظل يربط الواجب السياسي بتأمين واجبات المؤمن، قاضياً بذلك على فكرة المجال السياسي المستقل(6).
2 ـ أبو حامد الغزالي (505 هـ ـ 1111م) أظهر التعارض بين الشرعي (الخلافة) والضروري، أو سلطة القدرة (السلطان السلجوقي). بين الطاعة المعتمدة على الشرع، والطاعة القائمة على مبدأ الضرورة، وعلى هذا فعلى الناس الطاعة، وعلى الأمراء والخلفاء أن يحترموا شريعة الله تحت إشراف العلماء.
3 ـ ابن تيمية: عاصر الغزو الصليبي والمغولي، تناول التعارض بين الضرورة والشرعية، وجهد في كل أعماله على تبيان أن واجب الأمير، والعالم، هو تحويل سلطة الضرورة (الأمر الواقع) إلى سلطة شرعية. مدشناً بذلك مرجعية لحركات إحياء الماضي، التي مازالت تتشكل(7) وهكذا تصبح (الشرعية) معلقة فوق السلطة الفعلية، التي لن تنالها، فالتخلي عن دليل الضرورة لمصلحة دليل الشرعية الإلهية، قد لا يغذي سوى شرعية المعارضة. إن مرجعية تستند على مشيئة الله، لا يمكنها إلا أن تُخفِق كصيغة للشرعية يستند عليها نظام سياسي قائم. ويعزز هذا الغياب لفكرة الشرعية ـ حسب بادي ـ افتقاد الثقافة الإسلامية لمقولتي السيادة، والتمثيل، اللتينْ تترابطان ضمن الثقافة القروسطية الأوربية(8)
في الثقافة الأوربية، الأكويني يعتبر الجماعة ـ الطائفة مركزاً طبيعياً للحكم الطبيعي، وللسيادة، والرؤية الفرنسيسكانية تعيد (السيادة) إلى اتفاق الإرادات الفردية، والأمير القروسطي يمارس السيادة برضى ((العظماء)) ممثلي الطائفة. والحال، إن فكرة السيادة الشعبية لا معنى لها، في الثقافة الإسلامية، لأن الله وحده هو السيد المطلق، ولا يمكن رد فكرة السيادة إلى (الإجماع)، لأن شرعية الإجماع تعتمد على مشيئة الله، ولأن الإجماع، عند التطبيق، يُقلَّص إلى إجماع العلماء (أصحاب الحل والعقد). لذا. أصبحت الوظيفة التشريعية القانونية، تتلاءم مع التجديد في التاريخ الغربي، طالما ظل القانون يُسند إلى العقل، القادر على كشف /القانون الطبيعي (الأكويني)، أو يُسند إلى التعاقد بين الأفراد (الفرنسيسكان). بينما /القانون/ لا يستمد شرعيته، في الثقافة الإسلامية إلاَّ إذا تطابق مع الحقيقة الموحى بها (الكتاب)، وعندما اضطر الفقهاء إلى سن معايير جديدة، فإن هذه المعايير لم تُعتبر دليل (شرعية)، إنما فقط دليل (ضرورة)، لذا فإن التفاوت بين الحق الإيجابي (الضروري) والشريعة، شكَّل في الغالب البؤرة الرئيسية لتعبئة المعارضة، منذ العهد الأموي إلى اليوم(9)
3 ـ سياق الحداثة السياسية الغربية:
يتعقب المؤلف في الفصلين الثاني والثالث، المخاض الطويل لولادة حداثة الدولة الأوربية، والأشكال المختلفة التي أخذتها في إنكلترا، والبر الأوربي، وفي الشرق أوربا (روسيا)، وذلك تبعا للعلاقة الثلاثية بين: الأمير، والأسياد، والكنيسة. ليقارن هذا كله بتجربة التحديث السياسي الإسلامي.
على الرغم من اختلاف مسارات التحديث السياسي الأوربي، إلا إن مآلها المشترك ـ حسب بادي ـ هو الوصول إلى استقلال المجال السياسي عن الديني. في إنكلترا سرَّع بناء المركز السياسي اتساع المسافة بين الملك و الأسياد، وهذا طرح مسألة التمثيل، وساعد الملكية على سن قانون عام لإنكلترا، صار عاملاً من عوامل المجتمع المدني. ثم إن قيام الأرستقراطية بعبء الوظائف السياسية المحلية، وتمثلها في برلمان المركز، أعان على تقسيم المهام بين التاج والمجتمع المدني، وبالتوازي مع ذلك، كان هناك تجاذب بين المطمح الملكي للأشراف السياسي، ومطمح الكنيسة لاستقلالها الذاتي الروحي. والبروتستانتية، خاصة في عهد اليزابيت الأولى، التي قوَّت من هذا الاتجاه.
ويشير المؤلف، إلى أن ما يميز التطور الروسي، أن الكنيسة تدين بنشأتها إلى تأثير أمراء كييف، مما قلص الطموح الاستقلالي للكنيسة، ودفع النبلاء الروس للبحث عن حماية القيصر، فلم يبق أي مجال لنشوء مجتمع مدني. فغذت الحداثة في روسيا تعني اكتشافاً ومحاكاةً للحداثة الغربية، وتنشيطاً للسلطة السياسية، أكثر من تنشيط المجتمع المدني(10)
ويؤكد (بادي) أن الإصلاح الديني، والإصلاح المضاد، دعمَّ من استقلالية السياسي، وموضع الشرعية عليه، فرغم أن /لوثر/ احتقر كل كفاءة بشرية خارج طاعة الله، إلا أنه أقرّ أن لا بديل عن مدينة البشر. فصيغة السياسي ـ لدى لوثرـ تستخدم، كما في الثقافة الإسلامية ـ فكرة الضرورة.. ولكن لوثر يعترف بوجود مجال زمني، حتى لو كان عارضاً، أو نتاجاً للخطيئة، فدَّعم بذلك الدولة، وهو ما فعله، الإصلاح المضاد بتحالفه مع الدولة في إيطاليا، وفرنسا، وأمريكا الشمالية(11)
4 ـ الإسلام وحداثة السياسي:
تحدي الحداثة فرض نفسه ـ حسب بادي ـ كاستيراد كثيف لنموذج جاهز للاستعمال على الصعيد العسكري والتقني، والمعرفي، لحماية ديار الإسلام. في عهد سليم الثالث (العثماني) ومحمد علي (مصر) أحمد بك (تونس)، تموضع جهد أنصار المدرسة الإصلاحية الأولى: رفاعة الطهطاوي، ابن أبي ضياف، خير الدين التونسي، على التوفيق بين مواد غربية وإيمان إسلامي، بين وفائهم للشريعة وتقنية ممارسة الحكم، ونوع من الحياة الاجتماعية خبرها هؤلاء في الغرب. فالمطلوب لديهم عملية تحديث خاضعة لرؤية مستمدة من الإسلام(12).
في مرحلة تالية، سيتغير الوضع، بعد أن أصبح القانون الغربي مسيطراً، سيخضع مطلب الحداثة إلى تركيب جديد. وسيظهر رجال جدد: الأفغاني، عبده، رشيد رضا، مقدمين رؤية جديدة للحداثة: إن الاقتداء بالغرب مرفوض، وغير مجد. فيدعو الأفغاني إلى معاودة المعرفة القديمة لكي نتبين أجوبتنا الخاصة على تحدي الحداثة. وشدد ومعه عبده، ورضا، على استبعاد الآخر كنموذج، وعلى بناء صيغة جديدة للحداثة، وعلى إعادة فتح باب الاجتهاد لتكييف الشريعة مع المعطيات الجديدة، وشددوا جميعاً على الوحدة كعنصر قوة(13) وأعادوا تجديد رؤية كلاسيكية ((عن أمير مقيدّ بواجب احترام القوانين، وبمجلس يرتبط بمبدأ الشورى أكثر من ارتباطه بمبدأ السيادة)). وكان مثال عبده ((أميراً عادلاً، وليس أميراً ديمقراطياً)). واعترف للشعب بحق تطلُّب العدالة، وليس بحق السيادة، فظلت نزعته التجديدية تقوم ـ كما يشير بادي ـ على إعلاء فكرة العدالة، وبالتالي الشريعة أكثر مما تقوم على إعلاء شأن التمثيل والسيادة، على النقيض مما تطرحه الحداثة الغربية(14)
يشير المؤلف إلى أن المشهد تغير، منذ الثلث الثاني من هذا القرن، عندما نابت التيارات الإسلامية عن النزعة التجديدية. لم يحدث انقطاع بين القراءتين للحداثة، إلا أننا هنا أمام أطروحات أكثر جذرية. فالمحور النظري لهذا الخطاب هو إنكار الحداثة المستوردة، ووضع بديل لها، الحداثة الإسلامية، تؤسس الدولة على الإسلام.
يقود هذا التصور ـ حسب بادي ـ إلى تهافت منطق الدولة، بإزالة فكرة السيادة، والمجال السياسي، وإحلال مبدأ (العرفان) محل مبدأ السلطة. ويوضح استنتاجه هذا، بعرض نظرية أبو الأعلى المودودي، الذي تحدث عن ثلاثة أسس للنظام السياسي في الإسلام:
1 ـ التوحيد: ينكر فيه سلطة البشر لصالح سلطة الله.
2 ـ الشرعية، رسالة الله هي دستور الدولة المسلمة.
3 ـ الخليفة المدير الذي يحترم أوامر الله ومشيئته(16)
لا يخص (بادي) سوى القليل من تحليله لمشروع ((النظريات الوافدة من الغرب)) كما يسميها، فبالإضافة للليبرالية، التي ظلت مرتبطة بحلقات إصلاح القرن التاسع عشر، فإن الماركسية والاشتراكية قدمتا منافذ أكثر تطبيقاً، دون أن يبذل حاملوها جهوداً لإعادة ترتيب نماذج إيديولوجية تتوافق مع معـطيات الثقـافة الإسلامية. فالاستيراد دون قيد أو شرط، يُستخدم كموجّه لفكرة الحداثة، وهذا ما يشكل، برأي المؤلف، مكمن ضعف تلك النظريات(17)
5 ـ خيبات تجربة الحداثة العملية.
لا ينسى (بادي) بعد أن تعقَّب الخيارات الفكرية المختلفة تجاه الحداثة، من أن يرجع إلى تجربة الحداثة الفعلية بكل نتائجها ومفاعليها، وبكل عقباتها ومعوقاتها ويقترب من حداثة الأمير التقليدي، ومن نهج التغيير، ليراقب خيار النزعة المضادة للحداثة.
لا يخفي الصعوبات أمام الحداثة، فبالإضافة إلى المحاكاة الإيمائية المستهجنة للغرب، فقد جابه العمل من أجل المركزية السياسية، في الدولة العثمانية وفارس، القوى التقليدية، كما اصطدم بدور الأقليات الاقتصادي والثقافي المميزّ، ودعم القوى الأجنبية للقوى المحلية. وعلى عكس الدولة الأوربية، لم يقمُ المركز بوظيفته الاقتصادية، فتعزز القطاع الرأسمالي المتوافق مع الانشقاقات الدينية، مستفيداً من الامتيازات والحمايات، فساهم في الانشطار الثقافي، الذي أثار حذر المجتمع التقليدي، وهو ما تجلى في الفتن والاضطرابات. وقد قوى هذا الحذر كون الدول الغربية، وجدت أن من مصلحتها الحث على التحديث (الاصطناعي والمراقب)، وأنها لم تقف إلاَّ مع تحديث يقود إلى التبعية، ويحارب أي نموذج حداثوي لا يتماشى مع مصلحته(18) فغدا التحديث محصوراً في دائرة ضيقة، وأخفق في دمج الجملة الاجتماعية فيه.
تجاه هذا الإخفاق الشامل، سيرتد المركز الحاكم على نفسه لاجئاً إلى القمع الشامل، وكأننا ـ كما يقول بادي ـ أمام لعبة "تقذف، دون رحمة، الأنظمة، التي خارج الغرب إلى التسلطية"(19).
الخيارات الثلاثة، التي غذَّت جدل الحداثة، انتهت ـ حسب برادي - إلى الفشل: فشلت السلطة التقليدية: الدولة العثمانية، أو الأمير، في فرض لعبة سياسية حديثة، مما سمح باستمرار الثقافات المذهبية، وفشل أصحاب التحديث، الذين جعلوا من الحداثة هويتهم المميزة، فلم يبق أمامهم سوى خيارين: اللجوء إلى صيغة السلطة الكاريزمانية، أو الرجوع إلى الممارسات الوراثية، وإلى الخصوصية الثقافية. وستفشل المعارضة الإسلاموية، التي استمدت حججها من المفاعيل السلبية للتحديث، لأنها تتجه بالنهاية إلى إنتاج مواقع السلطة على حساب مشروعها التجديدي، فلا يبقى لديها ما يحقق هويتها سوى المجال الرمزي الوحيد: التشديد على اللباس أو على الأخلاق!(20)
6 ـ المعارضة ومصير الحداثة:
يكشف لنا المؤلف، أن كل شيء، في تجربة الحداثة، في ديار الإسلام، يقود إلى المعارضة العارمة، التي تتميز عن نموذج المعارضة الغربية، لأن الأخيرة تؤسس مطالبها الموجهة للمركز الحاكم، مسلحّة بتضامن اجتماعي أفقي واسع، بينما المعارضة في العالم الإسلامي تستخدم (هياجها) في إعادة بناء مسرح سياسي آخر، وتحركها شبكات بين الأفراد مذرّرين، أو تضامنات عامودية. من هنا الطابع المأساوي والطوباوي لها!(21) وهذا يعود في قسم كبير منه إلى أن المدينة الإسلامية التقليدية ـ حسب بادي ـ لم تتميز بسياق المأسسة، التي تشكل هوية المدينة الأوربية القروسطية، ولم تُزوَّد بنظام تشريعي، ولم تُنظَّم على أساس تمثيلي، ولم تُنجز مهمة تدريب المواطنين على التجمُّع، ولم تكن مركزاً لتشكل برجوازية تطمح بوظيفة تمثيلية.
إن المدينة الإسلامية تفرض نفسها بوظيفتها المزدوجة: العسكرية، والدينية. فبدل أن تعزِّز الممارسات الجمعية، والتضامنات الأفقية، قدمت كل العناصر القابلة للانفجار والانقسام، من خلال النخب الدينية، من خلال إعادة تشكيل العصبيات في الحي، وتدفع إلى تضامنات عمودية: مذهبية أو موالاتية. وتتحول لعبة المعارضة أمام الإخفاق الشامل إلى ضرب من الهيجان(22).
فتأتي الطوباوية الدينية التي تشكلت في معظمها، كرد فعل على استيراد الحداثة الغربية، لتُكمل المشوار، وتجد نفسها منقادة إلى نقد الحداثة، لا بقصد ابتكار نظام سياسي جديد، بل الرهان على استعادة نظام قديم: (الخلافة الراشدية).
تلك المحصلة، تدفع المؤلف إلى القول: "إن الطوباوية الناجمة عن الراديكالية الإسلامية، يستحيل عليها أن تهيئ نموذجاً عن مدينة، وأن تتجاوز مرحلة (الثورة المستمرة)، مؤكدة أن البديل الذي يواجه المجتمعات الإسلامية ينحصر بالاختيار بين محاكاة الحداثة وخطر التموضع خارجها"(23).
* * *
هكذا يضعنا (بادي) بين سيناريو التنموية وسحر الثقافات (الثقافوية)، بين الحكام الذين اقتبسوا حجة التنموية، بحثاً عن الإنجاز السريع بدون اكتراث بالمحيط الاجتماعي ـ الثقافي، والمعارضة الإسلاموية، التي وجدت في (الثقافوية) والهوية معنى لتاريخهم، مقلّلاً إلى الحد الأقصى دور قوى الحداثة، التي يصورها في وضع تراجيدي بائس، فهي أما ملحقة بسلطة الأمير، أو بسلطة البرجوازية البيرقراطية، أو في موقع طرفي معزول ضمن الحركات المتطرفة اليسراوية، ومحكومة بهاجس التقليد للغرب، بدون اكتراث بالمحيط الثقافي الإسلامي.
لكن بادي، وعلى الرغم من قتامة الصورة، التي يعطيها عن تاريخ الحداثة، فإنه يسلّم أمره، بالنهاية إلى التاريخ، وعلى "الممارسات الحقيقية التي تنحو للفكاك عن هذه الأوهام.. وتبتعد عن النماذج التي تم بناؤها، وعن المحاكاة البلهاء، أو ليست العثرات ثمار التاريخ؟ ويمكن أن يتم تجاوزها في المدى المتوسط، فيعود العمل إلى قدرته الإبداعية والتجديدية"(24).
على الرغم من تحذير بادي من الثقافوية المطلقة، إلا أن منطق سرده الضمني، يدعو إلى استنتاج مفاده، أن الخاصية الجوهرية للثقافة العربية ـ الإسلامية تؤثر على التطورات اللاحقة، وعلى نمط بناء الدولة، وعلى تشكل الحقل السياسي. محملاً بذلك المعايير الحضارية الجوهرية في الإسلام ـ رغم ملامسته للدور الغربي ـ مسؤولية فشل الحداثة، والتنمية، وبناء الشرعية. جاعلاً الماضي يمسك بالحاضر، والميت بالحي. فالتمايزات الحضارية التي تحكم كلتا المدنيتين: الإسلامية والمسيحية في العصر الوسيط، هي التي ضبطت تطورهما اللاحق، ومنعت العرب والمسلمين من الانخراط في الحداثة: منعت بناء المجال السياسي المستقل وجعلت المعارضة تدور في حلقة الرفض المطلق(25).
من هذا المنظور، يبدو صعود الحركة الإسلاموية اليوم، وكأنه مظهر لجوهر الثقافة الإسلامية، وهو ما يتفق مع الموقف الاستشراقي، ومع منظورات الحركات الإسلامية.
والحال أن الدولة لا يمكن إرجاعها إلى التصورات الدينية، أو المذهبية فهي كيان سياسي دهري يعبر عن التوازنات الاجتماعية الكبرى، وعن تطور التكوين الاجتماعي بوجوهه المختلفة، الدينية والزمنية.
فلا يمكن استخلاص مفهوم الدولة الأوربية الحديثة منطقياً أو تاريخياً من قول المسيح: أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، أو من الزعم بانفصال الكنيسة عن الدولة، أو من تصورات الأكويـني حول الحق الطبيعي. والحال. لقد تم لاحقاً تفسير قول المسيح، بعد أن اشتد ساعد الكنيسة، بأنه يعني سيطرة الدين (الكنيسة) على الدولة، والروحي على الزمني.
و"القانون الطبيعي" لم يكن يعني عند الاكويني سوى " القانون الإلهي"، أما واقع التجربة الدولاتية في الإسلام والمسيحية، فقد شاهدت تداخلاً بين الدين والدولة، إلا أن التجربتين تمايزتا، فبينما خضعت الدولة في مجال المسيحية الغربية، ولأمد طويل، لسيطرة (الديني) المنظم في المؤسسة الكنسية، الكلَّية القدرة؛ واتخذت الدولة طابعاً ثيوقراطياً. وهذا ما عبر عنه البابا أنيو سانت الثالث بقوله: "إن الله لم يوكل إليه أمر كنيسة العالم فقط وإنما أمر حكومة العالم أجمع"(26). بينما كان للدولة في المجال العربي ـ الإسلامي اليد الطولى على الديني، إلا أنهما لم تندمج أو تتحَّد بالديـني. لقد بقيت الجماعة الدينية تؤكد استقلاليتها دائماً في مجال الإيمان والعقيدة، فلا يُنظر إلى الخليفة ـ حتى في عهد الخلفاء الراشدين ـ على أنه رأس الدين، بل نُظر للخلافة، خاصة بعد العهد الراشدي ـ كمؤسسة مدنية، ليس لها سلطة على روح العباد، أو عقائدهم.
لذا، فشل المأمون في تحويل مذهب المعتزلة إلى دين للجماعة، معتمداً على قوة (الدولة ـ الخلافة)، فظهر جلياً استقلال النظام الديني ـالإسلامي عن الدولةـ الخلافة، وغيرها من المؤسسات السياسية، وأن الحكام السياسيين لا يستطيعون الإشراف على مصادر سلطان الدين، لأنها ملك الجماعة، وأن الخلافة ذاتها نابعة من ذلك السلطان، وأنها رمز سياسي له(27). وفي مرحلة سيادة السلطنة البويهية، ازداد التأكيد في الوعي والممارسة على هذا الاستقلال النسبي للسير الثقافي ـالديني، وقوي التأكيد على حياة الجماعة مقابل حياة الدولةـ السلطان، وصارت الخلافة "رمزاً دينياً عندما فقدت سلطتها الفعلية"(28).
وإذا كان من الشائع في زماننا رفع شعار أن الإسلام دين ودولة دلالة على أنها مؤسسة واحدة، فإن ذلك مجرد التباس لا يستند إلى واقع تاريخي ولا إلى حقائق دينية. "صحيح أن الإسلام (بمعنى من المعاني) دين ودولة، لكن هذا الأمر ينطبق على المسيحية. فكل دين يهدف إلى أن يشغل اختيارات البشر عامة، وأن انفصال المؤسستين: (الديني/ الدولة)، بحد ذاته، لا يحد من نطاق عمل الدين، فإن هذا يحتاج إلى قرارات فكرية من نوع آخر"(29).
والحقيقة، أن العلاقة بين الدولة والدين، كما يشير غليون، كانت في التاريخ الإسلامي، علاقة تعايش لا اندماج، وأن مفهوم الجماعة الإسلامية، هو الذي حل، في الذاكرة الاجتماعية، محل مفهوم الدولة، ولقد أدى إخضاع الدين من قبل الدولة إلى نثر سلطته في كل ثنايا المجتمع، وتحويله إلى الجماعة، أي تحويله إلى لحمة عامة، ومقر للسياسة الحقيقية، بما هي تنظيم لمعاملات الناس، وتزويدهم بأخلاقية مدنية تؤسس لتعايشهم، بينما أدى تحويل الدين إلى دولة، وسيطرة الكنيسة على الدولة في الغرب، إلى الدفع باتجاه تحرير السياسة والدولة من الدين، والتركيز كلياً على الدولة(30).
لعل الدور السلبي الذي لعبته الدولة في الإسلام، في لجم تطور المستوى السياسي، وانطلاق الحياة السياسية، لعبته الكنيسة بسيطرتها على الدولة، فغدت المهمة الأساسية لتحرير السياسة في الغرب، هي تحرير الدولة من سلطة الدين والكنيسة، أما في الجانب الإسلامي، فصار التحرر من الطابع الاستبدادي للدولة، أي الديمقراطية شرطاً لخروج الجماعة من الأسر، ولتأسيس مجال للسياسة(31).
في العصر الحديث، خضع تطور الدولة، في المجال العربي ـ الإسلامي، لتطور خاص لا يمكن إرجاعه إلى مفاهيم الدولة ـ الخلافة، أو إلى تجربة بناء الدولة، في المجال العربي الإسلامي، في العصر الوسيط. لقد لعبت الهيمنة الغربية والنضال من أجل الاستقلال الوطني ـ والقومي، دوراً حاسماً على تطور الدولة، وعلى طريقة أدائها، وتركيبها، ووظائفها، وعلى صياغة شكل خاص من الشرعية. وهذا ما جعل مسألة الحداثة تطرح في سياق مختلف عما جرى عليه الأمر في أوربا الحديثة.
فلا يمكن قياس الحداثة في المجال العربي على نموذج خاص من العلمانية مأخوذاً بشكل حصري، من التجربة الفرنسية، كما يذهب إلى ذلك (بادي).
هنا، في الوطن العربي، كما في بلاد أخرى اجتاحتها السيطرة الاستعمارية الغربية، احتلت مهام التحرر القومي مكان الصدارة في سلَّم أوليات الحداثة. هذا التحرر الذي لا ينفصل، عند العرب عن تحرير فلسطين، ولا عن التجزئة الاستعمارية وإقامة الدولة القومية للعرب، ولاعن التنمية المستقلة، وتحسين موقع العرب ومكانتهم في عالم اليوم. وتندرج في هذا الإطار قضية الديمقراطية، وحضور الشعب في حلبة السياسة، كقيمة ثقافية وحضارية تحمل معها بحد ذاتها إنجازاً للتقدم الإنساني من جهة، وعملاً إجرائياً مناسباً، وإطاراً تنظيمياً ملائماً. لابد منها لإنجاز مهام التحرر القومي، في سياق المشروع النهضوي العربي، من الجهة الأخرى.
على ضوء تلك المهام الكبرى (للمشروع النهضوي العربي)، يمكن التعرف على المقاييس الحقيقية للشرعية السياسية للدولة القائمة، فبقدر ما تساهم الدولة القطرية القائمة في تلك المهام المذكورة، وبقدر ما تصور نفسها على أنها ليست سوى جسرٍ لدولة الوحدة العربية، تكون أقرب إلى الشرعية المقبولة شعبياً.
إن (بادي) لا يكترث بمفهوم الدولة القومية العربية ـ على الرغم من أن الدولة القومية ليست خارج منظورات الحداثة الغربية ـ ولا يكترث بشكل كاف ـ بظروف النشأة التاريخية للتجزئة التي قامت عليها الدولة القطرية العربية، ولا بالوضعية الحرجة التي خلقها الكيان اليهودي على أرض فلسطين برعاية استعمارية.
لقد قامت الدولة القطرية العربية محمولة على الغزو الاستعماري، وعلى تخوم التجزئة التي حددها مترافقة، ومدعومة بمشروع تهويد فلسطين (وعد بلفور). فزاوج العرب بين مطلب الاستقلال والوحدة. وفيما بعد، ولم تحلّ دولة الاستقلال القطرية مسألة الشرعية، التي ظلت مرتبطة بإنجاز الوحدة، وتحرير فلسطين، التي غدت مسألة داخلية لكل قطر عربي، خاصة مع قيام الكيان الإسرائيلي، وهزيمة 48.
في مناخ الهزيمة القومية، ورداً عليها، صعد نجم الناصرية، حاملة معها مشروعاً نهضوياً يجمع مسألة قيام كيان عربي موحد، مع التنمية، و إنقاذ فلسطين. بعد قيام دولة واحدة 58، بدا مطلب الوحدة وكأنه في متناول اليد، وصار يُنظر إلى شرعية أية دولة قطرية بمدى التصاقها أو اقترابها من تيار الجمهورية العربية المتحدة. وغدت "الوحدة" المصدر الرئيسي للشرعية.
لقد جمع ذلك المشروع مفاهيم الحداثة: الدولة القومية، والتنمية، والتحرر الاقتصادي، وإضفاء طابع إنساني على توزيع الدخل، مع العقائد العامة والمنظومة الرمزية للشعب، فعبرَّ مشروعه عن هوية الجماعة العربية في لحظة تقدمها نحو الحداثة.
لم يفشل ذلك المشروع بسبب عزلته النخبوية، أو لعدم وجود التحام عقائدي بينه وبين الجمهور، كما يذهب (بادي)، بل إن تأخرّ البنى التاريخية، والطابع الأوامري للنظام، وتمزق وحدة 58، وهزيمة 67 التي توَّجت هذا التمزق، عملت بمجملها على إسقاط المشروع.
*************
الهوامش
*) باحث من الجمهورية العربية السورية، له دراسات وبحوث في الجغرافية السياسية ورؤية الآخر، وحركات ممانعة الغرب.
1 ـ برتران بادي، الدولتان ـ الدولة والمجتمع في الغرب وفي ديار الإسلام، ترجمة نخله فريفر، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1996، ص6.
2 ـ المصدر السابق، ص17.
3 ـ المصدر السابق، ص22
4 ـ المصدر السابق، ص29
5 ـ المصدر السابق، ص36
6 ـ المصدر السابق، ص43.
7 ـ المصدر السابق، ص44
8 ـ المصدر السابق، ص105 ـ 106.
9 ـ المصدر السابق، ص112.
10 ـ المصدر السابق، ص66.
11 ـ المصدر السابق، ص70.
12 ـ المصدر السابق، ص79.
13 ـ المصدر السابق، ص84.
14 ـ المصدر السابق، ص87.
15 ـ المصدر السابق، ص89.
16 ـ المصدر السابق، ص91.
17 ـ المصدر السابق، ص93.
18 ـ المصدر السابق، ص175.
19 ـ المصدر السابق، ص190.
20 ـ المصدر السابق، ص208 ـ 214.
21 ـ المصدر السابق، ص223.
22 ـ المصدر السابق، ص229 ـ 235.
23 ـ المصدر السابق، ص291.
24 ـ المصدر السابق، ص291.
25 ـ سامي زبيدة، الدولة القومية في الشرق الأوسط، مجلة الاجتهاد، بيروت، السنة الرابعة، العددان 15/16، 1992، ص102 ـ 105.
26 ـ توماس أرنولد، الخلافة، ترجمة جميل معلَّى، دار اليقظة العربية، دمشق، بدون تاريخ، ص1.
27 ـ هاملتون جب، التاريخ الإسلامي في العصور الوسطى، المركز العربي للكتاب، دمشق، بدون تاريخ، ص15.
28 ـ الفضل شلق، الأمة والدولة: جدلية الجماعة والسلطة في المجال العربي الإسلامي، دار المنتخب العربي، 1993، ص39.
29 ـ المصدر السابق، ص36.
30 ـ برهان غليون، نقد السياسة ـ الدولة والدين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1991، ص9.
31 ـ رضوان السيد، الدولة العربية المعاصرة، مجلة الاجتهاد، العدد الرابع عشر، السنة الرابعة، 1992، ص252.