أي اقتصاد هذا؟! ضربة ساحر
لست بالاقتصادي ولا بالسياسي ولا بالتاجر الرابح والمتربح ولكنني مع ذلك قد أعتبر في حد ذاتي رقما اساسيا في المعادلة وموضوعا اقتصاديا وسياسيا بسببي وعلى حسابي ينبني الاقتصاد وتبرم الصفقات وتتحدد السياسة وأيديولوجيتها وذلك لأنني وبلغة بسيطة: أنا المستهلك والمروج والمنتج بوجودي ،كما أنني أصل العمران وركيزته بمجرد وجودي وحضوري الرقمي والديمغرافي السكاني قبل أن أصبح الكاسب والطالب للمعاش والساعي لتنويع الاستهلاك وتطوير أدواته وأنماطه.
أولا: اقتصاد السوق وإقصاء الطرف الرئيسي في المعادلة
1- فحتى وإن لم أكن كمواطن عادي منتجا بالمفهوم المادي الحيواني الرقمي، أو أني صاحب كسب ومعاش طبيعي على حد تعبير ابن خلدون ،فإن وجودي ككيان يمثل قاعدة شعبية واقتصادية عليها تدور رحى الاقتصاد ومطاحنها قد يتحول إلى إشكالية عميقة تدخل بالضرورة في صلب المعادلة الاقتصادية التي يتم بها التدوال والتدبير والتخطيط لحفظ التوازن الاجتماعي والاستقرار السياسي ،كما أنه بسببي قد يتم التطلع إلى تحقيق التنمية وتوفير الخدمات وفرص الشغل وما يندرج في حكم الاقتصاديات.
فلولا السلبية ،على فرض وزعم أنني وأمثالي من أفراد الشعب هكذا دوري،لما كانت الإيجابية ،ولولا الفقر لما كان الغنى،ولولا الحاجة لما كان الاختراع ،ولولا المنافسة لما كان الإنتاج ،ولولا الحرب لما كان السلم ،ولولا حرب الفجار لما كان حلف الفضول،ولولا الغلاء لما كان الرخص في الأسواق ،وهلم جرا.
2- لست الآن بصدد تناول صلب القواعد والنظريات العامة حول الاقتصاد وتنظيراته وتطبيقاته أو تقسيمه إلى مؤمم ومعمم ورأسمالي واشتراكي واقتصاد السوق أو أولاد السوق ،والميكرو والماكرو …ولكن سأحاول ،وبتواضع وتردد، التركيز على نقطة وحيدة وفريدة من جملة النظام الاقتصادي الذي يشترك في تناوله الرأسمالي والاشتراكي والشيوعي،والنخبوي والشعبوي، وكل من له دراهم معدودة ودنانير مرصودة ، و تمثل العمود الفقري وسر الأسرار في نجاح أو فساد وفشل دولة ومؤسسة في تدبيرها الاقتصادي الذي لا ينفك، شئنا أو أبينا، عن طبيعتها السياسية واختلال الرؤية أو ثباتها لدى أصحاب القرار في هذه المؤسسة أو تلك.
هذا الموضوع يتمثل في مشكلة الأسعار:لهيبها أو صبيبها ،حليبها أو بقرها ،رخصها أو غلائها ،وهو محور التجارة ومضمونها وملخصها كما عرفها ابن خلدون بدقة علمية ووعي حضاري حينما قال عنها :”اعلم أن التجارة محاولة الكسب بتنمية المال ،بشراء السلع بالرخص ،وبيعها بالغلاء،أيا ما كانت السلعة،من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش.وذلك القدر النامي يسمى ربحا .فالمحاول لذلك الربح:إما أن يختزن السلعة ويتحين بها حوالة الأسواق من الرخص إلى الغلاء،فيعظم ربحه،وإما أن ينقله إلى بلد آخر تنفق فيه تلك السلعة أكثر من بلده الذي اشتراها فيه فيعظم ربحه.ولذلك قال بعض الشيوخ من التجار ،لطالب الكشف عن حقيقة التجارة:أنا أعلمها لك في كلمتين:اشتراء الرخيص وبيع الغالي”.
وبما أن التجارة قد عرفت بهذه البساطة فإنها ستكون محور الأسعار وعدم الاستقرار ،كما ستصبح ضمان العمران ومحركه ومطوره بدون منازع ،نظرا لأنها غير قارة ولا مقيدة، وإنما هي أعظم حرية وأكثر فاعلية في حياة الناس ورفاهيتهم أو تعاستهم ،وهي بهذا تعتبر علما وليس مجرد انتهازية ومكر وخداع ،حيث نبه النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على هذه الغاية فيما ينسب إليه قوله إن صح:”علموا أولادكم التجارة ولا تعلموهم الإجارة” وأيضا” تسعة أعشار الرزق في التجارة”و” التاجر الصدوق الأمين مع النبيين، والصديقين، والشهداء”. كما أنه عمليا قد كان تاجرا ماهرا أمينا ،لا يعرف في تجارته سوى الربح لا الخسارة .وبهذا فقد كان أول من أسس لعلم التجارة ،أو ما يسمى بالماركتين، بمعناه الاقتصادي والتجاري العلمي وليس بالمفهوم البراق المبني على التحايل واستمالة المشتري بالأوهام والدعاية…
ثانيا:الأسعار وتذويب الطبقة الوسطى بالاحتكار
فالسعر مرتبط بطبيعة المواد ودرجتها ومكانها وحاجة الناس إليها، حاجة مادية أو معنوية،كما يقول ابن خلدون :”اعلم أن الأسواق كلها تشتمل على حاجات الناس فمنها الضروري وهي:الأقوات من الحنطة والشعير وما في معناهما كالباقلا(والحمص والجلبان وسائر حبوب الأقوات ومصلحاتها ، كالبصل والثوم وأشباهه ،ومنها الحاجي والكمالي مثل الأدم والفواكه والملابس والماعون والمراكب وسائر المصانع والمباني.
فإذا استبحر المصر وكثر ساكنه رخصت أسعار الضروري من القوت وما في معناه وغلت أسعار الكمالي من الأدم والفواكه وما يتبعها ،وإذا قل ساكن المصر وضعف عمرانه كان الأمر بالعكس من ذلك ،نوالسبب في ذلك أن الحبوب من ضرورات القوت ،فتتوفر الدواعي على اتخاذها،إذ كل واحد لا يهمل قوت نفسه ولا قوت منزله لشهره أو سنته،فيعم اتخاذها أهل المصر أجمع،أو الأكثر منهم في ذلك المصدر أو فيما قرب منه ،لابد من ذلك ،وكل متخذ لقوته تفضل عنه وعن أهل بيته فضلة كثيرة تسد خلة كثيرين من أهل ذلك المصر فتفضل الأقوات عن أهل المصر من غير شك ،فترخص أسعارها في الغالب إلا ما يصيبها في بعض السنين من الآفات السماوية ،ولولا احتكار الناس لها لما يتوقع من تلك الآفات لبذلت دون ثمن ولا عوض لكثرتها بكثرة العمران”.
إذن فجوهر الاقتصاد ونجاح السياسة هو العمل على حفظ الضروري من القوت في حياة الناس وتسهيل رخص الأسعار ،ولا يمكن الإمعان في تناول واقتناء الحاجي والكمالي إلا بعد ضبط القاعدة الأولى الضرورية لأنها هي الأساس في العمران والسياسة والملك ،وهي الضامنة الفعلية للاستقرار والأمن والسلام.
وحينما تصبح المادة الضرورية ،بحسب العصر الذي نحن فيه ،محتكرة فإنها حينئذ ستصير بمثابة إنذار خطير للدولة والشعب معا ،إذ وظيفة الدولة هي تحقيق الأمن المادي قبل المعنوي وتوفير المعاشات الضرورية التي يتطلبها الفقراء كما هم الأغنياء على حد سواء، بل قد يحتاجها الحيوان والحشرات أيضا…
فالاحتكار قد يتطور وبتعقد مفهومه بحسب الزمان والمكان والتطور المحلي والإقليمي والعالمي،كما أنه يتنوع من احتكار بسيط للمواد ومنابعها الطبيعية إلى احتكار للمال المحرك لتصريف تلك المواد عن طريق التجارة والتداول،والبيع بالجملة والتقسيط ،وبالحوالة أو السيولة ،بحيث قد يينتقل بهذا الإجراء غير الأخلاقي والمضاد لمفهوم الاقتصاد السليم ليس من مجرد تكديسه عبر الدفائن والأقبية والمطمورات، المحروسة زعما بواسطة العفاريت والجداول والطلسمات كما كان يجري في الماضي، وإنما سيتم الدفن عبر البنوك المجهولة الهوية والنسب كشركات مساهمة ،أو حتى المعلومة والمهيمنة على الساحة وبواسطة أرقام سرية ورموز لا تفك شفراتها إلا بواسطة صاحبها أو موكله ،هذا إن بقي صاحب المال حيا وكامل الأهلية ،أما إن ذهب عقله واختل أو رحل إلى الآخرة فذلك الاحتكار قد يصبح بدوره محتكرا من طرف مجهولين من خارج الوطن لهم القدرة على حل الرموز واستخراج الكنوز بسهولة ويسر!!!
وبهذا الاحتكار tقد أصبحت تلك البنوك والمؤسسات المالية بيدها خيط اللعبة تدير الشعوب وحكامها، بل أغنياءها وأغبياءها، بمجرد أكاذيب النمو والاقتراض المشروط واللعب في البورصات وسحب البطاقات الإئتمانية للدول والأفراد وووو.
وهكذا أصبح الاقتصاد مجرد لعبة لا علم ولا دراسة فيه بجد ،كما صار يغلب عنصر المفاجأة والطوارئ حيث يخسر الخاسرون ويربح الرابحون في لمح البصر:”بَرّق ما تَقْشعْ”كما يعبر الساحر الساخر في بلدنا المغرب.كل ذلك قد يحصل فوق طاولة القمار وتحتها وعند لوحات البورصات الرقمية وجنبها!!
وحينما لا يحترم العنصر الأول في السوق الضروري حينئذ فسيداس العنصر الثاني وهو الحاجي ،كما ذكره ابن خلدون، والذي لم يعد من مقدور الطبقة الفقيرة التطلع إليه .وبهذا الانفلات سيتحد الحاجي مع الكمالي ويصبحان محتكران لدى الطبقة المترفة الغنية ،لأن الواسطة بينهم وبين الفقراء قد ذابت وانحازت إلى الجانب الأكثر استهلاكا وتبذيرا ولم يعد الحاجي يفي بغرض الأغنياء فيكيف بالفقراء وهم أكثر عددا وأقل مددا.
وهذا الاستنتاج قد يتطابق تماما مع ما يعبر عنه حاليا في الاقتصاد بالطبقة الفقيرة والغنية والمتوسطة،حيث يرى الخبراء أن المنذر بالخطر الحقيقي والإشراف على الاضطرابات السياسية والاجتماعية يكون حينما تنسحب الطبقة المتوسطة من المعادلة فيبقى البون شاسعا ومنقطعا بين الأغنياء والفقراء، وتصير الطبقة المتوسطة معلقة بين الفريقين غير المتكافئين،لا هي مفيدة ولا هي مستفيدة،وإنما مصيرها كأصحاب الأعراف الذي لا هم من أصحاب الجنة ولا هم من أصحاب النار،ويا له من سوء حظ وضيق قرار !
فالأغنياء سيصبح الحاجي لديهم بمثابة الضروري بسبب احتكاره وابتزازه تماما كما يقول الصوفي:”حسنات الأبرار سيئات المقربين”،وهم بهذا الشعور والغرور سوف لن يلتفتوا إلى حال الفقراء والمتضررين بالغلاء لغياب القاسم المشترك لديهم،وسينظرون إليهم نظرة احتقار واستصغار واستخدام بغير مقابل مناسب وبأقل الأجور وأزهدها!!! ناسين أو متناسين أنه لولا أولئك الفقراء وكدحهم واجتهادهم في تحقيق الضروري لما تحقق لأولئك المترفين والمغرورين ما يتطلبونه وينعمون به من الحاجي والكمالي ،ولكن اللؤم الاجتماعي والاقتصادي قد أعمى بصرهم وبصيرتهم عن طريق الاحتكار المالي والسياسي،وذهب بهم إلى هذا المستنقع غير الأخلاقي في تفسير الاقتصاد والسلطة، ومن ثم طفى على تعابيرهم وسماتهم طفو الفطريات السامة والأعشاب الضارة، ثم انعكست على سوء التدبير المالي والمعاشي للأمة وكانت له آثار سلبية لا علاقة لها بالإيجابية التي سبق ومهدنا لها.
ثالثا:غلاء الأسعار بين المقتصد الخبير ومبرري التبذير
حول هذا الموضوع يقول ابن خلدون:”وأما الصنائع والأعمال أيضا في الأمصار الموفورة العمران فسبب الغلاء فيه أمور ثلاثة ،الأول :كثرة الحاجة لمكان الترف في المصر بكثرة عمرانه ،والثاني اعتزاز أهل الأعمال بخدمتهم وامتهان أنفسهم لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتها ،والثالث كثرة المترفين وكثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم ،وإلى استعمال الصناع في مهنهم ،فيبذلون في ذلك لأهل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم مزاحمة ومنافسة في الاستئثار بها،فيعتز العمال والصناع وأهل الحرف وتغلو أعمالهم وتكثر نفقات أهل المصر…”
ثم يخلص في النهاية إلى أن الناس يتوهمون:”إذا سمعوا بغلاء الأسعار في قطرهم أنها لقلة الأقوات والحبوب في أرضهم ،وليس كذلك ،فهم أكثر أهل المعمور فلحا فيما علمنا وأقومهم عليه…وإنما السبب في غلاء سعر الحبوب عندهم ما ذكرناه…”.
فغلاء الأسعار ليس مجرد التكافؤ أو عدمه بين العرض والطلب وإنما هو أدق وأعمق من هذا وذاك ،وهو يحتاج إلى وقفة تأمل جدي ودراسة فلسفية ونفسية واجتماعية ،قبل أن يصبح مجرد حسابات وأرقام افتراضية وأوهام براقة سرعان ما تتبخر وينكشف زيفها على أرض الواقع ومن شكاوى المواطنين والمتضررين،تماما كما ينكشف غش الطرقات المعبدة بالتراب والدهن بالزفت بدل تعميقه وتلبيده لحد الاشتباك والاشتراك وذلك بمجرد رشة من مطر في أول الغيث فما بالك بالنتيجة عند آخره.
فليس أنك تعرف قسطا من الرياضيات الافتراضية والرقمية كفيل بأن يجعلك اقتصاديا جيدا وخبيرا ماهرا أو أن يجعلك تحتكر المعادلة الاقتصادية ، وتراهن على التفويت المالي والمصلحي السريع كالبرق، من دون الالتفات إلى غيرك ممن يشاركك في هذا الحقل العام المتشابك والمترامي الأطراف.
كما أنه ليس أنك تمتلك بعض المهارات السياسية كمصطلحات وتقليد ولوك لغوي قد يصيرك مقتصدا منفردا بالمال والسلطة وسلاطة اللسان من غير حدود أخلاقية وشعور بالمسؤولية !!! ولكن ينبغي قبل كل شيء أن يتوفر في المقتصد جانب القدوة الشخصية باعتباره هو النموذج الأمثل للتطبيقات على نفسه قبل غيره ،وأيضا أن يكون جامعا بين الخبرة وأخلاقياتها تماما كما توفرت في النبي يوسف عليه السلام وأدلى بشهادته على نفسه كملف كامل ومتكامل عن سيرته الذتية(CV ) المؤهلة له لتقلد المنصب باعتباره أستاذ الاقتصاديين في العالم وتاريخ الحضارات حينما قال للملك:”اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم”.
حيث كشف بهذه الخبرة عن مخابئ المحتكرين والمضاربين، وضرب على أيدي المفوتين للأملاك العمومية بغير حق، وحجر على كل المساهمين في افتعال الغلاء ثم كسر شوكتهم وحمى الطبقة الفقيرة من تغول الطبقة الغنية وانتهازيتها، بل لم يترك لعشاق ورواد” برَّقْ ما تَقْشعْ” وليجة للعب بمقدرات البلاد والعباد !
المصدر: https://islamonline.net/25734