مدارس ودروس من “ديتون” الأمركية إلى “أبنت” التركية
قالوا قديماً إن في السفر فوائد كثيرة تظهر في جوانب مختلفة من حياة المسافر، منها زيادة رزقه، واتساع علمه، وتقوية صحة جسمه، وسكينة نفسه، ونضج خبرته، وكثرة معارفه وأصدقائه، وتجديد الحنين إلى أهله ووطنه والديار التي كان فيها مسقط رأسه. وقد جمع الشاعر بعض تلك الفوائد في قوله:
تغرَّبْ عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمس فوائدِ
تفريج هم واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد.
فوائد الأسفار
ولكن يبدو أن فوائد السفر الحديث في أيامنا تختلف في عددها وفي نوعها عن فوائد السفر القديم الذي عرفه البشر في الأيام الخالية. فهي أكثر منها عدداً وأعمق منها أثراً. وهذا هو ما تبين لي بعد سفرتين متتابعتين: الأولى كانت من يوم 22 يونيو حتى 3 يوليو 2006 إلى مدينة “دايتون” في ولاية “أوهايو” الأمريكية للمشاركة في الملتقي السنوي لـ “كاترنج فاونديشن” (Kettering Foundation) حول “الديمقراطية التداولية”، وبرامج علمية أخرى مصاحبة لهذا الموضوع، ومنها لقاء المجموعة العربية لبحوث وقياسات الديمقراطية. أما الرحلة الثانية فقد كانت من يوم 9 حتى 17 يوليو 2006 إلى إسطنبول، ومنها إلى منتجع “أَبَنْت” (Abant) بمدينة “بُولُو” (Bolu) التركية -على مسافة 150 كلم شمال العاصمة أنقرة- وذلك للمشاركة في منتدى “أَبَنت” حول “سياسات العولمة ومستقبل الشرق الأوسط”.
أما المدة التي استغرقتها في الرحلتين فكانت ثلاثة أسابيع، قضيتُها مناصفة بين أمريكا وتركيا. وكان من تقدير الله سبحانه -وبدون سابق ترتيب مني- أن أشارك في ندوات علمية تكاد تكون متماثلة في الرحلتين، وأن أزور بعض المؤسسات والهيئات الاجتماعية والثقافية التي تنتمي إلى المجتمع المدني في الحالتين؛ إلى جانب التجوال الحر ورؤية بعض المعالم الأثرية والمزارات السياحية في بعض المدن الأمريكية هناك في أقصى غرب العالم، وفي بعض المدن التركية هنا في قلب الشرق، وتحديداً في إسطنبول التي كانت يوماً عاصمة الشرق كله.
هموم الأسفار
بالنسبة لفائدة “تفريج الهم”، فإن الذي حدث معي هو العكس في سفرتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ إن همومي زادت ولم تنفرج! وأول ما وجدته هو أنني أوجست في نفسي خيفة عندما وطِئَت قدمي أرض مطار “سينسيناتي” في وسط غرب الولايات المتحدة الأمريكية. كانت هذه هي أول رحلة لي إلى أمريكا، وأنا طبعاً قادم من بلد شرق أوسطي قديم، إلى بلد غربي متطور علمياً وتكنولوجياً، وشعرت ساعتها بأنني في حيرة من أمري؛ فمطار سينسيناتي هائل الحجم، هائل التنظيم، هائل النظافة، يعجّ بالمغادرين وبالقادمين، وكلها أمور أثارت في نفسي خواطر مختلطة بين الإعجاب والضيق، وكنت كلما نظرت إلى النظافة والتنظيم والانضباط والسهولة في الحركة داخل المطار في سينسيناتي، وقارنت ذلك كله بما رأيته وعرفته ويعرفه كثيرون عن مطارات شرق أوسطية -ومنها بعض مطارات بلادي- زاد اختلاط الإعجاب بالضيق في نفسي، وضاق صدري ولم ينطلق لساني أكثر من مرة، فلم أردّ على تعليقات أحد رفقائي في الرحلة كان يحاول لفت نظري إلى بعض تلك المعاني التي جالت في خاطري.
ثم جاء مشهد إجراءات الأمن والسلامة التي يخضع لها الجميع، مع قليل من التمييز السلبي ضد ذوي الملامح الشرق أوسطية أمثالنا وغير الأمريكيين عموماً، ولكن التعامل مع الجميع كان مهذباً ولم يخل من بعض الدعابات.
لم تفارقني همومي التي حملتها من بلدي، بل إن تلك الهموم كانت تزيد ولا تنقص ناهيك عن أن تنفرج كلما مر يوم عليّ في “دايتون” أو في ضواحيها. وهمومي التي أتحدث عنها هي هموم التخلف الذي نعيشه في بلادنا، وهموم حالة الفوضى غير الخلاّقة التي تسحق آدمية أغلبية أبناء شعوبنا العربية والإسلامية ويصادفونها في معظم زوايا حياتهم. وجدت أن ثمة فجوة هائلة بيننا وبينهم فجوة أكبر بكثير مما كنت أتصور وأعرف من خلال قراءاتي ومعرفتي عن بُعد بالمجتمع الأمريكي. كنت أمنّي نفسي في أول مرة أسافر فيها إلى الولايات المتحدة بأن تكون الفجوة بيننا وبينهم أقلّ عمقاً وأضيَق نطاقاً، وأن يكون عبورها مقدوراً عليه في عدد معقول من السنين عقد أو عقدين مثلاً، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، وما رأيته زاد همومي ولم يفرجها.
مشاهد البهجة في مطار إسطنبول
وإذا كانت أول فوائد السفر القديم قد ضاعت مني في رحلتي إلى أمريكا في الغرب، فقد أدركتُها في سفري التالي إلى تركيا في الشرق. كان المشهد الأول مبهجاً في مطار إسطنبول: مطار حديث على آخر صيحة وقد هبطت الطائرة في المطار الجديد، وهو كبير الحجم، فائق النظافة، دقيق التنظيم والانضباط وسهولة الحركة، وإجراءات الأمن والسلامة والتفتيش تتم بيسر وسهولة، ويخضع لها الجميع دون أدنى تمييز بين المسافرين، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لتركي على أوربي أو أمريكي. ولا تستغرق عملية تدقيق الجوازات وتأشيرات الدخول سوى بضع دقائق. وما كدنا نخرج من بوابة الخروج حتى وجدنا في استقبالنا ثلّة من الفتية ذوي الوجوه البشوشة، والأيدي الممدودة لمساعدتنا في حمل الحقائب، مع كلمات الترحيب بلغة عربية رشيقة تحبها وتتمتع بسماعها من أفواه شباب أتراك تفانَوا في خدمتنا من أول يوم حتى آخر لحظة. قبل مغادرتنا إسطنبول حتى كدنا نبكي من فرط كرمهم وتواضعهم.
كان هذا المشهد الأول في تركيا كفيلاً بأن يبدد بعض الهموم المختزنة من رحلتي إلى “دايتون”، فها هم أولاء أناس من بلد مسلم وشرق أوسطي عريق مثل تركيا يقدّمون نموذجاً لا يقل في روعته عما شاهدناه في أمريكا من النظام والنظافة والانضباط وسهولة الحركة وكفاءة العمل في مرفق حيوي وواجهة من واجهات الدولة. ويوماً بعد يوم في تركيا من إسطنبول إلى “بورصة” إلى “بولو” ومنتجع “أبنت”، كانت همومي تنفرج شيئاً فشيئاً؛ وذلك بعد أن أخذَنا أصحاب الدعوة من تلامذة الأستاذ “محمد فتح الله كولن” في جولة سياحية وعلمية، رأينا فيها عدداً من المشروعات الحديثة فائقة الروعة في شكلها ومضمونها، أو في مبانيها ومعانيها: مدرسة وجامعة ومستشفى وصحيفة وتلفزيون؛ كما رأينا فيها سلسلة من الآثار التاريخية النادرة وفي مقدّمتها المساجد والقصور التي تشتهر بها تركيا عامة، وإسطنبول خاصة؛ والمتاحف وأهمها متحف “طوب قابي” الذي يضمّ آثار العهد العثماني.
شخصية الأستاذ “فتح الله كولن”
والأستاذ “فتح الله كولن” هو من الشخصيات ذات الأثر الواسع داخل تركيا وخارجها، ويحتاج إلى أكثر من مقالة لتعريف القارئ العربي به وبأفكاره ومنهجه في الإصلاح. وهو ممن استوعب منهج بديع الزمان النورسي في فهم الإسلام، وقد استطاع أن يقدم رؤية خاصة به في الإصلاح والدعوة، وله عديد من المقالات والمؤلفات القيمة، كما أن له تياراً واسعاً المحبين له والمتأثرين برؤيته الحضارية، منهم نسبة مؤثّرة من رجال الأعمال والأثرياء الذين يتولون تمويل المشروعات الخيرية التي أكد الأستاذ على أهميتها وحث على تفعيلها طوال حياته، وما أكثرها، وذلك من خلال نظام الوقف المنتشر على نطاق واسع في تركيا، حتى إن لكل مرفق أو خدمة “وقفاً” يوفر المال اللازم لتمويل المشروعات والبرامج التي يقدمها، ويغْني تلك المؤسسات والمشروعات عن ذل الحاجة إلى التمويل الأجنبي الذي ابتليتْ به كثير من بلداننا العربية.
نعود إلى بقية فوائد السفر القديم وهي “اكتساب العلم والآداب وصحبة الماجد”، وقد حصلت من ذلك قدر استطاعتي. وقد حفزتني الرحلتان إلى أمريكا وإلى تركيا إلى ضرورة إعادة النظر فيما قاله السابقون عن فوائد السفر القديم، واكتشفتُ فوائد جديدة تزيد كثيراً على ما ذكره قدماء المسافرين. ومما اكتشفته: اكتساب الخبرة، ونقد الذات، وإدراك القواسم المشتركة بين بني آدم أينما كانوا وحيثما حلوا، وتبادل الدروس الإنسانية، ومقارنة المدارس التعليمية والتربوية بين الشرق والغرب، وغير ذلك مما يطول شرحه ويصعب حصره هنا. ووجدت أن لكل فائدة مدرسة تنتجها، ودروساً تعبّر عنها. ومن الموافقات الحسنة وجود أوجه شبه مثيرة بين مدارس ودروس السفر إلى دايتون في أمريكا، ومدارس ودروس السفر إلى “أبنت” في تركيا، وهذه هي خلاصتها:
مدرسة في التربية والتعليم، ودرس في العطاء
على الجانب الغربي وفي “دايتون” كانت المدرسة -بالمعنى الواسع لكلمة مدرسة- هي مؤسسة “كاترنج” التي ترعى عديداً من البرامج التعليمية والتدريبية والبحثية، وتقوم بتمويلها من عوائد وقفيتها الخاصة، وتركّز منذ عقود على قضية أساسية هي ما تطلق عليه “الديمقراطية التداولية”، أو “الديمقراطية التشاورية”. أما درس العطاء فقد لمستُه من أغلب العاملين في “كاترنج” بدءً بريئس المؤسسة ديفيد ماثيوس، مروراً بمساعديه بمختلف مستوياتهم. حقيقة وجدتهم يعملون بروح الفريق، وبدافع قوي لا يمكن أن ينبع إلا من الإيمان بالرسالة التي تقوم بها المؤسسة في خدمة العلم والمعرفة بشكل عام، وفي تقدم المجتمع الأمريكي بشكل خاص.
أما على الجانب الشرقي وفي “إسطنبول”، فقد كانت المدرسة -بالمعنى الواسع أيضاً- عبارة عن سلسلة من المشروعات والمؤسسات التعليمية والبحثية والثقافية، تعتمد في تمويلها على رَيع وقفيات -أيضاً كما في حالة كاترنج الأمريكية- خصصها رجال أعمال ومحسنون أتراك، أغلبهم من تلامذة الأستاذ “فتح الله كولن”. هي مدرسة ذات طابع مختلف عن مدرسة “مؤسسة كاترنج”، ولكنها تقوم بمهمات مماثلة في نشر العلم وإنتاج الثقافة وبناء مجتمع المعرفة، وتسعى للإسهام بجدية بالغة في تقدم المجتمع التركي خاصة، وفي إسعاد الإنسانية عامة. أما درس العطاء فقد لمسته، كما لمسه جميع رفقائي في الرحلة، في الأداء رفيع المستوى، بالغ الإتقان لكل من قابلناهم في تلك المؤسسات، وليس ثمة مصدر يدفعهم لذلك سوى الإيمان العميق بالرسالة التي يؤدونها. وكان لافتاً للنظر أنك لا تستطيع أن تحدد أيهما أكثر روعة: العنصر البشري العامل في تلك المؤسسات من الشباب والشابات، أم تلك المؤسسات نفسها. وذات مرة قلت لأحد رفقاء السفر: ما أروع هذا المبنى، فرد قائلاً: الأروع هم هؤلاء البشر المتفانون في عملهم. قلت: لن نختلف كثيراً؛ فمبنى رائع كهذا لا بد أن يشيّده ويديره أناس رائعون كهؤلاء.
أحد المحسنين الذين قابلناهم هو “الحاج علي كَرْوَانْجِي”، رجل أعمال عصامي، لفت نظره أن الأستاذ “فتح الله كولن” يحرص بإصرار على أن لا تمس يدُه أموالَ المتبرعين لأعمال الخير التي يدعوهم لها، فقرر أن يقف ثروته وحياته للأنظمة الإنسانية التي يشجع عليها؛ فبنَى سلسلة بديعة من المدارس ومسجداً أنيقاً إذا دخلته تحب أن تبقى فيه ولا تخرج منه، من فرط الراحة التي تشعر بها وأنت داخله. وأمثال الحاج “علي كروانجي” كثيرون في تركيا، وبفضل عطائهم نشأت مؤسسات ومشروعات حضارية بكل ما تحمله كلمة “حضارة” من معنى.
مدرسة في الأخلاق ودرس في التسامح الإنساني
على الجانب الغربي وفي “إنديانا” هذه المرة كانت مدرسة الأخلاق -بالمعنى الواسع لكلمة مدرسة كذلك- هي جامعة “نوتردام” الكاثوليكية. والحقيقة أنني لم أتوقع وجود مثل هذه النـزعة الأخلاقية من حيث الأصل في بلد مثل أمريكا. وجامعة نوتردام هي من الجامعات المحافظة بكل المعاني التي تشير إليها كلمة “المحافظة”. وقد أتيح لي أن أطلع عن كثب على أحد المعاهد التابعة لها، وهو “معهد كروك”، وتحدثتُ مع مديره “سكوت أبلبي”، ومع عدد من الباحثين والموظفين، وكان أكثر ما شدّ انتباهي هو المناخ الأخلاقي الذي يعمل فيه الجميع، استناداً إلى قاعدة قوية من التعاليم الدينية الكاثوليكية، ربما كان أفضل مَن يجسدها هو مدير معهد كروك الدكتور القسّ سكوت أبلبي. قال لي: “لو خُيرت بين أن أشغل أعلى منصب في الدنيا، وبين البقاء في هذه الجامعة لاخترت البقاء في جامعة نوتردام”. أما الدرس الأكثر تأثيراً فيمن يدخل هذه المدرسة فهو درس التسامح الإنساني، الذي عبرتْ عنه ليس فقط كلماتُ من قابلناهم في المعهد، ومشاعرُهم الودودة تجاهنا، رغم علمهم أننا شرق أوسطيّون، وإنما أيضاً وجودُ أناس مختلفي المواقف من الدين ذاته، ومن الكاثوليكية نفسها التي هي جزء من اسم جامعة نوتردام. فهناك مسلمون، ويهود، ومسيحيون، ودهريون”، وكأن لِسان الحال يردد قول الله تعالى ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون:6)، وكذلك عبرتْ عن هذه النـزعةُ الإنسانية المشروعات والبرامج البحثية والتعليمية التي تستهدف في أغلبها دعم قيم الحوار والسلام والتسامح بين مختلف الشعوب والأمم.
أما على الجانب الشرقي، وفي مختلف المشروعات التي زرناها في إسطنبول وفي مدينة “بُورْصَهْ”، تجلّت مدرسة الأخلاق بأبهي ما يكون التجلي؛ وإذا قارنّاها بمدرسة “نوتردام” الأمريكية التي أومأْنا إليها، سنجد أن مدرستنا في تركيا أعمق جذوراً، وأكثر غصوناً، وأصدق قيلاً، وأتقن فعلاً؛ فهذه جامعة، وهذا مستشفى، وتلك صحيفة، وهذه مدرسة ابتدائية، وهذا تلفزيون… جميعها في إسطنبول، وبعضها له أفرع خارج إسطنبول، وكلها مؤسسة على أحدث تكنولوجيا العصر؛ حتى إنها تُبهر الزائر وتجعله لا يصدّق ما تراه عيناه، وربما يشعر أنه في حلم وليس في “علم” يراه رأْي العين، فلا يملك إلا أن يقول “ما شاء الله لا قوة إلا بالله”، ولا يملك إلا أن يدعو للقائمين على تلك المؤسسات بالسداد والتوفيق، ولا يملك إلا أن يتحسر على أحوال بلاده المتردية -كما هو حالنا- في أغلب المؤسسات والمرافق الحكومية وغير الحكومية. والأمر المهم في كل ذلك هو أن تلك المشروعات على تنوعها نبعت من أصل واحد هو الروح الإسلامية، والأخلاقية الإسلامية، التي تحض في أحد مبادئها على حتمية أن يُتقن الإنسان عمله، وذلك انطلاقاً من قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه”(1)، وقد شهدنا بما علمنا ورأينا أن هؤلاء المسلمين الأتراك قد أتقنوا ما عملوه من مشروعات عالية الجودة، فائقة التقدم، وافرة النفع للمجتمع والدولة، للمسلمين ولغير المسلمين، دون تفرقة، أو تمييز. وفي كل مؤسسة من تلك المؤسسات لمسنا درس التسامح الإنساني في عمقه الإسلامي. ومن أفضل التعبيرات عن هذا الدرس ما قاله بعفوية أحد المسؤولين عن تلك المؤسسات وهو: “إذا تحدث العالم عن الإنسان، فنحن المسلمين أول من يحب البشر، ونحب الكون؛ لأن الله خلق هذا وذاك، وعلينا أن نتحاور مع الآخر بهذه الروح، حتى وإن كان يفكر بطريقة مختلفة عنّا”، و”إن الغاية من هذه المؤسسات هي تنشئة أجيال صالحة تعمل لخير الإنسانية”. أنا قرأتُ كل تلك المشروعات الراقية باعتبارها تطبيقاً لمدرسة الأخلاق الإسلامية العملية، وباعتبارها درساً في التسامح الإسلامي الإنساني، وهذا هو لب الرسالة الإسلامية؛ إذ ليست تعاليم الإسلام مجرد كلام نظري، بل هي قول وعمل، وإيمان وتطبيق، وهذا ما رأيناه بأمّ أعيننا هناك في تركيا، ونود أن نرى مثله في بقية البلدان العربية والإسلامية.
مدرسة في المجتمع المدني ودرس في المشاركة
هناك في “دايتون” اطلعنا على مدرسة متكاملة في “المجتمع المدني”، أو ما يمكن أن نسميه “السياسة المدنية”، بالمعنى الذي قصده الفارابي وابن خلدون وغيرهما من أعلام الفكر الإسلامي، وهذا المعنى يركز على التدبر في كيفية تسيير شؤون الناس اليومية بأفضل طريقة تكفل تحقيق مصالحهم المادية والمعنوية معاً. هذا هو جوهر معنى السياسة المدنية، أو المجتمع المدني كما قدمه علماؤنا السابقون، ويطبقه الأمريكيون فيما بينهم وعلى مستوى قضاياهم الداخلية على الأقل. وهذا هو ما رأيته وأدركته من خلال مشاركتي في الملتقي السنوي لمؤسسة كاترنج حول “الديمقراطية التداولية”. وسواء اقتبسوا هذا المعنى المدني للسياسة من عُلمائنا أم توصلوا إليه باجتهادهم فالنتيجة واحدة، وهي أنهم جادّون في البحث عن كيفية تفعيله في واقعهم الاجتماعي، وكيفية إعادة المواطنين إلى المجال العام والمشاركة في قضايا هذا المجال والابتعاد عن العزلة.
وقد دأبتْ مؤسسة كاترنج منذ خمسة وعشرين عاما على تنظيم حلقات نقاش حول قضايا الديمقراطية، واستطاعت أن تقدم للمجتمع الأمريكي مجموعة من الإسهامات المهمة النظرية والتطبيقية، التي استهدفت حل المشكلات التي تعترض المواطنين في علاقاتهم بالسلطة والسياسة والشؤون العامة من جهة، وبناء ثقافة السياسة المدنية وتفعيلها على أرض الواقع من ناحية أخرى، وهذا هو جوهر “درس المشاركة” الذي جعلته مؤسسة كاترنج نصب عينها منذ عدة عقود. ويتضح من مراجعة البرامج والمشروعات البحثية التي ترعاها كاترنج أنها تشعر بأن الديمقراطية الأمريكية في خطر نتيجة تزايد حالة العزلة والاغتراب بين المواطنين، وعدم الاهتمام بالشؤون العامة، ومن ثم اجتهدت المؤسسة في البحث عن الطرق الكفيلة باستدعاء دور الشعب من جديد، وإعادة اكتشاف المواطنة، وبالتالي ترميم الثقافة المدنية التي تمهد لإشراك الشعب في الحياة السياسية من جديد.
وفي “أبنت” التركية اطلعنا على برامجِ ومشروعاتِ مدرسة أخرى في “المجتمع المدني” بالمعنى السابق شرحه، وشاركنا في لقائها الدوري للحوار والتداول في الشئون العامة التي تهم تركيا وتهم غيرها من بلدان منطقة الشرق الأوسط. وقصة “منتدى أَبَنْتْ” كمؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني بدأت قبل نحو عشر سنوات بهدف لـمّ شَمل المثقفين والأكاديميين الأتراك من كل الاتجاهات السياسية والفكرية والمذهبية، والانتقال من حالة الاحتراب والصراع إلى حالة السلم الاجتماعي والتعاون، وبهدف تقوية الثقافة المدنية السلمية داخل المجتمع التركي، ثم اتسعت اهتمامات المنتدى بعد ذلك إلى خارج تركيا من أجل تحقيق الأهداف ذاتها ولكن على مستوى عالمي. ويعتبر “منتدى أبنت” أحد المؤسسات التابعة لـ”وقف الصحفيّين والكتّاب” الذي كان قد تأسس بمبادرة من الأستاذ “فتح الله كولن” سنة 1994.
سمعنا من رئيس وقف الصحفيين والكتاب قصة نشأة الوقف، وكيف تطورت أهدافه ونمت مشروعاته، وكيف انبثقت منه فكرة منتدى “أبنت” للحوار، وكيف أضحى المنتدى مستقلاً في إدارته وفي نشاطاته عن وقف الصحفيين والكتاب. وتبين أن الفكرة الأساسية الموجهة لهذا المنتدى هي فكرة “الحوار المدني”، وهي من أفكار الأستاذ “فتح الله كولن” من أجل تكوين قاعدة صلبة للمشاركة في الشؤون العامة، والتوصل إلى أفضل الحلول للمشكلات التي تواجه المجتمع التركي، ثم اتسعت آمال أصحاب المنتدى إلى النطاق العالمي، وأضحى المنتدى “نموذجاً” يبرهن على إمكانية التعايش بين المختلفِين، والتعاون فيما هو متفق عليه، واحترام وجهات نظر المخالفين، مع إعمال التفكير النقدي فيها لتوسيع القواسم المشتركة وتضييق مواطن الاختلاف قدر المستطاع.
درس “المشاركة” في الشأن العام انطلاقاً من مفهوم المجتمع المدني والسياسة المدنية، عبّر عنه بعض المشاركين في منتدى “أبنت”، ولكن بطريقة مختلفة عن تلك التي وجدناها عند مؤسسة كاترنج في دايتون الأمريكية؛ هناك في دايتون كان همهم الأساسي هو كيف يمكن تقوية الثقافة المدنية الكفيلة باستعادة المواطنين إلى السياسة وشؤون المجال العام، وكيف يمكن ترميم الديمقراطية الأمريكية بعد أن أصابها الوهن وتهدمت بعض دعائمها. أما في “أبنت” فقد كان الهم الأساسي هو كيف يمكن بناء المجال العام، وكيف يمكن تهيئة البنية الأساسية للممارسة الديمقراطية، أو الشورية. كان ذلك واضحًا في الملتقيات الماضية للمنتدى، وحتى في الملتقي الأخير في يوليو الماضي -رغم أن موضوعه كان عن سياسات العولمة وانعكاساتها على مستقبل الشرق الأوسط- وقد عبر عن هذا الدرس بوضوح وعمق في آن واحد البروفسور “كمال كَارْبَات” -وهو أحد أشهر أساتذة التاريخ في تركيا- وذلك عندما شدد في كلمته بالمنتدى على أن لب المشاكل التي تعاني منها بلدان الشرق هي “أن المجال العام في هذه البلدان لم يتطور، ولذلك اتسعت الفجوة بين الشعوب والحكام، وما لم يتطور المجال العام، وينخرط فيه أكبر عدد ممكن من المواطنين، فسوف يظل الاستقرار بعيد المنال، وسوف يظل التحديث ضرباً من الخيال”. هكذا تحدث كمال كَاربات، والحق معه فيما قال. هناك مشوار طويل أمام مجتمعاتنا في الشرق لتعلم درس المشاركة وتحويله إلى ممارسة مؤسسية، وهذا أحد أهم الدروس التي تجتهد فيها “مدرسة المجتمع المدني في تركيا”، ويسهم فيها منتدى أبنت بسهم وافر.
بعد الرحلتين؛ إلى الولايات المتحدة الأمريكية في الغرب، وإلى تركيا في قلب الشرق، وبعد أن تبين ما هنالك من هموم مشتركة، وجهود متشابهة تسعى للتغلب على المشكلات التي تعاني منها الإنسانية المعاصرة، قلت: لا بد من إعادة النظر في قول كيبلنج -شاعر الإمبراطورية البريطانية العجوز- “الشرق شرق، والغرب غرب، وهيهات أن يلتقيا”، فهما قد يلتقيان، وقد بدءا يلتقيان في بعض الحالات، حتى وإن حاول محترفو السياسة الإبقاء على الفرقة بين الشعوب والأمم. فمن مصلحة البشرية أن يلتقي بنو آدم جميعاً؛ كانو في الشرق أم في الغرب، في الشمال أم في الجنوب. وقبل أكثر من خمسة عشر قرناً قرر الإسلام العظيم المساواة بين البشر جميعاً، وأكّد أن كلنا لآدم وآدم من تراب، وأنه لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح.
____________________
الهوامش
(1) مجمع الزوائد للهيثمي، 4/98.
المصدر: https://hiragate.com/%D9%85%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D8%B3-%D9%88%D8%AF%D8%B1%D...