الإسلام بين الثقافيّ والمعرفيّ
يلعب الدين الإسلامي، بوجه خاص، الآن على الساحة العامة دورًا مهمًا وشديد الخطورة في معظم البلاد العربية الإسلامية، وفي تحديد العلاقات بين بلدان العالم (العربية والغربية على السواء)، خاصة بعد ثورات الربيع العربيّ، وما لحقها من تغيّرات اجتماعية وسياسيّة، وظهور حركات وتيارات متطرفة، اتُهمت من قِبل معظم بلدان العالم بالتعصّب تارة والعنف والإرهاب تارات، وفي حين أكّدت بعض البلاد الغربية على أنّ هذه التيارات تُطبّق ما جاء في الدين الاسلامي، فإنّ دعاة ومشايخ البلاد الإسلامية في المقابل قد مضوا في تبرئة هذا الدين من تهمة الجناية عليه، مكتفين برفع شعار "الإرهاب لا دين له"، علاوة على ذلك انتشار ظاهرة الغلوّ في التعصّب المذهبي والطّائفي وانتشار خطاب التكفير وازدراء الأديان، ولعل ذلك يستدعي وجوب النظر في مفهوم الدين ذاته.
وإذ يبدو أنّ المقالة معنية بوجه خاص بالدين الإسلامي، نظرًا لما يحدث الآن على الساحة مرتبطًا بالضرورة بهذا الدين، وخصوصًا في علاقة معتنقيه (المسلمين) بغيرهم من أهل الكتاب، فإن التمييز بين الثقافي والمعرفيّ داخل حقل الدين الإسلامي، هو من قبيل التمييز بين الثقافي والمعرفيّ بين هذا الدين والأديان السماوية الأخرى (اليهودية والمسحية).
فإن جاز القول بأنّ الثقافي في الأديان هو ما ارتبط بمقوّمات اجتماعية وثقافية وسياسية محدّدة استدعت ظهور فرق وتيارات صاغت آراءها ومواقفها بالتأويل والاجتهاد في فهم النصوص الدينية الخاصة بها بناءً على تلك المقوّمات، فإنّ المعرفيّ هو من قبيل القواسم المشتركة والثوابت ذات الأبعاد القيمية الأخلاقية التي تتّحد فيها هذه الأديان عامة والجماعات الخاصة داخل كلّ ديانة على حدة.
الدين الإسلامي من منظور ثقافي:
لعل الإشكالية لا تتمثّل بالطبع في الدعوة إلى ضرورة تطبيق الشريعة الاسلامية التي ظهرت بوادرها مع بدايات القرن العشرين، بل تتمثل بالأساس في كيفية التطبيق، لاسيما وأنّ الاستشهاد عادة لا يتمّ بالشريعة الاسلامية، بل بالآراء والأحكام التراثية الفقهية - الإيديولوجية السلطوية - منها بالذات. وعلى الرغم من تصدّي الخطاب النهضوي بوجه خاص لهذه الدعاوى مؤكدًا على ضرورة التمييز بين النصوص الدينية وبين النصوص التراثية التي دخلت في جدل وحوار مع هذه النصوص التأسيسية للحضارة الاسلامية، وأنتجت فيما يبدو اجتهادات ودلالات خاضعة بالطبع لسياقات المجتمع التي نشأت فيه، لاسيما وأنّ من الطبيعي أن تختلف الدلالات من مجتمع لغيره، ومن عصر إلى غيره كذلك، هذا الذي من الضروري أن يكون اليوم في حكم المسلّمات البديهية!
إلاّ أنّ هذه الدعاوى قد دخلت اليوم في حيّز التطبيق الفعلي لها من قِبل التيارات الجهادية، مما يُحيل بالطبع إلى أنّ الأمر الآن لا يتوقّف فحسب على أهمية التمييز بين النصوص الدينية ونظيراتها التراثية، بل لابد أن يتجاوز ذلك إلى محاولة فهم النصوص الدينية ذاتها فهمًا معرفيًا.
ولطالما كان الدين في الاعتقاد العام، هو كل ما هو مفارق لعالمنا العيني المحسوس منتميًا بالطبع لعوالم ميتافيزيقة مجرّدة، فإنّ النصوص الدينية السماوية بوجه خاص، ممّا يُعبّر عنها بمفهوم "الوحى"، بما أنّها رسالة بين طرفين أحدهما إلهي مجرّد، والآخر بشري محسوس، إلى جانب تجسيدها في لغات بشريّة عينيّة، فإنّه - وفقًا لذلك - يستحيل الحديث عن دين ميتافيزيقي خالص، يتشكل في الفراغ، وإنّما يتشكّل بالأحرى في قلب مجتمع خاضع لسياقات ثقافية تاريخية محدّدة، يتفاعل فيه وينفعل به.
وإذا كان القرآن هو الأصل التأسيسي للدين الاسلامي، فإنّه يلزم التنويه بأنّ هذا القرآن أو بالأحرى - المصحف العثماني المتعارف عليه الآن -، لم يتنزّل على الناس ممّن عاصر تنزيله وتشريعه بالطبع، دفعة واحدة من السماء إلى الأرض، بل كان يتنزّل طبقًا لحاجة الواقع ومقتضياته، وهذا الذي لا خلاف عليه بين المسلمين كافة علمائهم وعامتهم قديمًا وحديثًا، بل ربما سيكون الخلاف بالأحرى حول ما سيترتب بالضرورة على تفاعل القرآن وحواره مع واقع تنزيله، وهذا هو بيت القصيد - إذا صح التعبير -ومن ثمّ سنحاول تحت هذا العنوان توضيح التمييز بين النصوص (الدينية/ التراثيّة) ممّا يشير إلى خضوع هذه الأخيرة إلى سياقات تاريخية محدّدة، تتوقف بطبيعة الحال على الواقع السوسيو ثقافي الذى أُنتجت فيه، وعلى الأُطر المعرفية لمنتجيها، وكذلك محاولة بيان أنّ هناك ما في النصوص الدينية ذاتها، ما هو خاضع بالأساس لهذه السياقات الثقافيّة التاريخيّة.
ولعل مثالاً على ذلك يتأتى من كيفية تعامل القرآن مع قضايا أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وحصرًا ما تعلق بزواج المسلمين من أهل الكتاب، ولئن خلا القرآن من نصّ صريح يُحرّم زواج المسلمين من الكتابيّين، إلاّ أنّ الخطاب الفقهى قد أقر بمثل هذا التحريم اعتمادًا على قوله: {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا...} (البقرة: 221)، وفي هذه الآية تحريم على المسلم ألاّ يتزوّج من مشركة، وعلى المسلمة ألاّ تتزوّج من مشرك، وإذ يبدو أنّ الآية المستند إليها غير معنيّة بأهل الكتاب، إنّما بالمشركين. والمشركون - كما هو متعارف عليه - هم من أشركوا بالله سبحانه وتعالى، أمّا أهل الكتاب فإنّهم موحّدون بالله، أي أنّهم يشاركون المسلمين في عبادة الله ولا يشركون به شيئاً، إلاّ أنّ المفسّرين والفقهاء قد أدرجوا أهل الكتاب ضمن المشركين المعنيين بالآية، حتى نُقل عن "عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال: حرّم اللهُ المشركاتِ على المؤمنين، ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، أو عبد من عباد الله!"([1]).
فلمّا نزل قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ "الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ..} (المائدة: 5) نسخ النهي عن زواج المسلم من الكتابية، مع إبقاء النهي عن زواج المسلمة من الكتابيّ وذلك بحسب ما أقرّه الطبري - على سبيل المثال - في تفسيره عن "عكرمة والحسن البصري قالا: "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ"، فنُسخ من ذلك نساء أهل الكتاب، أحلّهُن للمسلمين"([2])
وإذ يبدو كذلك أنّ النهي عن زواج المسلمة من الكتابيّ بحسب الخطاب الفقهي، ليس تمييزًا دينيًا بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب بقدر ما هو تمييز اجتماعي جندري بين الرجال والنساء على العموم، وهذا بدليل بعض التفسيرات المعاصرة التي تُقدّم في هذا الشأن. فإذا تذكّرنا ما قاله شيخ الأزهر أثناء المؤتمر الذى حضره في ألمانيا في شهر مارس من هذا العام (2017)، حينما سُئل عن هذه المسألة أجاب بأنّ زواج المسلم من الكتابية لا يمثل أي تهديد لحريتها الدينية، لأنّ المسلم يعترف بديانة أهل الكتاب. أمّا في حالة زواج المسلمة من الكتابيّ، فهذا يهدد حريتها الدينية، لأنّ أهل الكتاب لا يعترفون بالإسلام.
إنّ التعليل الذي يقدّمه الشيخ ينطلق من سيادة الزوج على الزوجة أو الذكر على الأنثى بوجه عام، فهو بذلك يعتبر المرأة غير كاملة الأهلية وليست لها حرية الاختيار، خاصة حرّيتها الدينية التي كفلها لها القرآن بنصّه {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ..} (البقرة: 256)
وهناك تعليل اجتماعي آخر يُقدّم في هذا الشأن، وهو مسألة النسل، لأنّ في معظم المجتمعات العربية يكون الأبناء منتسبين إلى ديانة الأب، وهذا من شأنه أيضاً أن يهدّد الحرية الدينيّة التي تنزّلت الشريعة بمقتضاها.
إنّ هذه التعليلات لعلّها تنطلق من مفهوم القوامة "أي قوامة الرجل على المرأة" الذي مازال فعّالا في واقعنا المعيش، بالرغم من أن مجتمع شبه الجزيرة العربية التي شُرعت فيه مثل هذه المفاهيم كان مجتمعا يُعلي من شأن الرجل على المرأة، فشرّعت آيات اجتماعية متوافقة مع هذا الوضع، فجعلت للرجل القوامة على المرأة، وبالرغم كذلك من أنّ الآية المعنية هنا وهي قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ..} (النساء: 34)، قد جاءت مشروطة بِشَرْطَيْ الأفضلية والإنفاق، بما يعنيه ذلك من أنّ الرجال قوّامون على النساء بمدى تحقيق هذين الشرطين، وفي حالة سقوطهما، "أي شرطي الأفضلية والإنفاق"، فحينئذ ستسقط بالتبعيّة هذه القوامة.
علاوة على ذلك، فهذه الآية وغيرها من الآيات الاجتماعية التي ظاهرها يبدو تمييزًا بين الرجل والمرأة لا يمكن تفسيرها بمعزل عن الواقع الاجتماعي التي تنزّلت فيه، وهو واقع كان قوامه التمييز بشتى أنواعه، وكانت فيه المرأة أقرب إلى المتاع تُباع وتُشترى. وكذلك الآيات الخاصة ببيان علاقة المسلمين بأهل الكتاب، فإذا كانت هناك آيات تُشير إلى التمييز بينهم فلا يمكن تفسيرها بمعزل عن واقع تشريعها، خاصة وأنّ المسلمين في ذلك الوقت كانت لهم السيادة التامّة سواء الدينيّة أو حتّى السياسية.
أمّا الآن في واقعنا المعيش، وبعد أن تغيّر وضع المرأة وأصبحت لها ما للرجل سواء بسواء، فيجوز تفسير هذه الآيات بما يتفق مع المساواة الكاملة بين الناس جميعًا لا بين النساء والرجال فحسب، وذلك بحسب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: 1). وفي ضوء هذه المساواة التامة لابدّ من إعادة النظر في علاقة المسلمين بأهل الكتاب، ولعل ذلك يتوافق بالضرورة مع الدلالة المعرفية لمفهوم الدين ذاته.
الدين الإسلامي من منظور معرفيّ:
لقد ساد اعتقاد فحواه أنّ الدين هو الإسلام، بما ينطوي على هذا من دلالة توحي بأن الإسلام هو الدين الصحيح، الدين الحق، مقارنة بالأديان الأخرى حتى السماوية منها بالطبع، ولعلّ الأمر لا يقف عند مجرّد هذا التعريف، بل قد تطوّر بعد ذلك ليشمل الأصول الاعتقادية والفروع العملية المتضمنة في الخطابات الدينية ذات الاجتهادات البشرية([3]).
إنّ الآية التي طالما كانت هي موضع الاستدلال في هذا الشأن، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(آلعمران: 19)، ربّما تنطوي بالأساس على دلالة معرفية، تتباين بالطبع مع الدلالة التقليدية السائدة لها، فإن الدين الذى هو الإسلام بحسب هذه الآية "هو دين الله الذي شرّع لنفسه، وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه، لا يقبل غيره ولا يجزي إلاّ به"([4]).
وإذا جاز القول إنّ الإسلام في الدلالة القرآنية هو الإيمان بوحدانية الله تعالى، وإخلاص الدين له سبحانه، لاسيما كانت وحدانية الله والإيمان به هو أصل أصول الدين، التي تعارفت عليه كل الأديان السماوية. فالإسلام إذن بما هو "الدين"، هو المقاصد الكلّيّة التي يجب الإيمان بها بدلالة قوله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَام فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَال ٍمُّبِينٍ} (الزمر: 22)، وذلك بنحو ما أقرّه الطبري في تفسير هذه الآية بقوله: "أفمن فسح الله قلبه لمعرفته والإقرار بوحدانيته والإذعان لربوبيته، والخضوع لطاعته، فهو على بصيرة مما هو عليه".([5])
ومن ثمّ فبحسب هذه الآية وغيرها ممّا اشتمل على لفظ الإسلام حصراً([6])، يأتي الإسلام بمعنى الإيمان والتوحيد وتسليم الوجه لله، بما يعنيه ذلك أنّ الدين ليس هو فحسب الدين الذى بُعث به النبيّ محمد، بل هو بالأساس الدين الذي بُعث به الأنبياء كافة([7])، والذي يحقق ذلك أنّ الدلالة التى ينطوي عليها مفهوم الدين في القرآن تتوافق كليةً مع هذه الدلالة لمفهوم الإسلام وذلك في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّين مَا وَصَّى ٰ بِه نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَاتَتَفَرَّقُوا فِيهِۚكَبُرَ علَى الْمُشْرِكِينَ مَاتَدْعُوهُم إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}(الشورى: 13) أي "شرع لكم من الدين دينا تطابقت الأنبياء على صحّته، والمراد من هذا الدين شيئاً مغايراً للتكاليف والأحكام، وذلك لأنّها مختلفة متفاوتة"([8])، فالدين المغاير للأحكام هو أصله وجوهره، هو المقاصد الكلّيّة الجوهرية المتعارف عليها في كلّ الأديان، إذ "هو الإيمان بالأصول الدينيّة التي هي حقائق خالدة لا يدخلها النسخ ولا تختلف باختلاف الأنبياء"([9]) بل إنّ هذه الآية السالفة من سورة الشورى، قد توحي بأنّ مفهوم الشريعة في الدلالة المعرفية، يتباين بالطبع مع الدلالة التقليدية له، التي تحصر الشريعة في جانبها الحدودي الاجتماعي فحسب، وبالتالي فهو يتوافق تمامًا مع مفهوميْ الدين والإسلام، وذلك من خلال الدلالة التي تنطوي عليها هذه المفردة "الشريعة" في قوله تعالى: {ثُمّ َجَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(الجاثية: 18)، أي "جعلناك على طريقة من الدين، ولا خلاف في أنّ الله لم يُغاير بين الشرائع، في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنّما خالف بينها في الفروع، أي الأحكام والتكاليف".([10])
ولئن كانت الأحكام والتكاليف الاجتماعية في الأديان السماوية هي من قبيل المرحلي الظرفي، الذي ارتبط تشريعه بواقع تنزيله، فإنّ الإيمان بالله وتأكيد وحدانيّته، والعمل الصالح الذي يتحدّد في صورة بعض الأوامر والنواهي تتمثل في الدعوة إلى قيم ومبادئ أخلاقية محدّدة لإصلاح الناس وتقويم سلوكهم، كالنهي عن القتل، والسرقة، وإيتاء الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والدعوة إلى الإحسان والبرّ وفعل الخير، هي من قبيل المقاصد الجوهرية والمبادىء الكلية المجاوزة للزمان والمكان، وأنّ هذه المبادئ غير مقصورة على اتباع دين بعينه من الأديان، وبنفس القدر غير مقصورة على اتباع نبي بعينه من الأنبياء، لاسيما وأنّ القرآن لم يتوارَ في الإعلان بأنّ الإيمان بالله والعمل الصالح، هما فحسب ما يتحدّد على أساسهما الأجر والجزاء الأخروي، بحسب ما تجلّى في قوله تعالي: {إِنّ َالَّذِين َآمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَن َبِاللَّهِ وَالْيَوْم ِالْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِند َرَبِّهِم ْوَلَاخَوْفٌ عَلَيْهِم ْوَلَاهُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62)، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَن َبِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَاخَوْفٌ عَلَيْهِم ْوَلَاهُم ْيَحْزَنُونَ} (المائدة: 69).
إنّ القول بضرورة التمييز بين الإسلام الثقافي والإسلام المعرفيّ - إن جاز هذا الوصف - هو من قبيل التمييز بين الممارسات الاجتماعية والسياسية للمسلمين الأوائل، وبين الإسلام ذاته كنصوص دينية مشرّعة - لاسيما وأنّ الإصرار على اعتبار "الأسلاف" تمثيلاً للإسلام وتعبيرًا عنه، هو بالمثل من قبيل اعتبار الأخلاف - "داعش" على سبيل المثال - تمثيلاً كذلك للإسلام وتعبيرًا عنه - بل والتمييز داخل هذه النصوص ذاتها بين ما هو مرحلي تاريخي وبين ما هو جوهري مقاصدي، ممّا يؤدي إلى تجاوز تفسيرات الفقهاء القدامى الذين تأثّرت تفسيراتهم بحدود التطوّر الذهني والفكري في المرحلة التي عاشوا فيها ودرجة التطوّر الاجتماعي والثقافي السائد، والذي يسعى اللاهوت الإسلامي، ويا للغرابة، إلى تكريس تفسيراتهم باعتبارهم ناطقين باسم الله عَزَّ وجَلَّ.
إنّ العلاقة بين الثقافي والمعرفيّ في الإسلام قديمًا مثّلت تداخل وتمازُج تطلَّب استمرارية الإسلام مع المجتمع الذي ظهر فيه من ناحية، وقطيعة مع المُثُل السائدة فيه من ناحية أخرى، في آنٍ واحد. أمّا حديثًا، فالأمر يتطلَّب قطيعة مع الثقافي السالف، حتّى المؤسَّس منه على نصوص دينيّة مقدّسة، وذلك لتباينه مع الثقافي السائد الآن من جهة، وتجاوز المعرفيّ له من جهة أخرى، مما يُتيح، ربّما، تجاوز شعار "تجديد الخطاب الديني" إلى إنتاج خطاب ديني جديد.
[1] الجصّاص، أحكام القرآن، دار إحياء التراث العربى، 1992م، ج2، ص 15، وانطر كذلك، القرطبى، الجامع لأحكام القرآن، مؤسسة الرسالة، ت: عبد الله بن عبد المحسن التركي، بيروت، الطبعة الأولى، 2006م، ج3، ص 64
[2] الطبري، جامع البيان عن تأويل آى القرآن، دار المعارف، مصر، تحقيق: محمود محمد شاكر، بدون سنة نشر، ج4، ص 370
[3] وعلاوة على ذلك دخل المفهوم فى الصراعات المذهبية، وذلك نتيجة للخلاف الذي أُثير حول مسألة الكفر بارتكاب الكبيرة، فالأشعرية لا يكفّرون أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه ما لم يرتكبه مستحلاً له غير معتقد تحريمه، خلافًا للخوارج القائلين بأنّ مرتكب الكبيرة يكفّر ويزول عنه الإيمان، وخلافًا للقدرية والمعتزلة القائلين بأن يخرج من الإيمان ولا يدخل فى الكفر، فيكون بين الكفر والإيمان"، انظر أبا الحسن الأشعري، الإبانة عن أصول الديانة، مكتبة دار البيان، تحقيق: بشير محمد عيون، الطبعة الثالثة، 1990م
وقد أُثيرت هذه المسألة حديثًا، عندما رفض الأزهر تكفير داعش، متبنّيًا موقف الأشاعرة المعبّر عن موقف أهل السنّة، فقد نفى "محيي الدين عفيفي" أمين عام مجمع البحوث الإسلامية، في تصريح منه للإعلام المصري، تكفير الأزهر لداعش، وأشار إلى أنَّ مذهب أهل السُّنَّة يؤكد أنَّ الإيمان القلبي أصلٌ والعمل فرع، وعدم وجود العمل لا ينفي أصل الإيمان، وهذا ما استند عليه الأزهر في عدم تكفير داعش، طالما أنّهم يقولون: "لا إله إلاّ الله محمد رسول الله"، وبذلك فقد حصر الأزهر مفهوم الإسلام فى النطق بالشهادتين، وإقامة الشعائر العبادية، وهذا هو الفهم المستقر والإعتقاد السائد لمفهوم الإسلام بين عامة المسلمين.
[4] الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، سبق ذكره، ج6، ص 274
[5] الطبري، نفس المصدر، ج21، ص 277
[6] وهم حصرًا خمس آيات بجانب هذه الآية، (الأنعام: 125)، (الصف: 7)، (آلعمران: 19، 85)، (المائدة: 3)
[7] إنّ المسلم، أو بالأحرى المسلمين، ليسوا هم فحسب من يتبعوا النبي محمد، إذ مضى القرآن يؤكد أنّ "المسلم هو من سلم وجهه لله"، وذلك في قوله تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَمُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ٰوَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (لقمان: 22)، كما أنّ هناك العديد من الآيات يأتي فيها المسلمون إشارة إلى غير أتباع هذا النبيّ وذلك وفقًا لقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُم ْفَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس: 72)
[8] فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004م، ص 134
[9] انظر مصطفى عبد الرازق، الدين والوحي والإسلام، الهيئة العلمة لقصور الثقافة، الطبعة الثانية، 1997م، ص 99
[10] انظر، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مؤسسة الرسالة، ت: عبد الله بن عبد المحسن التركي، بيروت، الطبعة الأولى، 2006م، ج16، ص 153.
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9...