الحرية بين الحتمية واللاحتمية دراسة في فلسفة روبرت كين
مقدمة:
تعتبر الحرية من أهم المفاهيم والمصطلحات الفلسفية التي أثارت جدلاً واسعاً بين الفلاسفة والمفكرين، وهي من القضايا العامة التي تتعلق بكثير من المجالات سواء الفلسفية، أو السياسية أو الأخلاقية أو الاجتماعية، ومن كثرة تعدد معناها فقدت الحرية معناها. وقضية الحرية تعتبر قضية مصيرية وحاسمة بالنسبة إلى الإنسان. وعلى مر الزمان سعى الإنسان إلى الدفاع عن حريته، سواء ضد المعوقات الخارجية التي تتمثل في المجتمع، أو المعوقات الداخلية التي بداخله وتحد من هويته. والحرية بالنسبة إلى فيلسوفنا موضوع الدراسة "روبرت كين" تعتبر قضية مهمة، وهو من الفلاسفة المؤيدين لحرية الإرادة، ويدافع عما يسمى في الدوائر الفلسفية باسم حرية الإرادة المستقلة، وتعني هذه الحرية أن اختياراتنا وأفعالنا تكون متحررة من العقبات والعوائق، كذلك تكون متحررة من أي تحديد سابق بواسطة الله. ويشير إلى أن حرية الإرادة المستقلة تكون جوهرية، بل أساسية من أجل المسئولية الأخلاقية. ويرى "كين" أن حرية الإرادة تكون ذات علاقة وثيقة بالأخلاق، الفلسفة السياسية، والاجتماعية، فلسفة العقل، الميتافيزيقا، نظرية المعرفة، فلسفة القانون، فلسفة العلم، وفلسفة الدين. ويؤكد أنه في مجال الفلسفة أدت المناقشات في ما يتعلق بحرية الإرادة إلى قضايا ومسائل خلافية في ما يتعلق بالجريمة، العقاب، المسئولية، السيطرة، الضرورة. وبوجه عام، فإن مشكلة الحرية تعد من المشكلات التي شغلت عقول الناس قديماً وحديثاً، وثار بسببها جدال بين الفلاسفة، فهي من ناحية تعتبر من أكثر مشكلات الأخلاق صعوبة، ويرجع هذا إلى أنها في أساسها مشكلة ميتافيزيقية، ومن ناحية أخرى من أكثر مشكلات الأخلاق أهمية، فبدونها تفقد القيم الأخلاقية معناها المميز.
علاقة حرية الإدارة بالحتمية والضرورة
يشير "كين" إلى أن مشكلة الحرية الإرادة نشأت في التاريخ الإنساني، عندما بدأ يشك الناس ويرتابون في أن أفعالهم يمكن أن تكون محددة عن طريق عوامل مجهولة بالنسبة إليهم، وكذلك بعيدة عن سيطرتهم وتحكمهم. وهذا يفسر بوضوح لماذا يعتبر نظريات الحتمية ذات أهمية وشأن كبير في المناقشات التي تتعلق بحرية الإرادة. ويلاحظ "كين" أن مذاهب الحتمية اتخذت أشكالاً وصوراً متعددة، منها على سبيل المثال الحتمية الطبيعية أو المادية، الحتمية المنطقية، الحتمية السيكولوجية، الحتمية البيولوجية. ومن وجهة نظره، رغم تعدد صور وأشكال الحتمية، إلا أنها ترتكز على مفهوم جوهري وأساسي هو أن الحدث "مثل الاختيار أو الفعل" يكون محدداً عندما توجد ظروف أو أحوال وشروط نحصل عليها مسبقاً "مثل القضاء والقدرة أو أسباب وعلل سابقة" بالإضافة إلى قوانين الطبيعة.([1])
إذن الحتمية هي وقوع الحدث، إذا توافرت ظروف وأحوال وقوعه، سواء كان هذا الحدث فعلا أو اختيارا.
ويؤكد "كين" أن كل مذاهب الحتمية تمثل تهديداً كبيراً لحرية الإرادة، سواء كانت هذه المذاهب جبرية "أي مؤمنة بالقضاء والقدر، أو لاهوتية، أو حتمية منطقية. ولكي يؤكد على ارتباط الحتمية بالضرورة يذكر مثال توضيحي. "لوجون" في وقت معين ومحدد اختار أن يذهب إلى السامرة، إذن هو سوف يختار في هذا الوقت الذهاب إلى السامرة، وعلى ذلك الحتمية هنا تكون نوعاً من الضرورة، لكنها ضرورة مشروطة "فالحدث المحدد لا يملك أن يحدث، أو لا يجب أن يحدث، لأنه يحتاج أن يكون ضروريا بصورة مطلقة.([2])
ونود أن نشير إلى أن حديث "كين" عن الحتمية وتعريفها وأنواعها، وكذلك عن الضرورة يتفق مع السياق التاريخي لهذه المفاهيم، وكذلك بعض الفلاسفة. فالحتمية هي مفهوم فلسفي يتضمن أن كل حدث أو حالة من حالات الواقع، بما فيها الفعل الإنساني يكون نتيجة "محتومة" معتذر تجنبها لحالات سابقة، بمعنى أن أفعال الإرادة، والأحداث الطبيعية، والظاهرة الاجتماعية والنفسية تكون محددة بطريقة سببية عن طريق أحداث أخرى أو قوانين الطبيعة.([3])
وتنقسم الحتمية إلى عدة أنواع منها:
1- الحتمية العلية "السببية": وتعني أن كل حدث يكون محدداً بواسطة أحداث سابقة، والحتمية الفلسفية ترى أن جميع الأحداث بما فيها الاختيارات الأخلاقية تكون محددة بصورة تامة وكلية بواسطة علل وأسباب سابقة.
2- الحتمية البيولوجية: ترى هذه النظرية أن كل سلوكنا، اعتقاداتنا، رغباتنا تكون ثابتة ومحددة عن طريق منحنا مواهب وراثية.
3- الحتمية اللاهوتية: ترى أن الله يحدد جميع أفعال البشر، إما بواسطة المعرفة السبقية، أو بواسطة أحكام القضاء والقدر.
4- الحتمية المنطقية: هي حتمية ترى أن كل وجميع القضايا، سواء المتعلقة بالماضي، الحاضر، المستقبل تكون إما صادقة أو كاذبة.([4])
وترتيبها: فالضرورة هي ما لابد أن يحدث في الظروف المعينة. ويجب أن نشير إلى ارتباط الضرورة بالمصادفة، وهما مقولتان فلسفيتان تعكسان نوعين من الروابط الموضوعية في العالم المادي، الضرورة تنبع من الجوهر الداخلي للظاهرة. أما المصادفة، فهي التي تحدث أو لا تحدث.([5])
وفي سياق عرض "كين" لحرية الإرادة والحتمية، يطرح سؤالاً جوهرياً يسمى سؤال التوافق والملاءمة. هل حرية الإرادة تتوافق وتتلاءم مع الحتمية؟ ويجيب بأن هناك ثلاثة مذاهب متعارضة في الإجابة عن هذا السؤال:
1- مذهب الملاءمة "التوافق" "Compatibilism" ويرى أنصار هذا المذهب أن حرية الإرادة تتوافق وتتلاءم مع الحتمية. وأنه لا يوجد بالفعل تناقض أو تعارض بين الحرية والحتمية. وأصحاب مذهب الملاءمة يعرفون حرية الإرادة بطريقة تسمح لها أن توجد بجوار الحتمية. ويعرفون حرية الإرادة بأنها القدرة أو المقدرة على الفعل بدون وجود عوائق وعقبات تعوقنا عن إنجاز الفعل. على سبيل المثال الحرية عند "هوبز" تعني غياب وانعدام العقبات الخارجية التي تعوق الحرية، وفي نطاق الدائرة الإنسانية تعني الحرية غياب المعوقات والعقبات التي تعوق الفعل الإنساني الصادر عن الإرادة.([6])
ويشير هذا المصطلح إلى أن معظم الظواهر الطبيعية يمكن التنبؤ بها، لأنها تحدث مباشرة نتيجة لعلاقات العلة والمعلول، وأنها مثل الحتمية، كذلك يشير هذا المصطلح إلى أصحاب مذهب الملاءمة الذين يعتقدون أن الحتمية تكون حقيقة، بالإضافة إلى أن الحرية والحتمية يكونا متوافقين.([7])
ويعلق "كين" على مذهب الملاءمة والتوافق بقبوله لو أصحاب أو أنصار هذا المذهب كانوا على حق وصواب في وجهة نظرهم، فإننا نستطيع أن نملك كلا من الحرية والحتمية، ويطرح سؤالاً مهماً: - هل مذهب الملاءمة يمكن قبوله؟ الإجابة من وجهة نظر "كين" أن معظم الأشخاص يعارضون بل ويقاومون فكرة أن حرية الإرادة والحتمية يكونان متوافقين ومتلائمين. ويبدو أن فكرة تلاؤم وتوافق حرية الإرادة مع الحتمية هي محاولة للهروب من مأزق وورطة كما يقول "وليم جيمس" أو حيلة هزلية كما يري "كانط"، والسؤال الذي يفرض نفسه من جانب "كين" هل تحليل صاحب مذهب الملاءمة للحرية يجذب الانتباه إلى الحريات الظاهرية في الفعل. ويجيب أصحاب مذهب الملاءمة على هذا السؤال بطريقتين:
أولا: يقولون إن هذه الحريات جميعها تعتمد على ما نقصده بالمعني الأول؛ أي أن حرية الإرادة تملك معنى مألوفا معتادا بصورة تامة، فعند معظمنا حرية الإرادة تعني حرية الاختيار أو حرية القرار. وحرية الاختيار يمكن أن نحللها بطريقة مذهب الملاءمة على أنها حرية الفعل بصفة عامة.
ثانياً: يقول أصحاب مذهب الملاءمة لو أنت غير مقتنع وغير راض عن هذا التفسير لحرية الإرادة، فهذا بلا شك لأنك تعتقد في أن هناك بعض المعاني الإضافية الأخرى لحرية الإرادة غير هذا المعنى يشير إلى القدرة على الاختيار كما تريد بدون إكراه أو قسر. ويقول "كين" إنه يجب أن يوجد معنى إضافيا أعمق لحرية الإرادة يتضمن السيطرة على ما نريد. ويرى أصحاب مذهب الملاءمة أنهم لا يستطيعون انتزاع هذا المعنى الأعمق لحرية الإرادة، لأن هذا المعنى الأعمق يكون متعارضاً مع الحتمية.([8])
وخلاصة القول: يرى أصحاب مذهب الملاءمة أن اعتقادنا الطبيعي في عدم الملاءمة بين حرية الإرادة والحتمية يعتمد على نوعين من الخلط:
1- الخلط المتعلق بطبيعة الحرية.
2- الخلط المتعلقة بطبيعة الحتمية، ويرون أنه لا يوجد بالضرورة تعارض وتناقض بين الحرية والحتمية.
أما المذهب الثاني المتعلق بعلاقة حرية الإدارة بالحتمية، فهو مذهب عدم الملاءمة "incompatibles'"، ويرى أصحاب هذا المذهب أن حرية الإرادة والحتمية متعارضين ومتناقضين. وأحياناً على هذا المذهب مصطلح "الحتمية المتطرفة"
Hard Determinism "وترى الحتمية المتطرفة أن الحتمية الطبيعية تكون حقيقية، وتكون متعارضة مع حرية الإرادة. وبناء على ذلك، تكون حرية الإرادة زائغة، بمعنى أن الإرادة الحرة ليست موجودة. ومن أشهر المدافعين عن الحتمية المتطرفة "مارتن لور-وهو لباخ".([9])
ويميز "كين" بين نوعين وتيارين من مذهب عدم الملاءمة:
(أ)- نظرية سببية الفعل "Agent - Causation"
(ب)- نظرية الوضوح الغائي.
ويعتقد أصحاب مذهب عدم الملاءمة أن الفاعلية الحرة تتوافق مع تفسيرات سببية الفاعل "أو علية الفاعل"، ويعتقد "كين" أن هذا يكون خطأ في بعض النتائج. ويرى كذلك، أن نظريات سببية الفاعل بذاتها لا يمكن أن تحل مشكلة الوضوح في حرية الإرادة.
وأن نظريات الوضوح الغائي تستحق أن تدرس. أما إذا رجعنا إلى مضمون نظرية "سببية الفاعل"، فإن هذه النظرية ترتكز على مفهوم جوهري وأساسي، وهو أن الفاعل هو سبب حدوث الفعل، والفعل الحر الذي يكون الفاعل مسئولاً عنه يكون من نتائج الفاعل أي يحدث بواسطته، وليس نتيجة حدث آخر. ومن أشهر المدافعين عن هذه النظرية "رودريك تشيثولم" يسمى "تشيثولم" سببية الفاعل باسم السببية الذاتية "immanent causation".([10])
أما النظرية الثانية، وهي الوضوح الغائي: ترتكز على مفهوم أنه يجب تفسير الأفعال بلغة الأهداف والغايات، فكل فعل يجب أن يملك غاية وهدفا. وهذه النظرية تجيب على السؤال لماذا حدث هذا الفعل؟ والتفسيرات التي نعطيها عندما نتحدث عن الأفعال الإنسانية تكون بلغة الأهداف والغايات. على سبيل المثال لماذا دخلت "ماري" الحجرة، دخلت لأنها تريد البحث عن مفاتيحها، لأنها اعتقدت أنها تركت المفاتيح في الحجرة، وهي تملك هدف وغاية أن تجد هذه المفاتيح.([11])
أما المذهب الثالث في علاقة حرية الإرادة بالحتمية، فهو يرى أن حرية الإرادة حقيقية، ولا سبيل إلى إنكارها، والحتمية زائغة. ومن أشهر المدافعين عن مذهب حرية الإرادة "كين". ويدافع عما يسمى بحرية الإرادة المستقلة "المتحررة". ويرى أنصار مذهب حرية الإرادة أنهم يدافعون عن المعنى الأعمق لحرية الإرادة. ومن وجهة نظرهم أن أصحاب مذهب الملائمة أعطونا فكرة وصورة باهتة وضعيفة عن حرية الإرادة.
وخلاصة رأي أصحاب حرية الإرادة بما فيهم "كين".
(1) حرية الإرادة والحتمية متعارضتان ومتناقضتان
(2) حرية الإرادة توجد؛ أي موجودة ولا أحد يشك فيها.
(3) الحتمية تكون زائغة.
ويشير "كين" إلى أن هناك مأزقا وورطة وقع فيها المؤيدون لمذهب حرية الإرادة. هذا المأزق يتمثل في: - لو حرية الإرادة لا تكون متوافقة؛ أي متعارضة ومتناقضة مع الحتمية، فإنها مع اللاحتمية لا تبدو أيضاً متلائمة ومتوافقة، ويسمى هذا المأزق باسم جيل اللاتوافق وعدم الملاءمة.
ويتمثل هذا الجيل في مشكلتين:
(1) مشكلة الصعود وتوضح أن حرية الإرادة تكون متعارضة مع الحتمية.
(2) مشكلة الهبوط وتوضح أن حرية الإرادة تتطلب وتحتاج إلى اللاحتمية.
ومشكلة الصعود تتمثل في سؤال الملاءمة والتوافق، ومشكلة الهبوط تتمثل في السؤال عن الوضوح الذي يرتكز على فكرة أساسية هي لو حرية الإرادة ليست متلائمة مع الحتمية، فإنها أيضاً تبدو غير متلائمة مع اللاحتمية.
ويجب أن نوضح أن مدخل "كين" لحرية الإرادة المستقلة هو رفض كل من اللاحتمية، وسببية الفاعل. والتركيز بدلاً من ذلك على ما يسمى "التروي العقلي Deliberation". وهذا التروي يمثل عملية معقدة ومركبة. ويضرب مثالاً يوضح من خلاله ما هو التروي العقلي، وهو تفكير "مارك" في قضاء العطلة، إما في هاواي أو كلورادو. فعندما فكر في هاواي تخيل نفسه يمشي على الشواطئ الرملية، ويأكل في مطاعم هاواي المفضلة لدية، كل هذه الأفكار المتنوعة جعلته يميل إلى اختيار هاواي بدلاً كلورادو. لكنه في نفس الوقت فكر في التزحلق على الجليد، والجلوس بجوار المدفأة على المنحدرات الشاهقة، كل هذا يجعله يميل إلى اختيار كلورا دو. وفي أثناء هذا التروي العقلي تفكيره يميل إلى الجانب الأول هاواي، ثم يعود للجانب الثاني كلورا دو. وأخيراً بعد تروٍّ عقلي عميق اختار هاواي.([12])
ثم يعرف "كين" بعد ذلك حرية الإرادة بأنها "قوة الفاعلين ومقدرتهم على أن يكونوا المحدثين والمبدعين الأصليين والأساسيين لأهدافهم ولأفعالهم الشخصية. ولقد قسم "كين" الإرادة إلى ثلاثة أنواع: -
(ا) الإرادة العاقلة: ويعرفها بأنها مجموعة من القوى المترابطة بطريقة مفاهيمية مجردة ترتبط بالإرادة. والعضو المحوري الأساسي في هذه القوى هو التروي العقلي أو التفكير العملي. وهذا التفكير يتعلق بما يجب فعله. وكذلك بما سوف أريده، واختاره، وأصمم عليه، وكذلك العزم على ما يجب فعله. وتشمل هذه الإرادة قوة التفكير.
(2) إرادة الرغبة: أي إرادة ما ترغب وما نريد، إرادة الميل لفعل كذا.
(3) إرادة النضال والكفاح والسعي من أجل تحقيق هدف ما.([13])
ثانياً: - علاقة حرية الإرادة باللاحتمية:
وتنقسم اللاحتمية إلى قسمين:
(أ) اللاحتمية الذاتية: وهي الاعتقاد أن العقل عاجز عن التنبؤ بحوادث الطبيعة لعجزه عن الإحاطة بأسبابها ونتائجها.
(ب) اللاحتمية الموضوعية: هي نفي الحتمية في الظاهر الطبيعية نفياً مطلقاً، فإذا كان العقل عاجزاً في هذه الحالة عن التنبؤ، فمرد ذلك إلى أسباب موضوعية، لا إلى أسباب ذاتية.([14])
أما تعريف "كين" للاحتمية - فيرى أنها عبارة أو مصطلح فني يستبعد العلية الحتمية. واللاحتمية تتوافق وتتناغم مع العلية الاحتمالية، حيث النتيجة لا تكون محتومة أو لا يكون متعذرا تجنبها، ويرى أن اللاحتمية تنشأ عن التوتر الذي يُحدث صراعا في الإرادة، وفي سياق حديث "كين" عن اللاحتمية يشير إلى المصادفة "Chance" ومبدأ الحظ. ويرى أن المصادفة والحظ هما عبارتان تحملان معاني إضافية تتضمن البعد عن سيطرتي، أو خارج تحكمي، ويرفض أن تكون المصادقة هي العلة المباشرة للأفعال، ويؤكد أن المفتاح الأساسي لفهم دور المصادقة في حرية الإرادة يكون عدم الاعتقاد. ويجب أن نسلم من وجهة نظره أن اللاحتمية أينما تحدث، فإنها تقلل السيطرة علي ما نحاول فعله.([15])
حرية الإرادة والمسئولية الأخلاقية:
يؤكد "كين" أن حرية الإرادة تكون مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بفكرة المسئولية الأخلاقية، أي مبدأ الثواب والعقاب تكون بالنسبة إلى الأفعال. ثم يعرف المسئولية الأخلاقية بقوله "أنه لكي" مسئول مسئولية مطلقة عن الفعل، فالفاعل يجب أن يكون مسئول عن أي شيء يكون سبب وعلة كافية لحدوث الفعل. ويشير إلى أنه لو الاختيار ينشأ وينتج عن دوافع وسلوك الفاعل إذن الفاعل يكون مسئول مسئولية نهائية ومطلقة عن هذا الاختيار، ومن ثم المسئولية الأخلاقية المطلقة هي أن أفعالنا واختياراتنا تكون محددة بواسطة إرادتنا وشخصيتنا ودوافعنا.([16])
إذن معنى المسئولية الأخلاقية هي أوضاع وحالات تستحق المدح أو اللوم، الثواب والعقاب من الناحية الأخلاقية بالنسبة إلى إنجاز الفعل أو عدم إنجازه. والذين يملكون المسئولية الأخلاقية يصبحون فاعلين أخلاقيين، وهؤلاء الفاعلون يكونون قادرين على صياغة وتشكيل المقاصد والأهداف فيما يتعلق بما يريدون فعله. ويشير "كين" إلى أنه لو حرية الإرادة تكون مطلوبة، فإن المسئولية الأخلاقية تكون مطلوبة. وكذلك أفعال وضع الإرادة، وأيضاً شروط التعدد والكثرة تكون مطلوبة. ويرى كذلك أفعال وضع الإرادة تكون أفعالا قصرية وعقلانية. وبوجه عام يرى "كين" أن حرية الإرادة تتطلب شرطين أساسين وجوهريين:
(أ) شروط الإمكانيات البديلة.
(ب) شرط المسئولية المطلقة.
الإمكانيات البديلة هي قدرة الفاعل على إنجاز الفعل بطريقة مختلفة وتمسى "A P" وحرية الإرادة تحتاج إلى هذه الإمكانيات البديلة التي تقع أمامنا - ونختار من بينهما.
أما شرط المسئولية المطلقة النهائية، فهو من وجهة نظره أهم من مبدأ الإمكانيات البديلة، لأن الفاعل يجب أن يكون مسئولا مسئولية مطلقة عن أي شيء يكون علة كافية لحدوث الفعل.([17])
ويرى "كين" أنه لكي تكون مسئولا مسئولية أخلاقية نهائية عن الفعل، فإنه يجب أن يوجد شيء ما تستطيع فعله بطريقة إرادية. كذلك يجب أن يوجد سبب أو علة كافية لتفسير الفعل. ويقصد بالسبب الكافي، إما شرط كاف أو سبب كاف منطقياً به والدافع الكافي يشمل مطلب أن الفاعلين المسئولين مسئولية مطلقة يكونون مصدرا وأساسا ليس فقط لأفعالهم، لكن أيضاَ لإرادتهم التي تشارك في هذه الأفعال.
ويملك مبدأ المسئولية المطلقة النهائية عنصرين:
(1) شرط رئيسي وأساسي، وهو المسئولية (R)
(2) شرط النهائية (U)
مبدأ المسئولية (R) يشير إلي قدرة الفاعل على أن يفعل بطريقة مختلفة، ويكون مسئولا عن الدوافع والأسباب التي يمتلكها للفعل. ومبدأ النهائية (U) هو يكون مبدأ أو شرط مهم ومطلوب للفاعل لكي يكون مسئولاً بصفه نهائية عن فعله.([18])
ويجب أن نوضح نقطة مهمة، وهي أن فكرة المسئولية الأخلاقية ترتبط بها فكرة أخرى هي السيطرة، أي سيطرة الفاعلين على أفعالهم، ولقد قسم "كين" السيطرة التي يمارسها الفاعلون على أفعالهم إلى قسمين:
(1) سيطرة قسرية "CC"
(2) سيطرة غير قسرية "إيرادية "NC"
السيطرة القسرية من خلالها الفاعلين يكونون مجبرين لفعل شيء ما ضد إرادتهم. أما السيطرة غير القسرية، فالفاعلون لا يقومون بفعل شيء هذا ضد إرادتهم، بل يفعلون ما يتفق مع إرادتهم.([19])
الخاتمـة
مما سبق نرى أن الحتمية بكل أشكالها وصورها تمثل تهديداً صارخاً للحرية، وأن أصحاب مذهب الملاءمة فشلوا في تقديم صورة واضحة لحرية الإرادة، كما فشلوا في محاولة التوفيق بينهما وبين الحتمية. كذلك نرى أن اللاحتمية تمثل عقبة وعائقا في تحقيق وإنجاز الأفعال الإرادية. ونرى كذلك، أن هناك ارتباطا وثيقا بين الحرية والمسئولية الأخلاقية. فكل من يقوم بالفعل الإرادي يجب أن يكون مسئولا مسئولية تامة وكاملة عن نتائج فعله. طالما أنه اختار أن يقوم بهذا الفعل عن إرادة كاملة واختيار حر؛ فكل فعل إرادي حر يجب أن يتبعه مسئولية أخلاقية تامة عن هذا الفعل.
والحرية تمثل مع كل ذلك مطلبا أساسيا لا غنى عنه للإنسان.
فكل إنسان يسعى إلى الحرية، ويجد في الحصول عليها ويناضل ضد كل المعوقات، سواء كانت خارجية من المجتمع، أو داخلية من ذاته.
ورأينا أن "كين" يتبنى نظرية حرية الإرادة المستقلة؛ أي التي تكون متحررة من عقبات وعوائق تعوق الفعل.
قائمة المصادر والمراجع
([1]) Robert Kane: A contemporary introduction to free mire, aboard university press, 2005, P.5.
(2) I bid: P.5.
(3) السيد النفادي: الضرورة والاحتمال بين الفلسفة والعلم، دار التنوير للطباعة والنشر، القاهرة، طـ5، 1983، ص 9
(4) المرجع السابق: ص 10
(5) السيد النفادي: الضرورة والاحتمال بين الفلسفة والعلم، ص 11
(6) د.علي عبد المعطي محمد: تيارات فلسفية حديثة، دار المعرفة الجامعية، 1984، ص 67-68
(7) Kane: A contemporary introduction to free will, P.21.
(8) Kane: A contemporary P.17.
(9) Kane: A contemporary P.20.
(10) Robert Kane: two kinds of in Compatibilism philosophy and phenomenological research V51.50. No.2. December, 1989, P.220-221.
وانظر أيضاً: - د. عماد الدين إبراهيم عبد الرازق: مشكلة المعرفة عند تشيشولم، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2007 ص 97
(11) Kane: A contemporary P.52.
(12) Kane: Four View son Free Will, black wee 2007, P.59.
(13) Kane: The significance of Free will oxford university press, 1998, P.30.
(14) السيد ألنفادي: الضرورة والاحتمال بين الفلسفة والعلم: ص 11
(15) Kane: Four View son Free will P.39.
(16) Kane: A contemporary P.80.
(17) Kane: Four Views on Free Will, P.12.
(18) Kane: The significance of Free will P.73.
(19) I bid: P.75.
([1]) Robert Kane: A contemporary introduction to free mire, aboard university press, 2005, P.5.
([2]) I bid: P.5.
([3]) السيد النفادي: الضرورة والاحتمال بين الفلسفة والعلم، دار التنوير للطباعة والنشر، القاهرة، طـ5، 1983، ص 9
([4]) المرجع السابق: ص 10
([5]) السيد النفادي: الضرورة والاحتمال بين الفلسفة والعلم، ص 11
([6]) د. علي عبد المعطي محمد: تيارات فلسفية حديثة، دار المعرفة الجامعية، 1984، ص ص67-68
([7]) Kane: A contemporary introduction to free will P.21
([8]) Kane: A contemporary P.17
([9]) Kane: A contemporary P.20
([10]) Robert Kane: two kinds of in compatibilism philosophy and phenomenological research V51.50. No.2. December, 1989, P.220-221.
وانظر أيضاً: - د. عماد الدين إبراهيم عبد الرازق: مشكلة المعرفة عند تشيشولم، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2007 ص 97
([11]) Kane: A contemporary P.52
([12]) Kane: Four View son Free Will, black weel 2007, P.59.
([13]) Kane: The significance of Free will oxford university press, 1998, P.30
([14]) السيد ألنفادي: الضرورة والاحتمال بين الفلسفة والعلم: ص 11
([15]) Kane: Four Views on Free will P.39.
([16]) Kane: A contemporary P.80.
([17]) Kane: Four Views on Free Will, P.12.
([18]) Kane: The significance of Free will P.73.
([19]) I bid: P.75.
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D...