صراع الحضارات

صراع الحضارات

شتيفان فيلد*

ألقي من المحاضرات وألف من الكتب عن هذا الموضوع، داخل العالم العربي وخارجه ما يعادل في الكثرةَ ما كتب وقيل عن ظاهرة العولمة. وفي هذه المحاضرة أود الحديث عن هذا الموضوع من منظور تاريخ الثقافة الألمانية. إن المفهوم المقابل لصدام الحضارات والثقافات هو مفهوم الحوار. ومن الجانب العربي أيضاً صدر عدد كبير من الكتب والمقالات المخصصة لموضوع الحوار. وفضلا عن ذلك هناك العدد الكثير من الندوات من أجل الحوار؛ فعلى سبيل المثال أقامت جامعة الدول العربية في سبتمبر/أيلول عام 2001م مؤتمر: الحوار، تواصل، لا صراع. وفي دمشق عقد في مايو/أيار عام 2002م مؤتمر ثقافي بعنوان: حوار الحضارات من أجل التعايش. وإيران أيضا، بقيادة رئيسها محمد خاتمي، نشيطة في هذا المجال؛ إذ يوجد في طهران مكتب دائم لحوار الثقافات (الحضارات). وإني على يقين بأن سلسلة المحاضرات، التي تنظمها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في هذه الأشهر هنا في مسقط تقام أيضا تحت شعار: الحوار من أجل التعايش السلمي.

يتناول الجزء الأول من هذه المحاضرة تحليلا لخلفيات نظرية هنتنجتون: "صدام الثقافات (الحضارات)"، أما الجزء الثاني من المحاضرة فهو محاولة لوضع أسس الحركة المقابلة من خلال الحوار.

1. نظرية هنتنجتون
في صيف عام 1993 نشر صمويل ب. هنتنجتون، أستاذ العلوم السياسية الأمريكية، وأحد أشهر المنظرين لفترة الحرب الباردة، في مجلة " Foreign affair" الدورية الأمريكية ذات التأثير، مقالا بعنوان: "صراع الحضارات؟" وكانت النظرية، التي انطوى عليها المقال هي أنه بعد انتهاء صراع الشرق والغرب تتجه السياسة العالمية إلى عهد جديد. إذ أنه أثناء الحرب الباردة، أي تقريبا من نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، إلى انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي عام 1990، كان الصراع الرئيسي في العالم صراعا بين المعسكرين السياسيين القويين والذي معه كانت دول الثالث تحاول تكوين تحالفات متغايرة. وبحلول التسعينيات بدأت تتكون، كما يقول هنتنجتون، خطوط المواجهة في العالم من جديد. ولم يعد الأمر يدور حول التناقضات الطبقية، ولا حول الأيديولوجيات، ولا حول الحركات القومية، وإنما حول شيء آخر.

إن نظرية هنتنجتون الرئيسة تقول بأن خطوط التقسيم بين البشرية ستصبح ثقافية, إذ ستختلف الحضارات، التي تعد ذات التنظيم الثقافي الأقصى، عن بعضها من ناحية الدين، والتاريخ، واللغة، والتقاليد. وستصبح الخطوط الفاصلة بينها عميقة ودائمة الأهمية. فمن يوغوسلافيا، مرورا بالشرق الأوسط، إلى آسيا الوسطى تحدد خطوط (انقسام) الحضارات جبهات الصراع في المستقبل. وفي بداية مرحلة الصراعات الثقافية هذه يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تكوّن تحالفات مع الثقافات المماثلة، وأن تنشر قيمها إلى أبعد حد ممكن. كما يجب على الغرب أن يتجه نحو الثقافات الأجنبية. بيد أنه لا يجوز له أن يخشى المواجهات –إذا تحتمت-.

يفرق هنتنجتون -كما نرى- بين الثقافة والحضارة. ونظرا إلى أنه لا يوجد اتفاق بشأن هذين المصطلحين، فإني -كما يفعل كثيرون غيري- أستخدم مصطلح الثقافة ومصطلح الحضارة كمصطلحين مترادفين. وقد ذكر هنتنجتون ثماني ثقافات رئيسية هي: الثقافة الإسلامية، والثقافة السلافية الأرثوذوكسية، وثقافة أمريكا اللاتينية، والثقافة الإفريقية أيضا. وحسب رأي هنتنجتون فإن حروب المستقبل الكبيرة ستنشب بطول خطوط الانقسام الثقافية هذه.

وقبل أن نتناول هذه النظرية يمكننا تأكيد أن نظرية هنتنجتون قد اشتهرت في كل مكان من العالم شهرة نظرية مغايرة لها تماما وهي: نظرية فوكوياما في نهاية التاريخ البشري. وفي عام 1995، أي بعد مقال هنتنجتون بعام ونصف العام، نشر في ألمانيا للدكتور بسام طيبي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جوتنجن بألمانيا، السوري الأصل، وخبير شؤون الشرق الأوسط، المشهور عبر الصحافة والتلفاز، كتاب بعنوان:"حرب الحضارات، السياسة والدين بين العقل والتشدد". وإذا كان عنوان مقال هنتنجتون قد جاء في صيغة تساؤل (قد ختم بعلامة)، فإن الأمر لدى طيبي أصبح قضية لا شك فيها. وإذا كان هنتنجتون لا يزال يتحدث عن صراع بين الثقافات، فإن ذلك تحول لدى طيبي إلى حرب بين الحضارات بالفعل.

لا نريد مناقشة ما إذا كان العدد ثمانية، كعدد لحضارات العالم، له مغزى. كما لا نريد التعرض لما سماه هنتنجتون بالتحالف الكونفوشيوسي الإسلامي. إذ إن الكثيرين من المراقبين يشكّون في وجود مثل هذا التحالف.

كان من الممكن ألا نفقد نظرية هنتنجتون من الرجحان وقوة الإقناع، لو وصل عدد حضارات العالم إلى تسع أو إلى أربع عشرة حضارة، أو لو تكشف التحالف الكونفوشيوسي، الإسلامي على أنه مجرد خيال.

إن الحضارات السبعة أو الثمانية، التي ذكرها هنتنجتون، ليست متكافئة على كل حال، كما قال هنتنجتون نفسه، وليست متماثلة في القوة. فضلا عن ذلك، وكما يقول هنتنجتون، فإن سبعا من هذه الحضارات، رغم الفروق الكبيرة بينها، متشابهة، لدرجة أنه يتبين، إلى جانب خطوط الانفصال الجانبية، خط انفصال رئيسي، وهو أن الغرب في مواجهة بقية العالم، أي الحضارة الغربية في مواجهة الحضارة غير الغربية. ولا يترك هنتنجتون مجالا للشك في أن أهم قوة لذلك الغرب تتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية. ولا يكاد يكون صدفة أن هذه المواجهة تتم في الوقت، الذي أصبح فيه الغرب في ذروة قوته، وبتعبير أدق، الذي أصبحت فيه الولايات المتحدة الأمريكية في ذروة قوتها السياسية، والاقتصادية، والعسكرية. وإذا ما كان هنتنجتون محقا، فإن الغرب يواجه بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية اللاغرب في العالم. إن الحد الفاصل بين الغرب واللاغرب في أوروبا يمتد، كما يرى هنتنجتون، حيث امتدت الحدود الشرقية للمسيحية الغربية في عام ألف وخمسمائة. فغرب هذا الحد يكون السكان اليوم كاثوليكيين أو بروتسانتيين، وشرق هذا الخط مسيحيين أرثوذوكس أو مسلمين. وحسب رأي هنتنجتون أسدل ستار حديدي بين الجانبين في الماضي، وهو هذه المرة ليس ستارا حديديا، وإنما كما يقول هنتنجتون، ستار الثقافة المخملي.

إن نظرية هنتنجتون ليست جديدة. فبعد الحرب العالمية الأولى، وفيما بين عامي 1918 و1922 ألفّ فيلسوف الثقافات الألماني أوزفالد شبينجلر (المتوفى عام 1936)، كتابه التشاؤمي: "تدهور الغرب". هذا الكتاب ذو التأثير القوي، والذي حظي بقراء كثيرين، كان عبارة عن تكوين لتاريخ العالم، وطبقا له توجب على الحضارات، التي اعتبرها كائنات حية كبيرة، أن تمر بعملية بيولوجية؛ فالثقافات أيضا، حسب رأي أوزفالد شبينجلر، تمر بطور الحداثة، ثم طور الريعان، ثم طور الاكتمال، ثم طور التدهور، ثم طور الفناء. ويتصل شبينجلر المتشائم تجاه الحضارة بجوته ونيتشه، ويفرّق مثلما فعل هنتنجتون تماما، بين هذه الحضارات العالمية الثمان؛ ومن بينها حضارة غربية وحضارة عربية، إلا أن شبينجلر يتناول الحضارة العربية ضمن حضارة صدر المسيحية. وأما الحضارة الغربية فقد رأى شبينجلر خلافا لهنتنجتون أنّ عصرها قد انتهى، أيْ أن الغرب سيزول.

وكما قال هنتنجتون أيضا فإنه يوجد اليوم سبع أو ثماني حضارات كبيرة، إلا أنه يقسم العالم تقسيما آخر؛ فبالنسبة له هناك الحضارة الغربية، والحضارة الكونفوشيوسية، والحضارة اليابانية، والحضارة الإسلامية، والحضارة الهندوسية، والحضارة السلافية الأرثوذوكسية، وحضارة أمريكا اللاتينية، وربما الحضارة الإفريقية. هذا التقسيم للعالم إلى ثقافات كبيرة، أو إلى حضارات له تاريخه الطويل، بيد أنه، إذا ما كنت محقا، يُعدّ اليوم لدى المؤرخين قديما إلى حد كبير. إذ في انجلترا فرق أرنولد توينبي في مقدمته التاريخية العامة لكتابه المكون من اثني عشر جزءا: "A Study of History"، أولا بين ثلاث وعشرين حضارة، ثم بين ثلاث عشرة حضارة، باحثا بعد شبينجلر، عن القوانين الكلية لنشأتها، وازدهارها، وزوالها.

إن نظرية هنتنجتون في صراع الحضارات هي الصدام المتوهم بين الإسلام والغرب "ففي حديث له، أجراه معه بسام طيبي، قال هنتنجتون بأن "بؤرة الصراعات المستقبلية ستكون بين الغرب وعديد من الدول الإسلامية – الكونفوشيوسية".

بهذا أصبح من الواضح تماما أن مبدأ هنتنجتون مرتبط ارتباطا وثيقا بالسياسة الخارجية الأمريكية. لهذا تشبه نظرية هنتنجتون أيضا النظرية القديمة لفترة الحرب الباردة. ولا يمكن أن يكون صدفة أن الذي يقبل هذه النظرية، يجب عليه أن يقبل أيضا بدور الهيمنة للولايات المتحدة الأمريكية.

بعد نهاية فترة الحرب الباردة، كما تعني النظرية الرئيسية لهنتنجتون، لن تكون الصراعات الأساسية في "العالم الجديد" إيديولوجّية ولا اقتصادية في المرتبة الأولى. إنها ستكون صراعات حضارية (ثقافية). وهكذا يربط هنتجتون مفهوم شبينجلر وتوينبي بتطبيق سياسي، أقرب شبها –عند تفحصه- بتنبؤ بأن الحدود الفاصلة بين الحضارات ستكون جبهات معركة المستقبل.

وكما ذُكِر، فإن هنتنجتون يتحدث عن ستار الثقافة المخملي، الذي يفصل أوروبا اليوم، كما كان يفصلها ستار الأيديولوجيا الحديدي في السابق. ثم ينفخ في البوق بأن "الحرب العالمية القادمة، إذا ما كانت ستنشب، ستكون الحرب بين الحضارات".

وكأستاذ للدراسات الإسلامية، وثيق الصلة بالعصر، يكاد لا يكون لدي، بعد كل ذلك، الإمكانية في تجنب التعرض لنظرية هنتنجتون؛ إذ إن إحدى الحضارات الرئيسة في عالم اللاغرب هي في رأي هنتنجتون حضارة الإسلام.

والآن لا فائدة من الحكم على هنتنجتون وأنصاره بأنهم، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وانتهاء فترة الحرب الباردة، اختلقوا -كرباط لمعسكرهم الخاص- من "الإسلام" صورة عدو جديد، مستبدلين ستالين بالخميني كرمز للعدو، وأن شعارهم في الاصطلاحات العسكرية هو "تهديد للجناح الجنوبي للحلف الأطلسي, فهل لنا أن نتساءل عما هو الموافق للحقيقة في نظرية هنتنجتون؟ من الأبسط أن نتناول بالنقد نقاط الضعف الرئيسية للنظرية.

إن نقطة الضعف الأساسية في عرض هنتنجتون تكمن في الافتراض المتضمن في التبسيط غير المقبول، الذي تعتمد عليه نظريته. هذا التبسيط يعني أن الحضارات والثقافات هي أنظمة ثابتة، تتشكل عبر سلسلة من السمات الأخلاقية عبر التاريخ. وبعد ذلك ينتمي أناس إلى أي منها، أو إلى واحدة معينة منها فقط. بيد أننا نعرف أن الثقافات والحضارات ليست أنظمة ثابتة بأي حال؛ فكل حضارة، وكل ثقافة لها تياراتها، التي لا حصر لها، وكل تيار منها يقابله تيار مضاد واحد على الأقل. إن الثقافات ليست بيوتا محاطة بأسوار ثابتة، وإنما تكاد تشبه المياه. لقد قال أحد المفكريّن العرب المعاصرين: "كلنا، البشر في الغرب، والمسلمون، وغيرهم، نسبح في مياه عميقة الغور، بين التقاليد والحداثة. وبما أن المياه تنتمي إلى محيط التاريخ، فإنه لا هدف من محاولة شقها، أو حتى الفصل بينها بالحواجز".

إن نظرية صراع الثقافات تكاد تستلزم الغطرسة المتعجرفة، أكثر من استلزامها للوعي النقدي بالتبعية المتبادلة للمجتمعات الحديثة.

صحيح أن هنتنجتون يقر بأن الثقافات أيضا تتغير، ويعتريها التبدل، ويمكن أيضا أن تختلط. ولكن ذلك لا يسري -على ما يظهر- بالنسبة "للحضارة الإسلامية": إذ إن منطقة الفصل بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية موجودة بالفعل، كما يقول هنتنجتون، منذ ألف وثلاثمائة عام، أي منذ عهد الخلفاء الراشدين تقريبا. وطبقا لإعادة التكوين التاريخي لدى هنتنجتون، يقف تكتل الحضارة الغربية، وتكتل الحضارة الإسلامية منذ ألف وخمسمائة عام تقريبا متواجهين في عداء لأسباب ثقافية (حضارية) أساسا. وهذا ما لا يود أي مؤرخ في العالم أن يوافقه فيه.

ومهما يكن الأمر، فإن التصور بأن الحضارة الإسلامية اليوم هي نظام ثقافي موحد وثابت، ويكون مصدر تهديد للغرب، هو تصور غير منطقي، لأسباب أخرى فطبقا لدلائل القوة السياسية، والعسكرية، والصناعية، فإن معظم المسلمين، وكذلك دولهم، يأتون في مرتبة بعيد عن مرتبة معظم الدول الصناعية. إن مما يمكن فهمه بطريقة أفضل بكثير، شعور العالم الثالث، الذي ينتمي إليه معظم المسلمين اليوم، بالتهديد، وخاصة من قبل الغرب. كما أن هؤلاء المسلمين لا يشكلون أي تكتل للقوة.

هناك صراعات عرقية- دينية في أماكن كثيرة من العالم لا تدع مجالا لإنكارها. وهي صراعات دموية، ولكنها ليست أكثر ولا أقل دموية من الصراعات الكاثوليكية البروتستانتية في إيرلندا، أو الصراعات الأرثوذكسية الكاثوليكية بين الصرب والكروات، أو -وكمثال على الصراع بين المسلمين- الحر ب الأهلية بين الأكراد والأتراك. وللأسف فإنه في أجزاء كثيرة من العالم أصبحت الحرب الأهلية، إلى جانب الحرب (العامة) هي الاستمرار للسياسة بوسائل أخرى، وهذا ينطبق أيضا على دول إسلامية وجماعات إسلامية. ولكن ألا يمكن أن يخطر ببال أحد أن يكشف أن "للثقافة الغربية حدودا دموية"، كما حدث عندما قصفت هيروشيما بالقنابل؟

إن ما يتعلق بشأن التعميم الكبير في "الحضارة الإسلامية" يسري بالنسبة للتبسيط الكبير فيما يتعلق "بالغرب". فلا وجود "للثقافة الغربية" كوحدة.

وإذا ما كنا مقتنعين إذا بأن تصور صراع الحضارات، لا يقدم لنا أي عون، فلن نكون بذلك قد كسبنا الكثير بعد. إذ يوجد في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأمريكية كثيرون ممن يعتقدون بمثل هذا الصراع مع "الحضارة الإسلامية". كما أنه يوجد في البلاد العربية والآسيوية كثيرون، وأيضا كثيرون من المسلمين، مقتنعون بأن هناك صراعا بين الإسلام والغرب. ولكننا نعرف أن الصراعات، وحتى الحروب، تدور أولا في أذهان بعض البشر، قبل أن تصبح واقعا دمويا. الصراعات تنشأ في الذهن، ثم تنفجر في عالم الواقع. وإذا فعلينا أن نتساءل عما يمكننا -نحن المثقفين- عمله, حتى لا ينشب صراع الحضارات؟

2. هل يمكننا عمل شيء ضد صراع الحضارات؟
يجب أن نجري ههنا عملية تفريق؛ فالأمر لا يدور حول كون كل الثقافات على وتيرة واحدة، ولا يدور حول إزالة التناقضات والاختلافات هناك تنافس سلمي مقبول؛ تنافس بين البشر على اختلاف ثقافاتهم. إنه شيء آخر تماما غير الصراع الدموي وغير الحرب. يجب علينا أيضا الاستمرار في القول بأنه ليس للحضارات أو الثقافات في حد ذاتها تصرفات عدائية؛ لا حربا، ولا سلما، وإنما التصرف هو تصرف أتباع هذه الحضارة أو تلك. وبناء على مثل هذا التأمل ينتج أن الحوار بين البشر، على اختلاف مجتمعاتهم، وأديانهم، ونظراتهم إلى العالم، وفلسفاتهم، يمكن أن يساهم في تجنب انتشار صراع القوة. وينبغي، بل يجب علينا العمل على تشجيع الحوار بين البشر، على اختلاف ثقافاتهم. فما الذي يمكن للمثقفين عمله في هذا الشأن؟ أورد هنا ثلاثة مجالات:

1) نشر المعارف حول ثقافة الآخرين.

2) تجنب التعميم.

3) الاستعداد للنقد الذاتي.

1- نشر المعرفة:

من الأمثلة الرائعة لنشر المعرفة عن الآخرين الأستاذة الدكتورة أنا ماري شيميل في ألمانيا، وذلك إلى وفاتها, لقد قامت بالتدريس في كلية أصول الدين بجامعة أنقرة، وباللغة التركية من عام 1954 إلى عام 1959، وكانت تدرس مادة تاريخ الأديان المقارن بأكثر من خمس لغات. ألفت أكثر من مائة كتاب، تتناول كلها بلا استثناء موضوعات إسلامية. ومن بين العدد الكبير من الدكتوراه الفخرية، وغيرها من أوجه التكريم الأكاديمية وغير الأكاديمية، أذكر جائزة السلام لاتحاد الناشرين الألمان. وقد أصبحت الدكتورة أنا ماري شيميل الأكثر شهرة في الناحية العلمية من خلال دراساتها عن التصوف الإسلامي، والحضارة الإسلامية في جنوب آسيا. وكان هدفها يتمثل في إقامة الجسور بين البشر في الشرق والغرب، كما أن نشاطها الشامل في الترجمة من العربية والفارسية والتركية والأوردو والسندية، كان لخدمة محاولة التفاهم بين أديان العالم؛ إذ علقت الدكتورة أنا ماري شيميل آمالها على الحوار والتصالح من خلال المعرفة في مواجهة الحكم المسبق والكراهية.

لم تؤلف الدكتورة أنا ماري شيميل كتبها ومقالاتها لعدد من المختصّين فقط. كما أن محاضراتها، التي تكاد لا تحصى، كانت موجهة إلى الجمهور العريض. كان على هذه المحاضرات أن تدعو الألماني المثقف، والألمانية المثقفة إلى الإقدام على لقاء الأجنبي. إن موهبة الدكتورة أنا ماري شيميل اللغوية الفريدة من نوعها، وقدرتها الإبداعية على المحاكاة الشعرية بكل تفاعل، لم يعرف لها نظير في مجال اللغة الألمانية, ويجب الرجوع حقا إلى شخصية فريدريش روكيرت، التي نالت احترامها، حتى نقابل مثل هذه الموهبة.

لقد نالت الدكتورة أنا ماري شيميل جائزة السلام لاتحاد الناشرين الألمان عام 1995 بسبب عملها طوال حياتها من أجل إحياء التفاهم في أوروبا تجاه الدين الإسلامي، والثقافة الإسلامية وفي كلمته بمناسبة الاحتفال بتسليم الجائزة، الذي كان موضوع نقاش لدى الرأي العام، قال الرئيس الألماني السابق، رومان هيرتسوج: إن جائزة السلام موجهة إلى رحالة بين الثقافات، وبالتالي لمنع التصور المرعب عن صراع الثقافات العالمي.

وإذا ما أردنا الحديث عن الحوار، فإننا نعني أنواعا كثيرة من الحوار. فلقد كان اهتمام الدكتورة أنا ماري شيميل، على سبيل المثال، بالحوار بين الثقافات أكثر من اهتمامها بالحوار بين الأديان، وفضلا عن ذلك كانت مهتمة بقوة بالحوار بين الآداب، بل إنها شجعت ذلك شخصيا من خلال الكثير من الترجمات للشعر العربي، وأدب الأوردو، والتصوف التركي، والفارسي.

2- تجنب التعميم:
إن هذا ينتج من معرفة الآخر، فالتعميمات تستند غالبا على الجهل، والنية السيئة. إن المحادثات، التي تبدأ "بأن المسلمين هم كذا أو بأن الغرب هو..." ليس لها مغزى غالبا. ورغم ذلك يكثر استخدامها في الجدل الهجومي. ويحدث هذا؛ لأن هذه التعميمات تكون إيجابية بالنسبة إلى بعض من يصدرها، وسلبية بالنسبة إلى الآخر. لهذا فإن التعميمات تكون ذات تأثير قوي بوجه خاص في المجادلات، وفي الصراعات، وفي الحروب.

ولكنها قاتلة بالنسبة إلى الحوار. إن الحوار بين طرفين يكون ممكنا فقط، إذا ما أخذ كل طرف الطرف الآخر شخصيا مأخذ الجد، ولم ينظر إليه بمنظار حكم سلبي مسبق.

3- الاستعداد للنقد الذاتي
لعل هذا المبدأ هو أهم الشروط لأي حوار, إذ من ليس لديه الاستعداد لممارسة انتقاد جماعته الخاصة، وموقفه الخاص، فإنه يحاول إقامة حوار بدون مغزى؛ إقامة حوار بين الصم. إن هذا المبدأ يعتمد على المعاملة بالمثل، بمعنى أنه إذا ما امتنع أحد طرفي الحوار باستمرار عن ممارسة النقد الذاتي، فسيتوقف الطرف الآخر في وقت ما عن الاستعداد للنقد الذاتي. وهذه حقيقة نفسية بسيطة.

4. ضرورة الحوار:
نحن في حاجة إلى هذا الحوار اليوم في جميع المجالات. وأود أن أضرب لكم مثلا على ذلك من ألمانيا، فكما تعرفون، يعيش في ألمانيا حوالي ثلاثة ملايين مسلم، معظمهم من أصل تركي. وبالمناسبة، فهذا مثال للعولمة. إذ يوجد الإسلام في ألمانيا، وفي فرنسا، وفي بريطانيا، وفي هولندا وغيرها. وليس من الممكن أن يعيش الناس في هذه المجتمعات من غير حوار يفضي إلى مزيد من التفاهم والتعايش السلمي والاحترام المتبادل؛ لأن إلغاء الحوار يعني أن تتزايد الأوهام المسبقة في نفوس الناس، وأن يتسع سوء الظن بين الفرقاء فلا بديل عن الحوار، لأنه المدخل إلى التفاهم، ولأنه ضرورة من ضرورات إلغاء الصراع.

إنّ الحوار هو البداية الصحيحة لتجنب الصراع، وحين يغيب الحوار، أو يغيب تبدأ فكرة الصراع بين الناس أو الحضارات بالظهور.

******************

*) جامعة بون-ألمانيا، مدير معهد الدراسات الشرقية.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=52

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك