فلسفة مالك بن نبي الحضارية

فلسفة مالك بن نبي الحضارية

بركات محمد مراد*

«إن الدارس لفكر مالك بن نبي سيكتشف أَنَّهُ -دون معاصريه من المفكرين المسلمين- قد أولى اهتماما أساسيا وعميقا للإنسان المسلم، بصفته تكوينا شخصيا وواقعا اجتماعيا، متابعا في ذلك علله ونقائضه، ومحللا أبعاد الظواهر والمشكلات الاجتماعية التي تحيط به، ومقترحا الحلول في إطار من الرؤى المستقبلية المتفائلة. وإجمالا كان بن نبي في كل فكره مدرسة وحده». علي القريشي.

وقد أصاب الباحث «على القريشي» فمالك بن بني هو أول من كتب –في العالمين العربي والإسلامي- عما يسمى اليوم بالتنمية. وأول من تناول بشكل منهجي مستقل التراث والمعاصرة. فضلا عن كونه من القلائل الذين طرحوا -من منظور نقدي فعال- مشكلات التراث والمعاصرة، واقترح الحلول لها، وعاش في القرن الماضي المشكلات التي نعيشها اليوم والناتجة عن العولمة والهيمنة الغربية في صورها القديمة، فكان من القلائل الذين حرصوا على تأكيد أن ثمة طريقا ثالثا للنهضة غير الطريقين الرأسمالي والاشتراكي. ويبدو أن الرؤى التي قدمها لا تزال سليمة إلى حد كبير.

وقد كان له في كل ذلك أطروحاته وأفكاره التحليلية والتشخيصية المميزة، وحتى مصطلحاته الخاصة، التي شاعت في العقود الأخيرة على ألسنة وأقلام الكثيرين من المفكرين والكتاب. ومن هنا لا يكون غريبا أن يقال عنه إنّه: «فيلسوف أصيل له طابع العالم الاجتماعي الدقيق الذي أتاحت له ثقافته العربية والفرنسية أن يجمع بين علم العرب وفكرهم المستمد من القرآن والسنة والفلسفة والتراث العربي والإسلامي الضخم، وبين علم الغرب وفكرهم المستمد من تراث اليونان والرومان والميسحية»([i]). وهذا صحيح إلى حد بعيد، وبخاصّة، وأنّه عاش في المجتمع الأوروبي فترة ليست بالقصيرة من عمره، إلا أن تعمقه في الثقافة الأوروبية كانت سببا في تحرره من نفوذها، ومعرفته لمصدرها ودوافعها الخفية وبواعثها العميقة، ولا سيما أنّه جمع إلى جانب الثقافة العلمية ثقافة فلسفية واسعة الأرجاء، عميقة الأغوار، كما تدل عليه آثاره ومؤلفاته العديدة التي تركها.

ولادته ونشأته العلمية: ولد مالك بن نبي عام 1905م في مدينة تبسة من أعمال قسنطينة بالجزائر، وكانت مراحل دراسته الابتدائية والثانوية بين مدينتي تبسة وقسنطينة كما يروي في كتابه «يوميات شاهد القرن»، وقد نشأ نشأة دينية واجتماعية وفقا لتعاليم القرآن الكريم وللتعليم التقليدي الذي كان سائدا في الجزائر آنذاك ثم ذهب إلى باريس في شبابه عام 1930 وفشل في الالتحاق بمعهد الدراسات الشرقية؛ لأن الالتحاق به بالنسبة لمسلم جزائري في ذلك العصر لا يخضع لمقياس علمي، وإنما يخضع لمقياس سياسي على حد قول مدير المعهد في ذلك الوقت.

التحق بن نبي بمعهد اللاسلكي حيث تخرج في عام 1935 مهندسا. وقد تزوج من فرنسية هداها الله إلى الإسلام وصار اسمها خديجة، و كانت سيدة توفر له كل أسباب الراحة والرعاية، وتساعده على الكتابة والتأليف. وفي باريس تعرف على المستشرق الفرنسي ماسينيون، كما تيّسر له أن يقابل "المهاتما غاندي" الذي زار باريس عام 1932، ثم أخذ في التردد بين الجزائر وفرنسا لسنوات طويلة، وقد جاء إلى مصر حيث اتصل بالرئيس جمال عبد الناصر، وبقي حتى عام 1963 بعد استقلال الجزائر، فرجع إلى بلده ليصبح مديرا للتعليم العالي حتى عام 1967م.

وفي القاهرة استطاع إتقان اللغة العربية وبدأ يحاضر ويكتب بها. وكان بيته مدرسة ثقافية يقصدها الطلبة من عرب ومسلمين، ويستمعون إلى أفكاره ورؤيته لمسألة الإصلاح والتجديد. وقد كان مالك أحد مستشاري المؤتمر الإسلامي في القاهرة، وفيها كانت أغنى مراحل عطائه الفكري، وبعد أن استقال من منصبه عام 1967 تفرغ للعمل الفكري والإصلاح، وقضى ما بقي من سنوات عمره في الجزائر إلى أن توفاه الله تعالى، في الجزائر عام 1973م.

مفكرّ إصلاحي: إذا كان الاستنهاض والتحريك مهمة مصلح ديني واجتماعي عظيم هو جمال الدين الأفغاني، ووضع أسس البرنامج الإصلاحي على أساس اجتماعي، مهمة الإمام محمد عبده الذي كان تركيزه على التربية والإعداد لإصلاح الفرد خطوة على طريق إصلاح المجتمع، فإن مهمة مالك بن نبي كانت مركزة على الفاعلية الاجتماعية للعقيدة، لأن فتح باب الإشعاع الروحي في الحياة الاجتماعية -كانت في نظره- بناء نمط حضاري مميز، عماده التوازن الروحي والمادي، ولا يكون هذا إلا بتجاوز الموروثات السلبية التي تعيق التقدم، والمؤثرات الاستعمارية، وفتح الطريق للتراث النافع وإغناؤه بالحركة العلمية الناشطة.

يعلن مالك بن نبي في مشكلة الثقافة، أن من سبقه من المصلحين قاموا بجانب من المهمة، هو تجاوز السلبيات وتحطيم معوقات التقدم، ونجحوا في ذلك، ولكنهم لم يستطيعوا فعل اللازم بوضع خطط الإصلاح وبرامجه، مع الاهتمام بالفاعلية كقيمة أساسية في التغيير الاجتماعي الذي يسعى إليه المجتمع الإسلامي لصنع حضارة.

ولا شك أن وجود مالك بن نبي في أوروبا، كان له تأثيره الإيجابي فقد كان مستثارا بظاهرة المدنية الحديثة، وجوانب منتجها التكنولوجي، فكان لا ينفك يتردد على «متحف الفنون والصناعات» منذ الأيام الأولى لنزوله باريس، فتبهره روائع المتحف بما يحتويه من مبتكرات العلم والتكنولوجيا الحديثة. وقد كان لهذه الزيارات أثرها في تنمية تفكيره الجدي نحو النواحي العلمية والصناعية، حتى قرر أن يتجه إلى دراسة الهندسة، فأخذ يهيئ نفسه علميا لذلك، إلى أن تم قبوله في معهد الكهرباء والميكانيكا. وإلى جانب دراسته الهندسية كان «ابن نبي» يوسع من دراساته العلمية، فكان يتردد على معهد ليلي ملحق بمتحف الفنون والصناعات، يدرس فيه الكيمياء التطبيقية، وكان إحساسه في هذه الفترة كما يقول: «كنت أريد أن أفهم كل شيء: الجبر والهندسة والكهرباء، والطبيعة والميكانيك»(2)؛ لذا كان يحرص على اقتناء الكتب العلمية فأثرى مكتبته بالكتب الهندسية والتطبيقية حتى أخذت تلوح في ذهنه أفكار تقنية عديدة. وعلى الرغم من دراسته للعلوم الرياضية والهندسية إلا أنه كان واسع الاهتمام بالدراسات الاجتماعية والإسلامية التي ظل يواصل التزود بمؤلفاتها، والانكباب على مصادرها.

وبالإضافة إلى العوامل الثقافية المذكورة لا بد أن نشير إلى أثر كتابات بعض الغربيين في تشكيل ثقافته الاجتماعية وأسس تفكيره الاجتماعي، نذكر منها كتاب «تاريخ الإنسانية الاجتماعية» لـ «كور تلمون» وما كتبه «كوندياك»، وكتابات بعض المستشرقين التي أخذت موقعا بالغ التأثير في تفكيره، ككتابات «زويمر» و «دوزي» وغيرهما، التي تطرقت إلى الإسلام والحضارة الإسلامية، بالإضافة إلى كتاب «في ظلال الإسلام الدافئة» لـ «إيزابل إيرهارت» و «الإسلام بين الحوت والدب» لـ «أوجين يونج» وترجمة «سيلفتر دوسلان» لابن خلدون، وغيرهم من الكتابات التي يقول عنها: «إنني اكتشفت وأنا بين الخامسة عشرة والعشرين من العمر أمجاد الحضارة الإسلامية في ترجمة دوساس لمقدمة ابن خلدون، وفيما كتبه دوزي عنها. وإنني على إدراك تام لما أدين به لهذه المطالعات»(3).

وقد تميزت قراءته لابن خلدون في أثرها الواضح في نظريته في الدورة الحضارية، والتي يمكن اعتبار فكرته الأساسية فيها امتدادا متطورا للفكر الخلدوني. كما تأثر بعدد آخر من الفلاسفة والمفكرين الغربيين مثل نيتشه وكانط وجون ديوي، فتأثره بكانط يتجلى من خلال فكرته عن «الواجب والحق» التي احتلت مكانة بارزة في فكر «بن نبي» الاجتماعي والتربوي، فالواجب قبل الحق، صارت لازمة تربوية في كل كتاباته. أما تأثره «بجون ديوي» فيمكن أن نتلمسه في الأبعاد البراجماتية، التي يمكن استكشافها في بعض جوانب تفكيره، وقد قال عن جون دوي: «كان جون ديوي اكتشافا لي في أكثر من مجال»(4).

مؤلفاته:

أما مؤلفاته فهي:

1) آفاق جزائرية، ترجمة الطيب الشريف، الجزائر، مكتبة النهضة الجزائرية، بدون تاريخ.

2) النجدة، المطبعة العالمية، القاهرة عام 1957.

3) وجهة العالم الإسلامي، ترجمة عبد الصبور شاهين، القاهرة عام 1959.

4) فكرة كومنولث إسلامي، القاهرة عام 1960.

5) مذكرات شاهد القرن – الطفل، ترجمة مروان القنواتي، بيروت دار الفكر عام 1969م.

6) مذكرات شاهد القرن- الطالب، دار الفكر، بيروت عام 1969.

7) إنتاج المستشرقين، مكتبة عمار للطباعة والنشر، القاهرة عام 1970.

8) بين الرشاد والتيه، دار الفكر، دمشق عام 1978م.

9) تأملات، دار الفكر، دمشق عام 1978.

10) دور المسلم ورسالته، دار الفكر، دمشق عام 1979م.

11) شروط النهضة، ترجمة عبد الصبور شاهين وعمر كامل، دار الفكر، دمشق 1979م.

12) الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، دار الفكر، دمشق عام 1979م.

13) ميلاد مجتمع، شبكة العلاقات الاجتماعية، ترجمة عبد الصبور شاهين، دمشق عام 1974م.

14) فكرة الافريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج، دار الفكر، دمشق عام 1974.

15) المسلم في عالم الاقتصاد، دمشق، دار الفكر عام 1979م.

16) مشكلة الثقافة، دار الفكر، دمشق عام 1979.

17) في مهب المعركة، دار الفكر، دمشق عام 1981م.

18) الظاهرة القرآنية، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق عام 1981م.

رؤيته الحضارية

مالك بن نبي واحد من المفكرين الذين حجب فكرهم عن الناس عدم اهتمام الجمهور بهم، فقد أمضى في أوروبا أكثر من ثلاثين عاما متأملا يحلل ويضع شروط النهضة للمجتمع الإسلامي(5).

لقد حمل معه إلى باريس –وهو ما يزال في سنيّ الدراسة- إحساسه العميق بمشكلة المستعمرات، وبدلا من أن يأخذه الانبهار والشعور العميق بالإحباط، أخذ يتتبع بمنهجية تاريخ الحضارة الأوروبية: ذلك التاريخ الذي أورث ما سماه «الحالة الأوروبية»، وقد أناخت بثقلها على مسيرة الإنسان في العالم الإسلامي، حينما استقالت الحضارة الإسلامية من التاريخ، بعد زوال دولة الموحدين في المغرب.

لقد استلهمت الحضارة الأوروبية المسيحية مزيج الثقافة الهلينية الرومانية. وبدا ذلك نمطها أو كما قال ديورانت في قصة الحضارة: «فقد كانت المسيحية أروع ما أنتجت الثقافة الرومانية»، وبالتالي فقد امتدت خارج حدودها النفسية تحت شعار «السلام الروماني» ثقافة سيطرة وقهر، لا ثقافة احتواء ووعي، كما لاحظ «هانز شيفر» المفكر الألماني. وهكذا بدا العصر الصناعي حلقة من مسيرة الحضارات التاريخية تطرح العلاقات الإنسانية في إطار كمي اقتصادي، لا مكان فيه للقيم الإنسانية في مقياسها المطلق.

ولقد انعكس هذا الواقع النفسي الاقتصادي على مسيرة الإنسانية منذ بداية عصر النهضة، وكانت ظاهرة الاستعمار مظهرا من مظاهر امتداده نحو الآخرين، ليس في الإطار السياسي والعسكري فحسب، بل في الإطار الفكري والتربوي أيضا.

كانت هذه هي رؤية مالك بن نبي المهندس الذي تخرج ليخط طريقه في عالم الأشياء. أي في الإطار الذي يدلف إلى التنمية التكنولوجية التي ابتدعها العصر الصناعي. وفيما هو في طريقه هذه يرسل إلى إحدى البلاد الإسلامية طلبا يسهم في مسيرتها التكنولوجية، لفت انتباهه ذلك العالم الإسلامي الذي تقطعت شبكة علاقاته على كل صعيد، فإذا كتابه لا يحظى بأي جواب(6).

لقد اتجه مالك نحو تحليل الأحداث التي كانت تحيط به، وقد أعطت ثقافته المنهجية قدرة على إبراز مشكلة العالم المتخلف باعتبارها قضية حضارة أولا وقبل كل شيء. وقد تساءل ما هي الثقافة، ورأى أنه لا يجوز لنا أن ننتهي بتعريف محدد للثقافة. بل علينا أن نبحث عن وظيفتها الاجتماعية في خطة تحليلية نضعها في إطار برنامج قابل للتطبيق يقول: «وحين صارت الثقافة تحصيل المعلومات لم تعد وعيا بل عملية تجميع، والخوض في التفاصيل، بل الخوض في التطبيق العملي أيضا، وبمعنى آخر نرى أن الثقافة الفلسفية –إن صح لي استخدام هذه الكلمة- أي الثقافة التي تدور في فلك فلسفة معينة دون أن تخوض فيها كممارسة، مجرد ثقافة تقريرية وليست تحليلية، تهتم بالثابت والجامد بل تهتم بالمتغيرات على كل صعيد"(7) ويضيف «وحين اتجهت الثقافة إلى امتداح الماضي أصبحت ثقافة أثرية لا يتجه العمل الفكري فيها إلى أمام بل ينتكس إلى وراء..».

ومن الجدير بالذكر أن مالك بن نبي يهتم في الثقافة التي يسعى إليها بالفاعلية، والارتباط بالواقع من أجل تغييره، فمن السهل -في نظره- أن يبدع العقل الإنساني نظريات وفلسفات، تأخذ بلب الناس نتيجة بريق أفكارها، لكنه من الصعب أن يخضعها للواقع العيني في أغلب الأحيان. ولعل التاريخ الفلسفي يؤكد الحقيقة السابقة، فكم من مفكر وفيلسوف نظر وفكر، ولكن نظريته لم تتحقق على أرض الواقع، إما لطوباويتها واستحالة عقلنتها، وإما أنها لم تستكمل شروط تحقيقها، ومالك بن نبي وإن كان قد وضع نظريته لبناء الإنسان الشاهد كنموذج غائب ونموذج مستقبلي في نفس الوقت، حتما أدرك نتيجة تجربته الشخصية وثقافته الواسعة أن التنظير غير كاف لحل مشكلاتنا الاجتماعية والحضارية ما لم يصحبه وضع الكيفيات، أو التحول من نقد العقل إلى نقد الفعل.

لقد شهد العالم الإسلامي منذ مطلع القرن العشرين نهضة فكرية، اهتمت منذ بدايتها بالإصلاح الديني والثقافي، مما شهد بروز نظريات متنوعة، تختلف من مفكر إلى آخر لاختلاف النزعة والمذهب، لكن الملاحظ أن جميع المفكرين توقفوا حيث بدأوا، والمشكل يكمن في المفكر ذاته، إذ يعتبر أن التنظير كاف لحل مشاكل الإنسان، وأن الإنتاج الفكري هو معيار التقدم وفيصل التفرقة بين الأمم المتحضرة والمتخلفة. لكن الحقيقة الواضحة أن التنظير مهما بلغ من الإتقان والإتساق يكون عديم الجدوى، إذ لم يتجه صاحبه إلى تجسيده، والإصرار على اختباره والعمل على إخراج الخطاب من بؤر التجريد إلى بؤر الفعل، إذ لا بد أن يتحول المفكر من منطلق التنظير إلى منطلق البناء(8).

والجديد في رؤية مالك بن نبي أنه لا يريد أن يحبس نفسه في عالم التنظير والفلسفة، وإنما حاول أن يتجه إلى بناء أفكاره عن طريق تحديد وسائل البناء. وإذا كان الإنسان هو مناط الأمر وواسطة العقد في فلسفته، فإن شروط البعث والإحياء والنهضة تتطلب التحول من نقد العقل والذات إلى نقد الفعل والحال.

المؤثرات الاجتماعية والتكنولوجية والتغيير الثقافي: إن انتقال «بن نبي» من مجتمع تلفه ظاهرة التخلف العلمي والتقني إلى مجتمع آخر يتميز بالتقدم العلمي والتقني المتطورة أثار فيه ولع التقصي لأسباب الظاهرة، وإجراء المقارنات والظروف المحيطة بكل منهما. لقد لاحظ بحسه التربوي أن التنشئة العملية والتكنولوجية في المجتمع الفرنسي تبدأ مع الطفل، حيث تتألف ألعابه من أجهزة وأدوات ميكانيكية يعبث بها ويفككها و «الأطفال ينشئون في هذا الاتجاه منذ صغرهم إذ الهدية الأولى التي تقدمها لهم الأسرة لعب «الميكانيكو»(9).كما أن الرجل الفرنسي من جهته يبرهن على أنه رجل تقنية على المستوى الاجتماعي، فبمجرد خروجه من مكتبه أو مصرفه يصير –كما لاحظ «بن نبي»– في بيته نجارا أو حدادا أو كهربائيا، بينما رجل الريف الجزائري لا يجد في بيته آلة أو مسمارا، أو شاكوشا أو سلكا لإصلاح بيته، أو أدواته أو محراثه، وكذلك بالنسبة لرجل المدينة الذي يقضي وقته في لعب الدومينو أو الورق.

لقد عززت هذه الانطباعات والمقارنات في «بن نبي» ضرورة العمل على إحداث التغيير العلمي والتكنولوجي، ابتداء من التربية والتنشئة الاجتماعية، وإدخال العنصر العلمي والتقني، كجزء من المكونات التربوية للثقافة التغييرية. ويؤكد الباحث «على القريشي»(10) أنه كان لتأثره بهذا الجانب في حياة المجتمع الفرنسي أثر شخصي لاندفاعه نحو المزيد من التحصيل العلمي والتقني، حتى شغل كثيرا بالأدوات والآلات والأجهزة التطبيقية، بما يتجاوز حدود دراسته المهنية، معتبرا ذلك الانشغال غير بعيد عن تصوره الاجتماعي، إذ أن «تلك الأدوات -في يدي- كما يقول- أشعر بها ليست لمجرد اللعب، بل هي دلائل على مقدار تطور المجتمع"(11). كما أن سعيه الشخصي على هذا الصعيد لم يكن لنيل مكسب فردي، بقدر ما هو تعبير عن أشواق التهيؤ للعمل التغييري العام، والاستعداد للمساهمة في إزالة الفوارق بين تخلف مجتمع وآخر، وفي هذا يقول: «أصبحت أشعر كأني حملت جميع آثام مجتمع، يبحث عن الخلاص من بؤسه»(12).

إن الواقع التكنولوجي الذي لمسه «بن نبي» نتيجة معايشته للمجتمع الغربي، وما ينطوي عليه واقع ذلك المجتمع من منطلق علمي تطبيقي كان له أكبر الأثر عليه فكريا وسلوكيا، وفي هذه يقول: «أصبحت في الحقيقة أعيش «الورشة» المختصة بالجانب التطبيقي لملاحظاتي عن البيئة الجديدة، وبصياغة مقياس تطوري الشخصي تجاهها، سواء من حيث الفكر أو السلوك أو من حيث ما أزكي من فضائلها، وما أرفضه من رذائلها، وكم استفدت من هذه المدرسة... مدرسة المعايشة»(13).

وقد ترافق هذا التعاطي مع نقاط أخرى هي زياراته لـ«متحف الصناعات والفنون» في باريس الذي كان يتردد عليه، والذي كان يزيده إمعانا في الجانب التكنولوجي للحضارة الغربية حتى «لم يصبح المتحف مجرد مكان جمعت فيه غرائب وعجائب الفن والصناعة، ولكن المستودع المقدس الذي أودعت فيه هذه الحضارة أعلى ما أنتج من عبقريتها العلمية والتكنولوجية»(14).

ولا يمكننا أن نغفل الحياة الباريسية بما فيها من نظام وترتيب وتنسيق وقيم جمالية والتي لعبت دورا كبيرا في تشكيله الذوقي وتصوراته الجمالية، خاصة وأنه قد تزوج فرنسية اعتنقت الإسلام، وكانت أنموذجا للنظافة والدقة وترتيب الأشياء وتنسيقها وغير ذلك من المهارات اليدوية التي كانت تجيدها واكتسبتها من هذه الحضارة والسلوكيات اليومية ذات المعطى الجمالي، الذي أثر في نفسه، ولذلك نجده يقول عن هذا المناخ الغربي بأنه: «دالة على التطور النفسي الذي سيجعلني من أشد الناس نفورا من كل ما يسيء لذوق الجمال... تفسر ثورتي على بعض جوانب تخلفنا التي تصبح موضع السخرية.. غير أن الاستعدادات التي تدفعني إلى هذا الموقف كانت أصيلة في نفسي، وإنما وجودي بفرنسا ومعايشتي لزوجتي طورا هذه الاستعدادات التي تدفعني إلى هذا الموقف كانت أصيلة في نفسي، وإنما وجودي بفرنسا ومعايشتي لزوجتي طوّرا هذا الاستعدادات الوراثية، إلى أفكار اجتماعية واضحة»(15).

ومن هنا لا يكون غريبا أن نجد تقييما علميا وموضوعيا لهذا الجانب عند باحث معاصر حين يقول: «لقد تزاوجت أفكاره الجمالية بأفكاره التربوية، التي تجذرت من خلال ما استفاده عن مدرسة ابن باديس العملية، التي كانت تحول بأساليبها التربوية المنحرفين والمدمنين في مدينة (تبسة) إلى أناس مناضلين، يتصدرون العمل الاجتماعي والوطني، وهو الأسلوب الذي رأى «بن نبي» أنه عن طريقه يمكن بث القيم العملية والعلمية والجمالية»(16).

ويمكن القول: إن تنشئة «بن نبي» الإسلامية والدينية التي تلقاها في أسرته وبيئته الجزائرية وتثقيفه الإسلامي، إلى جانب المؤثرات الجمالية والتقنية والعملية التي أخذها عن البيئة الفرنسية، قد ترجمت لديه فيما بعد في فكرة أساسية، هي أن مشكلة المجتمع المتخلف هي مشكلة بناء حضارته، وبناء الحضارة لا يتم دون بناء للثقافة.. بناء يكون بالضرورة تربويا، خاصة في مجتمع يعيش حالة اللاحضارة واللاثقافة.

من فهم الحضارة إلى تشكيل وعي الإنسان: الحضارة -عند مالك بن بني- هي مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه(17). فالحضارة إذن حصانة لحياة الإنسان، وفيها تأمين على مصيره، وتوفير لاحتياجاته، وحفاظ على شخصيته الوطنية والدينية.

الحضارة هي النتاج الحاصل ضرورة عن حركة المجتمع، حركة شاملة، في مجال الفكر والاقتصاد، وفي رحاب التوازن الروحي والمادي، فالطبيعة «توجد النوع، ولكن التاريخ يصنع المجتمع، وهدف الطبيعة هو مجرد المحافظة على البقاء، بينما غاية التاريخ أن يسير بركب التقدم نحو شكل من أشكال الحياة الراقية هو ما نطلق عليه اسم الحضارة»(18). فالحضارة يصنعها تاريخ الإنسان بعد أن تمده الطبيعة بالطاقات، ولكن إذا أحسن تكييف هذه الطاقات، وتوجيهها نحو أهداف محددة واضحة، وهذا الأمر مرهون بمدى الانسجام بين النمط الفكري الذي يحكم هذه الحضارة عبر التاريخ، وبين الطاقات المتوفرة أو التي يمكن توفيرها لتنفيذ الجانب العملي. وصناعة التاريخ عند مالك بن نبي تتم تبعا لتأثير طوائف اجتماعية ثلاث:

أ‌- تأثير عالم الأشخاص.

ب‌- تأثير عالم الأشياء.

ج- تأثير عالم الأفكار.

لكن هذه الثلاثة لا تعمل متفرقة، بل تتوافق في عمل مشترك تأتي صورته طبقا لنماذج إيديولوجية من عالم الأفكار، يتم تنفيذها بوسائل من عالم الأشياء، من أجل غاية يحددها عالم الأشخاص.. وكما أن وحدة هذا العمل التاريخي ضرورة فإن توافق هذه الوحدة مع الغاية منها، وهي التي تنسجم في صورة حضارة، يعد ضروريا أيضا»(19).

توازن الإنسان ومكونات الحضارة: يعطي هذا النسيج المطلوب لصنع الحضارة مفهوما يقيم التوازن بين وجهي الحياة المادية والمعنوية، وبهذا التوازن يتم الالتزام بالإسلام من أجل التحضر، حيث ترفض أحكامه المثالية في اعتزال المجتمع والمادة، كما يرفض السقوط بالإنسان ليصبح عبدا للأشياء. فأي توجه حضاري جديد يتطلب إعادة قضية التوازن الروحي- المادي، وإذا ما توحدت ذات الفرد يكون ذلك خطوة على طريق توحد المجتمع، أي صنع شبكة علاقات اجتماعية توازن بين الإنسان بأشياء مجتمعه وبين علاقاته مع العقيدة والأفكار التي تنبع منها قواعد السلوك والأخلاق في المجتمع، بقدر ما تنجح هذه العلاقات التي تسير بتوازن يمكن أن تعجل في بزوغ فجر حضارة جديدة تعيد الدور للعالم الإسلامي وللعرب على المستوى العالمي.

وقد رأى مالك بن نبي أن الحضارة إذا كانت هي استيراد أشياء الأمم الأخرى، أو استعارة فكرها ومنتجاتها، فإن في هذا الفهم بذرة موت الطموح الحضاري للشعوب، ولذلك يلاحظ أن الاستعمار يحاول دوما تنمية هذا الفهم العقيم للتحضر. «ليس بالشراء للمصنوعات والأدوات، يتم التخلص من التخلف من أجل صنع التقدم الحضاري». إن مشكلة الحضارة تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان، مشكلة التراب، مشكلة الوقت. فلكي نقيم بناء حضارة لا يكون ذلك بأن نكدس المنتجات، وإنما بأن نحل هذه المشكلات الثلاثة من أساسها»(20) الإنسان-التراب- الزمن. ثلاثة أركان أساسية في نظره لبناء الحضارة، فتفاعل الإنسان مع الإمكانات المحيطة به في إطار الزمن الضروري، هو الذي دفع التاريخ في مسيرته. والتاريخ حينما يتحدث عن الإنسان المتحرك في إطاره والمتفاعل مع وسائله والمسيطرة على مصيره، وإنها لهي الحضارة تتعاقب عبر العصور.

ولا ينسى مالك بن نبي أهمية القيم وفعالية الروح، فالروح إذا ما اندفعت بالإنسان فإنما تندفع به لتوظف طاقاته وفكره طبقا لمثل أعلى ينشر لونه وذوقه وفعله وأسلوبه على رقعته الجغرافية والبشرية معا. فإذا ما ارتسمت معالم هذه الرقعة، فذلك هو المجتمع في صورته المتحركة يترك بصماته على صفحة التاريخ فنا وقيما وإنجازا وتلك هي الثقافة في صورتها التاريخية. بهذا الفهم للحضارة القائمة على الإنسان والتراب والوقت، لابد من التأكيد على أن السمة العامة لهذه الحضارة تنبع من قواعد الأخلاق التي تضع في الأولوية كرامة الإنسان وحقه في العيش الكريم، وما ذلك إلا التعبير الواقعي عن روح القرآن الكري، وتأسيسا على ذلك يكون من أوليات أية حضارة أنها «تستلزم رأس مال أوّلي يكون من الإنسان والتراب والوقت، فهي مركبة من هذه العناصر الثلاثة الأساسية، ولا بد من أن يركبها العامل الأخلاقي، أعني يحتم تماسكها، وبدون هذا العامل يوشك أن تتمخض العملية عن (كومة) لا شكل لها، متقلبة عاجزة عن أن تأخذ اتجاها، أو تحتفظ به، أو أن تكون لها وجهة، بدلا من أن تكون (كلا) محددا في مبناه، وفيما يهدف إليه»(21). فعناصر الحضارة من إنسان وتراب ووقت لن تجدي منفردة، إن لم يكن الجامع المشترك لها الأخلاق بمعناها الواسع، وهذا مبدأ عام وأساس وفقدانه يفقد العناصر الثلاثة فعاليتها التحضيرية. ولهذا مع أهمية العلوم على اختلاف وتنوع مجالاتها من علوم إنسانية، إلى طبيعية وسواها، إلا أن تلازمها مع الأخلاق هو الذي يجعل منها رسالة حضارية لها صفة العالمية(22). ومن هنا فإذا كان لكل مجتمع كيفيته، وخصائصه المميزة فيكون لكل مجتمع حضارته، التي تنبع من قيمه الأصيلة، وبذلك يمكن الاستنتاج بأن التنمية التي تهدف إلى إيجاد حضارة «لا تشتري من الخارج بعملة أجنبية، غير موجودة في خزينتنا، فهناك قيم أخلاقية، اجتماعية، ثقافية لا تستورد، وعلى المجتمع الذي يحتاجها أن يلدها»(23).

إن علينا أن ننتقل من تكديس الأشياء إلى بنائها وفق إطار من النموذج المستلهم لروح الثقافة، وهذا هو الشرط الأساس لفعالية الاقتباس وقيمته في بناء الفكرة والإطار. فالذوق العربي الإسلامي لا يدرك تماما «استغرابه»، أعني الإطار الأساسي لقيمة الأشياء المقتبسة من العالم الغربي لأنه لم يفكر يوما في ربط الأشياء بالفكرة التي أبدعتها والذوق الذي أضفى عليه طابعه، إنه لم يفكر في مشكلة النموذج الخاص به كيما يدرك الفواصل التي تفصله عن النموذج الذي اقتبس منه أشياءه ووسائله، وهو العالم الأوربي، بينما على العكس من ذلك نرى الذوق الغربي يدرك تماما «استشراقه» أعني معرفته بالشرق عندما يستوحيه. وإذا كان من العبث أن نضع ستارا حديديا بين الحضارة التي نريد تحقيقها والحضارة الحديثة، فليس من الواجب لكي ننشئ حضارة أن نشتري كل منتجات الأخرى، لأن ذلك مستحيل كيفا وكما. وبالتالي فإن الطريق الأمثل أن نسلك في أطرنا التربوية إدراكا تحليليا للمشكلات نبني عبره حضارتنا من خلال ثقافة تتمثل فيها قيمنا الاجتماعية في أقصى فعاليتها(24).

فالحضارة في نظر مالك من نبي ليست إحدى المصنوعات الحديثة الآلية، يحضر لشرائها كمية العملات الصعبة، وإنما هي حركة شعب أيقظته ثورة على الواقع المتخلّف، وتهيأت له أفكار نابعة من تراثه وطبيعة تركيبته الثقافية والاجتماعية من أجل تحقيق رؤيته الفلسفية وقيمه العقائدية. ومن هنا لا يكون استعمار إلا حيث تكون هناك قابلية للاستعمار، والحضارة لا تنبعث -في نظره- إلا بالعقيدة الدينية الصحيحة، كما هي واضحة في الإسلام، ولا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من أشياء، بل بمقدار ما فيه من أفكار، ولقد يحدث أن تلم بالمجتمع ظروف أليمة كأن تحدث كوارث طبيعية أو تقع حروب، فتمحو منه عالم الأشياء محوا كاملا، أو تفقده إلى حين ميزة السيطرة على الأفكار، إلا أنه «إذا استطاع أن ينقذ أفكاره فإنه يكون قد أنقذ كل شيء، إذ أنه يستطيع أن يعيد بناء عالم الأشياء». ولأهمية الإنسان في بناء الحضارة يأتي الاهتمام -في فكر مالك- ببناء الإنسان، فبناء الفرد وفق فلسفة ذات جذور أصالية وأبعاد عصرية، وبناء الفرد كالبناء الطبيعي، يستلزم عامل الزمن، وأسلوب التدرج، وعامل التوعية، والتأصيل. يقول مالك بن نبي في هذا الصدد: «فالقضية إذن في الصورة النهائية ليست ترتيب القيم الاجتماعية، ولكن في بنائها متضامنة متكاملة كبناء الكائن الحي الذي ينمو في جميع جوانبه في وقت واحد حتى لا يكون له مثلا رأس رجل وأعضاء جنّي»(25).

ويؤكد مالك على أن بناء الإنسان منذ فجر التاريخ هو مهمة الرجال، فالطبيعة لا تهب لنا كائنا جاهزا، كما أن الله لا يصنع إنسانا كاملا؛ لأن الحكمة الإلهية أودعت السنين والقوانين التي تغير الإنسان من فعل ذاته، ولقد كانت صيحة «بن نبي» كمثقف دوما «يجب أن نصنع رجالا يمشون في التاريخ مستخدمين التراب والوقت في بناء أهدافهم»(26).

فالقضية الحضارية ليست قضية آلة يمكن توفير المال بشتى الوسائل لإحضارها، بل قضية إنسان مهيأ لتوجيهها واستخدامها، وبالتالي فإن «مشكلة التجهيز مرتبطة بقضية الإنسان والأفكار وأن المحصول الاجتماعي للآلات مرتبط بفعالية وسلوك الفرد الذي يستخدمها»(27).

إن حل مشكلة الإنسان غير متوفرة في الفكر السياسي الذي يوجه حضارة الدول الكبرى، لأنه فكر مادي بفرعيه: الرأسمالي والماركسي. ففي هذا الفكر تسود حلول أحادية الجانب أساسها المادة؛ وما ذلك إلا لأن هذه الفلسفات لا ترى في الإنسان إلا عالم أعداد وأرقام، بينما المسألة تختلف جذريا في الإسلام الذي ينظر للإنسان من زاوية الاستخلاف في الأرض وأن كل ما في الكون من موجودات ومخلوقات مسخرة له «إن الإنسان ليس في نظر المسلم الكم الذي تجري عليه الإحصائية والوزن، أي الشيء الذي تجري عليه تجارب المختبر وعمليات المصنع، وحاجات الجيش. فالإنسان ليس الكم بل الصفة التي قرنها الله بالتكريم في سلالة آدم، فالمسلم يكرم هذه الصفة بصورة مطلقة. كما هو منتظر فإن هذا التكريم له آثاره المحسوسة في الحياة، في التشريع وفي الآداب وفي العادات.. فالإسلام يقرر لأقل عبد رقيق الحق في العتق إذا ما تبين أن ربه ظلمه في العمل أو الغذاء»(28).

تحرير الإنسان: من هنا بات من الواجب أن يبدأ تحرير ذات الإنسان من الاستسلام أمام الغزو والاستعمار وذلك بأن تتدرب هذه الذات على استخدام الوسائل والقدرات المتوفرة لها، حتى تحصن وجودها من استهداف المستعمر لها، والذي ينوي إفقادها الفاعلية، وروح التقدم والطموح، تمهيدا لتحويلها إلى (كم) مهمل يتصرف فيه كيف يشاء، وبذلك تنجح خطته بكل تقنياتها، ويصاب الإنسان المغلوب المستضعف بمرض قاتل هو «القابلية للاستعمار»، وبذلك يكون السبيل «لكي نتحرر من أثر هو الاستعمار -يجب أن نتحرر أولا من سببه وهو القابلية للاستعمار. فكون المسلم غير حائز جميع الوسائل التي يريدها لتنمية شخصيته وتحقيق مواهبه» ذلك هو الاستعمار. وأما ألا يفكر المسلم في استخدام ما تحت يديه من وسائل استخداما مؤثرا، وفي بذل أقصى الجهد ليرفع من مستوى حياته، حتى بالوسائل العارضة، وأما ألا يستخدم وقته في هذه السبيل، فيستسلم للحظة إفقاره وتحويله كما مهملا، يكفل نجاح القضية الاستعمارية فتلك هي القابلية للاستعمار»(29).

تبدأ ثورة التغيير العقلية حين النجاح في تحرير الإنسان من عقد النقص والانبهار بمظاهر ما عند الأوروبيين، وبتحريره من الترسبات الوراثية في مجال التواكل والخرافة، وبإعادة اللحمة بينه وبين قناعاته وعقيدته وسلوكه وعمله. ليس المهم في بناء الإنسان الجديد أن يبدل له نمط أو زي لباسه ونوعية أثاث منزلة ومكتبه، ونوع سيارته وكمالياته، ولا المهم أن نوسع له ملكيته ونزيد في مقتنياته، ولا الأسماء أو اليافطات المرفوعة في شوارعه، ولكن المهم أن نحدد له إطاره الحضاري في مجال الثقافة والأخلاق والاقتصاد وكافة المجالات، وبشكل آخر أن نقتلع ونصفى القابلية للاستعمار من عالمه الداخلي، حتى تنطلق طاقاته، لتصفيته من عالمه الخارجي»(30).

فالتحرير للأرض يجب أن يتلازم معه أو بالأحرى يسبقه التحرير للإنسان، لأن ذلك هو النهج الموصل للتخلص من الاستعمار، لأنه «قد تتغير خريطة توزيع الملكية في الوطن، وقد تسند إلى أبناء الوطن وظائف كان المستعمرون يشغلونها، وقد تبدل الحروف اللاتينية بحروف عربية على واجهات ولافتات الحوانيت، إلا أن التغييرات هذه جميعها تصبح مجرد سحر للأبصار ولا يستقر أمرها إذا لم يتغير الإنسان نفسه.. فثورة ما لا تستطيع بناء وضع جديد والحفاظ على مكتسباتها إلا إذا كان أثرها في تصفية الاستعمار فعالا في تصفية الإنسان من القابلية للاستعمار، فتصفية الاستعمار من الإنسان شرط تصفيته في الأرض ويجب أن تتقدمه»(31).

ومن هنا فالبدء من الذات هو أساس الإصلاح والتغيير، وتجاهل دور الإنسان هو قصور في وعي خطورة هذا الموقف، إن «هذه الملاحظة تسجل خطأ السياسات التي اتبعها العالم الإسلامي في الصميم، فقد اتجهت في كفاحها إلى المستعمر، دون أن تلتفت إلى الفرد الذي تسخره للقضاء على الاستعمار»(32).

تتحقق ثورة الحرية والتقدم بدءا من النفس، وبهذا السبيل تتعدل شخصية الإنسان، ويتم توازنها، وتتعانق جوانب الروح والمادة فيها، وبهذا النوع من الأفراد تعود الروح القرآنية إلى توجيه السلوك في المجتمع، فتكون الثمرة نهضة شاملة في العالم الإسلامي والعربي. ولكن نهوض العالم الإسلامي بحاجة إلى إحياء القيم الموجهة لحركة البناء على أرضية إسلامية، لأن النهضة «هي في أن يجمع بين العلم والضمير، بين الخلق والفن، بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، حتى يتسنى له أن يشيد عالمه طبقا لقانون أسبابه ووسائله، وطبقا لمقتضيات غاياته. إن الذي يرد إلى العالم شبابه لا بد أن يكون إنسانا جديدا، قادرا على حمل مسؤوليات وجوده ماديا وروحيا، كممثل وشاهد، وإنسان ما بعد الموحدين، إنسان هرم في طريقه إلى الفناء، ولكن العالم الإسلامي على الرغم من ذلك لديه قدر كبير من هذا الشباب الضروري(33).

المثقف ودوره في المجتمع: إن الطريق إلى المشاركة في مصير الإنسانية مرهون بقدرتنا على بناء ثقافتنا وفق النموذج المستمد من قيمنا الحضارية التي احتوت الإنسانية جميعها. فالإسلام ليس ديننا فحسب، بل إنه إطار حضارة أمدت عالمنا الإسلامي بالعتائد المختلفة بالنمط والأسلوب والنظرة إلى الإنسان نظرة تتفق والحقيقة العلوية المطلقة، وبالتالي فإن نظرتنا مبرأة من حدود الوثنية التي أغرقت العالم الحديث في حدود الكم وأعطت للعلاقات الإنسانية، مفهوما تبادليا يرتكز على المنفعة المتبادلة، وحجزت بينها وبين سائر الشعوب كيما تظل معزولة عن استخدام وسائلها مقهورة بسوط قدرة الكبار مأسورة لوسائلهم ومصالحهم في تقرير مصير الحضارة الإنسانية. ومن هنا تأتي أهمية دور المثقف ووظيفته. فالوعي الاجتماعي مرتبط بمدى نشاط المثقف الحيوي، فهو عقل الأمة، والمرآة العاكسة لأمراضها وأدرانها، والذاكرة المحركة والمشكلة لهويتها. وإذا كان ديكارت قد وضّح أن المعيار المميز للشعب الهمجي، هو مدى شيوع التفلسف الصحيح، فإن مالك بن نبي يعتبر أن ما يميز المجتمع المتحفز للتحضر عن غيره، هو مدى فاعلية المثقف. إن بناء الإنسان الشاهد مرتبط ارتباطا وثيقا بمدى ما يقدمه المثقف في العالم الإسلامي من دور، خاصة في مجال التوعية وتعليم الناشئة، وبن نبي يوضح نقطة جوهرية: إن المثقف العربي يعاني من عقدة حضارية، جعلته يتجه إما نحو الحرفية والرومانسية وإما إلى الانتكاس والنكوص، فقبل أن نبني الإنسان الجديد، يجب أولا أن نبني المثقف. ويرى عبد القادر بوعرفه(34) أن الشعب الجرماني تفطن أيضا إلى هذه النقطة الجوهرية، مما جعل "بسمارك" يعتبر أن إصلاح الفرد أمر مستحيل فاتجه أولا إلى إصلاح من يصلح الفرد، أي إيجاد المثقف. إن المثقف يمثل دورين أساسيين في كل عمل حضاري، دور المرآة التي تعكس الواقع الحقيقي دون زيف ولا خداع، والمصباح الذي ينير الطريق أمام الجيل المتعطش للتحضر. ويبين بن نبي أن المجتمع الإسلامي يعرف نوعين من المثقفين، مثقف من حجم محمد إقبال الذي يعبر في رأيه عن المثقف الحيوي والنموذجي في نفس الوقت، الذي يحتاجه المجتمع الإنساني لأنه استطاع تصفية الأفكار الميتة المشحونة في نفسه عن طريق الوراثة الاجتماعية والثقافية الاستهلاكية، وبالتالي اكتسب قابلية للتحضر. أما النوع الثاني من رسالة المثقفين فيمّثله زعماء الحركات التغريبية والذين جعلوا من رسالة المثقف تجارة وسلطة، وفي أغلب الأحيان موضة عصرية، تؤتى صاحبها ما لا يقدر عليه بمفرده.

أما دور المثقف في نظر مالك بن نبي: فهو توعية المجتمع بالصعوبات التي يعيشها ومحاولة انتشاله من الضياع، وتوجيهه نحو الطريق الأسلم للبحث عن الهوية. كما أن عليه ترميم شبكة العلاقات الاجتماعية التي أصابها الانحلال والتشرذم، وأصبحت مجسدة للغثائية وتشبه في ذات بينها -من حيث العلاقة- بيت العنكبوت، ومن حيث النوعية الاجتماعية الزبد، ومن حيث الفعل القطيع الهائج، والمجتمع بالصفات السالفة لا يمكنه الشروع في التحضر إلا إذا اكتسب شروط موضوعية وأخرى ذاتية تدفعه نحو الحضارة، يقول بن نبي: «ومن هنا ينبغي على المجتمع، عندما يشرع في النهوض أن يرمم ويصلح شبكة علاقاته الاجتماعية، ليتغلب على الصعوبات الناشئة في نطاق علاقاته السلطوية»(35).

وهكذا يتضح لنا أن الوعي التاريخي، عند «بن نبي» كان واضحا في مواقفه النقدية إزاء الحضارة الغربية وفي تأكيده على الأسس الروحية والأخلاقية للبنيان الاجتماعي، وقوله بضرورة مراعاة البعد الإنساني في الجوانب التنموية. وكان في معظم كتاباته وتحليلاته السلوكية والاجتماعية والتاريخية، وما صاغ من مفاهيم وموجهات فلسفية وتربوية قد قدم فكرا مميزا حيا، وعرض معالجات دقيقة وملاحظات نقدية يقظة يمكنها أن تشكل منبعا خصبا لتغذية وتنشيط التفكير الإسلامي المعاصر وإضاءة واعية ومستقبلية لما يحدث في قرننا الواحد والعشرين، الذي يعاني نفس المشكلات التي عاشها مالك بن نبي في منتصف القرن العشرين، وهي نفس مشكلات عالم العولمة الذي يدفع بالعالم إلى مزيد من الشقاء والمعاناة في ظل تدهور بيئي وكوني شامل ومريع، وقيم الاستهلاك الترفي والاستغلال الرأسمالي، الذي تمارسه الدول العظمى والشركات العملاقة للهيمنة ليس على مقدرات وثروات العالم العربي والإسلامي بل مقدرات العالم أجمع.

إن العالم العربي والإسلامي -في نظر مالك بن نبي- يملك القدرات التي تؤهله لإنقاذ البشرية ولكن ذلك يحتاج إلى الإرادة المستقلة المتطلعة إلى التقدم، والتخلص من الواقع المتخلف الذي يفرضه الارتباط بالغرب، والإطار الشامل لأي تحول ثقافي ببعد إنساني وطابع تقدمي، هو الإسلام، ومهما كان الأمر، فإن للإسلام في هذا التوقع العالمي لتحديد ثقافة شاملة دورا كبيرا، إذ هو يأتي بعناصر ثقافية جوهرية، كما يأتي بعناصر جغرافية وسياسية ذات أهمية خاصة.. ولكنا ندرك أيضا أنه لكي يؤدي الإسلام بصورة فعالة هذا الدور المزدوج، فإن عليه أن يترجم قيمه الروحية إلى نظام اجتماعي، كما يترجم إليه جميع إمكانياته الطبيعية، يجب أن يحول هذه وتلك إلى حلول مادية للمشاكل التي تواجهه في الإطار الإنساني»(36).

*****************

الهوامش

*) أستاذ الفلسفة الإسلامية، جامعة عين شمس.

[1] - د. أنور الجندي: الفكر والثقافة المعاصرة في شما ل إفريقيا ص64 الدار القومية للطباعة والنشر مصر عام 1965. وانظر د.أسعد السحمراني: مالك بن بني مفكرا إصلاحيا دار النفائس. بيروت عام 1984م.

2 - مالك بن نبي: مذكرات شاهد القرن، الطالب ص111،3 ترجمة بقلم المؤلف، دار الفكر، دمشق عام 1970م.

3- مالك بن نبي: إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، ص14،13 مكتبة عمار، القاهرة.

4 - مالك بن نبي: مذكرات شاهد القرن ج1 ص 200.

5- محمد سيد بركة: مالك بن نبي منعطف في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي الحديث، مجلة الأمة العدد 44قطر عام 1984م.

6- عمر كامل مسقاوي: مالك بن نبي والدعوة للانتقال من التكديس إلى البناء، مجلة العربي العدد 285 أغسطس 1982.

7- انظر مالك بن نبي: مشكلة الثقافة، القاهرة عام 1959.

8- انظر د. عبد القادر عرفه: آيات التمكين للإنسان الشاهد من خلال فكر مالك بن نبي ص80،81 مجلة الكلمة العدد 33، بيروت خريف عام 2001م.

9- انظر مالك بن نبي: مذكرات شاهد القرن، الطالب ص34،33.

10- انظر د. على القريشي: التغيير الاجتماعي عند مالك بن نبي ص48،47 الزهراء للإعلام العربي القاهرة 199.

11- مالك بن نبي: مذكرات شاهد القرن، الطالب ص35.

12- مالك بن نبي: مذكرات شاهد القرن، الطالب ص31.

13- السابق ص32.

14- السابق ص61.

15- السابق ص106.

16- د. على القريشي: التغيير الاجتماعي عند مالك ص49، وانظر د.بركات محمد مراد: فلسفة الإمام ابن باديس في الإصلاح والتحديد، الصدر لخدمات الطباعة القاهرة عام 1992م.

17- مالك بن نبي: آفاق جزائرية ص47،46.

18- مالك بن نبي: ميلاد مجتمع ص16.

19- السابق ص24،23.

20- مالك بن نبي: شروط النهضة ص45.

21- مالك بن نبي:مفكرة الأفريقية الآسيوية ص134.

22- د. أسعد السحمراني: مالك بن نبي مفكرا إصلاحيا، ص149،148 دار النفائس، بيروت عام 1984م.

23- مالك بن نبي: بين الرشاد والتيه، ص172 دمشق، دار الفكر عام 1978.

24- عمر كامل مسقاوي: مالك بن نبي السابق.

25- مالك بن نبي: تأملات، ص26، دار الفكر، الجزائر ط5 عام1991م.

26- مالك بن نبي: شروط النهضة، ترجمة عبد الصبور شاهين ص104 دار الفكر، دمشق عام 1979

27- مالك بن نبي: آفاق جزائرية، ص68.

28- مالك بن نبي: في مهب المعركة، ص164-143.

29- مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي، ص105.

30- انظر د.أسعد السحمراني: مالك بن نبي ص164

31- مالك بن نبي: بين الرشاد والتيه ص44.

32- مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي، ص106.

33 - مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي، ص192.

34- د. عبد القادر بوعرفه: آليات التمكين للإنسان الشاهد السابق.

35- مالك بن نبي: بين الرشاد والتيه، ص 48.

36- مالك بن نبي: فكرة الأفريقية الآسيوية، ص231.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=50

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك