صحوة الإسلام السياسي: الأصول والتداعيات
رضوان السيد
ما كان انتصار حماس في فلسطين أبرز وقائع الإسلام السياسي، ولن يكون آخرها. ففلسطين تمرّ منذ عقود بظروف احتلال واستيطان وصراع يختلط فيه الديني بالوطني والقومي. والصراع نفسه هو الذي استدعى الأصولية والإسلام السياسي، وليس العكس. فكما صعدت الاصوليات اليهودية في السياسة الاسرائيلية في الثمانينات والتسعينات، صعدت كذلك حماس، والى حد الجهاد الاسلامي. بيد ان ظروف فلسطين الخاصة لا تفسّر الانتصار الكبير الذي حققته حماس. المراقبون الفلسطينيون والأميركيون نبّهوا الى سوء أوضاع السلطة الفلسطينية وحركة فتح. فالسلطة تعاني من الفوضى وتضاؤل الفعالية، وفتح – ذراع السلطة المسلّح – تحولت الى مجموعة من الميليشيات، فضلاً عن تحولات الشرطة الفلسطينية، والقوى الأمنية الأخرى. وهذه أمور ينبغي أخذها بالاعتبار عندما نضع تحليلاً للأمور أو للتوجهات الشعبية. لكن ذلك ليس كافياً أيضاً لتعليل الشعبية الساحقة لحماس في الانتخابات. فهي ايضاً تنظيم مسلح، وفيها فوضى كبيرة في استخدام السلاح. وبعد انسحاب اليهود من غزة مات أناس في انفجارات تسببت فيها حماس. ويأتي العامل الثالث: مساعدة حماس للناس اجتماعياً بشبكاتها للعمل الخيري الملتزم. وهذا عامل جيد للفهم. لكن السلطة الفلسطينية ترعى شؤون الناس بالتأكيد أكثر من حماس، على رغم القصور والأخطاء.
ولذلك فالذي أراه ان الظاهرة الاسلامية صارت أصلية وأصيلة، وتجاوزت مراحل الاحتجاج والظروف الخاصة. فلا شك ان الانظمة العربية في البلدان التي تصعد فيها جماعات الاسلام السياسي، ليست رائعة ولا مثالية. ولا شك ان الحملة الأميركية بعد احداث 11/9/2001 زادت من حنق الناس، وانحيازهم للحركات المعادية للولايات المتحدة. ولا شك ان مسائل العولمة واقتصاد السوق، تهمّش فئات عريضة، وتفرض اجراءات لا يستطيع الفقراء احتمالها في المراحل الانتقالية، ولذلك يصعد دور الجمعيات الخيرية، وهي ليست جميعاً حزبية – لكن الحزبين تنبهوا لأهمية هذا الامر واندفعوا باتجاهه، وبخاصة بعد انسحاب الدولة التدريجي عن المجال الاجتماعي، وبعد اتجاههم هم الى خوض الميدان السياسي، والاعتماد على «اصوات» الناخبين. وكما سبق القول، فإن لفلسطين ظروفاً خاصة بحيث لا يصح اتخاذها نموذجاً. لكن لنتجه الى مصر او تونس او الجزائر والمغرب او العراق او الأردن او السودان... الخ ففي هذه البلدان على اختلاف الظروف وأنظمة الحكم والضغوط القوية او الضعيفة، فيها جميعاً، تصعد الظاهرة الاسلامية، ويشارك فيها اناس بسطاء غير حزبيين، لكنهم واعون وعياً معيناً، بأن هؤلاء الاسلاميين أدنى اليهم والى فهمهم لمصالحهم، عن الآخرين الحاكمين منذ عقود، أو البارزين في المجالين الثقافي والسياسي.
والابلغ والأوضح من ذلك صعود وعي لدى العامة مفاده ان مجتمعاتنا وأنظمتنا تعيش حالة أو حالات من انعدام الشرعية او تضاؤلها. وأنه لا خروج من تلك الحالة الاستثنائية الا بالاسلام. ومن هنا ما سأل أحد منهم ماذا يعني شعار: الاسلام هو الحل! الذي طرحه الاخوان المسلمون المصريون في الانتخابات الاخيرة. اذ المفهوم لدى الناس ان المقصود بالشعار حلول الاسلام محل «اللاشرعية» السائدة – على طريقة مرسيا إلياد في حلول المقدس محلّ المدنّس! لهذه الاسباب كلها فالظاهرة أصيلة ولا مرد لها او مخرج منها الا بالاستمرار في توسيع المشاركة وآفاقها، والاصرار على ان ادارة الشأن العام هي من حق الناس واختيارهم، وقد ملوا الارشادات الثورية، والقيادة التي لا تأبه الا باستمرار النظام، بداعي انها تعرف الناس ومصالحهم أكثر مما يعرفونها هم أنفسهم.
الظاهرة السياسية الإسلامية المعاصرة وليدة فكرتين رئيسيتين: الأولى ان الإسلام نظام شامل لكل مناحي الحياة، وأنه لا بد من حركة ثورية لإعادته واستعادته في الدولة والمجتمع. وقد أدت الفكرة الاولى الى التمايز عن سائر الانظمة السائدة في العالم، والاتجاه لدغم الدين والدولة في منظومة واحدة بحيث تكون المهمة الوحيدة للدولة: تطبيق الشريعة. ونشأت الاحزاب الإسلامية لتنفيذ الفكرة الاولى، فظهر التنظيم الحديدي الذي لا يكل ولا يتردد ولا يتزعزع، لأن قضيته قضية ايمان أو كفر.
والفكرتان جديدتان. فما ذهب أحد قبل الشيخ حسن البنا الى ان الاسلام «دين ودنيا، مصحف وسيف». ثم ان فكرة الحزبية كانت فكرة ممقوتة لدى التقليديين بحجة انها تقسم كلمة المسلمين. وما أمكن للاسلاميين ان يحققوا اختراقاً في الأربعينات والخمسينات، على رغم اتساع الدعاية لهم، وتمركز كثرة منهم في بلدان الخليج بسبب تعرضهم للاضطهاد والملاحقة في الدول العربية التقدمية. جدّة الفكرتين آتية من ان الاهتمامات العامة لجماعة المسلمين (أو العناية بالشأن العام) كانت تعنى بها المؤسسة السياسية، في حين استقلت «المؤسسة الفقهية» بالشأن الديني والعلمي. ولذا فقد كان هناك انفصال في المرحلة الكلاسيكية بين الفقه (السلطة التشريعية والتربوية) والسياسة (النظام السياسي: الخلافة والسلطنة)، وليس بين الدين والدولة. وما يقوله الشيخ البنا وما قاله في الوقت نفسه تقريباً أبو الأعلى المودودي في الهند ونواب صفوي في ايران ان الشأنين الديني والعام ينبغي ان تمارسهما مؤسسة واحدة لأن الإسلام هو الاصل في قيام الدولة. ولذلك فهناك تصريح بقيام ثيوقراطية اسلامية، لا يفيد معها القول بعد ذلك ان نظام الحكم في الاسلام مدني، بمعنى ان الحاكم غير معصوم، فالحاكم في نظام «الحاكمية» يستند الى الشريعة المعصومة، وهدفه تطبيق الشريعة المعصومة. وهذا الجديد الأول الذي يواجه الإسلام التقليدي، والإسلام الاصلاحي في الوقت نفسه، اتجه للتنفيذ لافكاره من طريق الحركة او الجماعة. وقد فضّل البنّا والمودودي على السواء مصطلح «الجماعة» مع ان حزبيهما ما كانا غير حركتين في البداية على الساحة الاسلامية التعددية، للاشارة الى انهما يمثلان الاسلام الصحيح، إسلام «الجماعة» وهو مصطلح سنّي عريق وشامل – وما كان ذلك صحيحاً وقتها طبعاً، لكنه صار صحيحاً الآن ليس للتوافق مع القديم بل بسبب وقوف الجمهور أو كثرة منه مع التصور الجديد لإسلام الصحوة.
بيد ان مصطلح «الجماعة» حال دون التنظير لفكرة الحزب، على رغم الواقع الذي سادت فيه فكرة «الحزب الطليعي» شأنهم في ذلك شان الحركات التقدمية أو الاحزاب الأوحدية الحاكمة منذ الخمسينات. وجاء سيد قطب فتجرأ على طرح فكرة الحزب من خلال ما ورد في سورة الكهف عن الفتية الذين «آمنوا بربهم وزدناهم هدى». والفتية هؤلاء كانوا قلة في بني قومهم، ولذلك اضطروا للجوء الى الكهف هرباً من الاضطهاد او القتل. بيد ان القلة والاضطهاد فشلا في إبطال الدعوة التي انتصرت بعد آماد.
ناك صورة جديدة للإسلام، تقودها وتبلورها الحركات الإحيائية الاسلامية الجديدة، وتمشي معها فيها أكثرية الجمهور. ولستُ أخشى من عدم تلاؤم القادة الجدد مع الاجواء العالمية. فقد استطاع الأصوليون السودانيون التلاؤم أكثر من اللازم، وكذلك الايرانيون. الذي أخشاه ان يستمر المخاض الذي نحن عالقون فيه منذ عقود، بسبب انعدام الخبرة والعجز عن الرؤية الاخرى التي تصنع دولة المؤسسات، وتصنع التنمية في الوقت نفسه. وهذان أمران استطاعتهما أمم أخرى اسلامية وغير اسلامية، من دون حاجة لأحزاب دينية. ومع ذلك فإن إرنست غلز، وبرايان تيرنر، يريدان ان يريانا في الحركات الاسلامية الاصولية، الطريق المتعرج المكتوب علينا باتجاه الحداثة والتقدم.