الإسلام السياسيّ: أوهام الهويّة ومأزق السّلطة
1- الهويّة: سياسيّة أم دينيّة؟
يقول "ماكس فيبر" في محاضرته "السياسة بوصفها حرفة": "إنّ من يمارس السياسة يسعى إلى السلطة، السلطة بوصفها وسيلة لخدمة أهداف أخرى مثالية أو أنانية أو السّلطة من أجل السلطة من أجل الاستمتاع بشعور الامتياز الذي تمنحه." وهو يضبط بذلك مقاصد الساعين إلى نيلها. غير أنّ اكتساب السلطة السياسيّة يطرح على أصحابها رهانات لا مهرب منها تتصل بآفاق انتظار المواطنين. وتتمّ مساءلة الحكّام في ظلّ الأنظمة الديمقراطيّة فيخضعون إلى المساءلة، ويعاقبون بالإزاحة من الحكم بطريقة ديمقراطيّة. وتختلف النجاعة السياسيّة من دولة إلى أخرى فحاجات المواطنين متبدّلة. وهي في الدول العربيّة التي شهدت تحولات ديمقراطيّة متصلة بالمشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة وعلى رأسها التشغيل والقضاء على الفقر والتهميش. فصارت هذه القضايا معيارا يقاس به نجاح الحكومات وإخفاقها. وقد ظلّ الصّراع الإيديولوجيّ بين الأحزاب المتنافسة على الحكم في تونس مثلا قائما حول أفضل السبل لتقديم حلول لمشاكل المجتمع وتحقيق التّنمية. ولئن أقصيت كثير من الأحزاب السياسيّة التي اتّخذت من الإسلام مرجعيّة لدعواتها السياسيّة عن الحكم قبل ذلك التحول السياسيّ، فقد ظلّت خلال فترات معارضتها تُدين الأنظمة القائمة حتّى لا تكاد ترى في سياستها أو اقتصادها سوى فشل ذريع وإخفاق لا مثيل له. وتلك النظرة العدائية هي التي جعلت السلطة بؤرة توتّر بين الحكّام والمعارضين فأضحت هاجسا ينسي الحركات، التي حاولت اكتساب شرعيّتها من الإسلام، منطلقاتها الدعويّة وأهدافها الحضاريّة وصيّرت الحكم هاجسا رئيسيّا يمثّل جوهر نضالها ومحور تطلّعاتها. ولعلّ هذه الحقيقة قد بدت جليّة في ما قدّمه "فاضل البلدي" وهو أحد مؤسّسي الجماعة الإسلاميّة بتونس من قراءة نقديّة لتاريخ الحركة الإسلاميّة، وانتهى في قراءته إلى أنّ تجربة الحركة الإسلاميّة في تونس بيّنت "أنّ الحاجة كبيرة إلى مراجعة الأهداف والأساليب ومناهج التغيير لدى الحركات الإسلاميّة، فقد وقعت هذه الحركات بما في ذلك حركة النهضة من حيث تعرف أو لا تعرف في التأثّر بثقافة القوميّين والبعث واليسار، فتورّطت في لوثة طلب الحكم، والتوسّل إليه بكلّ وسيلة، وبنت معارضتها في أوقات كثيرة على السباب والنقد، وإبراز العورات، حتّى لم تعد ترى حسنة في ما يفعله النظام، وجعلت الأولويّة، كغيرها إسقاط النظام وظنّت من باب المكابرة وسوء التقدير، أنّها قادرة على ذلك، وهو ما أدّى بها إلى التحوّل عن أهدافها الحقيقيّة، ومناهجها المبثوثة في خططها وأدبياتها."
ويبدو أنّ هوس السلطة والرغبة الجامحة في المناصب السياسيّة على حساب التنظير ليس سمة خاصّة بالإسلام السياسيّ في نسخته التونسيّة قبل ردّتها عن جذورها، وإنما هو سمة عامّة تشمل حركة الإخوان في مصر. فقد "ضعف التنظير، لأنّ الجماعة ركّزت على الحركة أكثر من تركيزها على الفكر، بهدف نشر فكر الحركة على الأرض من خلال الدخول إلى النقابات والجامعات بشكل أسرع، كما أنّها عانت عدم توافر قامات فكريّة."
كانت الغاية التي سعى إليها الإسلام السياسيّ سلطويّة وما الدّين إلاّ وسيلة لكسب الأنصار ومطيّة لتدنيس الخصوم عبر آليّات الخطاب الدّيني المقدّس. وقد دفع التواكل الفكريّ المتذرّع بالنشاط الحركيّ إلى اتّخاذ أقصر السبل وترديد شعارات منزوعة من سياقاتها التّاريخيّة واستثمارها في السوق الرمزيّة لغايات سلطويّة.
فهل يصحّ القول إنّ تلك الحركة كانت تسعى إلى السلطة من أجل السلطة فحسب، على حدّ عبارة ماكس فيبر؟ وما الذي يمنح سياستها طابع الأسلمة الذي ادّعته ووعدت به أنصارها وتوعّدت به خصومها؟
لقد كان من نتائج الاندفاع نحو السلطة خلق براديغم صراعيّ تداخلت فيه أدوار الحاكم الذي استبدّ ونقض الوفاق الوطنيّ مع حركة النهضة، والحركة ذاتها التي انساقت إلى حرق المراحل وسارعت لإثبات خوف السلطة منها وتوجّس المعارضين من سرعة انتشارها، وهو ما أدّى في النهاية إلى قمع وأحكام بالسّجن والنّفي برّرها العنف والعنف المضاد. ولكنّ آثار ذلك الصراع لم تكن ماديّة أو نفسيّة على المضطهدين فحسب، وإنّما كانت لها آثار سياسيّة وفكريّة. إذ تحوّلت الأهداف التي ناضلت من أجلها الحركة وأقنعت بها كثيرا من أفراد المجتمع من دعوات لإحياء الإسلام ونشر القيم وإعادة الاعتبار للأخلاق الإسلاميّة إلى أولويّة فاقت في أهميّتها كلّ البرامج والأولويّات السّابقة، وهي السلطة. ولعلّ ذلك ما يفسّر ضمور المؤلفات الفكريّة التي تؤسّس القاعدة النظريّة للحركة وهيمنة الخطابات السلطويّة. وإذا استثنينا ما كتبه شيخ الحركة المغترب عن الوطن في بريطانيا زمن الإقصاء أو بعض المؤلّفات الأخرى المتناثرة قلنا دون تحيّز، إنّ الحركة لم تتمكن من تأسيس مشروع فكريّ أو سياسيّ، بل إنّ الحركة ظلّت معزولة عن بيئتها عزلة كثير من رموزها الذين غادروا تونس بعد توتّر العلاقات بينهم وبين السّلطة الحاكمة، وهو ما يؤكّده "محمد القوماني" بقوله: إنّ الحركة "لم تؤصّل فكرها من خلال حركة الإصلاح التي عرفتها تونس منذ القرن التاسع عشر، كما لم يكن لجامع الزيتونة ولأعلامه من المصلحين خاصّة من أمثال الشيخ سالم بوحاجب والشيخ الطاهر ابن عاشور أيّ أثر في الحركة، إذ "لم تكن الحركة الإسلاميّة المعاصرة في تونس (والقول للغنوشي من سيرته الذاتيّة) من ثمار جامع الزيتونة، بل لم يكن للجامع دور يذكر في نشأتها."
إنّ هذه الآراء التي قيلت في ندوة فكريّة سبقت فوز حزب النهضة التونسيّة في أوّل انتخابات بعد الانتفاضات العربيّة لم تقدم دروسا للحركة، إلاّ بعد أن اصطدمت ببراديغم مضاد لمشروعها استطاع أن ينتزع منها شرعيّة الحديث باسم الإسلام. وهو كما يشير "سهيل الحبيّب" براديغم صراعيّ واجه الشرعيّة التي اكتسبتها حركة النهضة من مرجعيّة الهويّة العربيّة الإسلاميّة ببراديغم إسلاميّ مستمدّ من مفهوم الإسلام التونسيّ والمرجعيّة الزيتونيّة. وأدّى الخطاب الهويّاتي القائم على العداء دورا عكسيّا فبعد أن وظّفته حركة "النهضة" لإبعاد خصومها من العلمانيين واليساريين باسم الأسلمة صارت هي بدورها مستبعدة خطابا باسم النمط المجتمعيّ والإسلام التونسيّ. فقد قابل متخيّلها الإسلاميّ الطوباويّ متخيّل هويّاتي إسلاميّ تونسيّ. وفي الوقت الذي حاولت فيه النهضة إبراز عمقها الإسلاميّ ودفاعها عن الهويّة التي كانت تتصوّرها غائبة من المجتمع التونسيّ أو مشوّهة، فقد ضلّ سعيها في السياسة وصيّر خصومُها ما عملت على نشره من دعاة المشرق ضربا من التطرّف ومحاولة لتغيير النمط المجتمعي قسرا، وهو ما يفسّر اتهام البعض للنهضة أيضا بأنها الرّاعية للإرهاب. وكان منطق معارضيها أنّ الساكت عن الإرهاب إرهابيّ أخرس. و"تفاجأ الإسلاميّون في تونس بأنّ هناك متخيّلا هوياتيّا إسلاميّا تونسيّا مقابلا لمتخيّلهم الإسلاميّ، له وجود فعليّ وتجسيدات اجتماعيّة ومرجعيّات تاريخيّة حقيقيّة. ظهر ذلك في سياق الجدالات التي واكبت نشاطات الجمعيّات الدعويّة ذات المنازع السلفيّة والإخوانيّة، ومنها جمعيّات كانت بقيادة مباشرة من أعضاء في حركة النهضة ونوّاب عنها في المجلس التأسيسيّ. وحرصت هذه الجمعيّات على استضافة كثير من الدعاة السلفيين المشارقة بحجّة أنّ الشباب التونسيّ "متعطّش إلى معرفة قيمه الإسلاميّة التي حرم منها عقودا من الزمن ومتعطّش إلى التواصل مع هويّته ودينه" كان "غزو" هؤلاء الدّعاة عاملا أساسا في تقوية العصبيّة الهوياتيّة الإسلاميّة التونسيّ، وظهرت هذه الهويّة في خطاب الجمعيات الدينيّة ذات المنازع المالكيّة والأشعريّة والصوفيّة، والتي تنهل من تراث علماء جامع الزيتونة في عصوره المختلفة."
لقد بيّن سهيل الحبيّب في سياق تحليله للمفاهيم الإيديولوجيّة التي قامت على الصّراع، الضعف الكامن في طريقة إدارة حزب النهضة للحكم من خلال التركيز على طابع الاستعداء. ولكنّ تلك المرحلة أفضت إلى تحوّل فرضه الواقع على الحركة، وانتهى إلى انسلاخها من مفاهيم إيديولوجيّة كانت عمدة هويتها السياسيّة. فمنطق الانحناء للعاصفة واسترضاء الخصوم الذي أعقب سقوط الإخوان من الحكم في مصر كشف بما لا يدع للشكّ أن التنازلات التي قدّمتها الحركة نفعيّة براغماتيّة غايتها إبقاء الجماعة التي تبنّت الإسلام شعارا لها شريكة في صياغة القرار وتولّي الحقائب الوزاريّة ولو كان ذلك بنزع جلدها ولبس جلد خصومها السابقين. فقد انقلب أعداء الأمس (ممّن سمّوا زمن حكم الترويكا أزلام النظام السابق وأصحاب الثورة المضادة) شركاء في الحكم. وتغيّرت لغة الاستعداء إلى لغة الحوار والمشاركة. ولكن هل استطاع هذا التغيير أن يقدّم للمجتمع حلولا لمشاكله؟ وهل أضاف بقاء النهضة في الحكم حلولا للدولة الغارقة في ديونها ومشاكلها؟ أم إنّ البقاء يظلّ غاية في حدّ ذاته؟
o
لعلّ الناظر في تجربة الحكم التي تلت التحوّلات الديمقراطيّة في تونس ليلحظ تغييرا لا محالة في الجانب السياسيّ. ولكنّ ما لا يمكن الاختلاف فيه أنّ المشاكل الاقتصاديّة قد تفاقمت بعد تراجع موارد التصدير وتوقّف كثير من المؤسسات عن العمل ونكسة السياحة بعد الضّربات الإرهابيّة التي استغلّت الانفلات الأمنيّ في تونس وليبيا، بل زاد الطين بلّة الانهيار المتواصل لقيمة الدينار التونسي وتصنيف البلد ضمن قائمة الدول التي تمثّل ملاذا ضريبيّا. وليست الأوضاع الاجتماعيّة في تونس نتيجة ذلك سوى حلقة مفرغة من الأزمات التي وإن سيطرت على منسوب العنف فإنّها لم تستطع إيجاد حلول أو تقديم تصوّرات لمشاكل البطالة التي شملت حاملي الشهادات العليا. وأجهضت الحكومات المتعاقبة حلم الشباب بالشغل، بل إنّ اتّخاذ سياسة الغنيمة الذي انتهجته حركة النهضة زمن حكمها قد أسهم في تفاقم الأزمة وشحن الإدارات والمؤسسات التابعة للدولة بأتباعها في إطار ما سمّي بالعدالة الانتقاليّة واسترجاع حقوق المضطهدين. ولكنّ حقوق المضطهدين تلك كانت على حساب مضطهدين اجتماعيّا لم يجدوا حزبا يمثّل وسيطا لشغلهم أو منظّمة تتبنّى مطالبهم. وهو ما يؤكّد قول ماكس فيبر: "إنّ كلّ الصراعات بين الأحزاب ليست صراعات من أجل تحقيق غايات موضوعيّة، بل هي أيضا وغالبا، صراعات لإحكام الرقابة على توزيع المناصب."
ولعلّ تلك الأسباب هي التي جعلت الشباب العاطل عن العمل يفكّر في الهجرة السريّة ويلقي بنفسه إلى التهلكة من أجل البحث عن العمل. وكأنّ أرض الوطن ضاقت بما رحبت، بل إنّ الدولة قد انتهجت سياسة إيقاف الانتدابات بعد أن ضاقت ذرعا بمصاريفها وضيّق عليها صندوق النقد الدولي الخناق فضيّقته على شعبها، وهي تسعى إلى تسريح العاملين بدل قبول المعطّلين عن العمل. ولا تبدو آفاق الانفراج قريبة وسط غياب رؤية ووضوح منهج غير اللجوء إلى الاقتراض وإثقال كاهل الدولة بالديون الخارجيّة، إذ لم تكتف هذه الحكومات بإغلاق باب التشغيل في وجه طالبيه من الشباب، وإنما أضافت إلى رصيد هذا الجيل من العدم ديونا عليهم استخلاصها في السنوات القادمة.
لقد أقامت الحركة الإسلاميّة بيانها التأسيسيّ على تشخيص رأى أصحابه أنّ "العالم الإسلاميّ - وبلادنا جزء منه - (يقصد تونس) أبشع أنواع الاستلاب والغربة عن ذاته ومصالحه فمنذ التاريخ الوسيط وأسباب الانحطاط تفعل فعلها في كيان أمتنا وتدفع بها إلى التخلي عن مهمة الريادة والإشعاع، طورا لفائدة غرب مستعمر وآخر لصالح أقليات داخليّة متحكّمة انفصلت عن أصولها وصادمت مطامح شعوبها. وكان المستهدف الأول طوال هذه الأطوار كلها هو الإسلام..." وكانت التّهمة التي وجّهت للحزب الاشتراكيّ الدستوريّ الحاكم زمن بورقيبة "تدرّجه المتصاعد نحو الهيمنة على السلطة والمؤسسات والمنظمات الجماهيريّة من ناحية، ونتيجة ارتجاليّة الاختيارات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وتقلّبها وارتباطها بمصالح دوليّة تتعارض مع مصالح شعبنا الوطنيّة من ناحية أخرى."
إنّ ذلك البيان المشحون بالمرجعيّة الدينيّة وباستعداء الحزب الحاكم والحلم بتغيير الواقع التونسيّ ليكشف اتّجاها نحو توظيف الخطاب الدينيّ من أجل الوصول إلى السلطة. ولكنّ المشروع الاقتصاديّ للحركة كان مجرّد مبادئ عامّة لا تكشف بنقدها الفضفاض لأداء الحزب الحاكم أو بالبدائل التي تقترحها أيّ عمق في التصوّر وموضوعيّة في التشخيص، إذ إنّ الخطاب الإيديولوجي قد جعلها لا ترى في الآخر الحاكم سوى فساد مطلق لا خير فيه وفشل لا نجاح فيه. وذلك المتخيّل الصّراعيّ الذي كان ناتجا عن غياب تصوّر اقتصاديّ واضح في سرديات الحركة وبرامجها. ولهذا، فقد استعارت من اليسار بعض مفاهيمه وحاولت تلوينها بلون إسلاميّ حتّى تبدو أصيلة في التراث محاكية لمبادئ الإسلام وقيمه. كالتوزيع العادل للثروة أو حق الشعوب في العيش الكريم. ولم يجسّد نقدها للحزب الحاكم آنذاك بأنّه يتبع سياسة اقتصاديّة ارتجاليّة أيّ بديل حقيقيّ يمكن أن يحقّق الوعود بالعدل والمساواة في توزيع الثروة أو على الأقلّ يقدّم تصوّرا لآليّات هذه العدالة. فلقد أثبتت التجربة السياسيّة التي خاضتها حركة النهضة الوريث الشرعيّ للحركة الإسلاميّة بأنّها حزب ليبرالي رفع راية الإسلام، وهو يركب سفينة المعارضة ثمّ أحرقها على عتبات القصور وضفاف الحكم.
لقد كان مأزق الحركة في كونها فكرت في آليّات الوصول إلى الحكم وناضل المنتمون إليها من أجل تحقيق هذا الهدف ولا ينكر أحد ما لقيه هؤلاء المناضلون من ويلات التعذيب والسجن والإبعاد؛ ولكنّهم بلغوا ما كانوا يحلمون بتحقيقه بوفاض خال من البرامج وبعجز مزمن - قد تكون للغربة والسجون والمعتقلات أسباب فيه - عن فهم الواقع. ولعلّ ذلك ما دفع بعض الباحثين إلى القول مقابلا بين نجاح الأحزاب الإسلاميّة في المعارضة وفشلها في الحكم: "يقابل هذا النجاح الباهر في المعارضة إخفاق مزمن في الحكم، حتّى إنّنا أصبحنا نشكّ في قدرة الإسلام السياسيّ على قطف الثمرة التي جدّ واجتهد من أجل أن تينع وتنضج. إذ تؤكّد المعطيات التاريخيّة أيضا أنّ هذا التيّار ينزع إلى الفرقة والضعف كلّما أصبح قريبا من مراكز الحكم والقرار، بل إنّه عندما يصبح في الحكم ينتهي بالضرورة إلى النهاية التراجيديّة." لقد استغنت الحركة عن خطاب الهويّة الذي كان في وقت التعبئة والمعارضة فاعلا في كسب الأنصار وحشد الجماهير. وشغلتها الشعارات الهويّاتيّة وهاجس السلطة على تشخيص حقيقيّ للواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ وتأسيس رؤيته في السياسة والاقتصاد تستفيد من التجارب الاقتصاديّة التي اعتمدتها الدولة الوطنيّة بدل سياسة اللعن والوعود الزائفة. فوحدها الأحزاب التي ستقدّم حلولا للمشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة هي التي ستستطيع مستقبلا البقاء في الحكم وإقناع الناخبين بنجاعتها. أمّا التلويح باستعادة الشخصيّة الإسلاميّة وخوض معارك الهويّة، فأوهام كَسَدَ سوقها في عصر العولمة الذي إن لم تركب الدول قطاره وتسهم في حركته، ظلّت خارج حركة التاريخ ولم تنتظرها الحياة. فحلم الوصول إلى السلطة تحقّق للإسلاميين ولكنّ صدمة الواقع أكبر من أن تستوعبها تصوّراتهم الفكريّة ومواقفهم الإيديولوجيّة.
ماكس فيبر، العلم والسياسة بوصفهما حرفة، (ترجمة جورج كتورة)، ط1، بيروت، المنظمة العربيّة للترجمة/ مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2011، ص 264.
فاضل البلدي، الحركة الإسلاميّة في تونس قراءة نقديّة، ضمن كتاب: من قبضة بن علي إلى ثورة الياسمين الإسلام السياسي في تونس، ط3، مركز المسبار للدراسات والبحوث، الإمارات العربيّة المتّحدة، 2011، ص 73.
سميرة عبده متولّي، الدولة وعلمنة المشروع الإسلاميّ، مصر أنموذجا، ضمن كتاب الإسلاميون وقضايا الدولة والمواطنة، ط1، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016، ص 515.
محمّد القوماني، الرؤية الفكريّة والمنهج الأصوليّ عند حركة النهضة، ضمن كتاب: من قبضة بن علي إلى ثورة الياسمين الإسلام السياسي في تونس، ص ص 278، 279.
سهيل الحبيّب، الأزمة الإيديولوجيّة وفاعليّتها في مآزق مسارات الانتقال الديمقراطيّ ومآلاتها، ط1، قطر، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2017، ص 253
يقول ماكس فيبر: "في الماضي شكّل الإقطاع ومنح الأراضي والمناصب والمدرّة على اختلافها التعويضات النموذجيّة التي كان الأمراء أو الغزاة المنتصرون أو قادة الأحزاب المنتصرون يمنحونها إلى أنصارهم، والتي أخذت مع تطوّر شكل الاقتصاد المالي شكل المنح والإكراميات، أمّا في أيّامنا فقد صارت المناصب من كل نوع، في الأحزاب والصحف والاتحادات وفي صناديق الضمان الاجتماعيّ والبلديات أو في إدارة الدولة هي ما يغدقه زعماء الأحزاب على مناصريهم جراء التزامهم بالأمانة والولاء في الخدمة." ماكس فيبر، مرجع مذكور، ص 279.
ماكس فيبر، مرجع مذكور، ص 279.
انظر: البيان التأسيسي لحركة الاتجاه الإسلاميّ ضمن كتاب: راشد الغنوشي، من تجربة الحركة الإسلاميّة في تونس، ط1، تونس، دار المجتهد للنشر والتوزيع، 2011، ص 259.
المرجع نفسه، ص 259.
طيّب غماري، أزمة الإسلام السياسيّ المعاصر إشكالات التحوّل من جماعة المؤمنين إلى دولة المواطنين، ضمن كتاب: الإسلاميّون وقضايا الدولة والمواطنة، ج1، ط1، قطر، المركز العربي للدراسات والأبحاث ودراسة السياسات، 2016، ص 296.
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9...