الأبعاد الروحية للصحوة الإسلامية المعاصرة
1. البعد التصوفي
التصوف هو العلم القائم على النهج القرآني والاستنان بالسنة المحمدية، وهو أشرف العلوم وأرقاها، وهو التاج الذي تتزين به رؤوس رجاله أهل التقى السالكين إلى الله بقلوب مطمئنة ونفوس راضية مرضية وأفئدة سامية مدركة للحقيقة الإلهية.
وأهل التصوف هم المجتمعة على الله هممهم الذين ليس في بواطنهم لعباد الله إلا الشفقة والرحمة، الذين لا يطلبون لأنفسهم إلا ما كتب الله لها، الذين نقوا أخلاقهم حتى ذهبت عن الباطل إلى الحق، الذين يحثون الخلق على طاعة الله ويذكرون نعمه ويشكرونه كثيرا؛ هم الهينون، اللينون، المتسامحون، العافون عند المقدرة، أعزة الأنفس، المتذللون الخاضعون لله، المتعبدون، المتبتلون، أصحاب الهمم والعزيمة والإصرار والمشاعر الرقيقة والعواطف الشفيقة، المحقون الحق الرافضون للباطل، المؤتنسون بالله.
ويشهد التاريخ أن رجال التصوف هم الذين حملوا مشاعل التبليغ والإرشاد والدعوة إلى الإسلام باللين والمعاملة الحسنة والموعظة الخالصة، هم الذين صدقوا وأخلصوا فاستطاعوا بهممهم العالية تبليغ الإسلام إلى بقاع الأرض؛ وشاهد على ذلك منطقة آسيا الوسطى والتى كان يطلق عليها بلاد »ماوراء النهر« التى دخلها الإسلام بفضل رجال التصوف الذين دخلوا إليها واختلطوا بأهلها ونشروا الإسلام بالمعاملة اللينة والأسلوب المقنع، وكان أهل هذه البلاد من أشد المتعصبين للديانات السابقة.
كذلك تاريخ المغول الذين دخلت قبائلهم الإسلام الواحدة تلو الأخرى بفضل هداية رجال التصوف لأمرائهم حتى وصلوا إلى الصين، وواصلوا جهادهم فى نشر الإسلام في العصر الحديث عندما وقعت المنطقة في قبضة الروس، فاستطاعوا حماية المنطقة من الخطر الشيوعى. وتشهد الكتابات الروسية على الدور الرئيسي الذي قام به المتصوفة فى المنطقة.
ولن تكفي السطور والكتابات في حصر الأدوار التي قام بها رجال التصوف في أداء مهام رسالة الإسلام من مؤسسي الطرق ومريديها مثل الطريقة النقشبندية والقادرية والشاذلية واليَسَوِيّة وغيرها الذين كانت تكاياهم رمزا للنشاط والحركة تفتح أبوابها لإيواء المجاهدين وإطعامهم ولقيامهم بحماية البلاد من المخاطر الخارجية، إلى جانب دورهم فى إصلاح البلاد والقضاء على أي ثورات داخلية. وكان مصدرهم جميعًا واحدًا هو: العمل بكلام الله تعالى والسير على النهج النبوي الشريف، فأقاموا الدين وحفظوه من كل باغ وعاد.
والتصوف من حيث سلوكه هو التأدب بالخلق الإلهي، وهو التعامل السامي مع الإنسانية بمفهومها الواسع الشامل الذي لا يحده دين ولا زمان ولا مكان، وهو التوجه بقلب سليم إلى طاعة الله، وهو التسامح ونبذ العداء والكراهية، وهو الحب بأوسع معانيه لبني الإنسانية. والتصوف حركة دائبة لا تعرف الخمول أو الكسل، وهو العمل والنشاط والتفاعل والاندماج في الكيان الإنساني وهو البذل والعطاء والإيثار.
هذا السلوك الصوفي وهذا الفكر وهذا التوجه الذي نجد معانيه واضحة في رجاله هو ما نطلبه في وقتنا الراهن للبرهان على عظمة الإسلام وعالميته أمام الكافة.
2. الهوية الدينية ومواجهة التحديات
إن الحفاظ على الهوية الدينية للأمة الإسلامية ومسايرة التحولات العالمية يتطلب من أبنائها العمل الجاد المتواصل لمواجهة التحديات التى يعانيها المسلمون في العالم ودرء الاتهامات التى تصوب نحو الإسلام. هذه التحديات لها وجهان أساسيان يتمثلان في العالم الخارجي الغربي وآخر داخلي، ويتمثل في بعض المسلمين الذين فهموا الإسلام فهما خاطئًا فأساءوا إليه دون أن يشعروا نتيجة لاختلاف طبائعهم ودرجة تدينهم؛ فمنهم المتشدد والمتعصب ومنهم الوسط المعتدل، ومنهم اللين المتسامح المعطاء. فيتطلب من هؤلاء المسلمين التوحد على قلب رجل واحد ضد كل المفاهيم المغلوطة عن الإسلام.
فما يعانيه المسلمون من الغرب هو عدم فهمهم الصحيح للمبادئ والقيم التي يرتكز عليها الإسلام. فالتشدد والعنف والقتل والتعصب والكراهية والحقد وغيرها التى يلحقها الغرب بالإسلام من خلال كلمة واحدة وهي الإرهاب صفات يمقتها الإسلام ولا يقبلها. فالإرهاب لا دين له ولا وطن ولا علاقة له بالإسلام.
كذلك تأويل كُتّاب الغرب لآيات القرآن الكريم بشكل يرضي أهدافهم، فيفسرون قول الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ)(الأنفال:60) أنها تتضمن معاني استخدام الحرب والإرهاب بينما هي تعني الدعوة للاستعداد والتأهب الدائم لمنع أي اعتداء أو اغتصاب على الأرض، فتنعم البلاد جميعا بالحصانة والحماية والأمان ضد العدوان. ولكل بلد حقها في الدفاع عن أرضها وممتلكاتها وسلامها وأمانها في وطنها.
الإعلام الغربي وتشويه الإسلام
ويتخذ الغرب من وسائل الاتصال والإعلام المختلفة وسيلة هامة لترويج الأفكار المغلوطة عن الإسلام على كافة المستويات سواء الفكرية – التي يغزو بها عقول الشباب عن طريق نشر مفاهيم سياسية ودينية واقتصادية وأفكار غريبة تتبع أهدافهم في تشويه صورة الإسلام وبلبلة العقول غير الواعية لمبادئ الإسلام ومفاهيمه – أو الأخلاقية في محاولة لشغلهم بمواد تخرجهم عن دائرة الأخلاقيات الإسلامية، فتأخذ عقولهم وقلوبهم في مسائل لا يرضى عنها الله ورسوله بدعوى التمدن والتحضر.
كما يسخّر الغرب كل وسائله في تشويه التاريخ الإسلامي منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، واستغلال الاختلافات الشكلية بين الفرق الإسلامية في خدمة أغراضهم، بالإضافة إلى تدخلاتهم في حرية المرأة المسلمة واتهامها بالسلبية والتأخر.
تلك العقبات والتحديات يجب على العالم الإسلامي التيقظ لها فيقف قلبا وقالبا في وحدة واحدة، بهدف واحد، يؤدي دورا حيويا في إيقاظ الوعي الصحيح بالإسلام.
مقترحات من أجل الفهم الصحيح للإسلام
ومن أهم الوسائل لتوصيل المفاهيم الصحيحة للإسلام هي:
– توحيد كلمة العالم الإسلامي بمساعدة أجهزة كل دولة إسلامية فى العمل على الرد على الادعاءات المضادة للإسلام عن طريق الأجهزة الإعلامية بأساليب حديثة متطورة تظهر الأخلاقيات الإسلامية السمحة والفضائل والقيم التي يدعو إليها الإسلام.
– التشجيع على تأسيس وحدة اقتصادية للعالم الإسلامي لمواكبة التكتلات الاقتصادية العالمية.
– بث قنوات وإذاعات ومواقع إلكترونية تشرح أسس الإسلام، وتوضح صحة المفاهيم المغلوطة لأمم العالم، وتظهر عظمة الإسلام في اعترافه بالأديان ومعاملته السمحة مع مختلف الديانات.
– إقامة المؤتمرات والندوات التي يشترك فيها الدعاة المثقفون القادرون على التحدث بلغة الآخر بطلاقة والمتمكنين من الرد على الاستفسارات المتعلقة بالقضايا التي يختلط فهمها على الغير.
– العمل على نشر الكتب والأبحاث المبسطة والمترجمة التي تنشر الوعي الصحيح بالإسلام، وتظهر روح الإسلام وجوهره ودعوته إلى السلام، وتشرح بأسلوب واضح الفضائل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية التي يحث عليها الإسلام.
– إبراز دور المرأة المسلمة العملي والإيجابي في مختلف مجالات العمل والحياة مع احتفاظها بأخلاقيتها وسلوكها القويم وعدم تبرجها، وتلك السلوكيات للمرأة تنادى بها كافة الأديان.
– أهمية بروز دعاة على مستوى عال من الهمة والمسئولية في حمل الأمانة فى تبليغ الدعوة بالمنطق الواعى والحجج والبراهين القوية الثابتة، يسايرون روح العصر، وعلى مستوى عال من الثقافة الدينية المتفهمة لكافة الأديان يتحدثون بلغتهم بأسلوب هادئ وواضح لا يدخل فيه التعصب أو التحيز.
دعاة غير تقليديين
والواجب على هؤلاء الدعاة أن يكونوا دعاة غير تقيلديين يحملون للعالم الفكر الإسلامي في ثوب عصري، يتعامل مع الآخر بثقافة عالية، ويقدم الأدلة والبراهين بروح عصرية جديدة، فيصبحوا سفراء للإسلام يؤثرون بكلمتهم ومنطقهم الراجح وعقليتهم الناضجة.
ومهمة هؤلاء الدعاة هو إبراز جوهر الإسلام العالمي الذي يؤمن بالرسالات السماوية جميعا. وذلك بإبراز مبدأ التسامح الإسلامي مع الأديان والبرهنة عليه ببعض الأحداث الإسلامية، ومنها معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود؛ ومثال ذلك نجده في مسألة اليهودى الذي كان يضع الأقذار أمام بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم، وعندما لم يجد الرسول الأقذار أمام بيته كالمعتاد سأل عنه فعلم أنه مريض، فعاده الرسول ليطمئن عليه.
كذلك قصة اليهودي الذي أساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخذ دين عليه فقام عمر بن الخطاب بمنعه عن رسول الله بشدة، فعاتبه الرسول وأمر أن يدفع لليهودي أكثر مما له من دين تعويضًا عن ترويع عمر بن الخطاب له.
كذلك كانت معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم للنصارى، ويظهر ذلك من خلال رسالة الرسول الكريم إلى النصارى والتي أشهد عليها صحابته وكتبت في اليوم الثالث من المحرم في السنة الثانية من الهجرة وهذه الرسالة ورد فيها:
“متى كان راهب أو سائح مجتمعا في جبل أو واد أو مغارة أو معمور أو سهل أو كنيسة أو معبد فنحن من ورائهم وهم في ذمتنا. فلا يسلب أحد سياحهم، ولا يهدم بيتا من بيوت كنائسهم، ولا يتلفه، ولا يدخل شيئا منه إلى بيوت المسلمين… وإني أحفظ ذمتهم في البر والبحر والمشرق والمغرب والشمال والجنوب أينما كانوا. وهم في ذمتي وميثاق أماني من جميع ما يكرهون”. كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في هذه الرسالة قوله: “لا يكلفهم أحد بسفر، أو يلزمهم بحرب أو نقل سلاح، إنما المسلمون يحاربون عنهم ولا يجادلونهم إلا على أحسن وجه، فيعيشوا مرحومين، ويمنع عنهم ما يكدرهم أو يضيق عليهم أينما كانوا، وتحترم كنائسهم فلا يمنعون من تعميرها أو ترميمها، ولا أحد من الأمة يخالف هذا العهد إلى يوم القيامة”.
تلك هي معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود والنصارى، ولنا فى رسولنا أسوة حسنة.
الدولة العثمانية وروح التسامح
ومن مظاهر السماحة الإسلامية التى سارت على النهج القرآني والسنة النبوية الشريفة معاملة الدولة العثمانية لأهل الديانات. تلك الدولة التى وصلت بالإسلام إلى مشارف فيينا في أوربا، كيف كانت معاملتها مع أهل الكتاب من نصارى وكاثوليك وأرثوذكس ويهود وغيرهم بسماحة وعدل لم يسبق مثيلها لأي دولة أخرى القيام به بشهادة الغرب والكتاب والمؤرخين الغربيين.
ومثال على ذلك السلطان محمد الفاتح الذى أدهش العالم الغربي بمعاملته واحترامه لأهل الديانات غير المسلمة بالعدل والرحمة والإكرام. إنها السماحة التي ضربت الأمثلة في كيفية معاملة الإسلام للأديان الأخرى.
– تشجيع مراكز البحوث في العالم الإسلامي على نشر الكتابات التي تشرح أخلاقيات الإسلام مع عامة البشر، وسرد معاملة الرسول الكريم مع أهل الملل الأخرى، وصفاته الحميدة في معاشرته لأهله وأصحابه والناس جميعا، وعظيم تسامحه في معاملة الآخر.
– قيام المفسرين والعلماء المسلمين والهيئات العلمية الإسلامية بإفراد مؤلفات خاصة تشرح الآيات القرآنية والسنة النبوية والأحداث الإسلامية التي حاول الغرب تشويه مفهومها وتلك التي تتحدث عن القيم الإنسانية النبيلة في الإسلام.
– العمل على إشاعة الحب بين البشر، فرسالة الإسلام هي الحب والسلام.
– نشر التاريخ الإسلامي الصحيح وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله وأحواله وسير الصحابة الأجلاء والتابعين والسلف الصالح وسير علماء الإسلام الذين لهم إسهاماتهم في الدعوة الصحيحة.
– الاقتداء بأفعال وأحوال ومعاملات أهل الطرق الصحيحة الواعية الذين يهبون حياتهم للعلم والعمل؛ وهم على اختلاف مسمياتهم مصدرهم واحد وثابت، فالكل من رسول الله ملتمس، وطريقهم القرآن يسيرون مع الله وبالله ولله.
تلك هي بعض الوسائل التي يمكن اتخاذها من أجل توضيح مبادئ وأخلاقيات الإسلام الشامل العالمي.
رسالة الإسلام العالمية
وعلى الرغم من محاولات الكثير من الدعاة والرجال الذين حملوا على عاتقهم هموم العالم الإسلامي، إلا أنه لا يزال التقصير سائدا في عدم تبليغ الإسلام بمفهومه السليم إلى العالم أجمع؛ ولا يزال كثير من الشعوب لم يصل إليها مفهوم الإسلام الصحيح على الرغم من أخذ العهد على كافة المسلمين من رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالة الإسلام، قال تعالى في سورة التوبة: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)(التوبة: 6).
إن تبليغ رسالة الإسلام العالمية لمهمة عظمى تقع على عاتق حاملي رايات النهضة والتنوير التي يغفل عنها الكثير. وقد قام كثيرون منهم على مدار التاريخ في إظهار عزة الإسلام مثل “الإمام شامل” الذي استطاع أن يضرب لنا مثال القائد الصوفي الذي قهر الروس وقت احتلالهم للشيشان، والإمام المجاهد “نصر الله الطرازي التركستاني” الذي استطاع بكتاباته وقلمه إظهار الدعوة الإسلامية الحقة.
والعالم الإسلامي الآن في حاجة ماسة إلى الدعاة المجددين لنشر الفكر الإسلامي الصحيح وتعميمه. ولا ننسى في هذا المضمار الأعمال الجليلة التي قدمها رجال الدعوة الإسلامية المجددون أمثال الإمام “سعيد النورسي” والإمام “سليمان حلمي”، ودعوة الإمام المجدد “فتح الله كولن” التي تعد نموذجًا للدعوة الإسلامية التجديدية المعاصرة.
والإسلام في حاجة لإبراز دور المتصوفة على مدار التاريخ وإزاحة كل ما يشوب التصوف من بدع أو انحراف أو اتهام بالخنوع أو الخضوع أو التراخي؛ فالتصوف الصحيح هو سلوك أخلاقي حركي فعّالي وصحيح إلى طريق الله؛ وعبر التاريخ أثبت التصوف الدور الإيجابي في الحفاظ على الهوية الإسلامية.
_____________________
المصادر
– السيد محمود أبو الفيض، نهضة الإسلام، مطبعة حجازي، القاهرة/ 1949م.
– هدى درويش، بحث دور جامعة المستقبل في توجيه خطاب ديني موحد، المؤتمر السنوي العاشر لمركز تطوير التعليم الجامعي، جامعة عين شمس، 27- 28 ديسمبر 2003م.
– هدى درويش، دور التصوف في انتشار الإسلام في آسيا الوسطى والقوقاز، عين للدراسات والبحوث، القاهرة/ 2004م.
– هدى درويش، الحجاب بين الأديان والعلمانية، عين للدراسات والبحوث، القاهرة/ 2005م.
المصدر: http://hiragate.com/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8%D8%B9%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9...