التراث و طارق رمضان .. حوار إفتراضي
في الآونة الأخيرة وُجِّهت اتهامات للمفكر الإسلامي طارق رمضان، السويسري من أصول مصرية، وأستاذ الدراسات الإسلامية المعاصرة في كلية اللاهوت بجامعة أكسفورد، وصاحب العديد من الآراء والكتابات المهمة.
الاتهامات لم تتوقف عند السجال السياسي، ولا حتى الفكري؛ الذي طالما أثير حول طارق رمضان.. بل توجهت إلى مساحة أخرى، رآها مراقبون كثيرون تحاول النيل من هذه الشخصية الإسلامية المرموقة.. أي اتهامه باغتصاب امرأتين فرنسيتين.
وقد رفضت محكمة الاستئناف بالعاصمة الفرنسية، باريس، في فبراير الماضي، طعنًا تقدم به طارق رمضان لإطلاق سراحه لأسباب صحية؛ وأمرت بوضعه قيد التوقيف الاحتياطي بدعوى الخوف من فراره إلى الخارج.
وفي مقابلة تلفزيونية مع فريق برنامج “C à Vous” على القناة الفرنسية الخامسة- كما نقلت “القدس العربي”- انتقد المحامي إيمانويل مارسنيي طريقة معاملة موكِّله طارق رمضان من قبل القضاء الفرنسي، وكيفية تعاطي وسائل الاعلام الفرنسية مع القضية.
في هذه الأجواء رأيتُ أن نستعيد بعض آراء البروفيسور طارق رمضان، والتي عرضها في كتابه المهم (الإصلاح الجذريّ: الأخلاقيات الإسلامية والتحرُّر)، الصادر باللغة العربية من عامين عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بعدما صدر في العام 2009م بالإنجليزية.. وأن تكون استعادة آرائه على هيئة حوار مستل من الكتاب بنصوص صاحبه، مع تصرف يسير جدًّا اقتضاه السياق.
– دعوتم كثيرًا إلى (الإصلاح).. ماذا تقصدون به؟ وهل يتماسّ مع مضامين (التجديد) و(الإحياء)؟
يعترض عدد من العلماء والمفكرين المسلمين التقليديين على استعمال كلمة (الإصلاح)؛ لأنهم يظنون أنها تمثل خطرًا ثلاثي الأبعاد على التمسك بتعاليم الإسلام. وبالتالي فإن إصلاح الإسلام يعني- أو يبدو كما لو أنه يعني- لبعضهم تغيير الإسلام وتحريفه ليتكيف والأزمنة الحالية؛ الأمر الذي لا يقبله المسلمون. والاعتراض الثاني يصدر عن أشخاص يرون في (الإصلاح) شيئًا غربيًّا، ومقاربة مستوردة من التقاليد المسيحية لتفريغ الإسلام من محتواه. والاعتراض الثالث يستند إلى (الطابع الشمولي) لتعاليم الإسلام التي- يضيف هؤلاء- ليست بحاجة إلى (إصلاح)، بل إن تطبيقها ممكن في كل زمان ومكان.
وهناك مفهومان أخريان مستنبطان مباشرة من المصادر النصية التي تشير صراحة إلى فكرتَيْ (الإحياء) و(التجديد)؛ كما في حديث أبي داود والحاكم عن أبي هريرة: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يُجدِّد لها دينها”. والإمام الغزالي جعل من كلمة (الإحياء) عنوانًا لكتابه المهم المعروف.
إن التجديد للدين لا يعني بالطبع تغيير مصادر الإسلام ولا مبادئه ولا قواعده، وإنما يستلزم فقط تغيير طريقة فَهْم الدين وممارسته في العصور أو في الأمكنة المختلفة.. فالقرآن الكريم والسنة النبوية يَبقيان ولاشك المرجعين الأساسيين للدين الإسلامي، وتبقى الأصول الإسلامية الأساسية وممارستها على حالها؛ لكن قراءتنا لهذه النصوص وفهمنا لها هو المقصود بـ(التجديد)؛ بناءً على مساهمات أولئك العلماء والمفكرين الذين سيطرحون وجهات نظر جديدة لإحياء الإيمان في قلوبنا مع تحفيز أذهاننا لنتمكن من مواجهة تحديات الأزمنة التي نعيش فيها.
إن معنى (التجديد) كما عبَّرت السنة النبوية هو (الإصلاح المستمر)، أي الإصلاح المتسم بالإخلاص. باختصار، الإخلاص للمبادئ الإسلامية على مر العصور لا يكون إلا متسلحًا بتطور وإصلاح وتجديد للفكر والفهم. وهو المعنى الذي أراد نبي الله شعيب نقله إلى قومه كما جاء في الآية: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} (هود: 88).
إن فكرة الإصلاح تقتضي مفهوم الإعادة إلى الحالة الأصلية؛ سواء للقلب أم للفكر أم للمجتمع.
– حذرتم من (القراءة الاختزالية).. ماذا تعنون بها؟
يتبنى أنصار القراءة الحَرْفيَّة المعاصرة ثلاثة اختزالات تقيِّد التفسير للنصوص، فتمنع بذلك تقديم حلول مناسبة للتحديات المعاصرة من الناحية الفعلية.
الاختزال الأول: اختزال جوهري- ويبدو أنه سبب الاختزالَيْن الآخرَين- وهو الفشل في التمييز بين (الثابت): وهو ما ثبت في الشرع متجاوزًا التاريخ، وبين (المتغير): وهو ما يخضع ويرتبط بالتطور الزمني والتغيرات البيئية. فأسسُ العقيدة/ أركان الإيمان الستة، وأسس الشعائر الدينية/ أركان الإسلام الخمسة، والواجبات الأخلاقية/ أخلاقيات السلوك، والمحرمات من الأطعمة.. ثابتةٌ مطْلَقة، ويتعين احترامها بصرف النظر عن السياق الحياتي. ولكن لابد من أخذ هذا السياق في الحسبان في عملية تحديد الأنماط والأشكال التي تتغير بالضرورة بتغيّر سياقاتها، وكذلك الأوضاع التطبيقية لتلك الفرائض. فالاحتشام وقواعده بالنسبة للرجال والنساء ثابت في الأخلاقيات الإسلامية، لكن تنفيذه في أي مجتمع يُعيِّن بالضرورة أن نأخذ بالاعتبار: الثقافات والعادات المحلية (أنواع اللباس، الألوان.. إلخ).
الاختزال الثاني: عدم ملاحظة الفارق الأساسي بين المبادئ والنماذج على صعيد العلاقات داخل المجتمعات الإنسانية؛ فالمبادئ ثابتة ومطلقة وخالدة، لكنها من حيث التطبيق المعتمد على العوامل الزمنية أو التاريخية أمرٌ نسبي ومتغير باستمرار. ولذلك، تظل مبادئ العدالة والمساواة والحقوق والأخوة الإنسانية التي نصَّ عليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بمثابة المراجع المتجاوزة للتاريخ. في الوقت نفسه، يعد أنموذج المدينة المنورة الذي أسسه الرسول صلى الله عليه وسلم في القرن السابع إنجازًا تاريخيًّا ارتبط بوقائع زمنه صلى الله عليه وسلم ومقتضياته.
إن الغرض هنا ليس محاكاة النماذج التاريخية التي توصل لها المسلمون السابقون، بل إعادة إنتاج المطلب الأخلاقي والجهود الإنسانية التي من خلالها تم بناء ذلك الأنموذج. وهذا لا يعني تكرار شكله، وإنما استيعاب حقيقته وروحه وأهدافه.
أما الاختزال الثالث: فهو الفشل في التمييز بين المنهجية المرتبطة بالعقيدة والعبادات من ناحية، والمنهجية الخاصة بالمعاملات والقضايا الاجتماعية من ناحية أخرى. ففي المجال الأول لا يمكن للعقل البشري أن يضيف إليه شيئًا أو يُنقص منه شيئًا، دون الاعتماد على آية قرآنية أو حديث نبوي أو دليل شرعي؛ وأيُ تغيير يعتبر بدعةً منكرة؛ وعلى هذا المستوى يمكن وصفنا بأننا (محافظون). أما مجال المعاملات فهنا كل شيء جائز ما لم تنص المصادر النَّصية أو إجماع الفقهاء على حرمته صراحة؛ والقاعدة الفقهية الأساسية هنا: الأصل في الأشياء الإباحة؛ وذلك يفتح أمام البشرية مجالات من الفكر المنطقي والبحث والإبداع.
من الواضح أن لهذا الخلط والاختزال ثلاثي الأبعاد (الثابت/ المتغير. المبادئ/ النماذج. العقيدة والعبادات/ المعاملات) عواقب خطيرة على الفكر الإسلامي المعاصر، ويدعو فعليًّا إلى عدم السماح بأي إصلاح في قراءة النصوص وفهمها وتطبيقها في سياق تاريخي جديد. والأهم من ذلك كله، أنه يتسبب بتبسيط زائد لرسالة الإسلام وتطبيق تعاليمه بطريقة تتناقض مع غاياته العالمية في كثير من الأحيان، وإنْ ادُّعي الوفاء لشكله التاريخي.
– هل يمكن أن نخوض غمار التجديد والإصلاح من خلال القطيعة مع التراث وجهود السابقين؟
إن المصطلحات الفقهية التي تعود إلى قرون طويلة مضت، دليل على الجهود المضنية التي بذلها الفقهاء والمفكرون المسلمون في معرض سعيهم لإعادة قراءة المصادر، وتقديم إجابات مناسبة وجريئة في بعضها، والتفكير بأساليب منهجية لاتّباع الشريعة، والدعوة إلى تحقيق التوافق وتطبيق الاجتهاد.
وكان للعلماء الذين أنعم الله عليهم بروحيَّة عميقة وقدرات عقلية استثنائية وعبقرية قانونية نادرة، وشجاعة لا تُقهر؛ فضلٌ في إنهاض الفكر الديني والفقهي، ثم إحيائه وتجديده: يتعين علينا أن نعترف باجتهاداتهم وأن ندرسها ونأخذها بالاعتبار عندما نطرح أسئلتنا المعاصرة؛ وكذلك التجارب التاريخية المتنوعة التي نجدها في أعمالهم.
وإهمال مثل هذا العمل الضروري لا ينمّ عن عدم احترامه فحسب، بل يعتبر ضَربًا من الجنون الآثم؛ وهذا هو الأهم؛ لأنه يفصل المسلمين عن تراثهم بحجة الحاجة إلى (السير بهم إلى الأمام) نحو (الحداثة). وهذا ولاشك تقدّم خادع مفصول عن جذوره. فإذا كانت الحداثة والتقدم في أي عصر تعني (الانفصال عن التقاليد)، فهذه الحداثة ربما تكون تعبيرًا لطيفًا عن حالة وجودية لا معالم لها ولا تاريخ ولا مبادئ ولا رؤية. حداثة نفرح بوضعها من دون أن تعرف حقيقة ما يعنيه ذلك الوضع؛ وذلك عين الجنون والانسلاخ.
إن التصالح مع الماضي هو الطريق الأمثل للتوصل إلى سُبل جديدة تقود إلى المستقبل.
– أين تقع أفكاركم بين (أسلمة الحداثة) و(أحدثة الإسلام)؟
تُلقي مناقشة أفكاري، وبالأخص الأفكار المتعلقة بالأخلاق، الضوءَ على طبيعة الانحياز المفرط والتسفيهي الذي حملته الانتقادات التي وُجِّهت إليَّ برغبتي في (أسلمة الحداثة) بدلاً من (أحدثة الإسلام).
فيبدو أن بعض المفكرين والمؤرخين والاجتماعيين قد شعروا بعدم ارتياح في مواجهتهم فكرًا إسلاميًّا يعترفون بأنه إصلاحي لكنه لا يصل إلى النتائج التي يرجونها. وقد أشار المؤرخ الفرنسي دومينيك أفرون إلى ذلك المشرب مدعيًا أن مشروعي أبعد ما يكون عن المشروع الإصلاحي، وأنه ببساطة يعمل على منح الإسلام والمسلمين وسائل جديدة للتعامل مع الحداثة.
وما يوحيه هذا التقسيم لدراستي يعبّر عن كاتبيه فحسب، وليس معبِّرًا بأي شكل من الأشكال عن عملي؛ فلمَ ينبغي أن تتعارض رغبة المرء في الإخلاص للتعاليم الدينية والمبادئ الأخلاقية مع رغبته في (أسلمة الحداثة)؟ اللهم إلا أن يفترض أولاً أن (الحداثة) لا تعني محاولة المرء العيش في زمانه، وإنما تُفهم- قصرًا- على أنها الطريقة الغربية (التي تعتبر ضمنًا الطريقة الوحيدة الحديثة؛ ناهيك عن اعتبارها طريقة عالمية) لمواجهة الحاضر.
وهذا الاختزال المزدوج (أن الحداثة غربية، وأن الغرب وحده ينتج العالمية) عارٍ من الصحة من الناحية الفلسفية والتاريخية والعلمية؛ كما أن طابعه الثنائي- (الغرب) في مقابل (الآخرين)؛ و(الحداثة) في مقابل (التقليد)- أيديولوجي متعجرف، وخطير على المدى الطويل، وهو يرقى إلى حد القول إن أي محاولة من جانب دين أو حضارة غير غربية (وبخاصة الإسلام الذي يهدده “من الداخل”) للتوصل إلى إجاباتها الخاصة المنبثقة عن مرجعيتها وأخلاقياتها الخاصة على التحديات المعاصرة؛ يعني رفض العالمية ومقاومة (الحداثة) بمحاولة استعمارها وأسلمتها بدهاء.
إن الرغبة في التمسك بالتقاليد والقيم والخلاق الدينية في الأزمنة الحديثة، لا تعني بالتأكيد رفض المرء العيش بانسجام مع هذه الأزمنة؛ بل العكس هو الصحيح.
إنني أبعد ما أكون عن الرغبة في (أسلمة الحداثة)؛ بل إن غايتي أكثر شفافية وتماسكًا- على الرغم من صعوبتها- حيث إنها تسعى إلى تزويد أنفسنا بالوسائل اللازمة للتمسك بالتقاليد الدينية في قلب عصر الحداثة، مع فتح حوار حول القيم والمقاصد، الخاصة منها والعالمية، تشترك فيها الحضارات أجمع.
إن التواضعَ (المصاحب للنقد الذاتي)، والاحترامَ (المصاحب للنظرة الإيجابية تجاه الآخرين)، وأخيرًا الترابطَ المنطقي (المعبَّر عنه بشكل ملموس في تقييم نقدي للذات).. يشكِّل الشروط اللازمة لفهم العالم المرجعيّ الخاص بالمرء والعوالم المرجعية للآخرين بطريقة منفتحة، نقدية، وبناءة.
وقد أحسست بأهمية إمضاء بعض الوقت في دراسة هذه الانتقادات في هذه المرحلة من تأملاتنا؛ لكن للأسف الشديد فقد أساء بعضها بشكل واسع إلى حقيقة نواياي وشوَّه المعنى الأصلي لمشروعي بسبب هوسه بالعلاقة الثنائية بين (التقليد) و(الحداثة)، أو بين معارضة (الإسلام) الخيالية و(الغرب)؛ في علاقة كاريكاتورية بالآخر، أو بالمواجهة وانعدام الثقة والقوة في الأغلب.
المصدر: https://islamonline.net/24945