مجتمع القبيلة في الإسلام
معاذ حسن
توطئة
تتّفق أغلب المرويات الإسلاميّة والتاريخيّة أنّ الوحي بدا على النّبي محمّد وهو في سنّ الأربعين عام 610م، ثمّ هاجر مع أتباعه من مكّة إلى يثرب “المدينة” هربا من اضطهاد سادة قريش لهم عام 622م، ثمّ عاد فاتحا ومنتصرا إلى مكّة عام 628م بمقتضى “صلح الحديبية” بينه وبين سادة قريش الّذين أحسّوا بقوّته وعدم قدرتهم على هزيمته فدخلوا الإسلام بمقتضى اتّفاق بينهم وبينه سمّي صلح الحديبية، فتمّت الغلبة للمسلمين منذ ذلك الوقت، ثمّ بدأ بنشر الدّعوة في كافّة أرجاء الجزيرة العربيّة الّتي اعترفت جميع قبائلها به نبيّا وبالإسلام دينا، إلى أن حدثت وفاته المبكّرة عام 632م.
ثمّة إذا 22 عاماً فقط تفصل بين بدء الوحي وبين وفاته كانت مليئة بالتّحديات والمصاعب الّتي استطاع التّغلب عليها جميعا، تتخلّلها 4 سنوات تبدأ بعودته فاتحا منتصرا إلى مكّة بدأ بعدها بالتحضير لنشر الإسلام داخل وخارج الجزيرة العربية باتّجاه الشّمال حيث كان ما يزال الوجود البيزنطي، الهزيل نسبيا.
فكل ذلك لم يترك له مجالا للتّفكير بتصوّر واضح لوضع أسس بناء طريقة جديدة مختلفة لإدارة وحكم المجتمع الجديد الذي بشر به وعمل من أجله، أو أن سقف زمانه وشرط بيئته لم يكن يسمحان له بذلك، باستثناء عقد تحالفات ومصالحات مع القبائل المتعددة، لا تتجاوز سقفها القبلي القديم باتجاه تجاوز نهائي لأسس مجتمع القبيلة البدوي في صميمه، وكان ذلك لا يكفي لضمان الاستقرار السياسي والديني من بعده، بدليل أنه بعد وفاته مباشرة بدأت تظهر فورا مقدمات عدم الاستقرار والخلخلة ومن ثم الفتنة في الإسلام، من خلال حدثين بارزين لهما دلالة كبيرة.
-أولهما: اجتماع سقيفة بني ساعدة:
فالخلافات بدأت تظهر أول ما تظهر في حادثة اجتماعات “سقيفة بني ساعده” المعروفة، حول الاتفاق على خليفة للمسلمين بعد وفاة النبي فظهرت على الفور ميول علاقات القرابة القبلية السابقة على الإسلام في اختيار المرشح الجديد للخلافة على حساب أي مواصفات أخرى جديدة تتناسب مع الوضع المستجد يمكن الحديث حول توفرها في مرشح للخلافة، وكأن دعوة النبي محمد لم تكن في جوهرها ثورة على القبيلة والبداوة!.
ولعل الحوارات التهديدية الساخنة التي جرت في السقيفة بين المجتمعين كافة، في الوقت الذي كان فيه جثمان النبي ما زال مسجى ويغسل في بيته من قبل أهله فقط، كما تناقلها المؤرخون ومن بينهم (الطبري) في تاريخه المعروف تبين هشاشة أو انعدام أي تصور للخلافة والحكم بعد النبي لا يقوم على أساس العلاقة العشائرية والقرابة القبلية حيث يقول الصحابي الكبير (عمر بن الخطاب) للمجتمعين من الأنصار:” من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مول بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة ؟[1]!
طبعا يذكر الطبري أيضا وأغلب المؤرخين المسلمين أنه كان ثمة أفكار أخرى طرحها جماعة الأنصار من قبيلتي (الأوس والخزرج) في المدينة الذين حموا محمدا وساندوه وقاتلوا معه حتى ثبتوا دينه، فتوهموا أنهم نتيجة لدورهم السابق هذا مع محمد وفي نشر الدين فإن من حقهم أن يطرحوا ممثلا لهم للخلافة بالتناوب مع المهاجرين من الصحابة فطرحوا للمهاجرين فكرة تقول: “منا أمير ومنكم أمير” فكرة كان يمكنها على الأقل, بالرغم من جذرها القبلي الواضح أيضا، درء مخاطر الفتنة التي حصلت لاحقا، كما أن الزمن كان كفيلا بتطويرها وتشذيبها أكثر باتجاه طريقة الانتخاب الديمقراطي السليم[2] بشكل أفضل بكثير مما آلت عليه فكرة “المبايعة” على أساس قبلي تحت مسمى هش سموه “الشورى”. لكن هذه الفكرة استبعدت مباشرة من قبل المهاجرين وخصوصا من قبل عمر بن الخطاب وأبو بكر الصديق وأصروا على أن يكون الخليفة من قريش، كما أن جماعة الأنصار أنفسهم تراجعوا عنها مع استيقاظ مفاجئ لخلافات قبلية سابقة بينهم (الأوس والخزرج)، ما أدى إلى تخوف كل قبيلة أن يكون المرشح المتفق عليه من غيرها، وهكذا تم بسرعة اقتراح و”مبايعة” أبي بكر الصديق للخلافة لكون النبي كان قد اختاره لإمامة المسلمين بالصلاة عندما أقعده المرض. وهكذا تمفصلت منذ البداية علاقات قرابة الدم القبلية البدوية عند عرب الجزيرة قبل الإسلام مع طريقة اختيار الخليفة أو الحاكم في الإسلام، وربما يضيء لنا ذلك أحد أسباب موت أغلب الخلفاء الراشدين قتلا واغتيالا.
فمشروع الإسلام الذي جاء به النبي محمد, كما يُفترض، كنقض لمجتمع القبيلة وتجاوزا له, لم يكن منذ البداية يملك تصورا مغايرا واضحا وقويا للبديل المفترض لهذا التجاوز، كما لم يكن يملك الأداة أو الرافعة المجتمعية اللازمة لهذا التغيير إلا مجتمع القبيلة نفسه فاضطر المسلمون وكبار الصحابة والأنصار، الذين لم تكن ثقافتهم وميولهم وولائاتهم تجاوزت بعد ثقافة وميول وولاءات مجتمع القبيلة قبل الإسلام، لحظة موت الرسول، إلى أن يتعاملوا وفق ما تمليه عليهم هذه الثقافة المسيطرة آنذاك، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن قبيلة قريش من خلال سادتها الكبار آنذاك، وافقت على الصلح ودخلت الإسلام, كما يجمع أغلب الدارسين، ليس للحفاظ, فقط، على مكانتها القوية بين القبائل ودورها التجاري الكبير السابق، بل أيضا لتسلم دور مركزي إداري وعسكري واقتصادي تجاري أقوى في مجتمع الجزيرة العربية وفي قيادة القبائل العربية بعد الإسلام، وقد تم لها ذلك فعلا حتى نهاية العهد الأموي في القرن الثاني للهجرة.
-ثانيهما: حروب الردة-:
ولعلّ بداية الخلخلة والتمرد في الإسلام كانت فيما سمي بـ “حروب الردة”، التي أكدت وعمقت التمفصل القوي بين طريقة نشر الإسلام وفتوحاته الكبرى فيما بعد، مع مجتمع القبيلة. ولعلّ كلّ ذلك فعل فعله في آلية بناء الشخصية العربية الإسلامية لاحقا, خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أيضا أن المبايعة على أساس قبلي، أي مبايعة الخليفة، بمعنى إجماع نخبة من قادة المسلمين الأوائل على شخص، اقتصرت فقط على فترة عهد الخلفاء الراشدين، أما بدءا من العهد الأموي 41 – 132ه/ 662 – 675م وما بعد فصارت الخلافة وراثية أسروية تتبع الحلقة الأضيق، أبناء الخليفة الحاكم أو إخوته فقط, تمثلا بالإمبراطوريات الكبيرة التي حاربها الإسلام بداية وانتصر عليها ثم قلدها وأخذ عنها الكثير من أساليب لإدارة والحكم لاسيما التوريث داخل الأسر المالكة والحاكمة.
فحروب الردة نشأت تحت ضغط حركة الارتداد عن الإسلام التي بدأت تتسارع بين أوساط القبائل في أرجاء الجزيرة العربية, باستثناء مكة والمدينة والطائف, فور انتشار خبر وفاة الرسول محمد مما أدى إلى حروب داخلية سميت بحروب الردة استمرت بين عامي 632 – 634م حيث تمكن الخليفة الأول أبو بكر الصديق من القضاء عليها نهائيا بعد أن أصر على توجيه عدة حملات عسكرية ضدها. وقد أجمع المؤرخون والدارسين على أنها في أحد أهم أسبابها رد فعل مجتمع القبيلة الحر على الحكم المركزي الواحد من جهة كما أنها تمرد ورفض دفع الجزية والضرائب المترتبة عليها للحكومة المركزية في مكة من جهة ثانية، لكن بعد حروب ضروس تم فيها إعلان الجهاد على المرتدين وقتلهم، أو العودة عن ارتدادهم, تم القضاء على هذه الحركات بقوة السيف من جهة وبتسويات قبلية من جهة ثانية.
وبذلك تم تكريس الجهاد، الذي بدأت فكرته منذ بدايات الدعوة في الغزوات الأولى وخصوصا غزوة “بدر”، ضد المرتد، والكافر، وفي سبيل نشر الإسلام، كفرض واجب على كل مسلم. ولعل فكرة الجهاد الإسلامية هذه لاقت قبولا واسعا لدي أبناء القبائل البدوية كونها تتجاوب مع ميلهم للقتال الدائم، وطبيعتهم سريعة الحركة في بيئتهم الصحراوية وتنقلهم الدائم والسريع فيها للبحث عن مجال حيوي لهم خارج محيط قبائلهم الضيق بحثا عن المرعى وموارد العيش والغنائم، وبما تعنيه من غارات على الخصوم والمنافسين وحبهم للغزو الدائم. وبذلك يكون الإسلام تجاوب مع طبيعتهم هذه وآمن لهم فرصة التوحيد تحت شعار الجهاد للبحث عن مجال حيوي كبير وواسع بعيدا عن محيط الجزيرة العربية الصحراوي، مدفوعين بفكرة جديدة وعقيدة إيمانية كبيرة ومختلفة جدا عما سبق شحنتهم بطاقة كبيرة على الحركة في الحروب، كما سنرى.
فهذه الحروب إذا، نجحت خلال عامين بفضل السيف، فقط، في القضاء على حركة التمرد على الإسلام كدين وطريقة جديدة في العبادة دون أن تستهدف الأساس القبلي لها، وكان هذا يعني إذعانا بعد هزيمة, ربما كان استدعى تسوية بين قادة جيوش المسلمين المنتصرين وبين زعماء القبائل المهزومين, للحفاظ على مواقعهم داخل قبائلهم. فمن خلال هذه الحروب لمع كثيرا اسم القائد الإسلامي المحنك (خالد بن الوليد) وهو ينتسب لأسرة من أشراف قريش، الذي استطاع بناء جيش مقاتل قوي من أبناء مختلف القبائل استطاع من خلاله بعد القضاء نهائيا على حركة الردة، متابعة حروبه وفتوحاته شمالا، في بلاد الشام ضدّ الجيوش البيزنطية من جهة وضدّ الجيوش الساسانية في العراق من جهة ثانية، وبذلك يكون الإسلام أمّن لأبناء القبائل العربية الدخول المظفر موحدين في مجال حيوي واسع وكبير لهم, مؤكدا بنفس الوقت نزعته الكونية في نشر الدين الجديد، لكن على أساس نزعة قبلية داخلية لم يتم يتجاوزها.
-القبيلة في الإمبراطوريّة:
طبعا ليس مجالنا هنا استعراض خريطة الفتوحات العسكرية الواسعة والكبيرة للجيوش العربية الإسلامية آنذاك والّتي غطت في أقصى حدودها إبّان العهدين الأموي والعباسي عدا عن بلاد الشام والعراق, بلاد الفرس في الشرق وبلاد الأناضول في الشمال وشمال أفريقيا والأندلس في أسبانيا، كإمبراطورية واسعة جدا وغنية سيطرت طويلا على طرق وممرات تجارية برية وبحرية عديدة تصل بين الهند وجنوبي شرقي أسيا من جهة وحوض البحر الأبيض المتوسط وأوروبا من جهة مقابلة.
لكن من المهم القول، وبما يخدم فكرة المقال الرئيسة، أنه كان يرافق هذه الحروب والفتوحات باستمرار نزوح قبائلي بدوي كبير من قبل أبناء القبائل المقاتلين في الجزيرة العربية مع أهاليهم نحو المدن والبلدان المفتوحة ترافقهم أيضا كل نزعاتهم القبلية البدوية السابقة في الجوهر، لكن في لبوس ديني جديد وراية مختلفة عن رايات القبيلة السابقة. أي أنه كان ثمة احتكاك دائم بل وتصادم بين فكرة الإسلام الواحدة كما كانت تسوسها قريش، وبين نزعة القبيلة عند القبائل, بمعنى أن وحدة القبائل أثناء الجهاد والفتوحات العسكرية بدأت بالتفكك خلال فترات الاستقرار النسبي بعد الفتوحات وما كان يليها من محاولات استيلاء على الخلافة والسلطة بالقوة، وتوزيع للمغانم والأعطيات تبدو للبعض غير عادلة ومتساوية أو فيها خرق للشرعية الصحيحة، الأمر الذي يجعلنا نفهم أحد أهم أسباب الخلافات والتمردات والانقسامات التي حصلت فيما بعد وصولا للفتنة الكبرى بين السنة والشيعة، التي كانت في أساسها وجوهرها تنافس قبائلي أو عائلي حتى داخل القبيلة الواحدة, ثم صارت تتمظهر بخلافات مذهبية وعداوات سياسية خصوصا بعد الحروب التي حدثت بين أتباع (علي بن أبي طالب) من جهة وأتباع (معاوية بن أبي سفيان) من جهة ثانية، وظهور حركة الخوارج كنقيض للطرفين إثر ذلك، ثم بعد ذلك بين أتباع (الحسين بن علي) من جهة وأتباع (يزيد بن معاوية) من جهة أخرى، وما تلا ذلك من عداوات وحروب ذم وكراهية مستمرة حتى أيامنا هذه بين السنة والشيعة في كافة العالم الإسلامي.
يقول المؤرخ (عبد العزيز الدوري) في كتابه “مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي: ” فقد كان للاتجاهات القبلية أثرها وإن اكتسبت أشكالا جديدة نتيجة التطورات الاقتصادية والسياسية. ونحن نلاحظ صراعا أو احتكاكا متصلا بين المبادئ الإسلامية الجديدة وبين الاتجاهات القبلية، وكان ذلك من العوامل القوية المؤثرة في تاريخ صدر الإسلام، ومن المتعذر علينا أن نفهم الكثير من الأحداث والتطورات إن أغفلنا هذه المواجهة المتصلة بين الإسلام والقبيلة. وقد تكون هذه التيارات خفية يتعذر تتبعها وفهم تطورها في الأوقات الاعتيادية، ولكنها تظهر في فترات الأزمات – ومن هذه الأزمات، الفتنة، في خلافة عثمان، أو الحرب الأهلية الأولى. فالثورة على عثمان وما تلاها من أحداث, كشفت عن أزمة داخلية حادة في المجتمع العربي الإسلامي, وتركت أثار خطيرة في تاريخ العرب” ص 17 – 18.
واستطاعوا من خلال الغنائم العديدة والكبيرة الّتي كانوا يستولون عليها من تكوين طبقة أرستقراطية عسكرية كانت تستوطن وتنشئ المدن الجديدة في بيئات زراعية جديدة متعددة الديانات والثقافات، دانت للفاتحين إما مرغمة أو عن قبول ورضا ومنها من دخل الإسلام ومنها من بقي على دينه، لكن أغلب أبناء هذه المناطق المفتوحة صاروا رعايا في الدولة (الإمبراطورية) الجديدة قيد التشكل. وهنا بدأ يظهر بوضوح وعمق كبيرين تمازج ثقافي حضاري غني وكبير استطاع إنتاج مقدمات حضارة عربية إسلامية متميزة ومتقدمة في عصرها استمرت طويلا.
إلا أن الطابع القبائلي البدوي الغالب على الفاتحين العرب الجدد، بكل خلافاتهم وانقساماتهم المتعددة, خصوصا أنهم تمأسسوا وتمكنوا في مراتب سلطوية وطبقات أرستقراطية حاكمة ومالكة، اغتنت بفضل المغانم واقتطاع الأراضي والمزارع، لعب دوره مرة ثانية في رسم شخصية مزدوجة لأبناء هذه الحضارة الجديدة لأجيال لاحقة متتالية حتى يومنا هذا، شخصية تتأرجح بين إعادة إنتاج وتجديد العصبية القبلية من جهة وإنتاج ترجمات فكرية وفلسفية أنتجت بدورها علوما ومعارف جديدة ومتقدمة في زمانها من جهة أخرى، ولعل كان لهذه الازدواجية دورها الكبير في عملية رسم وإنتاج الشخصية العربية الإسلامية، بل وكانت أحد الأسباب الهامة في إعاقة التقدم التاريخي المستمر لهذه الطفرة الحضارية الكبرى, مما أدى إلى تراجع دورها شيئا فشيئا ثم زوالها منذ الرابع عشر الميلادي.
وربما لهذا يتبين لنا لماذا ركزَّ ملاحظا، أحد أهم العقول في التاريخ العربي الإسلامي وهو (ابن خلدون 1332 – 1406م) على دور العصبية القبلية كأساس لنشوء سلطة قوية تؤدي بدورها إلى ظهور مُلك مستبد يأخذ طابع دولة، هذه الدولة التي تتجه بعد تمكنها إلى الرفاه لطبقاتها العليا وكبار مسئوليها وعساكرها بفضل غنائم الحروب والضرائب المفروضة مما يعني حياة الدعة والرفاه، التي تستدعي بدورها الميل الواضح نحو العمران الحضاري الواسع الذي يستوعب جميع العصبيات الأخرى الموجودة مع الانغماس في ترف الحضارة مما يؤدي إلى الترهل والكسل والانقسام فالضعف، وهذا بدوره يسمح بالعودة للعصبية من جديد عندما تظهر عصبيات جديدة تستثمر لحظة الضعف والترهل فتدخل في تضاد وصراع مع العصبية الأولى التي أنتجت السلطة والدولة نفسها. فيبدأ دور الزوال للسلطة وللحضارة معا، وهكذا تعود العصبيات لتلعب دورها من جديد على أنقاض الحضارة السابقة.
-القبيلة في الإسلام الحديث والمعاصر:
وفي تاريخ الفكر العربي الحديث ظهرت أيضا بعض العقول المفكرة الّتي تلحظ ظاهرة البداوة المستمرة حتّى اليوم في عالمنا العربي الإسلامي وأشير هنا إلى أحد أهم هذه العقول التي ظهرت في القرن العشرين هو المؤرخ وعالم الاجتماع العراقي (علي الوردي 1913 – 1995) الذي يرى، متأثرا بابن خلدون, ومتجاوزا له بنفس الوقت، أن البداوة هي السمة التي مازالت غالبة على الشخصية العراقية, طبعا كنموذج للشخصية العربية الإسلامية عموما، والتي تعاني الازدواج الذي أشرت إليه، كون العراق تلقى منذ تاريخه القديم والوسيط أكبر عملية نزوح قبائلي من داخل الجزيرة العربية باتجاه الواحات الخضراء فيه، حيث نشأت الدول فيه على قاعدة التمازج بين حضارتين: حضارة البدو المحاربة الغازية الغالبة، وحضارة المزارعين المغلوبين.
يقول في دراسة له صدرت في بغداد عام 1951بعنوان “شخصية الفرد العراقي”: “لأن قيم البداوة والزراعة قد ازدوجتا في العراق منذ أقدم العصور ولا تزال تصطرع في أنفسنا حتى اليوم. لقد ولد هذا الازدواج وتأسس تأسيسا اجتماعيا في العصر العباسي عندما أصبحت بغداد عاصمة الإمبراطورية الإسلامية. فلقد نشأت في العراق آنذاك أغلب العلوم الإسلامية وترجم المنطق اليوناني. ولو رجعنا نحو أولئك المفكرين الذين ساهموا في هذه الحركة العلمية الجبارة لوجدنا جلّهم من أبناء الطبقة المغلوبة، إذ كانوا حضرا في الغالب ولم يكن فيهم من أبناء البداوة إلا قليلا. ومعنى ذلك أن تفكيرنا قد اصطبغ منذ ذلك الحين بصبغة المثالية الزاهدة الخاضعة. أما أعمالنا فبقيت تحت تأثير القيم البدوية لأنها كانت القيم السائدة فعلا في الطبقات العليا. وبهذا أصبحنا نعيش في عالمين متناقضين عالم الفكر المثالي من ناحية وعالم الفعل الواقعي من ناحية أخرى. فأصبح أحدنا يجادل على أساس المنطق الأرسطاطاليسي والمثالية الدينية بينما هو في الواقع من أبناء هذه الدنيا غضوبا حقودا”([3]).
وذلك هو فعلا جذر إشكالية الازدواج في الشخصية العربية الإسلامية التي لم يتم تجاوزها حتّى اليوم، مثالية في التفكير بمواجهة عالم يومي تحكمه قيم قبلية (بدوية) متجهمة غضوبة تقود أفعالنا اليومية بصغيرها وكبيرها.
ولعلّ من أحد أهم الأسباب الّتي أعاقت تجاوز هذه الإشكالية هو توقف التطور الحضاري (أدبي, فلسفي علمي, فقهي) في الحضارة العربية الإسلامية لصالح طرق دروشة صوفية متأخرة أغلقت على دور العقل والاجتهاد نهائيا ومهدت طريق الخضوع التام لسلطة الخليفة أو السلطان, طيلة فترة خلافة الإمبراطورية العثمانية 1516 – 1916م التي دامت أربعة قرون، مهمشة دور القبيلة نسبيا لصالح بناء إمبراطورية كبيرة بتقاليد عسكريّة حربية قويّة أحدثت في سياق ذلك تبدلات ديمغرافيّة كبيرة داخل الإمبراطورية ساعدت السلطنة كثيرا في توطيد أركانها, لدرجة صارت “العثمانية” هي اللاحم الوحيد الّذي يجمع شعوبها العديدة إسلاميّة وغير إسلاميّة.
وعندما انهار هذا اللاحم مع انهيار وتفكك الإمبراطوريّة العثمانيّة أوائل القرن العشرين بدأت الشّعوب الخاضعة تبحث عن لاحم جديد فكان اللاحم العروبي الحداثي هو الحل بالنسبة للشعوب العربية الإسلامية، لكن مع بدايات تراجع وإخفاق هذا اللاحم الّذي ترافق مع إخفاق كل أفكار ومشاريع التحديث والحداثة في بنية المجتمعات العربيّة والإسلاميّة عموما، وتذررها من جديد إلى انتماءات القبيلة السابقة أو إلى انتماءات أُقلوية عشائرية وطائفية مذهبية ضيقة استطاعت إعادة إنتاج الإسلام الّذي يُطابق حالة التذرر هذه، منذ منتصف القرن العشرين. بدأت العودةالعُصابية لزمن الإسلام الأول بكلّ محمولاته القبلية القديمة وصراعاتها السابقة بتأثير فكرة السلف الصالح فظهرت بقوّة حركات الإسلام السياسي والجهاد الأصولي والسلفي التكفيري المتطرف الذي مازلنا نعاني منها حتى اليوم, وتم من جديد إحياء الإصطفافات والصراعات القبلية السّابقة بتمظهرات إيديولوجيّة واصطفافات وصراعات مذهبيّة طائفيّة جديدة.
ولذلك يبدو لي – كما أزعم – أنّ الفكر الاعتدالي في الإسلام وصولا حتّى الإصلاح الديني التّام, دون مسّ الأساس المجتمعي التقليدي الّذي يقوم عليه إسلام اليوم, خصوصا في المجتمعات العربية, هو جهد (سيزيفي) مستحيل دون هدم هذا الأساس المجتمعي بكل قيمه وتقاليده الماضوية السابقة، وبدء الدخول في مرحلة حداثة ليبرالية كاملة للمجتمع سياسيا وإقتصاديا وثقافيا مدنيا وإنسانيا.
وربّما تكون الثّورات أو الانفجارات المجتمعية الكبيرة الحاصلة اليوم، ورغم كل سياقها المأساوي والكارثي، هي مقدمات لا بدّ منها لذلك. كما حصل في أوروبا طيلة عصور النهضة فيها منذ القرن الخامس عشر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]-: “تاريخ الطبري” ج2.
[2] -:يشير إلى هذه النقطة تحديدا بتعليق حصيف مقالا لافتا وهاما على النت للباحث المغربي (محمد مزوز) بعنوان “الإسلام والفلسفة: أية علاقة وأي مستقبل؟.) منشور في موقع اسمه ” موقع ابن خلدون للعلوم والفلسفة والأدب” وفيه يستند الباحث في أدلته وبسط فكرته على تاريخ (الشهرستاني) في كتابه “الملل والنحل” في توثيق ما جرى في سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة للرسول.
[3] -: “شخصية الفرد العراقي” الدكتور (علي الوردي) إصدار شركة الوراق للنشر المحدودة، الطبعة الأولى للدار 2007، ص 51 – 52.https://www.alawan.org/2018/03/17/%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9-%D8%A7%...المصدر: ر