السلاح في أمريكا بين الحق والقانون وتكوين الدولة
حقوق الإنسان وحقوق الحيوان وحقوق المؤلف وحقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق المسنين وحقوق الأقليات وحقوق المرضى وحقوق السجناء وحقوق الضحايا وحقوق العمال..كل هذه الحقوق وغيرها، لا يمكن مقارنتها بحق امتلاك وحمل السلاح لدى بعض الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة التي تكفل لمواطنيها هذا الحق بترخيص وبدون ترخيص، رغم أن ما تفقده أمريكا سنويا من سكانها بسبب العنف الناتج عن الأسلحة الشخصية يزيد على ما فقدته في الحربين على العراق وأفغانستان في أي عام.
منذ حادثة إطلاق النار الأخيرة داخل مدرسة ثانوية في ولاية فلوريدا والتي ذهب ضحيتها 17 طالبا على يد طالب سابق عمره 19 عاما..والتحليلات الإعلامية ودراسات مراكز الأبحاث لم تتوقف عن النشاط بحثا عن حلول ناجعة لوضع حد لهذه الجرائم التي ترتكب تحت حماية دستورية، بحجة أن حمل السلاح حق إنساني وحرية شخصية لا يمكن التنازل عنها. وهو الأمر الذي جعل كل تلك الإجتهادات الإعلامية والبحثية تتحرك على هامش ضئيل لا يتيح لها في النهاية البت في مسألة مجرد احتمالية التخلي عن هذا الحق في سبيل حقن دماء آلاف الضحايا سنويا.
“راند”تتحرك
ومن أجل دراسة هذه الظاهرة المتغلغلة في المجتمع الأمريكي، أطلقت مؤسسة “راند” البحثية الأمريكية مؤخرا مشروعا ضخما تحت إسم “مبادرة راند حول سياسات السلاح في الولايات المتحدة”. الهدف من هذا المشروع، كما تقول راند، هو “إنشاء موارد حيث يمكن لصانعي السياسة وعامة الجمهور الوصول إلى معلومات غير متحيزة تسهل وضع سياسات نزيهة وفعالة لاقتناء الأسلحة”. مؤكدة في ذات الوقت أنه “يجب على سياسات الأسلحة الفعالة في الولايات المتحدة أن توازن بين الحق الدستوري في حمل السلاح والمصلحة العامة في ملكية السلاح مع المخاوف المتعلقة بالصحة والسلامة العامة”، مشيرة إلى أن “الجهود الحالية لصياغة التشريعات المتعلقة بالأسلحة تعوقها قلة المعلومات الموثوقة عن آثار هذه السياسات”.
يقول مدير المشروع أندرو مورال أن الأسلحة “لها أهمية رمزية وثقافية واقتصادية في الولايات المتحدة. وكثير من الأميركيين يقدرون تقاليد الصيد والرماية الرياضية ، وجمع الأسلحة ونقدر الأمن والحماية التي يمكن أن توفرها. تعتمد العديد من المناطق على الصيد كمحرك مهم لاقتصاد السياحة ،ويعمل في صناعة الأسلحة على نطاق أوسع مئات الآلاف من الأمريكيين”.
ولكن الذي يحدث أن الأمريكيين يفقدون سنويا العديد من ذويهم، ووفقا لتقرير عام 2017 من قبل مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها ،توفي أكثر من 36 ألف نتيجة جروح ناجمة عن طلقات نارية عام 2015، وما يقرب من ثلثي هذه الوفيات حالات انتحار.
ووفقا لدراسة أجريت في عام 2016 من قبل إرين غرينشتين وديفيد هيمينواي ،فإن أولئك الذين يعيشون في الولايات المتحدة هم أكثر عرضة للإصابة بالموت بسبع مرات مما لو كانوا يعيشون في بلد ثري آخر ،ويزيد احتمال تعرضهم للموت في جرائم القتل بمقدار 25 ضعفاً.
وفي الواقع ،خطر التعرض للعنف في الأسلحة النارية في الولايات المتحدة مرتفع للغاية ومتفشي لدرجة أنه حتى عمليات إطلاق النار الجماعية التي تحدث بشكل منتظم ،والتي تستحوذ على الكثير من الاهتمام ، لا تمثل سوى نصف 1 في المائة من جميع الوفيات الناتجة عن الأسلحة في الولايات المتحدة سنويا.
أندرو مورال خلص إلى القول بأن استعراض مؤسسة “راند” الدقيق لآلاف الدراسات المنشورة أظهر أنه لا يزال هناك الكثير لتعلمه عن آثار سياسات السلاح. فبعد مراجعة الدراسات المصممة لقياس التأثيرات السلبية للسياسات، تم العثور على أدلة علمية على عدد قليل نسبيًا من أكثر من 100 تأثير تم فحصها. لذلك فقد قامت راند كجزء من مبادرتها بتطوير قاعدة بيانات لقوانين الأسلحة النارية تغطي الفترة بين عام 1979 حتى عام 2016.
حق أريد به باطل
لا يشك أحد أن الولايات المتحدة الأمريكية، تحمل لواء الدفاع عن حقوق الإنسان، وهي تحتضن المئات من المنظمات الإنسانية المدافعة عن حقوق الإنسان، والتي لديها فروع في جميع دول العام. والولايات المتحدة تضطر في أحيان كثيرة للتدخل في شؤون الدول الأخرى تحت شعار “حقوق الإنسان” كما تدعي… ولكن الموضوع الذي يخفي على غالبية الشعوب، أن أمريكا المدافعة عن حقوق الإنسان، تتصدر قائمة الدول التي تزدهر فيها تجارة السلاح والجريمة يوما بعد يوم، وقد بلغت أوجها في عهد الرئيس أوباما.
ويشير الكاتب الأميركي “نيكلاس كريستوف” في مقال نشرته له صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية إلى دراسة أجراها صندوق الطفولة التابع للأمم المتحدة تفيد بأن الولايات المتحدة تفقد قرابة 2800 من الأطفال والمراهقين بشكل سنوي، وذلك بسبب انتشار الأسلحة الشخصية في البلاد. وقال كريستوف إن ما تفقده الولايات المتحدة سنويا من سكانها بسبب العنف الناتج عن الأسلحة الشخصية يزيد على ما فقدته البلاد في الحربين على العراق وأفغانستان في أي عام.
ويذهب الدكتور باسم خفاجي في سرد بعض الحقائق المخيفة عن السلاح في أمريكا، منها:
- يصنع مسدس في أمريكا في كل 10 ثوان.
- في كل صباح يحمل مليون أمريكي سلاحهم معهم خلال اليوم.
- 2 مليون أمريكي يحتفظون بسلاح في سياراتهم.
- 12% فقط من الأسلحة في أمريكا مرخصة و88% غير مرخصة.
- أكثر من نصف المسدسات التي تصنع في العالم كله، تصنع في أمريكا.
- أمريكا هي الدولة الأولى في العالم في نسبة السلاح إلى عدد السكان.
- يتم إطلاق النار على 75 طفلا في أمريكا كل يوم.
- كل يوم يموت 9 أطفال ويتعرض 6 إلى إصابات وعاهات مستديمة.
- يتعرض 100 ألف أمريكي كل عام لإطلاق النار عليهم (12791 جريمة قتل، 16883حالة انتحار، و642 حالة إطلاق نار خطأ)
- في بعض الولايات ازدادت الجرائم بدرجة 300% عندما تم تحجيم حق الأفراد في حمل السلاح، ومنها العاصمة واشنطن، ومدينة نيويورك.
- كل 17 دقيقة يقتل أمريكي بالسلاح.
- من كل 1000 أمريكي يوجد 9 في السجون.
- 289 شخصا يتعرضون لإطلاق النار يوميا.
- 53 شخصا ينتحرون يوميا.
- جرائم الكراهية ضد المسلمين بلغت 67% في 2016.
من حيث المبدأ، تمنع غالبية دول العالم مواطنيها من اقتناء السلاح، وفي حال سمحت تفرض قيودا على امتلاكه لتقليل شروره، لكن ثمة دول كالولايات المتحدة مثلا تتيح حمل السلاح بسهولة. وخلافا للتوجه العالمي لحصر السلاح في أجهزة الدولة، تتيح 4 دول في العالم لمواطنيها حمل السلاح، وهي: اليمن والتشيك وجنوب إفريقيا و الولايات المتحدة، وحسب القانون الاتحادي يمكن لأي أميركي يتم (18 عاما) حيازة مسدس وبندقية صيد وأن يملك بندقية نصف آلية عند إتمامه (21 عاما)، ويستثنى من القانون أصحاب السجلات الإجرامية. وتسمح بعض الولايات باقتناء السلاح دون الحاجة إلى ترخيص السلاح مثل ولاية تكساس، التي سمحت مؤخرا لطلبة الجامعات حمل السلاح داخل الحرم الجامعي.
عار عليكم
في ولاية فلوريدا التي تعرضت لثاني أكبر هجوم بالرصاص في مدرسة أمريكية، قام طلاب ناجون بتنظيم “مسيرة من أجل أرواحنا” في واشنطن، لحث المشرعين على تعديل قوانين حيازة السلاح. ووجهت إيما غونزالس وهي من الناجين، انتقادات لاذعة للرئيس دونالد ترامب، منددة بحصوله على أموال من “لوبي الأسلحة” لتمويل حملته الانتخابية في 2016 ،مشيرة إلى خلفية صلاته بالجمعية الوطنية للأسلحة النارية.وقالت غونزالس “إلى جميع السياسيين الذين تلقوا تبرعات من الجمعية الوطنية للأسلحة النارية، عار عليكم! “.
وأضافت الفتاة “إذا قال لي الرئيس في وجهي إن ما حدث هو مأساة فظيعة وإنه لا يمكننا أن نفعل شيئا حيال ذلك، سأسأله كم تقاضى من الجمعية الوطنية للأسلحة؟ أنا أعلم: ثلاثون مليون دولار”. وصرحت الطالبة لاحقا “إن السماح بشراء أسلحة آلية ليس قضية سياسية، بل هي مسألة حياة وموت”.
وفي أعقاب إطلاق النار داخل الثانوية، تعهد ترامب بالاهتمام بمن يعانون أمراضا عقلية متجنبا بذلك النقاش حول انتشار الأسلحة النارية في بلاده، فيما رفض حاكم ولاية فلوريدا ريك سكوت التعليق على مسألة ضبط حيازة الأسلحة في أعقاب الحادثة. وهذا يعني أن منع اقتناء السلاح في هذه البلاد مسألة أكبر من الرئيس وأكبر من أي مشرع أو حاكم لأي ولاية وأكبر من أي حزب سياسي جمهوريا كان أو ديموقراطيا، لأن المسألة تحمل عمقا سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا ونفسيا ليس من السهل التحكم في مجرياتها بسهولة.
وقد جدد الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب التأكيد على هذا المبدأ في تصريح لرابطة الأسلحة الوطنية بأنه “لن ينتهك أبدا هذا الحق”.
مسدس لكل مواطن
والحقيقة أن قصة انتشار السلاح في العالم لا يضاهيها قصة انتشار السلاح في أمريكا التي تبقى نموذجا فريدا من نوعه لهذه الظاهرة التي تشكل جزءًا من هويتها الوطنية، وتعبر عن روح الحرية التي يتمتعون بها منذ الثورة الأمريكية، فهو جزء من إرث محاربة الوجود الإنجليزي قبيل الثورة، وأراد الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الحفاظ على هذا الحق بموجب التعديل الثاني للدستور، وهناك مقولة شائعة بأن الأمريكيين قد أرادوا الحفاظ على حريتهم الوليدة من خلال يد تحمل الدستور والأخرى تحمل البندقية.
ووصلت حُمى الاعتقاد بكون السلاح جزءًا من الهوية الأمريكية إلى حد أن ادعت المرشحة السابقة على منصب نائب الرئيس “سارة بالين ” للقول “بأن المسيح لو كان موجودًا لدافع عن حق حمل السلاح”، وكذلك تصف عالمة الاجتماع الأمريكية “جنيفر كارلسون” السلاح بأنه “جزء من حياة المواطن اليومية”.
وبصفة عامة لا يوجد قانون فيدرالي موحد لتنظيم عملية حمل السلاح في كل الولايات، وفي حين تشترط 42 ولاية ضرورة الحصول على ترخيص لحمل السلاح علنًا، تبقى 8 أخرى لا تضع نفس الشرط.
واليوم يحمل السلاح ما يزيد على ثلث الأمريكان بنسبة تفوق 40% من المواطنين، وتصل التقديرات حول أعداد الأسلحة المتاحة في الولايات المتحدة لنحو 300 مليون قطعة سلاح، أي بمعدل سلاح لكل مواطن.
وأصدر الكونجرس الأمريكي في 1994 قانونا بحظر التصنيع والاستخدام المدنى للأسلحة النارية نصف الآلية والأسلحة الهجومية لمدة 10 سنوات، وبالفعل انتهى الحظر فى سبتمبر 2004، وفشلت كل محاولات تجديده.
العرب والسلاح
وإذا كانت الولايات المتحدة “دولة رائدة” في قوانين حيازة الأسلحة، حيث بلغ عدد الأُسَر التي تمتلك السلاح نحو 40% من عدد السكان، فإن دولنا العربية أيضا لم تسلم من هذه الظاهرة التي حظيت في الآونة الأخيرة باهتمام محلي وإقليمي وعالمي، لما حملته من سلبيات تتمثل في ارتفاع نسبة حوادث الجرائم والقتل المختلفة.
فقد أعطى القانون اليمني الحق للمواطن اليمني بحيازة الأسلحة النارية الشخصية ، وحصرها بالبنادق الآلية والمسدسات وبنادق الصيد، مع كمية من الذخائر. وكشفت بعض الدراسات أن عدد الأسلحة على مستوى اليمن قدرت بحوالي 6 إلى 9 ملايين قطعة سلاح على أقصى تقدير.
وتقدر احصائيات وتقارير أخرى عدد الأسلحة في اليمن بحوالي60 مليون قطعة سلاح ،بمعدل ثلاث قطع لكل مواطن. ويعتبر البعض أن هذا الرقم مبالغ فيه.
ويعتبر السلاح بالنسبة لكل يمني جزء رئيسيا من لباسه ومظهره الخارجي، كما يحمل اليمني السلاح في الأعياد والأفراح والمناسبات ، ويرى أنه زينة وفي نفس الوقت رمزا للقوة والبطولة والشرف والرجولة ومدعاة للفخر والاعتزاز. لكن يبدو أن وجود هذاالكم من السلاح في اليمن ساهم بشكل أو بآخر في إطالة الأزمات العسكرية اليمنية واندلاع الحروب.
وفي مصر يكثر انتشار السلاح في صعيد مصر بصورة كبيرة. وترتبط ظاهرة الثأر في الصعيد ارتباطاً مباشراً بعادة اقتناء السلاح المتأصلة لدى قبائل وعائلات الصعيد ، فالصعيدي يضع البندقية في منزلة الابن ، وغالباً ما لا تفارق كتفه إلا عند النوم ، ولا يفكر في بيعها مهما بلغت ضائقته المالية ، ومعظم أبناء الصعيد ممن فوق العاشرة يجيدون استخدام السلاح ؛ لأن في عرف الصعايدة: “العز في أفواه البنادق”.
كما تنتشر ظاهرة حمل السلاح في الدول التي فقدت سيادتها وتعم فيها الفوضى مثل العراق وليبيا وسوريا.
أما في الجزائر، فإن ظاهرة حمل السلاح تعود إلى سنوات الثورة الجزائرية (1954-1962) لكنها بقيت راسخة في الاذهان بعد الاستقلال، فلا يخل بيت جزائري من قطعة سلاح جرى استخدامها في الثورة ثم علقت للزينة والصيد أوالتباهي أثناء المناسبات والأفراح.
لكن السلاح في الجزائر عرف منحى آخر مطلع التسعينات، مع تفشي ظاهرة الإرهاب، وأنا أذكر خلال “العشرية السوداء”، ونظرا لاستهداف الصحفيين من طرف الجماعات المسلحة، حيث اغتيل أكثر من 40 إعلاميا، عرضت الدولة الجزائرية على الصحفيين تزويدهم بمسدسات للدفاع عن أنفسهم، فوافق البعض على حيازة أسلحة ورفض البعض الآخر،لأن هذه القطعة ذاتها من السلاح من شأنها أن تكون سببا مباشرا لاغتيال صاحبها.
أصالة العنف
في الأخير يجب أن نقول أن الحاجة إلى حمل السلاح في أمريكا من أجل توفير الحماية الشخصية، وإصرار الدولة على تقنين هذا السلوك ضمن مفهوم الحرية الشخصية المطلقة والحق الإنساني، هي أكبر دليل على فشل الولايات المتحدة كدولة (عظمى) في وظيفتها الرئيسية وهي تأمين الاستقرار الداخلي و حماية مواطنيها من قتل بعضهم البعض. كما يجب أن نقول أن الإصرار على طريقة التعامل مع المسدس يؤكد – بمالا يدع مجالا للشك – طبيعة المجتمع الأمريكي المبني على مبدأ العنف، الذي يقول عنه البروفيسور والكاتب الأمريكي جون كوزي من جامعة ستانفورد أنه يشكل سمة أساسية من سمات المجتمع الأمريكي وهو بمثابة روتين اعتاده الأمريكيون الذين يشاركون في العنف ويتمتعون به لدرجة أصبح فيها صيغة ضرورية تميز وجودهم ووسيلة طبيعية للحياة على الطريقة الأمريكية. لأن أمريكا في الأساس صممت وتغذت على العنف الذي يعود إلى الحقبة الأولى من تكوينها.
أمام كل هذه الترسبات التاريخية والإجتماعية والنفسية لدى الأمريكيين، هل يمكن أن نتساءل مرة أخرى لماذا تتدخل الولايات المتحدة عسكريا في كل العالم وتمارس العنف الدولي ضد الشعوب وعلى أعلى مستوى؟.
المصدر: https://islamonline.net/24880