عالم بلا حدود... أسئلة وطروحات**

عالم بلا حدود... أسئلة وطروحات**

جيرالد بليك* ؛ ترجمة: حسن شقير

1- مـقـدمـة

يشعر الكثير منا بالارتياح ونحن نتأمل خارطة العالم السياسية بألوانها الجذّابة المتعددة التي تظهر الدول الكثيرة المحاطة باللون الأزرق الفاتح، لون البحار. وقد أصبحت هذه الخرائط منظرا ورمزا مألوفا في بيوتنا، ومدارسنا، ومكاتبنا، وجامعتنا. والخارطة السياسية في الغالب مفضّلة أكثر من الخارطة الطبيعية الأقل تلوينا، والتي غالبا ما تكون باللونين الأخضر والبنّي فقط، ولكن البعض يعدها أكثر طبيعية وديمومة. وتبدو كل الدول على الخارطة السياسية متناسقة متوافقة مع بعضها بحدودها المميزة بخطوط حمراء أو سوداء، وهي تعطي الانطباع بالنظام والاستقرار والسلطة.

والحق أن خريطة العالم السياسية هي لحظة زمنية قصيرة؛ لأن أهم ما يميزها هو تاريخ نشرها.. والعالم السياسي متغير باستمرار فليس ثمة تصور ثابت، وما علينا إلاّ أن ننظر إلى الثمانينات من القرن الماضي لنرى العالم وهو يقل سبعة عشر دولة عمّا هو عليه الآن, وبحوالي خمسين حدّا من الحدود البرية أقل مِـمَّا هي عليه الآن. وإذا أعدنا الزمن إلى مئتي سنة خلت -وهي ليست وقتا طويلا في سياق الآلاف من السنين في التاريخ السياسي المسجّل- فسنرى القليل من الحدود الدولية الحاليّة, وأعتقد أن معدل عمر الحدود البرية الحالية لا يزيد على سبعين سنة، ولم يبدأ ترسيم الحدود الملاحية بشكل فعلي وجديا إلاّ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام ألف وتسعمائة وخمسة وأربعين، ومتوسط عمر الحدود البحرية الملاحية حوالي خمس عشرة سنة، وأكثر من ثلثي الحدود الملاحية الحالية (أي حوالي مائتين وثمانين منها)لم يُتّفق عليها حتّى الآن. وعلينا أن لا نفاجأ إذا استمرت الدول وحدودها بالتطور بغض النظر عن العولمة، وقد بينت إحدى الدراسات وقوع أكثر من ثماني مائة تغيير في خارطة العالم السياسية ما بين عامي 1916 و1980م، ومنذ عام 1945ولدت حوالي مائة وسبع وعشرون دولة جديدة بحدود معترف بها وبعضوية في الأمم المتحدة. وبناء على بعض التقديرات والتوقعات ستخلق عدة دول جديدة في العقود القليلة القادمة, ومن المتوقع أن يكون العدد كبيرا. ويُعتقد أن العولمة تُسهّل تشكيل الدول الصغيرة وبقاءها. وثمة ما يقرب من سبعين مستعمرة في العالم، وسيحصل بعض منها على الاستقلال رغم أن معظمها نقاط صغيرة الحجم على الخارطة، ما عدا غرين لاند.

وقد درس باحثان في "وحدة أبحاث الحدود الدولية" في جامعة Durham وهما ريتشارد كرج وبيتر هونكل، إمكانية ظهور الدول الجديدة من بين القوميات المقموعة فيما أصبح يشار إليه "بالعالم الرابع". وقد استطاعا تحديد أكثر من 6500 مجموعة بشرية متجانسة لها تاريخ مشترك، وهوية مشتركة والتصاق تاريخي طويل بوطن ثقافي واحد منتشرة حول العالم. ولكن ليس كل تلك المجموعات لها طموحات في دول مستقلة, فكثير منها إمّا صغيرة جدا أو ضعيفة جدّا, بيد أن عددا منها لها مثل هذه الطموحات والأحلام بالدولة والاستقلالية، وقد بدأت أصواتها تُسمع, وبعض منها معروف مثل: التاميل والباسك والأكراد والكَرين والشيشان. وللمفارقة فإن العولمة تحرّض على إحياء الأثنية في أماكن عدّة في البحث عن الحفاظ على ثقافات وهويات مميزة. وهناك 53 عضوا من الأمم غير الممَثّلة والمنظمات الشعبية التي أسست عام 1991، بعض منها يمتلك طموحات جدّية في الاستقلالية والكيان المستقل. وتشمل القائمة حاليا أشوريا وزنجبار.

وتضم قائمة العالم السياسية اليوم مائة واثنتين وتسعين (192) دولة مستقلة وذات سيادة من كل الأحجام والأشكال، أربع وأربعين منها محصورة في اليابسة (ليس لها حدود مائية)، و ثلاثون منها دول جزر بدون حدود بريّة.

وبسبب الطريقة التي نتخيّل بها خرائط عالمنا ونتصوّرها, فإن الكثير من دول الجزر في المحيط الهادي لا نميزها على خرائطنا السياسية. والغريب هنا هو ليس وجود عدد كبير من الدول السياسية، وإنما الغريب هو وجود العدد الصغير منها، وبناء على دراسة كرج وهونكل فإن هناك فقط 18 دولة حديثة هي أمم ودول حقيقية، في الوقت نفسه أي بمعنى آخر: حدود سياسية تتوافق مع حدود سكانية لشعوب ذات هوية وثقافة مشتركة. والتناقض بين نظام الدول الحديثة لحوالي مائتي منطقة سياسية (دولاً ومستعمرات) وبين العالم الرابع الذي فيه حوالي ستة آلاف مجموعة، مثير ولافت للنظر، ومحبط للعزم والقوة.

2- العالم الإسلامي

ومن الأهمية بمكان على المستوى التاريخي، أن نضيف بعض النقاط حول جغرافية العالم الإسلامي في سياق خارطة العالم السياسية. إن حوالي نصف دول العالم فيها جزء كبير من المسلمين مِـمَّا يقرب من تسعة وعشرين من دول العالم يشكل المسلمون أكثر من نصف سكانها، وأمّا الدول الست والخمسين التي تحتوي على أكثرية مسلمة فهي تحتل 20% من مساحة الأرض المأهولة. ويشكل المسلمون جميعا ما يقارب 20-25% من سكان العالم. والشعوب المسلمة تميل نحو النمو الطبيعي بمعدلات أعلى، كما أن عدد الدول ذات الأغلبية المسلمة زادت اثنتي عشرة دولة عما كانت عليه قبل عدّة عقود.

ومعظم الدول المسلمة تشكّل كتلة متّصلة تمتد من الشمال الإفريقي إلى الشرق الأوسط إلى آسيا الوسطى. والدول التي تقع خارج هذه الكتلة هي ألبانيا وبنغلادش وماليزيا وبعض الجزر مثل: إندونيسيا والمالديف وكوموروس. يحتل العالم الإسلامي نسبة كبيرة من الدول ذات الحدود البرية فقط. وكثير من الدول المسلمة الساحلية مثل دول الخليج العربي والبحر الأحمر لها حقوق محدودة في البحار؛ لأنها تقع على بحار مغلقة أو شبه مغلقة.

وفي شؤون ترسيم الحدود الدولية والنزاعات الإقليمية تتصرف الدول الإسلامية مثلها مثل الدول غير الإسلامية، حيث لا يوجد هناك دليل على أنّها تعطي الحدود أهمية قليلة فيما بينها. وهي مثلها مثل الدول الأخرى تحدوها الرغبة لترسيم حدودها وتعيينها بينها وبين جاراتها من الدول المسلمة وغير المسلمة على حد سواء، وقد تكون هناك أخوّة إسلامية وتعاون اقتصادي وتحالفات سياسية، إلا أنّ الحدود تبقى في مكانها في باقي دول العالم. ومن المحتمل أن تكون تلك الحدود غير نافذة وأقل انفتاحا من غيرها من دول العالم. ومن الممكن أن يتغير هذا في وقت ما, إلاّ أنّ هذا هو الواقع في الوقت الحاضر.

3- الرؤية الأوروبية للدولة:

إن خارطة العالم السياسية اليوم هي نتاج الأوروبيين وصناعتهم. ويمكن بدايتها إلى معاهدة وست فاليا West Phalia التي أنهت حروب الثلاثين عاما في أوروبا. وقد أسست المعاهدة العلاقة الضرورية بين السيادة والحدود الإقليمية، قد أكّدت على مبدأ السيادة المطلقة وسياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، كما وضعت الأساس لكون الدول الإقليمية -وليست الكنيسة- هي المؤهلة لممارسة السيطرة والسيادة السياسية. ومن الطبيعي أن هذه الأساسيات تضمّنت التعيين والتوزيع الواضح للحدود الإقليمية بين الدول، من خلال خطوط دقيقة (ليست سميكة) على الخارطة السياسية وهي خطوط تمنح للدولة السيادة العمودية داخل الأرض وفي الفضاء لمسافات نهائية. ولهذا فإن فكرة الدولة ذات الحدود والمناطق التي تمارس السيادة المطلقة على أراضيها هي في الأساس أوروبية فكرة ومفهوما وهي ذات جذور متأصّلة في الأساليب التقليدية المطبّقة في ملكية الأرض في أوروبا والنظام الإداري الكنسي.

لقد كانت هذه الفكرة سياسية غربية غير معروفة في أجزاء كثيرة من العالم، وليس أقلها في العالم الإسلامي حيث كانت السيادة السياسية مبنية على المجتمع البشري (القبيلة) وليس على الأرض والمنطقة. وقد تعددت الطرق البديلة لتنظيم المسافة والمساحة السياسية وتنوعت، وربما كان بعضها أفضل بكثير من فكرة الأمة والدولة, إلاّ أنّ معظمها قد نحّيت جانبا.

وقد صُدّرت فكرة الدولة الأوروبية إلى شتى بقاع الأرض بشكل مباشر أو غير مباشر إبّان الحقبة الاستعمارية والتمدد الاستعماري. وقد وضح الجغرافي الفرنسي Michel Foucher أن بريطانيا وفرنسا قد رسمتا أكثر من 40% من كل الحدود الأرضية خارج أوروبا، وإذا أضفنا إسبانيا والبرتغال وهولندا ترتفع النسبة إلى 55%. وعقب مؤتمر/اجتماع برلين عام 1884 وافقت القوى الأوروبية على أن "الاحتلال الفعلي" سيكون الأساس في ملكية المناطق ولهذا بدأ التدافع إلى أفريقيا. وقد أدّت الحاجة إلى إنشاء حدود متعارف عليها ومعترف بها بين الدول الاستعمارية المتنافسة وإن تم وضع الحدود في كثير من الحالات بشكل متسرّع ودون الأخذ بعين اعتبار للعوامل الجغرافية والإنسانية. وفي اجتماع لجمعية الجغرافيين الملكية في لندن عام 1914 وصف السير Claude MacDonald كلود ماكدونالد الطريقة التي رُسمت بها الحدود بين نيجيريا البريطانية والكمرون الألمانية عام 1889. على النحو التالي:
"كنا نأخذ قلما أزرق ومسطرة ونضع المسطرة على ساحل ميناء Old Calabar ونرسم خطا أزرق حتى Yola "، وبعد ذلك وفي السنة نفسها 1889 أُرسل مكتب الخارجية البريطانية السير Claude MacDonald ليزور Yola فكتب: "أتذكّر عندما كنت أجلس في حضرة الأمير المحاط بأفراد قبيلته، أنّه كان شيئا جيدا عندما لم يعرف ذلك الأمير أنني أنا وبذلك القلم الأزرق قد رسمت خط الحدود خلال منطقته".

ومن المثير للدهشة أنّه بالنظر إلى الأصول الاستعمارية لكثير من الحدود الدولية في الدول المستعمرة أنّه لم يكن هناك اهتمام أو اندفاع لإعادة رسم الحدود بعد الاستقلال، فقد كان هناك الكثير من المظالم والغرائب مما كان يجعل عملا مثل هذا عملا ذا قيمة. وفي حالة الاستقلال كان يتحقق ذلك دون تغيرات إقليمية تذكر. والحقيقة أن هناك رغبة قوية في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي في المجتمعات العالمية، وأن هذه الرغبة يدعمها المبدأ القانوني Uti Possidetis "مبدأ وضع اليد".

4- Uti Possidetis (مبدأ وضع اليد).

لقد برز مبدأ " وضع اليد" Uti Possidetis في الجزء الأول من القرن التاسع عشر عندما بدأت دول أمريكا اللاتينية التي كانت تستعمرها إسبانيا تحصل على الاستقلال، وبعد ذلك, خاصّة في الخمسينات من القرن العشرين، والستينات منه حسم هذا المبدأ سير الأحداث في جنوب شرق آسيا وإفريقيا حيث تم تبنيه. وكنتيجة لذلك, لم يكن هناك من محاولات تُذكر لإعادة رسم الخارطة السياسية في تلك المناطق. وقد تبنى هذا المبدأ كلا الطرفين: القوى المستعمرة المغادرة والسلطة الحاكمة من الصفوة القادمة؛ لأنهم اعتقدوا أن ذلك يحافظ على الاستقرار والاستمرارية، ومن أكثر محاسن ذلك المبدأ أنّه أعطى بديلا بسيطا سلميا للوضع المتفجر المتوقع حدوثه إذا ما أعيد رسم حدود الخارطة السياسية.

ولكن هناك من يعتقدون بأنه يتوجب في حقبة ما بعد الاستعمار إعادة النظر في الحدود، والتفاوض حولها وإعادة رسمها وأن مبدأ "وضع اليد" Uti Possidetis كانت نتائجه سلبية بوجه عام.

وفي عام 1994 تحدّى الدكتور علي مزروعي من معهد الدراسات الثقافية الكونية في نيويورك قرّاءه أن يحضروا أقلامهم ويبدءوا في رسم الحدود الجديدة والتغيرات. وفي الطريق ذاته نصح Wole Soyinka النيجيري الحائز على جائزة نوبل والمحلل السياسي منظمة الوحدة الأفريقية عام 1994 أن يجلسوا بمساطرهم المربعة وبوصلاتهم وفر جاراتهم ويعيدوا تصميم الحدود للدول الأفريقية. وبالرغم من تلك المطالب بإعادة رسم حدود خارطة العالم السياسية فإن الفكرة الأساسية من مبدأ "وضع اليد" Uti Possidetis -الرغبة في الاستمرارية – ما زالت تلاقي قبولا واسعا وتتبناها وتفرضها الحكومات.

في عام 1964 تعهد المؤتمر الأفريقي لرؤساء الدول الأفريقية في القاهرة أن يحترموا الحدود القائمة عند حصولهم على الاستقلال.

وفي عام 1993 –1994 وافقت دول الكومونولث المستقلة من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق وعددها اثنتا عشرة دولة في ميثاقها على الحفاظ على الحدود السابقة. وعندما بدأت يوغسلافيا بالتفكك أعلنت المجموعة الأوروبية ومؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي أن الحدود الداخلية اليوغسلافية لا يمكن تغييرها باستعمال القوة. وكل دولة جديدة ستنشأ يجب أن تتوافق حدودها مع خطوط الحدود القديمة لجمهوريات الفيدرالية اليوغسلافية السابقة وهكذا كان.

5- العولمـة

تعد العولمة من أكثر الظواهر المثيرة في هذا العصر، ولكننا لا نعلم، على وجه اليقين، من أنها ستكون نعمة أم نقمة. وقد أكّد George Joffee أن الجماهير لن تستفيد من العولمة ولكن النخبة ستستفيد. وإجمالا فإن المسألة خلافية. والمشكلة الأخرى في العولمة هي كيفية فهمها. إن أولئك المحتجين على اجتماعات منظمة التجارة العالمية يهمهم جانب واحد من العولمة: عالمية رأس المال والعمل، أما بالنسبة لمستقبل الدولة وحدود الدول فإن العولمة تتضمن أكثر من ذلك, ومن بين ذلك اختصار المسافات وتمازج الثقافات والتواكل الاقتصادي. وستؤدي كل هذه العمليات إلى تآكل الدولة والتقليل من قوتها وإضعاف أدوارها التقليدية، وقد كتب كثير من الصحفيين والأكاديميين بحرارة عن "موت الدول" وعن فجر "عالم بغير حدود". وأعتقد أنه لن يحدث أي من الوضعين لعدة سنوات. ولكن الجلي أن وظائف الحدود الدولية قد تغيرت مع ضعف وظيفة الدولة التدريجي.

ثمة ستة أبواب رئيسة من الأسباب التي أدت إلى تراجع أهمية الحدود الجغرافية، وكلها بشكل أو بآخر من مظاهر العولمة، وسأحاول أن أعرض لها باختصار فيما يلي:

أولا: عولمة الأنشطة الاقتصادية

تطور هذا في العقد الماضي، ومن المتوقع حسب المحللين والمعلقين أن يتطور ذلك ويتسارع ويشتد, مؤديا إلى نتائج غير سعيدة للاقتصاد الغربي.. يستطيع رأس المال والتكنولوجيا الآن التنقل حول العالم بسهولة وبسرعة بحثا عن الأسواق وعن توفر العمالة الرخيصة. ومنذ سقوط الماركسية عام 1980 فإن المزيد من الدول فتحت أبوابها لرأس المال الأجنبي، باحثة عن فرص استثمار. إن قوة البنوك الكبرى والمؤسسات العالمية الكبرى في السوق العالمية قوة ضخمة، كما أن أثرها وتأثيرها بازدياد. وبالمقابل تفقد الدول قدرتها على السيطرة على اقتصادياتها. وهذا قلل من قيمة مبدأ السيادة وأضعف بعضا من أهم أنشطة الحكومات. ومن الملاحظ أنه لو قورن بين مداخيل تلك الشركات العالمية ومداخيل الدول المستقلة لوجد أن الشركات تحتل أعلى مائة اقتصاد بينما تمثل الدول خمسين منها.

ثانيا: ثورة الاتصالات

لقد حصلت في السنوات الأخيرة تغيرات جوهرية في قدرة الدولة السيطرة على تدفق المعلومات والأفكار إلى مواطنيها. ومن بين الوسائل المعروفة الآن التي بات المنشقون والمعارضون للدولة، والإرهابيون العالميون يستخدمونها مثلما تستعملها الجماعات الإثنية لزيادة الوعي الإثني بين أعضائها، التلفون المحمول والفاكس وشبكات الإنترنت. فلو كان للحدود الدولية دور في السابق في ضبط الأفكار وتصفيتها والتحكم فيها فهذا الدور أصبح مستحيلا هذه الأيام، وعلى سبيل المثال لقد فشلت محاولات الصين الدؤوب لمنع استعمال شبكة الإنترنت.

وفي عام 1995 كان هناك أربعون مليون مستعمل لشبكة المعلومات في العالم، ومعظمهم يتركزون في الدول الناطقة بالإنجليزية، وسيزيد هذا العدد هذا العام على خمسمائة مليون ويقدّر أن يصل إلى ستمائة وستة عشر مليونا عام 2005. إن معدل الزيادة كبيرة جدا, ولكنه يعطينا الدليل المناسب على عالم بلا حدود؛ فالخمسمائة مليون مستعمل هم فقط 8% من سكان العالم البالغ عددهم 6 بليون، وحتى في عام 2005 فسيكون نصف الذين يستعملون الشبكة من أمريكا الشمالية وأوروبا.

وفي الحقيقة فإن الشقة بين الدول الغنية بالمعلومات والدول الفقيرة بها تزداد وتتوسع، فعلى سبيل المثال فإن 70% من سكان العالم لا يملكون جهاز هاتف عادي.

ثالثا: البعد الأمني

لم تعد الحدود الدولية منذ صناعة القذائف بعيدة المدى وحاملات الطائرات والطائرات النفاثة تمثل خطوط دفاع كما كانت حتى بداية القرن العشرين. وفي المفهوم العسكري أصبحت الحدود الدولية لا تعدو كونها أسلاكا اعتراضية شائكة رمزية. (فالدول المتقدمة لا يمكنها أن تحمي نفسها من هجوم نووي حتى مع وجود نظام الدفع المتطور "حرب النجوم"، وفي مفهوم الحرب التقليدية تحتاج هذه الدول إلى حلفاء وقواعد عبر البحار، وفي حرب طويلة تحتاج إلى استيراد بعض المعادن الاستراتيجية والطاقة، فعلى سبيل المثال استوردت أمريكا عام 2001 ما يساوي 61% من النفط الذي تستهلكه. فالهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك يوم 11/9/2001 هو برهان مخيف على ذلك. وتعمل بعض الجماعات الإرهابية من داخل البلد نفسه ولكن معظمها يعمل عبر الحدود الدولية وغالبا ما تساعدها وتدعمها وتحرضها دولة جارة معادية وقد أعلن زعماء العالم أن أهم أهدافهم هي حماية مواطنيهم، ولكن الواقع يثبت عدم قدرتهم على ذلك).

لقد فقدت دول كثيرة وبخاصة في أفريقيا السيطرة على أجزاء كبيرة من أراضيها لصالح زعماء الحرب وقطاع الطرق واللصوص, ومن المؤكد أن خارطة دقيقة لذلك ستكون مثيرة.

وإذا وسعنا دائرة الأمن في الدولة إلى الأمن البيئي فإن عدم قدرة الدولة على حماية البيئة تصبح أكثر وضوحا. وهذا صحيح إلى حد بعيد؛ لأن معظم الدول لا تستطيع إقفال نفسها أو إغلاق حدودها أمام النظام البيئي. إلا أنّه في السنوات الأخيرة ومع ارتفاع الكثافة السكانية وزيادة عجلات التصنيع واستهلاك الطاقة انتقل الاهتمام بحماية البيئة من الدائرة المحلية إلى الدائرة الإقليمية ثم إلى العالمية، إذ لا يمكن لدولة واحدة -دون تعاون دولي- تأمين الهواء النظيف لمواطنيها، أو الماء النظيف لأنهارها ومحيطاتها، ولا شك أن تحكم الدول الواقعة على ضفاف الأنهار هي حاجة ملحة في كل أنحاء العالم، ولكن التعاون الدولي في هذا المجال ما زال الاستثناء كما أن المياه الجوفية التي تقع على طرفي الحدود تحتاج إلى تعاون دولي لاستغلالها. أما الأمن الغذائي فهو موضوع مهم آخر في هذا المجال، فقليل من الدول لديها اكتفاء غذائي ذاتي، وكثير منها تعتمد اعتمادا كبيرا على استيراد الطعام الأساسي.

رابعا الهجرة:

لم يعد باستطاعة الدول منع مواطنيها من مغادرتها والانتقال لغيرها (حيث حاولت بعض الدول عمل ذلك) أو منع الأشخاص من دخولها. إن معدل حركة السكان في الاتجاهين مرتفع جدا وهو بارتفاع مستمر. صحيح أن الكثيرين من العمال المهاجرين الذين يقيمون في البلد المضيف لمدة طويلة لا يمنحون الجنسية (وهذا واضح في دول كثيرة). وفي العالم أجمع هناك أكثر من مائة مليون إنسان يعيشون بصورة دائمة أو شبه دائمة خارج بلدهم الأم، ويجب أن نضيف إلى هذا العدد المهاجرين بصورة غير قانونية.

أعتقد أنه مقابل كل مهاجر بصورة قانونية هناك شخص مهاجر بصورة غير قانونية. والدول الغنية هي الهدف من تلك الهجرات. وفي كثير من الحالات يبذل مثل أولئك الذين يحاولون الهجرة الغالي والنفيس في سبيل ذلك، وربما يواجهون المصاعب والمشاق من أجل الدخول إلى بلد ما أو الهجرة إليه. كما يطالب أعداد كبيرة من هؤلاء بحق اللجوء السياسي: ففي عام 2002 طالب أكثر من مائة ألف شخص بذلك رسميا في ثماني عشرة دولة. وحسب الهيئة العليا في الأمم المتحدة للاجئين فإن خمس هذه الطلبات رُفض، ويشكِل طالبو حق اللجوء السياسي مشكلة في أوروبا، وليس بأقل منها في بريطانيا وكندا والولايات المتحدة.

إن الهجرات غير القانونية ربما تدعو الدول لإعادة النظر في سياسة فتح حدودها، وهذا واضح حاليا في بعض دول الاتحاد الأوروبي. وكلما زادت الضغوط في هذا المجال (وهي حتما ستزيد) سنرى إجراءات مشددة أكثر للسيطرة على الحدود. ومن الجماعات التي ترحب بحدود مفتوحة للسواح العالميين الذين وصل عددهم إلى سبعمائة مليون عام 2000. وقد انخفضت الأعداد نسبيا بعد الحادي عشر من أيلول، ولكن من المتوقع أن يزداد العدد إلى 1500 مليون خلال عشرين سنة من الآن، وهذه أرقام مذهلة. فالعدد سبعمائة أقل من عدد سكان العالم عام 1800 (والذي كان 800 مليون) بقليل.

وفي الجانب الإيجابي من العولمة تمثل السياحة وهي المسؤولة عن انتقال الثقافة والحضارة بين الدول مصدرا مهما للدخل القومي. والسياحة هي من الحوافز التي تدعو الدول لتخفيف إجراءات الحدود قدر الإمكان.

والفئة الأخرى التي ترحب بحدود مفتوحة هي مجموعات اللاجئين. فقد بلغ عدد اللاجئين الرسمي كما هو في سجلات الأمم المتحدة عشرين مليونا عام 2002، بعض منهم طردوا من أوطانهم منذ عقود. وأكبر عدد من اللاجئين هم في قارة آسيا (ثمان وثمانون مليونا)، وغالبا ما تبقى أعداد كبيرة من هؤلاء اللاجئين قريبة من حدود أوطانها كما هو الحال مع المهاجرين الأفغان في إيران.

كل هذا قد أدّى إلى طرح الأسئلة عن نظام الجنسية، وحقوق الجنسية وقد ركزت بعض الدراسات في أوروبا على هذا الموضوع، كما ظل هذا موضوع النقاش المستمر في عدد من دول الخليج، واستطراد أريد أن أذكر أنه في كلية كولنغوود Collingwood في جامعة درم التي تحملت مسؤولية إدارتها كان ما يقرب من 6% من الطلبة هناك يحملون الجنسية المزدوجة، ومن المحتمل أن يكون هذا هو الشكل المتوقع للأوضاع في المستقبل.

خامسا: ظهور مجتمع عالمي مدني

في حين تمكن علماء الاجتماع من القيام بالدور الرئيسي في تشكيل هذه الظاهرة المهمة, إلاّ أنها لم تلق الانتباه الكافي من الساسة والمخططين بالمستوى المنشود، وتشير هذه الظاهرة إلى ظهور شبكات عالمية من الأفراد المتشابهين فكريا والذين لهم أهداف مشتركة. ويعمل هؤلاء الأشخاص باستعمال شبكة المعلومات عبر الحدود السياسية بغض النظر عن الانتماء والاعتبارات السياسية والوطنية. وبعض هذه الحركات تتمتع حاليا بقوة كبيرة، ولها تأثير أكبر من بعض الدول الصغيرة، ومن أكثر هذه المجموعات نشاطا هم جماعة البيئة مثل: السلام الأخضر ومجموعات حقوق الإنسان والجمعيات النسائية والجماعات غير الحكومية المرتبطة بالتطور في العالم الثالث.

كنت مهتما بمعرفة أن السكان الأصليين الذين يكافحون من أجل حقوق ملكية أراضيهم لهم شبكة تضم على سبيل المثال Inuit في كندا والسكان الأصليين aborigines في أستراليا. ومثل هذه الجماعات تتمتع بقدرة سياسية هائلة، ولهم بعض التأثير، ولكن علينا أن لا نبالغ كثيرا في أهميتهم. إن أهميتهم تكمن فقط في أنهم يتجاهلون الدولة، وبالتالي يساهمون في استنزاف سيادة الدولة. إن هذه الجماعات الموجودة في الفضاء من خلال شبكات المعلومات لا يمكن وضعها على الخارطة وتحديدها، ولكنها تنمو وتتطور.

سادسا: تجمعات الدول الإقليمية

تنتمي الدول إلى عدد كبير من المنظمات العالمية، وحسب شبكة الإنترنت فإن سلطنة عمان عضو في أربع وثلاثين منظمة منها جامعة الدول العربية، والبنك الإسلامي للتنمية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والعديد من منظمات الأمم المتحدة مثل: الفاو (الأغذية والزراعة الدولية), وما يهمني هنا هو التجمعات الاقتصادية والسياسية الرئيسية التي تحدوها جميعا الرغبة لفتح حدودها بالتدريج وبسرعة لتسمح بمرور أكثر حرية للناس وللبضائع. وتختلف أهداف تلك التجمعات، وفي كثير من الأحيان تكون مثل تلك الأهداف النهائية غير واضحة, فبعضها يركز على التماسك السياسي والعسكري، وكلها تركز على هدف أساسي هو التعاون الاقتصادي الوثيق. والعضوية في تلك المنظمات أو التجمعات تقتضي ضمنا تنازل الدول عن بعض سيادتها. وهذا واضح جدا في الاتحاد الأوروبي، وفي ميثاق مجلس التعاون الخليجي (1981)، حيث تدعو المادة الرابعة إلى التنسيق والدمج والتكامل والتعاون في كل الميادين "لتحقيق الوحدة"، والفقرة الثالثة تدعو إلى وضع المعايير نفسها في النظم والتعليمات في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والقانونية، ومع توسع الاتحاد الأوروبي إلى ست دول أخرى سيكون هناك أكثر من 100 دولة في العالم ستكون أعضاء في كتلة اقتصادية ما، تعمل نحو سوق مشتركة أو منطقة تجارة حرة. وهكذا فإن أكثر من نصف دول العالم هي ملتزمة بحدود أكثر انفتاحا بالمشاركة مع جيرانها.

وازدياد عدد الحدود الداخلية المفتوحة بين تلك الدول الأعضاء في تلك الجماعات الاقتصادية تعني حدودا أكثر تشددا في المناطق الخارجية في تلك المجموعة الاقتصادية (يعني حدوداً مفتوحة داخليا بين الدول الأعضاء، ومغلقة خارجيا بين الدول الأعضاء والدول الأخرى) وذلك لحماية أمن أفرادها واقتصادهم. ويبدو أن هذا الجانب يتم تجاهله من أولئك الذين يرون "عالما بلا حدود" في الأفق.

وأحسب أن هناك حوالي 112 من الحدود بين الدول الأعضاء في تلك المجموعات (وهي حوالي 35% من الحدود البرية) وحوالي 104 من الحدود الخارجية (حوالي 33% من الحدود البرية).

ويبدو أن الاتحاد الأوروبي قد قطع شوطا أطول نحو الوحدة السياسية والاقتصادية من أي تجمع إقليمي آخر. ولكنني غير واثق مِـمَّا يمكن استنتاجه وتعلمه من التجربة الأوروبية، فأوروبا لها أكثر الحدود انفتاحا في العالم، فلها عشرون من الحدود المشتركة الداخلية بين خمس عشر دولة، وهذه من أكثر الحدود انفتاحا في العالم. وقد يرى البعض ذلك بمجرد نظرة واحدة إلاّ أننا نحذر من المبالغة في الاستنتاج، فالحدود الأوروبية المفتوحة لا تشكل أكثر من 7% من الحدود البرية العالمية وهذه نسبة قليلة.

وعلينا أيضا أن نوازن بين الحدود الداخلية المفتوحة والحدود الخارجية المغلقة حيث القوانين والضبط والرقابة والسيطرة على هذه الحدود الخارجية أشد بكثير منها في السنوات القليلة الماضية، ومع انتشار الجريمة المنظمة، وازدياد عدد المهاجرين بصورة غير قانونية فإن الحكومات الأوروبية تقع تحت الضغوط لمزيد من الإجراءات المشددة على حدودها الخارجية.

وإذا أردنا الأخذ بما يقوله بعض المعلقين فإن نظام الدولة القديم يتراجع أمام الجماعات والأحلاف الاقتصادية والسياسية التي تغطي معظم أنحاء العالم. ومن الممكن أن تبقى بعض الدول الفقيرة خارج تلك الجماعات والأحلاف وربما تزيد فقرا. إن معظم هذه التجمعات أو الكتل مبنية على أساس تقارب جغرافي وثقافي وديني واهتمامات أمنية مشتركة.

ويرى البعض في سيناريوهات المستقبل هذا ظهور اتحاد مالي بين الدول الإسلامية مما يؤذن بصراع الحضارات حسب رأي صموئيل هانتنغتون – الغرب – الإسلام – اليابان الأرتوذوكسي وهلم جرا.

وضمن هذه الحضارات سيتلاشى التمييز الوطني في سبيل مصلحة وحدة الجماعة الكبرى. وسيحدث الصراع على الحدود المشتركة بين مجموعات الدول تلك. وأجد من الصعوبة تخيل ذلك يحدث وذلك بسبب حجم العالم الإسلامي وتنوعه واختلافاته بالإضافة إلى الإغراءات الاقتصادية البديلة المتوفرة لبعض الدول الإسلامية.

ولعل الحدود في أوروبا وأمريكا الشمالية وجنوب شرق آسيا ستكون من أغنى المناطق وأكثرها ازدهارا، حيث سينشط التعاون والتنسيق الاقتصادي عبر الحدود. ومع مرور الوقت فإن الحدود الوطنية القديمة في تلك المناطق ستزول وستظهر بدلا منها وحدة من الأراضي عبر الحدود. وستصبح مكانة الحدود الدولية ووظائفها متنوعة وسيصبح من المستحيل رسم خرائط تقليدية لها. وستكون برامج الكمبيوتر الفاعلة فقط هي القادرة على نقل المستويات المختلفة من التفاعل من الحدود المغلقة إلى الحدود المفتوحة، وفي السيادات المتداخلة والمتشابكة، وبرغم ذلك ستبقى الدولة هي وحدة البناء الرئيسية في النظام السياسي العالمي.

سابعا: إقليمية الدول

ربما سيكون النصف الثاني من القرن العشرين هو ذروة قوة الدولة. والدول تفقد باستمرار السيطرة الفاعلة على بعض المناحي المهمة في الحكومة مثل: الأمن القومي والاقتصاد والبيئة. ولكن ذوبان الدولة -إن كان سيحدث- لن ينعكس على الحدود الدولية ولن يؤدي إلى زوال مثل تلك الحدود. وعلى النقيض من ذلك ربما تستعمل القضايا الإقليمية لدعم الصورة الضعيفة للحكومات، وذلك كنوع من تحويل الانتباه عن الأوضاع السياسية المحلية غير المستقرة أو المريحة. وعلى الرغم من طرح كثير من الأسئلة حول الهوية أو الجنسية يمكن للتهديدات للوحدة الإقليمية لدولة ما أن تؤدي إلى ردة فعل عنيفة بين الناس العاديين.

إن الحكومة مهتمة بتثبيت حدودها الوطنية وإدارتها ومدها حتى في المياه العميقة والبعيدة في المناطق القارية, ولما كانت كثير من الوظائف السابقة تختفي، فإن الانشغال بالمناطق والأرض يبقى مطلبا شعبيا وشرعيا، وغالبا ما يؤدي إلى نتائج تبدو جيدة للحكومة وفي حين أنّه ربما تبدو الدول في أعين مواطنيها غير قادرة على تأمين الأمن والحماية والازدهار إِلاَّ أنّها تبقى قادرة على إظهار سيادتها على الأرض، وفي الجو، وفي البحر بدعم كامل من القانون الدولي.

وهناك أدلة كثيرة متوفرة على أن الحس الإقليمي للدول ما زال حيا إلى حد أن ديفيد نيومانDavid Newman وآخرين بدأوا يتحدثون عن إعادة تأكيد الحدود الإقليمية للدولة، وأفضل الأمثلة على ذلك هي:

أ‌. استمرار الوصول إلى اتفاقيات حول الحدود البرية بين الدول، ومن المحتمل أن يكون هناك حوالي ستين منطقة حدود مختلف عليها، ولم تحل بعد ثلثها في أوروبا وفي الاتحاد السوفياتي السابق، وكثير منها هي موضوع مفاوضات نشطة، ويتم الوصول إلى الكثير من الاتفاقيات السلمية سنويا بين الدول على الحدود، وأحيانا بمساعدة محكمة العدل الدولية. والحالة المثالية لذلك هي المعاهدة الروسية–الصينية بخصوص حدودهما التي تبلغ 3645كم، والتي تم الوصول إليها عام 1996بعد عقود من المواجهات الخطيرة.

ب‌. هناك اهتمام متزايد بتحديد الحدود البرية وترسيمها وإدارتها، حيث تم الاتفاق على تعيين تلك الحدود، وأستطيع أن أحدد أكثر من عشرين من تلك الحدود فقط عام 2001، ويدعم هذا الاتجاه توفر الأجهزة التي تساعد.

ت‌. وقبالة السواحل تحاول كل دولة جاهدة لتعيين حدودها البحرية وتحديدها، ومرة أخرى لا تدخر الدول جهدا أو مالا في سبيل ذلك، وإذا لزم الذهاب إلى محكمة العدل العليا، أو إلى أي محكمة أخرى كثيرا ما تلجأ الدول لذلك. وقد تم التوصل إلى اتفاقات بصدد حوالي مائة وستين نزاعا لم تحل بعد وثلاثين نزاعا تشمل جزرا متنازعا عليها، وبعض منها صغيرة جدا مثل: جزيرة السبانخ (ليلى) المتنازع عليها بين إسبانيا والمغرب، وكثيرا ما تُسخّر الحكومات الوقت والمال والجهد لتحديد حدودها البحرية، ومن وثمة ثلاثون ادعاء بملكية مناطق بحرية تتجاوز مائتي ميل بحري، وفي الغالب تكون الفوائد من تلك المياه غير مؤكدة.

ث‌. وفي المجال الجوي نلمس الاتجاه نفسه عند الدول نحو أجوائها. وفي أوروبا فإن تردد بعض الدول للتحرك نحو سيطرة عالمية على المجال الجوي كان السبب في ازدحام الطائرات في الجو في السنوات الأخيرة. وفي عام 1999 أعلن أحد المراسلين لمحطة BBC من طائرة فوق أوروبا "من الممكن أن لا نرى الحدود بين الدول الأوروبية على الأرض إلاّ أننا في الجو نراها حقيقية". وكثيرا ما تقع الانتهاكات أو ما يدعى بأنه انتهاكات للطيران المدني أو العسكري للأجواء لبعض الدول، ويحصل ذلك بشكل منتظم ولكنه مخيف.

الخاتمـة:

من المألوف أن نُعدّ الدولة والحدود الدولية من بين أهم أسباب الصراع والشقاء والبؤس في العالم والدولة، وبخاصة الدولة القومية، تعد مسؤولة عن بعض الأعمال السياسية لصالحها الخاص، وكذلك هي مسؤولة عن الأعمال العدوانية، أما الحدود الدولية فهي دائما الأرضية لعدد لا يحصى من الأحداث بين الدول المتجاورة, بعض منها أحداث صغيرة وبعض منها أحداث كبيرة وخطيرة، كما أن نسبة كبيرة من الحروب بعد الحرب العالمية الثانية كانت بسبب نزاعات الحدود والأراضي ولهذا فليس ثمة شيء رومانسي أو قيم حول الحدود الدولية. وكما يقول الشاعر:

تُخط الحدود عبر قلوب الرجال

يحفرها الغرباء بأقلام قانونية هادئة

وفي رأيي فإنه ما دمنا نحتفظ بالحدود الدولية، فعلينا أن نفهم تلك الحدود ونديرها بشكل جيد ونتعامل معها بشكل إيجابي وسلمي، وفي الحقيقة فنحن لا نُدرّب طلابنا على تلك الحدود كما أن أولئك المكلفين بالإشراف على تلك الحدود نادرا ما دُرّبوا للقيام بمثل هذه الوظيفة. وقد يعجب البعض أن تلك الحدود تبقى دائما سببا للمشكلات وأن الفرص الكبرى لبناء الثقة تضيع دائما.

إن أحد الموضوعات المهمة في هذه الورقة هي أن خارطة العالم السياسية هي دائما في وضع متقلّب ومتغيّر رغبنا في ذلك أم لم نرغب.كما أن بعض التغيرات في تلك الحدود ستحدث بالرغم من أن استقرار الدول والحدود الدولية هي المبادئ المفضلة في العلاقات الدولية. وستظهر بعض الدول الجديدة، وسيُتّفق على المزيد من الحدود البرية والبحرية، وعندما يتم ترسيم الحدود فإنه من المؤكد أن تحدث تعديلات إقليمية ذات منافع متبادلة. كما وأنني أرى أن وظائف الحدود الدولية ستتغير بسبب ظهور تجمعات دولية كبرى اقتصادية وسياسية. وسيكون بعضها أكثر انفتاحا أما البعض الآخر فسيكون أكثر انغلاقا مِـمَّا قبل. وسيزداد التناقض بين نوعين من الضغوط:

أ‌. ضغوط اقتصادية واجتماعية للحفاظ على حدود مفتوحة ونافذة

ب‌. ضغوط لمتطلبات السياسة والأمن للحفاظ على حدود مغلقة ومراقبة ومسيطر عليها, وحتى الآن فنحن غير متفقين (على الأقل في أوروبا) ومنقسمين حول نوع العالم الذي نريد. وربما تساعدنا التكنولوجيا الحديثة أن نوفّق بين حرية الحركة وبين الأمن الشخصي والقومي. وفي سياق كوني, ظهرت الدول في الجزيرة العربية في السنوات الأخيرة كواحدة من أكثر الأماكن اتفاقا على الحدود الدولية والحدود البحرية في العالم. ومهما يكن من أمر فإن المشاريع الحدودية المشتركة والتعاون الحدودي المشترك ستكون في رأيي من أهم الميزات الإبداعية لعالم الغد. لقد حان الوقت لنكون مع الجهود لنقل حدودنا الدولية من التعايش إلى الوحدة والاندماج.

***************

*) أستاذ الجغرافيا والحدود الدولية فِي جامعة درم بإنجلترا.

**) نص المحاضرة ألقاها فِي جامع السلطان قابوس الأكبر فِي يناير 2003م.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=31

الأكثر مشاركة في الفيس بوك