المنظور الأميركي الراهن في التعامل مع الحركات السياسية في العالم الإسلامي
رضوان جودت زيادة
تطرح تقسيمات الإسلام السياسي تحديات جدية في ما يتعلق بالمعيار أو المنهج الذي يُعتمد عليه هذا التقسيم، إذ نلحظ اختلافات في التوجهات الفكرية والأيديولوجية واختلافات تنبع من النشأة الجغرافية المختلفة، واختلافات أخرى تعود إلى المواقف السياسية وتعدد وجهات النظر تجاهها، بيد أننا نلحظ أن غالبية التقسيمات المعتمدة أو المعايير التي يفرز على أساسها الباحثون حركات الإسلام السياسي إنما تستند إلى موقف هذه الحركات من العنف أو التطرف، إنه معيار يرتكز على التأثير السياسي لهذه الحركات وقدرتها على التغيير بالأساليب السلمية أو تبنيها لأشكال مختلفة من العنف كان آخر تجلياتها العنف العابر للقارات متمثلاً في هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001.
إن الرهان على اختلافات جذرية أو شكلية داخل حركات الإسلام السياسي ينبع من غير شك من وعي سياسي يشترط التعامل المختلف مع كل حركة على حدة، بناءً على جماهيرية هذه الحركة وفاعليتها وتأثيرها في الشارع مما يجعل تجاوزها أو حتى خيار إهمالها أو مصادمتها خياراً عبثياً لأنه لا يعالج الجذور الحقيقية لنمو هذه الحركات ويفسر حصولها على نمط من الشعبية «الحقيقية» في مخالفة لبعض الأنظمة العربية التي تفرض شكلاً من أشكال التعبئة الشعبية على مجتمعاتها، لكنها تخفي حقيقة أن هذه الشعبية لا تعدو سوى أن تكون «كاذبة»، يتم توظيفها في سبيل تأكيد إخضاع المجتمع وإجباره على تصديق «الحقائق» التي يقدمها النظام.
عموماً ترتكز معظم هذه الدراسات التصنيفية لحركات الإسلام السياسي على أن هناك تياراً أعظم أو ما يسمى في العلوم السياسية (Main Stream) يتصف بالتصالحية والاعتدال، إنه ما يُطلق عليه في الفقه التقليدي «إسلام الأكثرية» الذي تؤخذ الحجية منه في الكثير من الاجتهادات الفقهية عندما يجرى الإرجاع إلى ما عليه جمهور المسلمين. فالإسلام السني أو الأرثوذكسي هو الطريق الوسط، والآخرون فرق وانقسامات يُقاس صدق إسلامها بمدى قربها أو بعدها من الإسلام الأكثري في الاعتقادات والممارسات على حد تعبير رضوان السيد.
ولذلك نجد الكثير من الساسة الغربيين بما فيهم الرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير يصفون تنظيم القاعدة بأنه اختطف الإسلام من أصحابه الرئيسيين عندما خرج هؤلاء عن قواعده العامة التي تدعو إلى الاعتدال والتسامح ونبذ العنف.
أما بالنسبة الى الغرب عموماً – خلا بعض أحزابه وشخصياته اليمينية – فإنه لا يحمل إشكالاً مع الإسلام كدين وكأناس يدينون به، لكنه يعاني سيما بعد التفجيرات التي حدثت في نيويورك ولندن ومدريد من أولئك الذين يحملون فهماً خاصاً عن الإسلام يخوّلهم التخلص من أعدائهم لاختلافهم معهم في توجهاتهم العقائدية والدينية والفكرية والسياسية، ويتم تضخيم هؤلاء في الإعلام بخاصة أنهم نمَوا بين ظهراني القيم الغربية الليبرالية وفي أحضان مدنها الرئيسية لندن وباريس ومدريد مما خلق ارتكاساً أو خوفاً تقليدياً ينبع من الإسلام ومن معتنقيه، ويختلف ذلك باختلاف الخبرة التعددية والمفهوم الثقافي للاختلاف وفهم الأمة القومي لذاتها، وهو ما وجدناه مثلاً في الفرق الكبير بين مسلمي بريطانيا ومسلمي فرنسا على سبيل المثال ودور كلٍ منهم في المجتمع وتأثيراته.
لقد كان تركيز الغرب فيما سبق وخلال الثلاثة العقود السابقة منصباً على الإسلامية الشيعية باعتبارها الظاهرة الأكثر تهديداً وإزعاجاً. أما في الوقت الحاضر فإن التركيز الغربي منصبٌ على النشاط السني، حيث تدور معظم المخاوف حوله، ويتم النظر إلى الإسلامية السنية بشكلٍ واسع على أنها أصولية متزمتة.
وعلى رغم أن تقرير «مجموعة الأزمات الدولية» Understanding Islamism, International crisis group, Report N°37, 2 March 2005 يقرُّ أن مصطلح «الإسلام السياسي» هو أميركي المنشأ وقد أصبح متداولاً بعد الثورة الإيرانية، ويفترض أنه كان هناك إسلام ولكن غير سياسي حتى جاء الخميني وقلب الأشياء وأصبح للإسلام بعدها ثقل في الحياة السياسية للشرق الأوسط.
على رغم ذلك فإن التقرير يحاول تصنيف التيارات الرئيسية في النشاط الإسلامي السياسي السني وفق فرزٍ يتعدى التصنيف التفريقي والتبسيطي بين «التشدد» و «الاعتدال» وإنما يحاول أن يميز الفروقات وفقاً لقناعات أتباع هذه الحركات، والتي تشمل تشخيصات مختلفة للمشاكل التي تواجهها المجتمعات الإسلامية، ووجهات النظر المختلفة حول التشريع الإسلامي والمفاهيم المتغايرة للمواضيع المطروحة «السياسية والدينية والعسكرية» التي تتطلب العمل والتفاعل، وتتضمن أيضاً تحديد نوع العمل الذي يجب أن يكون مشروعاً وملائماً، أي الذي يحمل عنصر الخلاف وفي أحيانٍ كثيرة تكون أهدافه متناقضة، وهذا فرق جوهري عن ذلك الفرق المعروف تقليدياً بين السنّة والشيعة، وهو اختلاف بين أشكال النشاط الإسلامي المعاصر أكثر من كونه اختلافاً بين التقاليد الإسلامية التاريخية، ووجود هذا الاختلاف بخاصة بين صفوف الإسلام السنّي السياسي هو تطور جديد نسبياً لم يكتمل بعد، بل يبدو وكأنه عملية مستمرة كما يذكر التقرير.
ويقسم هذا التقرير تيارات الإسلام السياسي السني إلى ثلاثة تيارات رئيسية، أولها يطلق عليه تسمية التوجه الإسلامي السياسي، بمعنى أنه يشتمل على حركات تعطي الأولوية للعمل السياسي على الخطاب الديني والسعي الى السلطة بواسطة وسائل سياسية وليس بالعنف، وفي شكل خاص تنظيم أنفسهم كأحزاب سياسية، والمثال الرئيسي هو الإخوان المسلمون في مصر وفروعهم المختلفة وخصوصاً في الأردن والجزائر.
أما التيار الثاني فهو يشتمل على النشاط التبشيري المتجدد والأصولي في آن واحد، وتتجنب الحركات من هذه الفئة النشاط السياسي المباشر، وهي لا تسعى الى السلطة ولا تصنف نفسها كأحزاب سياسية، بل تركز على النشاط التبشيري كالدعوة لتثبيت أو إحياء الإيمان كالحركة السلفية المنتشرة في العالم العربي وجماعة التبليغ التي ولدت في الهند عام 1926 وانتشرت في العالم.
أما التيار الثالث فهو تيار «الجهاديين» وهم نشطاء ملتزمون العنف لأنهم معنيون بما يعتبرونه دفاعاً عن الإسلام أو في بعض الأحيان لتوسيع دار الإسلام، ويضم هذا التيار فئتين رئيسيتين هما:
1- السلفية الجهادية المؤلفة من أناس ذوي نظرة سلفية وتمت تعبئتهم كمتطرفين وتخلوا عن النشاط المسالم الذي تتبعه الدعوة لينضموا إلى صفوف الجهاد المسلح.
2- القطبيون وهم نشطاء تأثروا بالفكر المتطرف لسيد قطب وكانوا في البداية مهيئين لشن الجهاد ضد «أقرب عدو» وهو الأنظمة المحلية والتي وصفوها بالكفر وبخاصة في مصر، وذلك قبل التوجه إلى الجهاد في العالم الخارجي ضد «العدو البعيد» وخصوصاً إسرائيل والغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة.
أما تقرير مؤسسة راند الأميركية والذي صدر عام 2003 تحت عنوان «الإسلام المدني الديموقراطي: الشركاء والموارد والاستراتيجيات» Cheryl Benard , Civil Democratic Islam: Partners, Resources, and Strategies , Rand Foundation , National Security Research Division ,2003 فإنه يصنف التيارات والإسلامية المعاصرة إلى أربعة أصناف هي: العلمانيون والأصوليون والتقليديون والحداثيون، ثم يحدد مواقف هذه التيارات إزاء عدد من الموضوعات الرئيسية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتعدد الزوجات، والعقوبات الجنائية والعدالة الإسلامية، وموضوع الأقليات، والموقف من المرأة، محاولاً في النهاية بلورة «استراتيجيا مقترحة» للولايات المتحدة تقوم على العثور على شركاء من أجل تطوير وتنمية الإسلام الديموقراطي، الذي يرى أنه أقرب ما يكون إلى قبول القيم الأميركية وخصوصاً القيم الديمقراطية.
أما معهد كارنيجي (Islamist Movements and the Democratic Process in the Arab world: Eploring the Gray Zones, Carnegie Endowment for International Peace, Gornegie Papers, Middle East Series, No.67, March 2006) فإنه يتبنى التفريق بين الحركات الإسلامية بناءً على لجوئها إلى العنف، ويعتبر أن الحركات الإسلامية المعتدلة، وليس الراديكالية، هي التي سيكون لها أعظم الأثر في التطور السياسي المستقبلي في الشرق الأوسط، ويعرفها بأنها تلك الجماعات التي تخلت عن العنف أو نبذته رسمياً وتسعى الى تحقيق أهدافها من خلال نشاطات سياسية سلمية ومن أهمها حركة الإخوان المسلمين بفروعها المختلفة وحزب العدالة والتنمية المغربي وجبهة العمل الإسلامي في الأردن وحزب الإصلاح في اليمن وغيرها.
يقرّ هذا التعريف بمحدوديته، إذ لا يفترض مسبقاً أن هذه الحركات ملتزمة تماماً بالديموقراطية، أو أنها تخلت عن هدف جعل الشريعة أساساً لجميع القوانين، أو أنها تقبل حقوق المرأة في المساواة الكاملة، هذه المفاهيم هي ما يطلق عليه التقرير «المناطق الرمادية» في فكر الحركات الإسلامية، التي هي نتيجة الازدواجية المتمثلة في الرفض المتعمد من جانب الحركات الإسلامية المعتدلة إعلان مواقفها الفعلية في شأن القضايا الأساسية الشائكة، وذلك كي لا تزعج الغرب ولا تفقد سمعتها كونها حركات معتدلة، لكن التقرير يقرُّ أيضاً بحدوث تطور نوعي داخل فكر هذه الحركات وفي استراتيجياتها السياسية.
أما المعهد الأميركي للسلام الذي قدّم أكثر من تقرير في ما يتعلق بالاجتهاد في الإسلام والتعامل مع الإسلاميين، فهو يعتبر أن أحد الأسباب الرئيسية التي تبرر فشل المسلمين في المصالحة بين الإسلام والحداثة إنما تعود إلى أن عملية الاجتهاد داخل حلقة الإسلام السني قد أغلقت منذ قرون، ومع ذلك كانت هناك مبادرات لمحاولة تفسير نصوص الإسلام المنزلة على ضوء حقائق العصر والمعرفة الحديثة، وكي ينجح الاجتهاد في مجتمع ما، فيجب أن تسود الديموقراطية وحرية الرأي، وعلى ذلك فإن تقريراً آخر يوجّه الولايات المتحدة في سياستها الخارجية نحو دعم «التجديد الإسلامي» أو أولئك الذين يتصفون بالاعتدال الإسلامي (Abdeslam M. Maghraoui, American Foreign Ploicy and Islamic Renwal, Unted States Institute of Peace, Special Report, No.146, June 2006 ويتبنون برامج تقوم على أساس الإصلاح الديني والتجديد من داخل الحقل الإسلامي كما كان تقرير مؤسسة راند انتهى إليه، يُضاف إلى ذلك ضرورة تشجيع الدبلوماسية العامة تجاه العالم الإسلامي، وهو ما تبناه تقرير آخر أصدرته مؤسسة «هيئة علوم الدفاع» التابعة لوزارة الدفاع «البنتاغون» الذي حذر من أن أي خطة للعلاقات العامة يجب أن تُبنى على أساس استراتيجي وتحاول أن تشرح ديبلوماسيتها للعالم الإسلامي من طريق التأكيد المستمر لهم أن اقترابهم نحو الوسطية والاعتدال لا يعني الرضوخ للطريقة الأميركية، ودعا إلى فصل الغالبية العظمى من المسلمين الذين لا يستخدمون العنف عن المسلمين المتشددين الذين يعتنقون فكر الجهاد.
وهو ما تجلى في دعم الولايات المتحدة لنشر الديموقراطية في الشرق الأوسط على رغم اكتساح الإسلاميين في الفترة الأخيرة نتائجها كما حدث في مصر والعراق وفلسطين، ما دفع الظواهري أحد زعماء تنظيم القاعدة إلى إدانة الإخوان المسلمين في مصر لمشاركتهم في الانتخابات، وهو الشرخ الذي حاولت الولايات المتحدة استثماره وتوظيفه لتعميق الفرق بين الحركات المعتدلة من جهة وتنظيم القاعدة ومن يدعمه من الحركات المتشددة من جهة أخرى للاستفادة من ذلك في «الحرب على الإرهاب» وتبرير شرعيتها.
إن الانتصار الديموقراطي الذي حققته الحركات الإسلامية في الفترة الأخيرة دفعت الولايات المتحدة إلى بلورة «رؤية استراتيجية» تقوم على نهج تشجيع الإصلاح السياسي في المنطقة العربية بصرف النظر عن ترجيح تزايد نفوذ القوى المعادية لأميركا والغرب، وقد أكّدت وزيرة الخارجية الأميركية رايس أن هذا الواقع يعكس «مرحلة انتقالية ضرورية» قبل بلورة أنظمة سياسية أكثر استقراراً وانفتاحاً على الغرب في ظل حكومات ستواجه استحقاقات من أهمها تقديم خيارات أفضل لشعوبها وإقامة علاقات بناءة مع العالم.
ولذلك تعهد الرئيس الأميركي بوش مواصلة دعم الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط حتى لو جاءت النتائج مغايرة لما تريده واشنطن، وقال: «إن الطريقة الوحيدة لدحر الإرهابيين ورؤيتهم السوداء المستندة إلى الكراهية والترهيب، هي تقديم بديل يمنح أملاً بالحرية السياسية والتغيير السلمي «لكنه اعترف بأن» خيارات أهل المنطقة لن تنسجم دائماً مع ما نراه نحن، فالديموقراطيات في الشرق الأوسط لن تشبه ديموقراطيتنا، لأنها ستعكس تقاليد مواطنيها».