طبيعة السلطة في الإسلام المبكّر، أدنيويّة هي أم دينيّة؟

باسم المكي

 

إنّ البحث في طبيعة السلطة في إسلام البدايات، تجربة مكّة والمدينة، أمر إشكالي يطرح عدّة أسئلة، فهل كان الرسول يتمثّل سلطته، باعتباره قائدًا دينيًا مكلّفًا بأداء رسالة غايتها غرس التوحيد وتقويم اعوجاج النّاس في أمر دينهم، أم كان يعتبر نفسه قائدًا دينيًا وسياسيًا؟ إنّ الإجابة عن هذه التساؤلات في حدّ ذاتها تطرح إشكالات متعدّدة، بل هي تحدّد موقف الجماعة الإسلامية وتصوّرها للحياة السياسية. وتحمل الإجابة عن هذا السؤال رهانات عديدة، بل إنّ الباحث يعسر عليه القول الفصل في تحديد هذه السلطة للعلاقة المركبّة والمعقّدة بين الديني والسياسي في إسلام البدايات.

لقد كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، في بداية الدعوة حامل رسالة دينيّة محضة، يحاول أن يغيّر دين قريش؛ فينهى عن الشرك وعبادة الأصنام داعيًا الناس إلى التوحيد والإيمان بالله الواحد الأحد، إله قريب من البشر يلبّي دعوة الداعي إذا دعاه. ولمّا اصطدمت به قريش عرضت عليه الرئاسة؛ فرفض واعتبر أنّ مهمته الأساسية والجوهرية هي تبليغ الدعوة. لقد ظلّ الرسول الكريم على امتداد ثلاث عشرة سنة في مكّة يدعو النّاس إلى الدين الجديد، ولم يتجاوز أتباعه المئة والخمسين فردا. ولعلّ عوامل هذا الفشل الوقتي عديدة، أهمّها العامل الدّيني والعامل القبلي. أمّا العامل الدّيني، فقد كان للقوم إرثهم العقائدي المتماسك الذي يصعب على الفرد إنكاره، ويصعب عليه تغييره وإلغاؤه والدخول في دين جديد يهدم كلّ ما تربى عليه الفرد داخل مجتمعه، ولا شكّ في أنّ معارضة كبار قريش وشيوخها تندرج ضمن هذه القاعدة السوسيولوجية؛ فحدّة كبار قريش ومواجهتهم الشرسة للدعوة المحمديّة مفهومة، فقد تغلغلت فيهم المعتقدات والتقاليد التي ترعرعوا في أحضانها، فتعسر من ثم تغييرها. أمّا العامل القبلي، فإنّ التحالف والتماسك القبليين كانا عائقًا لانتشار الدعوة؛ لأنّ نجاحها يعني في المتخيّل القبلي ارتفاع بني هاشم إلى مركز السيادة؛ لأنّ صاحب الدعوة منهم، وهذا ما كان يرفضه بنو عمومتهم الأقربون بنو أمية وهم أحفاد عبد شمس، فغلبة بني هاشم تهدّد نفوذهم السياسي والتجاري المرتبط أساسًا بنظام الأوثان.

إنّ التقاء هذين العاملين يجعل فرص نجاح الدعوة محدودة، ولمّا لم تتوفر أسباب نجاح نشر الدعوة في مكّة، كان لزامًا عليها أن تراهن على فضاء آخر خارج النفوذ المكيّ القرشيّ؛ فكان اختيار يثرب، المدينة في ما بعد، التي كانت ظروفها ملائمة لاحتضان الدين الجديد، ولعلّ ذلك ناجم عن عدّة أسباب؛ فعلى الصعيد السياسي، كان هناك فراغ في السلطة نتيجة غياب جبهة موحّدة، فقد أنهكت الحروب قبيلتي الأوس والخزرج ولم تستطع هاتان القبيلتان أن تجدا أرضية للتحاور قصد توحيد الصفوف ولمّ الشمل. أمّا في المستوى الاقتصادي، فيبدو أنّ موازين الثروة كانت مختلّة؛ فقد استحوذ اليهود على الفلاحة والتجارة دون العرب، ممّا أثار حفيظة الأوس والخزرج. ولعلّ هذا الشعور هو الذي دفعهم إلى البحث عن شخص قادر على توحيد الصفوف و سحب القوّة من اليهود.

لقد واجهت الرسول، صلى الله عليه وسلم، عدّة تحدّيات في المدينة، فقد كثر أنصار الدعوة، فضلاً عن ذلك، فقد كان من الضروري حلّ مشكلة المهاجرين الذين قدموا من مكة تاركين أعمالهم وتجارتهم، فكان لابدّ من تنظيم العلاقة أوّلاً بين المهاجرين والأنصار، فتمّ سنّ نظام " المؤاخاة" الذي بموجبه آخى الرسول الكريم بين المهاجرين والأنصار. وفضلاً عن ذلك، كان صلى الله عليه وسلم في حاجة ماسّة إلى التّعايش السلمي مع يهود المدينة، فكُتبت الصحيفة المتمثـّلة في معاهدة مع اليهود. لقد كان الرسول الكريم إذن في حاجة إلى توحيد صفوف جبهته وتوطيد العلاقة مع جيرانه، و لعلّه بهذا مهّد إلى سلوك طريق جديد مع قريش.

إنّ أهمّ ما يمكن الإشارة إليه في مرحلة المدينة هو المنعطف الكبير في تعامل النبيّ مع قريش، الذي سارت على أساسه الأحداث في اتجاه السياسة والحرب. وممّا يلفت النظر أنّ النشاط الحربي للرسول الكريم قد أدخل تغييرات جوهرية على موازين القوى.

فأوّلاً: أصبح لهذا النشاط الحربي غائيّة اقتصادية في البداية، متمثـّـلة في تهديد الطرق التجاريّة لقريش، ثم غائية إيديولوجية تهدف إلى إخضاع مكة وشبه الجزيرة العربية.

ثانيًا: لم تعد الحرب محدودة في الزمن، بل أصبحت مستمرّة، فمن الهجرة إلى الفتح تركّزت جهود النبيّ الكريم على فتح مكة، وقد توخّى لتحقيق هذا الهدف طرقًا عدّة، أهمّها:

*محاولة إضعاف النشاط التجاري لمكة، وتجلّى ذلك خاصة في الهجوم على القوافل، وأكبر مثال على ذلك غزوة بدر التي كانت غايتها في البداية اعتراض قافلة تجارية ضخمة بقيادة أبي سفيان، فقيل:" إنّ أبا سفيان بن حرب أقبل من الشّام في قريب من سبعين راكبًا من قبائل قريش كلّها كانوا تجارًا بالشام (...) فذكر ذلك لرسول الله (ص) و أصحابه (...) فلمّا سمع بهم رسول الله (ص) ندب أصحابه وحدّثهم بما معهم من الأموال وبقلّة عددهم، فخرجوا لا يريدون إلاّ أبا سفيان والركب معه ولا يرونها إلاّ غنيمة لهم "[1]

*استعمال الديبلوماسية، و تتمثــّل أساسًا في صلح الحديبيّة.

*أصبحت الحرب صراعًا بين المدن: مكـّة ضدّ المدينة، وهو أمر يختلف اختلافًا جوهريًا عن الحروب بين القبائل. وقد تجلّى هذا الصراع خاصة في غزوة الخندق.

لقد ترتّب على حروب الرسول، صلى الله عليه وسلم، انقلاب في موازين القوى في بلاد العرب لفائدة سلطة دينيّة وسياسيّة، جعلت العديد من القبائل تفضّل الخضوع لهذه السلطة، وتجلّى ذلك خاصة في عام الوفود إذ أعلنت عدّة قبائل إسلامها، ومن ثمة اندراجها ضمن السلطة الجديدة.

إنّ تنظيم المدينة والانخراط في حروب ضدّ قريش، يفترض وجود سلطة هي التي تقوم بالدعوة وتجييش الجيوش وتوزيع الغنائم، لكنّ هذا لا يعني أنّ هذه السلطة قد توفّرت لها كلّ المقوّمات المادية، مثلما هو متعارف عليه في أيّة دولة. ولا شكّ في أنّ الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد كان ينظّم حياة الناس ويبرم العقود ويهيئ الجيوش، وهذه أمور أقرب إلى السياسة وتنظيم المجتمع من الدين. ولكنّنا، رغم ذلك، نرى أنّ المطامح السياسية لم تكن هي الهدف الأسمى، بل إننّا نرجح أنّ كلّ هذا كانت غايته نشر الدين الجديد وتأمين استمراريته. ولعلّ هذا يقودنا إلى تقديم جملة من الملاحظات في طبيعة السلطة النبويّة أهمّها:

*أنّ الرسول، صلى الله عليه وسلم، رغم قيادته أمر المؤمنين، لم يتّخذ لنفسه أيّ لقب من الألقاب الدّالة على الرئاسة، فإذا كان كسرى عظيم الفرس، وقيصر عظيم الروم، فإنّ محمدًا بن عبد الله لم يتخذ له لقبًا دالاً على سلطته السياسية، بل إنّه بعد الفتح وقدوم وفود القبائل لم يعيّن نفسه قائدًا سياسيًا، وإنّما كان يستقبلهم بوصفه رسولاً يوحى إليه.

*رغم أنّ النبيّ الكريم نظّم جوانب من الحياة الاجتماعية والسياسية لقومه، فإنّ وظيفته كانت أقرب إلى التحكيم الذي كان يمارسه شيخ القبيلة، فكانت سلطته معنوية، وليست قهريّة على غرار سلطة الملوك والقياصرة والأباطرة.

*لكلّ دولة حدّ أدنى من التنظيمات والمؤسسات المشرفة على تسيير شؤون رعاياها. وهذا الأمر يكاد يكون غائبًا في عهد الرسول الكريم، فلم يكن هناك دواوين ولا مؤسّسات، وإنّما كان يقتصر على بعث قاض ينظر في أمور الناس، ومقرئ يعلّم النّاس أمور دينهم.

* لم يعيّن الرسول، وهو على فراش الموت من يرث سلطته، وتجمع المصادر كلّها على ذلك، باستثناء التيّار الشيعي الناشئ في فترة لاحقة، بعد الفتنة الكبرى على وصيّة غدير خمّ التي أوصى فيها الأمر من بعده لعليّ بن أبي طالب، وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ ذلك يدلّ على أنّ النبيّ كان يعتبر سلطته لا تورّث، فترك المجال لاجتهاد أصحابه والمسلمين من بعده في من يسوس أمرهم وينظّم حياتهم؛ فكان ذلك دليلاً على أنّ السلطة الدينية عنده مقدّمة على السلطة الدنيوية.

من خلال هذه الملاحظات، يمكن أنّ نتبيّن:

* أنّه يعسر البتّ القاطع في طبيعة سلطة النبيّ السياسيّة، ولكنّنا نرجّح وبكلّ احتراز أنّه كان يولي دعوته كبير أهمية، ويعتبر تنظيم أمور النّاس أمرًا لاحقًا لسلطته الدينيّة، ولا أدلّ على حديث تأبير النخل من ذلك، إذ وجد الرسول، صلى الله عليه وسلم، جماعة يلقّحون النخل فاستغرب فعلهم فانصرفوا عنه، فإذا بالصّابة هزيلة فراجعوه في الأمر فقال: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم".

أدرك المسلمون، بعد وفاة الرسول الكريم، أنّ علاقة الإنسان بالسماء قد انقطعت، وأنّ البعد الديني الذي كان يلابس سلطة الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد ترك مكانه للاجتهاد البشري بكلّ ما يعنيه من اعتماد على العقل المحدود والتجربة النسبيّة، رغم أنّ العقل عندهم هبة من الله، وهو الذي ترجع إليه قيادة نشاط الإنسان. ومن أجل هذا قام الجدال في السقيفة على الدنيا لا على الدين وعلى الأمر؛ أي الحكم السياسي. فترى الأنصار يقولون لبعضهم: "فشدّوا أيديكم بهذا الأمر فإنّكم أحقّ النّاس وأولاهم به"،[2] و ترى المهاجرين يردّون على لسان أبي بكر: "فهم أوّل من عبد الله في الأرض وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحقّ النّاس بهذا الأمر من بعده".[3] كانت السلطة رهان السقيفة كلّ يطمع في نيل السيادة. ولقد اعترف أبو بكر أنّه بموت الرسول، صلى الله عليه وسلم، أصبح المسلمون يواجهون الدنيا، ولذلك بنى تصوّره للسلطة على أنّها عمل بشري، واجتهاد شخصي، قد يصيب فيه الحاكم وقد يخطئ. لذلك كان في خطبة بيعته واضحًا: "يا أيّها الناس، إنّما أنا مثلكم، وإنّي لا أدري لعلّكم ستكلّفونني ما كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يطيق، إنّ الله اصطفى محمّدًا على العالمين وعصمه من الآفات، وإنّما أنا متّبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني وإن زغت فقوّموني"[4]. إنّ الاعتراف بإنسانية الحاكم وبشريّته إقرار بنسبيّة حكمه وضعف طاقته ومحدوديّة فكره، وقد صُوّر لنا هذا الضعف في بكاء أبي بكر، وفي طلب إقالته إثر تصلّب فاطمة إزاءه " ثم خرج باكيًا فاجتمع إليه النّاس، فقال لهم: يبيت كلّ رجل منكم معانقًا حليلته مسرورًا بأهله، وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي".[5]

لقد كان السائس منذ اجتماع السقيفة مدركًا الطبيعة الدنيوية لسلطته مقدّرًا أنّ ما يقوم به إن هو إلا اجتهاد بشري يحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ، غير أنّ هذا التصوّر سرعان ما خفت؛ ليظهر في المقابل، ومنذ عهد عثمان، تصوّر مختلف للسلطة يضفي عليها طابعًا دينيًّا مقدّسًا إذ اعتبر عثمان، لمّا حوصر في منزله وثار الناس عليه أنّ الخلافة قميص أو رداء كساه الله إيّاه ولن يخلعه، فقال:" أمّا بعد ، فإنّي في قوم طال فيهم مقامي واستعجلوا القدر فيّ، وقد خيّروني بين أن يحملوني على شارف من الإبل إلى دحل، وبين أن أنزع لهم رداء الله الذي كساني"[6] لقد رفض السائس التخلّي عن منصبه، وسعى إلى المحافظة على امتيازاته، بل عدّ الخلافة هبة إلهية يمنحها الله من يشاء. ومن ثمّ أضفى شرعية دينية على سلطته، فباتت سلطة الحاكم من سلطة الله.

ويتّضح هذا الموقف بجلاء أكبر في خلافة معاوية الذي رأى في مال الدولة ومال النّاس مال الله، وادّعى لنفسه الحقّ والحريّة في التصرّف فيه بالمنع والمنح كيفما شاء، باعتباره خليفة الله على أرضه "الأرض لله وأنا خليفة الله، فما أخذت فلي، وما تركته للناس فبالفضل مني".[7] لقد أضفى معاوية على سلطته نزعه دينية، فلم تعد السياسة اجتهاد بشر، وإنّما تحوّلت إلى سلطة مستمدّة من الله؛ فالسائس ظلّ الله على الأرض، ومن ثمّ حصّن نفسه بإرادة الله، فأصبح كلّ نقد يوجه له نقدًا للإرادة الإلهية. وإذا تتبّعنا هذا التصوّر لاحظنا حضوره وترسخه أكثر في خلافة بني العبّاس؛ فقد خطب أبو جعفر المنصور في النّاس يوم عرفات:" أيّها النّاس إنّما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته وأقسم بإدارته وأعطيه بإذنه. قد جعلني الله عليه قفلاً إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني".[8] إنّ المنصور بهذا يقرّ ارتباط الحكم الدنيوي بالحكم الإلهي، فهو لا يتصرّف إلاّ بإذن الله، ومن ثمّ لم يعد الحاكم من طينة البشر، بل أضحى ظلّ الله على الأرض يحكم بأمر الله ويأمر بمشيئة ربّانية. لقد ترسّخ إذن مفهوم جديد للسلطة، فلم يعد السائس بشرًا خطّاء يعترف بمحدودية اجتهاده وقدرته النسبيّة في تدبير شؤون النّاس، وإنّما أصبح متعاليًا أضفى على سلطته رداء القداسة، فأضحت مساءلته من قبيل مساءلة الإله، فارتفع بذلك من مصاف البشر إلى مصاف الآلهة.

إنّ هذا التصوّر للسلطة وعلاقتها بالدين له جذور عميقة في التاريخ الإنساني، ففرعون مصر كان يعتقد أنه ابن الإله، وهو ما برّر به تسخيره النّاس عبيدًا لبناء المعابد والمقابر والأهرامات. وأكاسرة الفرس كانوا يزعمون أنّ لهم علاقة بالإله" أهوارمزدا "لإضفاء القداسة على أمور هي في الأصل دنيوية. إنّ منطلق هذا التصوّر، إمّا أن يكون تبريرًا لمظالم السلطة البشرية القائمة، ومحاولة تأبيد الجور عن طريق الزعم بأنّ الحاكم هو سلطان الله على الأرض، وإمّا لإضفاء رداء القداسة على سلطة دنيوية واجتهادات هي في الأصل اجتهادات البشر، والقصد من ذلك سحب حقّ النّاس في المساءلة والمراجعة وممارسة السلطة.

إنّ ربط السائس بالإله وإضفاء المشروعيّة الدينيّة على سياسة البشر هو في النهاية احتكار لحق المعارضة والإنفراد بالرأي والسلطة. ولقد كان هذا التصوّر وسيلة فعّالة لإقصاء المعارضين السياسيين، ومن ذلك تصفية عبد الله بن المقفع، وذبح الجعد بن درهم (ت 118)؛ فقد نفّذ الوالي الأموي خالد بن عبد الله القسري مشيئة الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك فقتل أحد أهم رموز المعارضة بأن ذبحه يوم عيد الأضحى، ومن ذلك أيضًا تصفية المعتزلة وحرق كتبهم؛ لأنّهم مثـّلوا تيّارًا معارضًا للتأويل الرسميّ لما اختاره الحاكم. لقد سعينا في هذا البحث إلى تتبّع طبيعة السلطة في الإسلام المبكّر وتبيّن أهمّ مساراتها. و لقد بانت لنا عدّة نتائج مهمّة يحسن التذكير بها:

*لقد اختلف الباحثون في تقييم التجربة النبوّية، وقد أفرز هذا التقييم موقفين متناقضين مازالا يشتغلان في الفكر العربي الإسلامي؛ موقف أوّل يرى في الرسول الكريم قائدًا سياسيًا بامتياز، نظّم شؤون العباد وجيّش الجيوش. وقد رأى هذا الموقف أنّ سلطته السياسية لا يمكن فصلها عن السلطة الدينيّة، بل إنّ النبوّة عندهم التبست بالسياسة، فكان لا بدّ أن يصّر هذا الموقف إلى اليوم على إضفاء الشرعيّة الدينيّة على أنظّمة الحكم. أمّا الموقف الثاني، فقد رأى أنّ المهمّة النبوية الدينية هي أسبق، بل هي التي كان الرسول الكريم حريصًا على إثباتها وتأكيدها، وما تنظيم المجتمع إلاّ استجابة لحاجات اللحظة التاريخية. وقد رجّحنا أنّ النبيّ الكريم كان أحرص على تبليغ دعوته ونشر الإسلام منه على الظهور بمظهر القائد السياسي، لذلك لم يتخذ لقبًا سياسيًا ولم يقترح من ينوبه بعد وفاته.

*لقد أدرك السائس بعد وفاة الرسول، أنّ السياسة أمر من أمور البشر، وأنّه يحكم الناس حسب اجتهاده؛ ففصل بذلك السلطة السياسية عن السلطة الدينية.

*لقد حصل عدول في مفهوم السلطة، بدأ تجليه منذ خلافة عثمان وتواصل مع السلطة الأموية ثم العباسية؛ فأدمج الدين في السياسة وأضحى الخليفة حاكمًا بأمر الله. ولقد كانت الغاية من ذلك إلباس السياسة رداء الدين ورفع السائس إلى مرتبة الإله. و لقد كان لهذا التصوّر تداعيات خطيرة على العمل السياسي في الفضاء العربي الإسلامي؛ فقد أُفتكّ حقّ المعارضة وتمّ الانفراد بالرأي والسلطة وأصبح كلّ ناقد أو معارض للسلطة معارضًا للإرادة الإلهية، فتمّ تصفية الخصوم السياسيين باسم الدين. ولعلّ هذا التصوّر للسياسة مازال متواصلاً في العصر الحديث، فقد صفّى جعفر نميري ألدّ معارضيه محمود محمد طه بإعدامه بعد أن لفّق له تهمة الردّة.

*لقد رمنا من خلال هذا البحث التنصيص على بشريّة السلطة وممارسيها، وقد كان القدامى متفطنين إلى هذا الأمر. إنّ الإقرار بنسبيّة العمل السياسي هو وحده الكفيل بضمان تعدّد الأراء وحقّ الاختلاف وإرجاع السلطة إلى مصدرها الأساسي، وهو الإنسان.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير تاريخ الأمم و الملوك ، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، مصر ، دار المعارف، ج 2 ، ص 421.

[2] ابن قتيبة،أبو محمد عبد الله بن مسلم: الإمامة و السياسة، بيروت، دار الكتب العلمية ط 2، 2006 ج 1، ص 9.

[3] الطبري، تاريخ الأمم و الملوك، ج3،ص 220.

[4] المصدر نفسه ، ج 3 ص 224.

[5] ابن قبيبة، الإمامة و السياسة، ج 1 ص 17

[6] المصدر نفسه، ج1 ص 35

[7] البلاذي، أنساب الأشراف، تحقيق سهيل زكار و رياض الزركلي دار الفكر ، ط1 ، 1996، ج 5 ص 115.

[8] الطبري، تاريخ الأمم و الملوك ، بيروت، دار الكتب العلمية، 1987، ج 4 ص 533.

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%B7%D8%A8%D9%8A%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D...

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك