فكرنا المعاصر: النّص المبدع والبيان النضالي
بومدين بوزيد
تشيع في الغالب عبارة "الفكر العربي المعاصر" كعنوان للكتب أو لمقاييس ووحدات التدريس، وفي العادة نلحق نعت الغربي أو الأوربي ، فنقول "الفكر الغربي" أو "الأوربي"، وهنا النعت يأخذ المعنى الحضاري أو الجغرافي في مقابل لفظ "الشرق" الآسيوي أو العربي ـ الإسلامي، أما لفظ "العربي" فيحيل إلى اللغة والعرق رغم المضمون الحضاري الذي نصرّ عادة على إشباعه للفظ، والنعت هنا "العربي" يحمل معه حقبة زمنية تاريخية تعود إلى بدايات النهضة والتجديد في البحث عن انتصار عربي سواء على التخلف أو في مواجهة الاحتلال، وقد ترسّم النعت أكثر وأصبح له وهجه مع قيام دولة إسرائيل وظهور الحركة القومية العربية.
هذا النعت ذو الحمولة العاطفية والتاريخية والتحريرية التي مازال يغذي مضامين تفكيرنا في مرحلة تعولم جديدة تزيد من التفاوت بيننا والغرب، ومن حدّة الصراع حول القيم والهوية والمصالح الاقتصادية، أما لفظ "المعاصر" فيأخذ المعنى التاريخي أكثر من مضمون التحديث أو التجديد على اعتبار أنّ الكتابات المعاصرة التي ظنّ أصحاب مشاريعها أنها مداخل للعصرية والحداثة تعرضت لمعاول من النقد والهدم مع ثمانينات القرن الماضي.
وإجرائياً من الممكن الإبقاء على التسمية بنعتيها "العربي" و"المعاصر" الأول المعنى اللغوي والعرقي والثاني الزمني، أما المضمون الحضاري والمعرفي فيبقى مرتبطاً بطبيعة النص المنتج أو المنهج المستعمل وهنا يكون للمقاسات والتصنيفات الضرر الكبير في حجب رؤية الإبداع ومواطنه، كما أن المعجمية المستعملة في عملية النقد داخل الفكر العربي المعاصر تعتبر أحد عوامل التشويش على الرؤية النقدية الجديدة في تقديم خطاب جديد لا يخضع لنفس العوامل التاريخية والأسر المنهجي والمفهومي الذي يلزم به هذا المفكر العربي أو ذاك.
ولو عدنا إلى التقسيمات المعهودة للفكر العربي المعاصر، نجد أن بعضهم درج على استعمال الثنائية: "الحداثة والأصالة" وما استتبعها من ثنائيات كالتقليد والتجديد، والسلفية والحداثة....إلخ ثم توسعت هذه الثنائية إلى ثلاثيات ورباعيات فالبنيوي والفوكوي واليساري والاختلافي وما بعد الحداثة وهي كما ترى روافد فرعية للتيارات الغربية، أي أننا نضيف نعتاً مستعاراً كما هو على هذا الفكر أو ذاك، وقد يكون هذا الفكر رافداً ورغم التجديد والإبداع والاختلاف عن المنبع لكن استعمال التسمية بتعميمية يمنعنا من رؤية ما يمكن أن يقدمه هذا النص أو ذاك من إبداع.
كانت مسألة المنهج وتحديد الرؤية هي المقدمات التي يسعى بعض المفكرين العرب منذ السبعينات من القرن الماضي في رسمها وشرحها للقارئ ولزملائهم وارتبط هذا بتصور معرفي يرى أن أساس التفكير هو وضع المنهج والمفاهيم قبل التحليل ونقد النصوص أكانت تراثية أم حاضرة معاصرة، ويلتزم المفكر بذلك في كامل "المشروع" الذي يعلن عنه ويبقى مفتوحاً أو يكتمل وينتقل إلى مشروع آخر، ومهما كان التمايز إلا أن الظاهرة الغالبة هي الكتابة النضالية، ونقصد هنا شعور المفكر منذ بدايات تفكيره الأولى أن مهمته هي إنقاذ الأمة من التخلف والدخول إلى الحداثة والتقدم، وهو شعور صاحب الإصلاحيين والإسلاميين، وامتزج بالمهام القومية ولذلك كانت المواضيع الأساسية المطروحة في الفكر العربي المعاصر قضايا الديمقراطية والحريات والمواطنة والتنمية وتحرير فلسطين والوحدة العربية، وهي قائمة طويلة أضيف لها طبعاً في قرننا الجديد مهمة "ردم الفجوة الرقمية" بيننا والغرب، والحدّ من تأثير العولمة على قضايا الهوية والثقافة، والوصول إلى "مجتمع المعرفة"، هذا التفاوت الذي يأخذ في كل مرحلة شكلاً معيناً يبقي "التفكير العربي المعاصر" ضمن الدائرة النضالية" المرهقة للعملية الإبداعية وبالتالي يتسم هذا التفكير مهما كان منهجه ورؤيته ببعض الصفات كنا تعرضنا لها في دراسات موسّعة منها:
ـ الحركة ضمن الزوج والثنائيات سواء أكانت قادمة إلينا من القرن الماضي " الحداثة والتخلف" و"التقليد والتجديد" و" نحن والغرب"، والارتباط بحلم تحقيق الإقلاع والتقدم وهو هنا المراهنة على جماعة سياسية معينة أو زعيم ما أو كتلة تاريخية يراها بعضهم تتشكل ويبني عليها حلم التفكير، فقد كان جمال عبد الناصر أو مثله مشكلة أفقاً تاريخياً لبعض المفكرين العرب، فهل سنكررّ تجربة الفكر العربي المعاصر لقرن من الزمن في قرن جديد تصير فيه المعرفة هي الثروة الاقتصادية وفضاءً للمواطنة والحريات والديمقراطية؟.