الوحي والعقل
عبد الإله إصباح
عندما نتأمّل جيّدا في مقولتي الوحي والعقل داخل المنظومة الإسلاميّة، نستطيع أن نزعم أنّ العقل حاز مكانة اعتباريّة أرقى من الوحي على الرّغم من أنّ هذه المنظومة ارتكزت في أساسها على مفهوم الوحي. غير أنّ هذا الارتكاز حاول بناء مشروعيته على استدعاء العقل للبرهنة على صحّة ادعائه. فالعديد من الآيات تدعو إلى استعمال العقل كوسيلة للتّحقق من صدق ما ادّعاه الوحي كنصّ وخطاب. وهذا يعني أنّ الوحي إحتاج إلى العقل لكي يرسخ كيانه كحقيقة لا تقبل الشّك. فالوحي لم يأت ببراهين ملموسة أو مرئية، وإنّما كان دوما في حاجة إلى مفهوم العقل كمرتكز لإثبات ذاته. فهو خطاب لا يملك مقومات جوهريّة لصيقة به يستطيع من خلالها أن ينتصب كحقيقة قائمة في ذاتها غير محتاجة إلى ما هو خارج جوهرها. ولذلك حفل النّص القرآني بالعديد من الآيات الّتي تستعمل مشتقّات كلمة العقل من قبيل “أفلا يعقلون ” “ولكنّهم لا يعقلون ” أو تدعو إلى تدبر مظاهر الكون والطبيعة من شمس وقمر وجبال وأنهار.
هذه الحاجة الماسّة من قبل الوحي إلى العقل تجعله يكاد يتحوّل إلى خطاب عقلاني، يرتكز على العقل للبرهنة على ما ليس عقلانيا. يريد أن يبرهن على ادعاء اتّصال الله بالبشر مجسّدا في النّبي من خلال فرضيّة أنّ العالم مخلوق من قبل الله، وأنّ هذا العالم في حدّ ذاته هو الدّليل على صحّة وجود الله. فالوحي هنا ينتقل من البرهنة على وجود الله من خلال العالم إلى إقرار حقيقة أخرى متمثلة في اتّصال الله بأفراد إستثنائيين هم الأنبياء وضمنهم النّبي محمد.
لا تقتصر أفضلية العقل على الوحي من خلال حاجة هذا الأخير وارتكازه على العقل، بل تتعدّى ذلك من خلال حقيقة أن الله تجلّى في الوحي خلال فترة زمانيّة محدّدة. ولكنّه مستمرّ في التّجلي من خلال ولادة كلّ كائن بشري باعتباره كائنا حائزا على العقل. فالوحي إذن تجليه محدود في الزّمن، والعقل تجليه ممتدّ في هذا الزّمن إلى ما لا نهاية. وهذا يعني أنّ أهميّة الوحي مؤقّتة وأهميةّ العقل ممتدّة ومستمرّة باستمرار الكائن البشري.
ومن ثمّ تنكشف حقيقة الوحي كتوجيه عام، وتنكشف حقيقة العقل كبحث واكتشاف مستمرّ. لقد احتاج الوحي كنصّ إلى العقل لتفسيره وتأويله، غير أنّ نوعا من العقل المقولب ضمن أطر مرجعيّة مغلقة عمل على الانتصار للوحي بصفة مطلقة، وذلك بوضع حدود صارمة للعقل لا يتجاوزها بما هو قدرة وملكة للتّفكير واكتشاف الجديد.
ابتكر هذا العقل المقولب المحافظ آلية للجمود والانحسار من خلال الحدّ الصّارم الّذي وضعه لكلّ اجتهاد عندما وضع قاعدة جازمة تؤكّد أن لا اجتهاد مع وجود النّص. هنا يصبح النّص متحكّما في العقل على الرّغم من أنّه ارتكز في بناء ذاته كمعنى وحاز مشروعيته على أساس هذا العقل.
نحن إذن أمام عقل ارتهن للنّص ففقد الكثير من الخصائص الّتي تجعل منه عقلا، ومنها على الخصوص خاصيّة السّؤال والتّساؤل الّتي فقدها عندما اكتفى ببناء مسلمات نهائيّة، مسلمات حصنها بالمنع وتحريم الاقتراب منها بالشّك والمراجعة أو النّقد. وبذلك أصبح هذا العقل الفاقد لما يجعله عقلا يدور ضمن أطر مغلقة لا تسمح بالتّجاوز واختراق الحدود والتّطلع إلى الجديد واكتشاف آفاق أخرى مغايرة. أصبح النّص منطلقا والعقل تابعا ومفسّرا ومؤولا بعد أن كان مرتكزا ومرجعا للنّص في بناء ذاته وتأسيس حقيقته.
والسّؤال الّذي يفرض نفسه هو كيف يمكن تخليص العقل من سلطة النّص؟ كيف يمكن استيلاد مسلم جديد يؤمن بأنّ العقل أولى من النّص من حيث أن كلا منهما مخلوقا من طرف الله، ولكنّ العقل يحظى بالأفضليّة لأنّه تعبير عن خلق مستمرّ وممتد في الزّمن من طرف الله، بينما الوحي تمّ خلقه مرّة واحدة في إطار زمني محدود ببداية ونهاية معروفة؟ كيف يمكن إقناع المسلم بأنّ الوحي كنصّ قارب بعض حقائق الطبيعة والكون، وأنّ هذه المقاربة تجاوزها العقل من خلال صيرورة تاريخيّة تخلّلتها طفرات وقطائع ليصل إلى حقائق مفتوحة على مزيد من التّعديلات والإضافات لملء البياضات واكتشاف أجوبة جديدة عن أسئلة شغلت الباحثين والعلماء؟ كيف يمكن أن يقتنع المسلم أنّ الله قال حقيقة مؤقّتة من خلال الوحي، ولكنّه مستمرّ في قول حقائق جديدة من خلال اكتشاف الجديد على لسان علماء ككبرنيك وجاليلو ونيوتن وانشتاين وغيرهم من العلماء الأفذاذ؟ كيف نجعل المسلم اليوم، يستوعب كون العقل صيرورة تتأسّس على حقائق مؤقّتة ونسبيّة مفتوحة على مزيد من التّطوير والاكتمال، بينما الوحي توقّفت صيرورته نهائيا وإلى الأبد بإقرار منه هو ذاته كنصّ؟. وهذا يعني أنّ الحقائق الّتي قاربها غير مكتملة وغير نهائية، وأنّ المعرفة كسعي وراء الحقيقة أصبحت رهينة بصيرورة العقل واكتشافاته. إنّ هذا يدلّ في نهاية المطاف على أنّ الله تجاوز حقائق الوحي من خلال حقائق العقل، تجاوز الأنبياء من خلال العلماء الّذين يجسّدون من خلال تعاقبهم وتعاقب اكتشافاتهم صيرورة العقل الكوني. إنّهم عبارة عن محطات وطفرات نوعيّة لتجليات هذا العقل المنفتحة على طفرات وقطائع أخرى بما يعنيه ذلك من إضافات وتعديلات في الحقائق السّابقة والرّاهنة.
لاشكّ أنّ مقدمة الإجابة عن مثل هذه الأسئلة ترتبط بتغيير السّياق الثقافيّ والحضاريّ السّائد في المحيط العربيّ الإسلاميّ، وذلك من خلال الانخراط في إصلاح ديني شامل تكون من نتائجه الاستراتيجيّة انتقال العقل العربيّ من الأطر المغلقة لتقليد إلى رحاب ألأطر المنفتحة للحداثة في الزّمن المعاصر.
المصدر: https://www.alawan.org/2018/02/05/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AD%D9%8A-%D9%88%...