فكر الاختلاف وثقافة التعصب النهضة العقلانية تقتضي تحرير السياسة من القداسة
د. عزيز الحدادي
«يجب تحرير الروح من لباس العدمية لكي تنتشر في ثقافة الإختلاف، لأنه بدون إختلاف فكري تموت الحرية والإنسانية فبأي معيار تصبح الفلسفة هي الضامن للحرية
والفكر؟ وما علاقة الحرية والفكر بالنهضة الثقافية؟ بل ما هي أهمية هذه النهضة في بناء الحوار والإختلاف والتعدد؟
بإمكاننا أن ننطلق من ثقافة الإختلاف كأصل مشترك لتجليات الروح في الفلسفة والشعر والرسم والموسيقى والعلم، لأنه بدون هذا الأصل تختبئ الروح في مأوى العدمية، وينهار سكن الوجود الذي يخشى ضياع اللغة في ليل التعصب، ولذلك نتساءل بدهشة فهل نستطيع أن نثير السؤال المتعلق بحقيقة فكر الإختلاف دون إثارة فلسفة الإختلاف؟
مهما يكن من أمر، فإن تضليل الناس أسهل من تعليمهم إرادة المعرفة، وتشجيعهم على البحث العلمي ومحبة الحقيقة، ولذلك نجد التيار الظلامي ينشر التعصب الديني، والاكراه الأخلاقي لأنه يقوم بتمزيق الكينونة وتحويل الإنسان إلى حيوان يعيش باللذة من خلال إشباع الرغبات في عالم عديم الاحساس، عالم فارغ من الحقيقة، يغرق في الفوضى. منفصلا عن أسئلة الوجود والمعرفة، غير قابلة للاختبار، إنه خاطئ ويناقض نفسه، ولذلك ينتظره الزوال، لا يستحق معاناة التفكير، ولعل هذه الحقيقة تنتشر بواسطة قواعد أخلاقية مغلفة بلمسات مقدسة، ذات نزعة عدمية، تقود إلى انتشار خيبة الأمل، واحتقار المعرفة العقلانية .
بدون هدف، تتوجه نحو تدمير النهضة العقلانية، وتشريد الفلاسفة بطريقة وسطوية، فالتيار العدمي المتشدد لم يعد يطيق العيش في العالم الحديث، ولذلك يسعى إلى هدمه، من خلال نشر التطرف، والحروب والرعب، والشاهد على ما نشاهده الآن. لكن بأي معنى تصبح العدمية هي براديغم هذه المرحلة؟ ومن يساهم في انتشارها بهذه السرعة؟ ألا يكون هذا التيار الوسطوي الذي تحتمي به السلطة هو المسؤول عن ذلك؟ بل أكثر من هذا، كيف تستطيع مواجهة العقلانية والثورات العلمية؟
والحال أن التيار العدمي تحول إلى مستوصف مفتوح في وجه العدميين الجدد، من أجل الشفاء من مرضى الصرع، هكذا يحيط بصدده الغموض وانعدام تمييزه عن الحزب السياسي، أو الناطق الرسمي بالإيديولوجية الرسمية، ومقرات اشغاله، لأننا نوجد أمام تداخل بين الزوايا والحقل الديني منذ تجربة سيدي رحال وبويا عمر، حيث الكرمات والكشوفات الروحية، بمعناها الاسطوري، ما زالت تنتشر إلى يومنا هذا، بل أخذت شكل حكومة تسير البلاد، ولذلك تجد رئيسها يدعي بتحكمه في سقوط المطر، وأثمنة المحروقات والدواء. فهذه المعجزات تجعله يخترق قلوب الأتباع. هكذا تتحول العدمية إلى نعمة في هذا الزمن الرديء.
من أجل بناء مشروع النهضة العقلانية، ينبغي تحرير السياسة من القداسة، ذلك لأن السياسة هي حياة الدولة، والمحرك الأول للنهضة الثقافية، إذ انطلاقاً من مؤسساتها ينتشر التنوير والوعي التاريخي، إنهما الشيء نفسه، لعبة الحقيقة مع ذاتها، والحقيقة لا تمتلك هويتها إلا حين تتحقق في الواقع، والواقع هو الوعي الذاتي، الذي يعلن عن عصر العقل، والكشوفات العقلانية. وهو لي الذات الفاعلة. هكذا ستحترق جمود الأمكنة الفارغة والأرواح الميكانيكية وتحفيزها على السقوط في أحضان المعرفة، حين توجه حواسها نحو فن الاستمتاع لكلمات الفكر. وهذه الكلمات نفسها هي مسكن الحقيقة .
ما أمتع هذا المسكن الذي يحمي الروح من التيار العدمي، الذي حول الأمة إلى فرجة مسرحية مثيرة للدهشة والسخرية في الآن نفسه لأنها تخلت عن أسسها العقلانية، وتنازلت بذلك عن الحق في النهضة الفكرية في مقابل نهضة الأولياء والأضرحة. التي ذبُلت بسبب الروتين الفقهي وثقل التدين الشعبي، والافراط في تقديس الطقوس الخرافية، مما حكم على المجتمع بروح الخرافية، وفرض القيم القديمة على الحياة الجديدة. فالغاية تتحول إلى انعدام الغاية .
ينبغي ان نسرع الخطى لكي نلتحق بالزمن، وخاصة وأن الزمان ينفلت، ويستحيل ترميمه، فمن ابن رشد إلى الجابري مروراً بمجد عزيز الحبابي، استهلك المغرب كل هذه القرون تحت رحمة التيار العدمي، وتأخر على الموعد مع النهضة العقلانية، ولذلك يتعين علينا الآن أن نرتاح من الثرثرة لأنها مجرد إناء فارغ، ونفسح المجال لحكمة الصمت. فالسياسي الثرثار يعاني من مرض الصرع، ولذلك لا يسمع للآخرين، مما يحكم على الحوار بالزوال. بيد أن الذين يستمعون إليه يتمتعون بالخطابة، لأنهم في حاجة إلى العلاج من مرض الهذيان والهستيريا، هكذا يحرر الخطاب الانفعالي التوتر والانفجار والاغماء الذي يعقب الطاقة العصبية الكابتة، فيشعر المنجدب بأنه ألقى بهمومه في النسيان، وأصبح مطمئنا للمستقبل الشقي الذي ينتظره .
هكذا تتحول بعض الأحزاب السياسية إلى مستوصف لعلاج الأمراض النفسية، والزعيم هو الطبيب، والخطابة هي الدواء الفعال. وهكذا يتم استثمار الأرواح المريضة، من أجل الوصول إلى السلطة، وبما أن المرضى يحكمون الأصحاء، فإن إشكالية النهضة العقلانية ينبغي أن تنطلق من إشكالية الانسان غائباً، كلما كانت النهضة مستحيلة. والشاهد على ذلك أن الشعوب التي حققت نهضتها الفكرية، انطلقت من الإنسان لتصل إلى الإنسان، لكن أي إنسان هذا الذي نريده لتحقيق النهضة العقلانية في المغرب؟ وكيف يمكن الوصول إليه؟ بل ما الذي ينقصه لكي يصبح إنساناً في مستوى تطلعات الفكر النهضوي؟
إنها أسئلة متأثرة بجراحها العميقة، ولذلك لا تسعى إلى مواجهتها بإجابات مؤقتة، لأن الانتقال من الوعي الشقي إلى الوعي بالذات لا يتم في الزمان، بل في الوجود، إنه انتقال انطولوجي، والمغرب في أمس الحاجة إلى هذا الانتقال، وإلا سينهار. وليس من العيب أن نشير إلى الأخطاء، فالعيب كل العيب أن تظل هذه الأخطاء مهيمنة على التاريخ المعاصر، وإذا كان تاريخ المغرب هو تاريخ للأخطاء، فينبغي عليه أن لا يصحح هذه الأخطاء، بل أن يدمرها ويحدث معها قطيعة انطولوجية وابستيمولوجيا .
يا له من زمن عجيب من الميول والنزعات المتقابلة أشد التقابل، لأنه عوض أن يقود نحو التعدد الثقافي والاختلاف الفكري، توجه نحو التعصب الديني، مع العلم أن التعصب كان هو سبب إنهاء المدرسة الرشدية في المغرب، ولذلك نجد رينان في كتابة «ابن رشد والراشدية» يقول بتهكم «الآن يُدرك السبب في أن ابن رشد، الذي كانت له سلسلة طويلة من التلاميذ لدى اليهود والنصارى مدة أربعة قرون، والذي برز اسمه عدة مرات في معركة الذهن الإنساني لم يؤسس له مدرسة عند مواطنيه، وهو أشهر العرب في نظر اللاتين، قد جهل من قبل أبناء دينه تماما». وبما أن هذا الجهل كان يتجه لذلك العمل المشؤوم للتعصب الديني، فإن استمراريته إلى يومنا هذا، قد حرمت المغرب من نهضته العقلانية، وليس من العيب أن يكون ابن رشد هو محرك هذه النهضة، انطلاقا من أسئلته الفلسفية، التي لا تموت، لأنها تنتمي إلى ذلك الأصل الذي انطلق منه ينبوع الفلسفة .
ومن العبث ان يكون المغرب الاندلسي عقلانيا في زمن ابن رشد، ويتحول بعد نكبته إلى عدو للعقلانية، ومحطماً للعبقرية، ومدمراً للفكر التنويري، ومناهضاً للفلسفة والحرية، وبالجملة إن مقاصد هذا الزمن الوسطوي لا يتغير ظلت كما وصفها المقري الذي يقول «وكل العلوم لها عند أهل الاندلس حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظاً عظيماً عند خواصهم، ولا يتظاهر بهما خوف العامة، فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه اسم زنديق». فكيف يمكن لإمام الفلسفة ومؤسس الخميرة العقلانية في المغرب أن يصبح زنديقاً تهدم مدرسته؟ وكيف تستطيع هذه الفلسفة الحرة، أي الراشدية أن تنتشر عند الآخر وتدمر عندنا؟ ألم يحن الوقت لبناء المدرسة الراشدية من أجل احتضان الفكر المعاصر؟
كان شعار اللاتين في القرون الوسطى يردد هذه الكلمات التي لا صوت لها في موطنها الأصلي، فالطبيعة تفسر بأرسطو، وأرسطو يفسر بابن رشد ولذلك كان العلماء يحملون كتاب ارسطو باليد اليمنى وكتاب ابن رشد باليد اليسرى، بل أكثر من هذا، لقد تحول ابن رشد إلى اسطورة في فضاءات الغرب إلى حدود القول: لتموت نفسي موتة الفلاسفة.
المصدر: http://www.hdf-iq.org/ar/2010-12-01-14-01-29.html?limit=14&start=14