أفق البحث عن الهوية الحضارية: الأندلس نموذجا

أفق البحث عن الهوية الحضارية: الأندلس نموذجا

إحسان عباس*

(1)

بدخول عبد الرحمن الأوّل الأموي (المعروف بالداخل) إلى الأندلس، وتسلسل الحاكمين من نسله أصبحت الأندلس دولة الجماعة. وأخذت تضع الخطط، وتنشئ المؤسسات التي تمنح البلاد سمة فارقة. وربما كان تعدد الأجناس في تلك الدولة مصدر بلابل وفتن هنا وهناك على الرغم من وجود جيش قوي، وإن كان يمثل جنسيات متعددة، ولم يسمح له بالانصهار الكافي للدفاع عن الدولة وحمايتها في دور النشوء. وكان إصرار الدولة اتخاذ اللغة العربية الفصحى لغة رسمية في منشوراتها وقوانينها وأوامرها عامل تقريب بين تلك الفئات المختلفة، إذ كانت اللغة العربية في المشرق قد كسبت صبغة حضارية تفوقت بها على الفئات المغلوبة. أما التمسك بمذهب الإمام مالك، وصد المذاهب الأخرى من مزاحمته. وبخاصة النحل المتطرفة فكان عاملاً من أهم العوامل في ضمان وحدة الجماعة. وكان لتحويل عبد الرحمن الناصر (الثالث) سلطة الدولة إلى خلافة (سنة 316هـ) عامل آخر جديد في تقوية الجماعة، يضاف إلى ذلك اتخاذ قرطبة عاصمة وتوالي الحكام الأمويين على بناء مسجدها الجامع، حتى غدا أهم مركز علمي في الأندلس. كل ما تقدم ذكره كان عوامل في تركيز عناصر الهوية. لكن هذه الهوية لم تصل إلى دور الاكتمال إلا بنهضة ثقافية عامة، وبهذه النهضة الثقافية التي كان أهم أهدافها إبراز شخصية الأندلس، بدأت الحضارة الأندلسية أو الجانب الفكري منها بالتبلور.

(2)

كانت الأندلس قبل ذلك تعتمد في جل الأمور على المشرق، فمنه تستورد ما تحتاجه من طرائق وأدوات حضارية ومؤلفات. وكان المسافرون إلى المشرق في ذهابهم إلى الحج أو في رحلاتهم للتعرف الجغرافي، أو في لقاء الشيوخ والعلماء والشعراء المشارقة يرجعون مزودين بوسائل من الحضارة المادية والفكرية من نتاج المشارقة، أو مما اقتبسوه من غيرهم.. وفي الوقت نفسه تتلقى الأندلس من المشرق مهاجرين طارئين أو باحثين عن الاستقرار وهم يحملون الكتب في مختلف العلوم أو يشاركون الأندلسيين في التعليم وتخريج الطلبة.

ولم يطل الاعتماد على المشرق في كثير من هذه الأمور وبخاصة في عهد عبد الرحمن الناصر وابن الحكم المستنصر. ولكن جهود الحكم وهو ولي عهد، ثم حين صار خليفة أوجدت إلى جانب المؤثرات الشرقية محاولات عامدة حسب خطة مرسومة لإبراز شخصية الأندلس ولتنمية ثقة الأندلسيين في أنفسهم وبخاصة في الأمور الثقافية. وقد اكتسبت محاولات الحكم المستنصر في هذا المضمار كثيرا من التنظيم والتنوع، وقامت على خطط مدروسة تهدف إلى التوعية الثقافية من جميع النواحي.

كان الحكم نفسه مثقفا واسع الاطلاع، قد درس العربية والنحو والنقد والحديث على علماء بلده. وكان هدفه الأول بناء مكتبة غنية بأنواع المؤلفات دون تفضيل علم على آخر ولأول مرة: اجتمعت كتب العلوم القديمة من فلك و رياضيات وطب مع كتب الحديث والفقه في نطاق واحد، وعلى مر الزمن تضخمت مكتبة القصر هذه حتى بلغت فهارسها أربعة وأربعين جزءاَ في كل جزء خمسون ورقة لم تكتب فيها سوى عناوين الكتب وقدر ما فيها من كتب عند وفاة الحكم 366هـ بأربعمائة ألف مجلد. وكان نمو هذه المكتبة يتم بطرق مختلفة أولها الشراء. ومن أبرز الأمثلة على ذلك أن مهاجرا أندلسيا سكن البصرة، وكان يتولى ابتياع الكتب لمكتبة الحكم، ويقدر ما أنفقه في شرائها بمائة وعشرين ألف دينار. وهذا جهد واحد من الموكلين بتزويد المكتبة بما يصدر من مؤلفات، وإلى جانب الكتب التي تشترى، وظف الحكم نساخا ينسخون له ما يريده من مؤلفات، فمنهم نساخ بالأندلس ونساخ بالمشرق. وكان يشجع المؤلفين المشارقة على إهداء الكتب باسم خزانته ويجيزهم على ذلك بمكافآت. وحين ألف أبو الفرج الأصفهاني كتاب الأغاني أرسل بنسخة منه إلى خزانة الحكم فكافأه الحكم بألف دينار، ودخلت نسخة الأغاني مكتبة الحكم قبل أن تذيع في الشرق. وحين عرفت رغبة الحكم في اقتناء الكتب أهدى إليه إمبراطور الروم كتابين: كتاب ديوسقوريوس في علم النبات وفوائدها الطبية، مكتوبا باللغة اليونانية. وقد أصبح هذا الكتاب حين ترجم محورا للتأليف في هذا العلم، وأساسا لنمو علم الطب. والكتاب الثاني في التاريخ القديم مكتوبا باللغة اللاتينية، وقد أصبح أهم المصادر الموثوقة لدى الأندلسيين في تاريخ اليونان والرومان والإسرائيليين. وقد وصلت نسخة منه حققها ونشرها عبد الرحمن بدوي (رحمه الله). وشيوع هذا الكتاب بين مثقفي الأندلس ميزهم بالدقة إذا قورنت معلوماتهم بمعلومات أهل المشرق.

ومن أجل ألا يدخل مكتبة الحكم سوى مصادر موثوقة بالضبط والإتقان ألف الخليفة لجنة من العلماء للمطابقة بين النسخ من الكتاب الواحد واعتماد نسخة مضبوطة بارئة من الخلل أو التصحيف والتحريف لتودع في خزانة القصر. ولهذه الغاية كان لابد من الحصول على عدة نسخ للمقارنة بينها واختيار الأجود. بل أصبحت المقارنة بين النسخ "دائرة" معتمدة، أو كما يقول الأندلسيون خطة مستقلة يتحمل مسؤوليتها عدد من العلماء المتمهرين في كل علم أو موضوع، فأصبح كل كتاب تضمه مكتبة الحكم مرجعا معتمدا يتمتع بالدقة والتحرر الشديد. وكثير من النسخ كانت ممهورة بإمضاء الحكم وخطه، وعلى هوامشها تعليقات تتناول نبذة عن المؤلف وعن نسبه وشيئا من تاريخ حياته، وربما أضاف الحكم إلى بعض تلك النسخ ملحقا من عنده، فأصبح خطه مشهورا لدى علماء بلده، يطمئنون إليه ويولونه كل ثقة حتى قال فيه بعض علماء الأندلس: "وخطه حجة عند أهل العلم عندنا؛ لأنه كان عالما ثبتا".

(3)

وشجع الحكم علماء كثيرين على الهجرة إلى الأندلس، وحفز هممهم على التأليف والتدريس، فوفد إلى بلاد الأندلس كثيرون من أشهرهم العالم اللغوي أبو على القالي. وقد خرج الحكم لاستقباله عندما وصل إلى جنوب الأندلس، وكان يحفّ بالحكم موكب من المرحبين بالقالي. ثم إنه بذل كل جهد لإكرامه والحفاوة به، وأشعره أنه وجد وطنا يقدره، وعرف القالي ما ميزته به الأندلس فعكف على التأليف والتدريس، وأخذ يلقي محاضرتين كل أسبوع واحدة في قرطبة والأخرى في الزاهرة. ومن تلك المحاضرات اجتمع له كتاب الأمالي أو النوادر. وكان أهم ما حققته وفادة القالي أن تخرج على يديه أجيال من اللغويين والنحويين، ووضع القالي بين يدي الأندلسيين ما جلبه من كتب مشرقية مقروءة على العلماء، ومنها دواوين الشعر القديم وغيرها من أمهات المصادر.

ولم يكن القالي إلا نموذجا لأعداد قليلة من العلماء الذين دخلوا الأندلس لا للقيام بنشر العلم، وحسب بل للتأليف في موضوعات يقترحها عليهم الحكم، مراعيا أن تتناول المؤلفات جغرافية الأندلس وتاريخها وعلماءها وقضاتها وشعر شعرائها. وأكتفي هنا بذكر عالم واحد هو محمد بن الحارث الخشتي الذي ألف كتبا بطلب من الحكم قيل: إنها بلغت مائة كتاب، ومن أهم ما وصلنا منها كتاب قضاة قرطبة، وتكشف مقدمة هذا الكتاب ما كان لدى الحكم من اهتمام، فهو الذي اقترح موضوع الكتاب، ودعا إلى بذل الجهد في تحريره، فامتثل الخشني لرغبة الخليفة، وأخذ يجمع مادة الكتاب من الوثائق وحفظه الأخبار، ومن لقاء الشيوخ، وكل هذا يدل على أن الحكم كان يهتم بكل ما يتصل بالأندلس من جغرافيا وتاريخ وتراجم، وبتدوين كل مآثر الأندلسيين.

ولم يدع الحكم ناحية تتصل بالأندلس إلا نبه إليها همم المؤلفين من مهاجرين وأندلسيين، فجمع له العلماء كل ما يتصل بأقوال الإمام مالك بن أنس والفقه المالكي، وجمعوا أهم آثار شعراء الأندلس، وألفّوا في أنساب العرب الداخلين إلى الأندلس كما ألفّوا في عمران قرطبة وخططها وأحداث التاريخ الأندلسي حتى عهد الحكم.

ولأول مرة نعرف مَنْ من الأندلسيين برز في ميدان اللغة والنحو حين تصدى لهذا الموضوع العالم اللغوي أبو بكر الزبيدي الذي ألف طبقات اللغويين والنحويين بتكليف من الحكم نفسه. وكان كتابه من أوائل الكتب التي أصبحت مرجعا للأندلسيين والمشارقة. ويقول الزبيدي في مقدمة كتابه: "وإن أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله أمرني بتأليف كتاب يشتمل على ذكر من سلف من النحويين واللغويين في صدر الإسلام، ثم من تلاهم من بعدهم إلى زماننا هذا، وأن أطبقهم على أزمانهم وبلادهم بحسب مذاهبهم في العلم ومراتبهم، وأجلب جملة من نتف أخبارهم"، ويستفاد مما ذكره الزبيدي في مقدمته أن الحكم رسم للمؤلف الشكل العام للكتاب، وحدد له أصلا يتبعه، وأمده بمعلومات من روايته وحفظه" وهذا لا يقوله مجاملة، فالشواهد تصدق ما يقول، ذلك أن المستنصر كان شديد الشغف بالعلم، وتعليقاته على المؤلفات تنبئ باستعداد علمي واطلاع. و كان لشغفه بالعلم يتحين كل فرصة لتشجيع العلماء على ارتياد حقول لم يكتب فيها من قبل. فقد تقدم إليه أحد العلماء الأندلسيين بطلب أن يعفيه من المشاركة في إحدى المعارك بسبب كبر السن، فما كان منه إلا أن اشترط عليه تأليف كتاب لقاء التخلف عن المعركة، على أن يكون الكتاب في أشعار بني أمية في المشرق والأندلس.

ولم يكن اهتمام الحكم مقصورا على هذه النواحي بل كان شموليا في الإصلاح. فقد وضع أسس التعليم حين بنى كتاتيب ملاصقة لجامع قرطبة يدرس فيها صغار الطلبة، وخصص لها الأوقاف، و جعل الدولة مسؤولة عن التعليم الأساسي. وحين وسع الجامع نفسه الذي كان يمثل ملتقى الجماعة لا العلماء وحدهم، وأنفق على الزيادة في الجامع مبالغ هائلة ليصبح قطب النهضة الثقافية، قابلا لاستيعاب كل ذلك النشاط العلمي.. إلى غير ذلك من اهتمامات تضافرت جميعا على تطوير المستوى الحضاري للأندلس.

ومع ذلك يجب أن نقر بأن الحكم كان يتخذ من حضارة بغداد نموذجا أعلى، يطمح أن تبلغه الأندلس، فقد ذهب أحد الأندلسيين إلى المشرق ودرس الطب، وحين عاد يفيد الناس بعلمه كان يحدث الحكم عما رآه في مدينة البصرة من حوانيت للطباخين مبلطة بالرخام الملون، ويصف له بإعجاب ما رآه من حسن ترتيب الأطعمة والحرص على نظافتها، وأنها توضع في صحون وتغطى بأغطية زجاجية، والخدام يقفون بالمناديل والأباريق على أتم استعداد. وذات يوم كان هذا الطبيب يجتاز في صحبة الحكم من الزهراء إلى قرطبة، فلما وصلا إلى السوق وشاهدا مواضع الطبخ نظر المستنصر إلى أوضاع بدائية واستعمال أدوات بسيطة، وطبخ أطراف وشحوم، فضحك المستنصر للطبيب: أين هذا مما رأيته بالبصرة؟! وإذا كان ذلك كله مما تعرضه العاصمة الأندلسية، فلا ريب في أن الحال في المدن الأخرى كانت أشد تخلفا في أمور الحضارة المادية. لكن الحكم بدأ بالجانب الفكري من الحضارة، وهذا هو الذي شهد تطورا وتراكما على مر الزمن. حتى أصبحت الأندلس جزءا من المشرق المتحضر- لكنه مستقل سياسيا فقط – وانفصلت أسبانيا عن الغرب المتخلف حينئذ.

كانت جوانب من حضارة بغداد قد غزت الأندلس قبل ظهور الحكم المستنصر بزمان، وأعني بذلك هجرة زرياب المغني التي أرى فيها نقطة تحول في أمور مختلفة من الغناء والأزياء وتصفيف الشعر، وإتقان أنواع من الموسيقى والغناء، وكان اهتداء الأندلسيين إلى الموشح هو الجواب على سؤال نمو الغناء بالأندلس، وعاملا في تنويع الآلات الموسيقية وأهمها يومئذ العود.

وعلى الرغم من اتساع أبعاد النهضة التي رعاها الحكم المستنصر، فان عالما قرويا (نسبة إلى القيروان) كتب إلى صديق له أندلسي بعد عهد المستنصر بنصف قرن أو يزيد يعيب على أهل الأندلس أنهم لم يضربوا بسهم في التأليف. وحين اطلع ابن حزم على رسالة هذا القروي كتب رسالته المشهورة يرّد على الرسالة الظالمة في فضائل الأندلس في الشؤون الثقافية، وما ألفه علماؤها في كل فن وعلم.

لم تجد الأندلس هويتها وحسب حينئذ بل وجدت صورة باهرة لشخصيتها المتميزة.

*******************

الهوامش

*) باحث وأستاذ جامعي من الأردن.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=17

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك