تجديد الفكر الإسلامي مدخلاً لإصلاح التعليم الديني
أنـور أبـــو طه
"إن إحدى السمات الأساسية لخطاب التجديد
هي زوال سحر الغرب وسحر الفقهاء"
أنور
أولاً: الحداثة والمؤسسات التربوية الإسلامية
ألج الحديثَ ببيانِ ما قد يضمرُهُ ويخفيه العنوان الموسوم بـ «الحداثة والمؤسسات التربوية الإسلامية» من اعتراف ضمني بصلابة "المؤسسة الدينية" وبقاء «مؤسسة التعليم الديني» منتصبةً فاعلةً بالرغم من "الهجمة" الحداثية، والليبرالية.
هذا الاعتراف المستبطن يدفعنا من مستوى الخطاب الذي بشَّر بانحسار الدين وتقهقر الظاهرة الدينية من المجال العام، إلى مستوى خطاب تسوويٍّ جديد يبحث عن سبل تحديث الدين ذاته، أو تديين حداثة خاصة "بنا" لا تحولا دون "دخولنا العصر".
ولقد كان ثبات الدين كفعل تأثير في المجال العام أحد البواعث المهمة في ظهور اتجاهات النقد للحداثة، فهذا المفكر السوسيولوجي الفرنسي آلان تورين في كتابه: «نقد الحداثة» وبعدما يؤكد العودة الكبرى للأديان في البلاد الأكثر تحديثاً كما في البلاد المتأثرة بقوة التحديث الإجباري، يشير إلى أن تلك العودة «تستدعي استجواباً نقدياً لفكرة الحداثة كما تطورت»([1])، ويضيف قائلاً «لو رفضنا العودةَ للتراث والجماعة يكون لزاماً علينا أن نبحثَ عن تحديد جديد للحداثة وتفسير جديد لتاريخنا الحديث الذي غالباً ما يختزل في المسار الضروري التحرري لصعود العقل والعَلْمَنة»([2]).
الموقف ذاته يذهب إليه الانتربولوجي البريطاني آرنست غلنر في كتابه: «ما بعد الحداثة والعقل والدين» ولكن بعمق أكبر وتخصص أدق، فهو وبعدما يؤكد عودة الدين في العديد من بلدان العالم، يشير إلى مسألة غاية في الأهمية، وهي أن عودة الأديان في الحضارات الثلاث عدا الحضارة الإسلامية، هي في معظم الأحوال عودة لها «مضمون اجتماعي واقعي وليس غيبياً متعالياً» وأن الدين ينشط ويقوى في بلدان هذه الحضارات من أمريكا إلى الصين إلى الهند «حين يصبح مدنياً دنيوياً مرة أخرى... ولا يؤدي سوى دور عبادي مشارك في أسلوب الحياة الأمريكية»([3]). بمعنى آخر أن عودة الأديان هذه لم تمس العلمنة كحقيقه واقعة.
إلا أن إرنست غلنر يقف مستثنياً الإسلام من صورة هذه التأثيرات المتبادلة بين الظهور الجديد للأديان ولقيم الحداثة العقلية العلمانية، مفتتحاً فصلاً كاملاً لتتبع هذا الاستثناء الذي ينعته بـ «الواقعي والمؤثر والبارز» ([4])، شارحاً علّته في بيانه لما يسميه بالمبادئ الثلاثة المركزية للإسلام وهي الرسالة السماوية المقدسة، وإجماع الأمة، والإمامة الدينية المقدسة، والتي تمنحُ الحضارةَ الإسلاميةَ «المثل الغائية العليا والصورة الذاتية المتميزة», وكتطبيقٍ على ذلك يقارنُ بين بعض قيمِ وتصوراتِ الإسلام وبعض مفاهيم الحداثة. مثال الفصل بين السلطات والعلمنة وغيرها([5]).
إن هذا الخطاب الغربي النقدي لموقفِ الحداثةِ من الظاهرةِ الدينية، يختلف في سماتِهِ وبواعثِهِ عمَّا نسمِّيه بالخطاب التسووي التوائمي الذي يعيد دراسةَ هذا الموقف وتلك العلاقة بين الحداثة والظاهرة الدينية في بلداننا العربية والإسلامية. فالخطاب المحلي الجديد هو خطاب اضطراري براغماتي.
اضطراري لواقعة اصطدام هذا الخطاب "العقلاني الأداتي التكنولوجي" بصلابة الظاهرة الدينية وحركاتها وتحوُّلاَتِهَا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل وتمددها وهيمنتها على قطاعات جديدة من المجال العام. وبراغماتي لأنه مدفوع في ظننا برهاناتٍ اجتماعيةٍ وسياسويّةٍ تكتيكيةٍ أكثر منها رهاناتٍ تمسّ البنية العميقة للوعي المجتمعي.
إلا أن هذا الخطاب التسووي التوائمي وبالرغم مما تقدم من صفتيه الاثنتين، فإنه يشكّلُ مدخلاً مهماً وفاعلاً في إعادة التفكُّر في أزمة الوعي العربي الإسلامي، ومقاربة تخدمُنا في بحث معيقاتِ البنيةِ المجتمعيةِ العامة التي تحول دون التقدم والنهضة والإصلاح. كما ولَإِن بدا الحوارُ بين الخطاب الحداثي والخطاب الديني المحليين تكتيكياً للوهلة الأولى، إلا أن استمراره هنا وهناك سيدفعُ بالحوار بلا شك إلى آفاقٍ تبدو مفيدة للجميع.
ثانياً:الحداثة مدخلاً للإصلاح التربوي
بعد هذا المدخل الذي أثارَهُ عنوان "الحداثة والمؤسسات التربوية الإسلامية"، نبدأ بالسؤال الابتدائي وهو: هل تشكلُ الحداثةُ مدخلا يصلح معرفياً وسيوسيولوجياً لإصلاح التعليم الديني. أو هل هو المدخلُ الأوحدُ في ظلِّ هيمنتِهِ وإكراهاتِهِ المتعددة للإصلاح؟ وهل من مدخل جديد آخر؟
لا بد قبل البحث في هذا التساؤل ومقاربة أبعاده من بيان معنى الإصلاح وعلى ماذا يحمل؟
لماذا الإصلاح؟ هل هو شرطٌ أم حاجة؟ وما هي مبرراتُهُ وما الذي نقصدُهُ بالإصلاح؟ هل هو التحديث؟ كلِّيٌّ أَمْ جزئيٌّ؟ وهل تتقدم قطاعاتٌ أولى بالإصلاح عن غيرها؟
أسئلة كثيرة لا نزعم القدرةَ على الوفاء بالإجابة عنها في هذه الورقة، لأننا فقط نناقش العلاقةَ بين مفاهيم ثلاث هي: الحداثة، الإصلاح، والتجديد، وذلك في سياق تعلّقِهِمَا بأزمة التعليم الديني ومؤسساته.
وبداهة فنحن لا نقصدُ بالإصلاحِ التحديثَ المجتمعي العام، والذي يتم تعريفُهُ على النحو التالي: «عملية أو مجموعة من العمليات التراكمية التي تطور ـ في مجتمع ما ـ قوى الإنتاجِ وتعبّئ المواردَ والثرواتِ وتُنَمِّي إنتاجيةَ العمل، وتمركز السلطة الاجتماعية والسياسية داخل أجهزةٍ محكمةٍ، وتحرر في الآن نفسه تقاليد الممارسة السياسية من أجل المشاركة في الحياة العامة، وتؤنسن القيمَ والقوانين والنواميسَ لتجعلها علمانية صرفة فلا تخضع لأية عقيدة ولأي موقف أيديولوجي معين»([6]).
كما ولا نرى أن الإصلاح يساوي ما يمكن تسميته «بالتحديث الديني» من حيث تطوير البنى المعرفية والعقائدية المتصلة بالأديان والعلوم المتصلة بهما. لأن الحداثة في جوهر حركتها تتحققُ بانفصال «اللوغوس» أو العقل عن «الميثوس» أو الأسطورة، وتستبعدُ فلسفتها الكلاسيكيةُ اللاعقلَ بجميع مظاهره.
كما أن الإصلاح لا يرادفُ اليومَ، بعد هذه التقلبات المذهلة في عالم القوة والأفكار ما كان يعنيه في بدايات القرن العشرين على أيدي روّاد حركة الإصلاح الأوائل كالأفغاني وعبده ورشيد رضا والكواكبي وغيرهم، إذ «أن الفكرة الرئيسية التي أجمعت عليها كلُّ تيارات الحركة الإصلاحية تقول بوجود إسلام حقيقي، حجبتهُ التصورات الخاطئة للإسلام، وهي التي أدت إلى تخلفِ المسلمين في العصر الحديث... وهذا الإسلامُ قادرٌ على تصحيحِ الأوضاع المزرية، وإصلاح المؤسسات والأخلاق بشكل جذري، وهو لا يصنعُ أيَّ حواجزَ أو موانعَ تحول دون استخدام العقل بحرِّيةٍ، ولا يمنع من الاستفادةِ من العلوم الحديثة التي تؤدي دوراً فعالاً وحاسماً في إنهاضٍ الأمة. ويمكن استكشاف هذا الإسلام بطريقة علمية وتاريخية بعد إزاحة وتفكيك كل الانحرافات، والأخطاء والخرافات، و"البدع" التي تراكمت في أذهان المسلمين عبر العصور المختلفة، والتي أُلصِقَت بالإسلام زوراً وبهتاناً»([7]).
إن هذه النزعة الإصلاحية الكلاسيكية كانت نزعةً تطهريةً خلاصيةً دفاعيةً من ناحية، وتنزع للحاق بركب الغربِ المتقدم والناهض من ناحية أخرى. أما الإصلاحُ العام الذي نرومُهُ اليومَ فهو المشاركة في صناعة العالم على قاعدة التواصل والاستيعاب تحقيقاً لشرط الفاعلية في التاريخ والشراكة في صنع المستقبل، دون أن يدفعنا "الإكراهُ الحضاريُّ الغربي الشاملُ" إلى الهروب والتمركز حول "الذات" دفاعاً عن "هوية مغتربة" أو ماضٍ مجيد.
وكل ما يعيق شرط الفاعلية في التاريخ على قاعدة التواصل والمساهمة والإنتاج هو ما نرومُ إصلاحَهُ والبحث في العلل الكامنة فيه.
وإذا كان النصُّ الديني وعلومه (التراث) شكّلا ومازالا الهوية القاعدية والبنية العميقة لمجموع الأمة الإسلامية، كان لزاماً أن لا يبدأ أي إصلاح إلا بوعيهما ومراجعة المعطى التراثي للأمة نقداً وتجاوزاً وصولاً لغرض البناء الجديد.
ويبقى السؤال: أي المدخلين يحققان الشرط الابستمولوجي والسيوسيولوجي للإصلاح: الحداثةُ أمِ التجديدُ؟.
نفتتحُ المداولةَ على هذا السؤال بإقرارِ مسألة هامة، وهي أن التيارَ الحداثي المحلي هو تيارٌ إكراهيٌّ صادمٌ لم يتعامل مع الظاهرة الدينية في عالمنا العربي الإسلامي بشيء من الوعي الخاص، بل كانت سمتُهُ الأبرزَ تعميم كل ممارسة قولية للحداثة الغربية حول الدين على الدين الإسلامي، ماراً في موقفه من الظاهرة الدينية بمراحل ثلاث، الأولى: الازدراءُ والاتهامُ بالتخلفِ والرجعيةِ، والثانية: التأويلُ الحداثي للنص الديني الذي اتسم بالتعسف والانتقائية، الثالثة: التوائمُ وشقُّ سبلَ الشراكة المجتمعية والسياسية النضالية.
في المقابل فقد اتسم التيار الديني في موقفه من التيار الحداثي بمراحل ثلاث أيضاً هي: الأولى: الاتهامُ بالتبعيةِ والعمالة، والثانية: النعتُ بالتغريب والتخريب, والثالثة: محاولةُ الوعي والإصلاح مع البحث عن خطاب الهوية والخصوصية.
ولمواقف الطرفين التي اتسمت إما بالإكراه والعنف، أو السذاجة والاغتراب الأثر البالغ في استمرار حالة التعثُّر المقيم سواء في تحقيق التحديث و"اللبرلة" من قبل الحداثيين، أو الأسلمةُ والإصلاحُ من قبل الإسلاميين.
وتجاوزاً لهذا الإرث الصراعي التدافعي ولمقابلة سؤالنا الإبتدائي المتقدم يلزمنا الوعي بالحداثة وعياً موضوعياً تاريخياً بعيداً عن منطقي التمجيد أو التهوين.
وعليه فلن يلزمنا إن كان جوابُنَا على السؤال بالإيجاب حشد إنجازاتٍ الحداثة في العقلنة والأتمتة والتنظيم.. الخ كما يصوِّرُها "الاستبدادُ الحداثي المستنيرُ"، كما لن يلزمنا إن كان جوابُنا بالسلبِ حشد إخفاقاتها والحفر على أزماتها، كما يقدمُها خطابُ الحداثة البعدية الذي أتى على أُسُسِهَا الفلسفيةِ قبلَ آثارها المحلية أو الكونية.
المطلوبُ عندَ مقاربتِنَا للحداثّةِ في علاقتها بالإصلاح الديني الإسلامي الوعي بالحداثة لا في سياق تجلياتها المختلفة في بلدان المنشأ ـ إن صحَّ التعبيرُ ـ بل الأهمُّ الوعي بها عندما تتجاوزُ الحدودَ «وتصبو إلى التوحيد لتهيمن على الحضاراتِ الأخرى فتبدو كأنها كونيةٌ عالميةٌ، أو قل «علمية» بما أنها تقنيةٌ، صالحة لكل زمان ولكل مكان. أصبحت الحداثة تعني إذن مَحْقُ الاختلافاتِ والتغيّرات والتجدد، تعني توحيدَ نمط العيش بحسب أنموذج الحياة الغربية، تعني إقحامُ الحضارات المختلفةِ إقحاماً، باسم التنمية في اتجاه واحد هو اتجاه الحضارة الصناعية»([8]).
إن أحد أهم معضلات الحداثة في علاقتها بالمجال الخارجي، أي بأنماط الحياة المختلفة في الحضارات التي لا تنتمي إلى الغرب هو في تجريد بدايات الحداثة ذاتها وكما يعبر هابرماز: فك الحداثة عن أصولها، أي عن أوروبا في العصور الحديثة وتقديمها نموذجاً عاماً لسيروراتِ التطور الاجتماعي لا يبالي الإطار بالزماني، الذي ينطبق عليه بالإضافة إلى ذلك فك العلاقة الداخلية التي تربط الحداثة بالاستمرارية التاريخية للعقلانية الغربية([9]).
إن الوعيَ بالحداثةِ كحركة تاريخية معينة نتجت عن مسار فكري ترتَّبَ عليه وانبثقَ منه نمطٌ جديدٌ من المعقولية ومن وعي العالمِ الغربي بغربيته وبكونيته، يدفعنا إلى اعتبارها نسقٍ تاريخي يتواصلُ ويستمرُ مع أنساقٍ لاحقةٍ بفعل طاقتِهِ النقدية والتجاوزية في الفكر والعمل أكثر من كونها فكرة أو خطاب أيديولوجي يتم التبشير به تماثلاً بوحي السماء.
هذا الوعي على هذه الشاكلة يقرر أنه لا توجد في حركة الحداثة التاريخية وما أعقبها وسبقها مفهوم منجز ونهائي يقاس عليه الإصلاح الديني وينسج على منواله الأمر، الذي إذا ما تمّ أُنجرَ الإصلاح وتحقق المراد ودخل المسلمون العصرَ.
كما أنها حركةٌ تحمِلُها قوى وعواملٌ اجتماعيةٌ وسياسيةٌ وعسكريةٌ، وتحميها نظمٌ كبرى وتحالفاتٌ عظمى عابرةٌ للقارات. وليست دعاوى ثقافية أخلاقية وهذا لا ينفي بالطبع كون الحداثة تحملُ منظومةَ مفاهيميةَ وقيمية للإنسان والحياة والعالم.
علينا الوعي كيف تستحيل الحداثة عند خروجها من مجالها الجغرافي أيديولوجيا للهيمنة وإرادة للهيمنة وليست إرادةً للمعرفة وإرادة للتغير فحسب، وهو ما يشكلُ ثابتاً في نمط تكوين الحداثة ونمط عملها وزحفها على الحضارات المجاورة.
ولم تظهر إرادةُ الهيمنة من خلال المغامرات العسكرية الخارجية فحسب بل أيضاً من خلال المسك بمعطيات التاريخ. إذ بدأ الغرب ينظِّم تصورَه للتاريخ وبدأ يقبض على مكونات الزمان فيسطِّر خط الاتجاه الذي كان يجب أن يسير فيه التاريخ متخذاً من أيديلوجيا الحداثة حركة عاملة في هذا التاريخ بدءاً من "عصر الأنوار" وانتهاء بدعاوى فوكوياما وهانتنغتون.
وتحولت جل تنظيرات الفلاسفة والمستشرقين إلى جعل أوروبا المصبّ الذي يجري نحوه نهرُ التاريخ بجميع ينابِيعِهِ وروافِدِهِ، وجعلُ التقدم الذي حصلَ ويحصلُ فيها الغاية التي يرمي التاريخُ إلى تحقيقها كما يصف ذلك المفكر العربي عابد الجابري شارحاً جملة الإقصاءات التي مارستها الذات الحداثية الغربية في وعيها بذاتها تجاه الآخر ومنها الإقصاء الجغرافي، والإقصاء العرقي، والإقصاء الفعلي، والإقصاء الحضاري([10]).
إرادة الهيمنة والإقصاء الراسخة في الحداثة في علاقتها بالخارج لا ينفي كون الحداثة تحمل منظومة مفاهيمية وقيمية للإنسان والحياة والعالم.
صحيح أن هذه المنظومة حققت التقدم والرفاه لشعوبها ولكن هل بالضرورة ستمنح "الآخر" غير الأوروبي العدالة والسعادة؟.
وإذا كانت مدخلاً للتحرر من الأشكال التراثية التقليدية فما بال النقد الذي يوجه اليوم للعلاقة المفترضة بين العقلانية والسعادة؟ وكما يعبر آلان تورين قائلاً: «أن التحرر من الرقاباتِ ومن أشكالِ السلطةِ التراثية التقليدية يسمح بالسعادةِ لكنه لا يضمنها، وهو يستدعي الحريةَ، لكنه يُخضعُها في الوقت نفسه لتنظيم ممركز للإنتاج والاستهلاك، أن التأكيد أن التقدم هو السير نحو الوفرة والحرية والسعادة، وأن هذه الأهداف الثلاثة مترابطة فيما بينها، إن ذلك ليس سوى أيديولوجية يكذبها التاريخُ باستمرار»([11]).
إن الإصلاحَ إن أُريدَ منه التحقق لا بد وأن يتمتعَ بالمشروعية، تلك المشروعيةُ التي لا تتأسّسُ إلا في قلب الإطار المرجعي المعرفي أولاً، ثم الضرورة التاريخية التي تعكسُ الحاجةَ إلى الإصلاح، وإذا كان جوهرُ الحداثةِ وروحُها ـ إن صح التعبير ـ هو فيما منحته للذاتِ المجتمعية أو الفردية من مقومات الاستقلال والابتكار والإبداع، بحيث لا تكون الذاتُ مقلدةً أسيرةً، أو يكون مجتمعٌ ما تابعاً لسواه وألعوبة بين يديه (كما يعبر قسطنطين زريق) ([12]).
أي أن جوهر الحداثة هو حريةُ الذاتِ في التجدد الذاتي والتحرر من كل استلاب أو تبعية إن للتقاليد المعيقة للتقدم، أو التقليد المعيق للإبداع، يصحُّ القولُ إذاً أن تترك الذات العربية الإسلامية حرّة تكتشف تجدُّدَها وتحررها بمعزل عن إكراهات سياقاتٍ تاريخيةٍ مخصوصةٍ خلقتها ظروفٌ تاريخيةٌ وعوامل محليةٌ وتَدَافُعُ قوى تتحكم فيها قوانينُها الخاصَّةُ وعوامِلُهَا المحددة.
وإذا كانت الحداثةُ ضدَّ الاستعارة، وضد الاستلاب، فلمَ يكون مدخل علاقتها مع المجال الخارجي لها نمطاً من الاستلاب، لماذا لا يتحقق "الاقتباس" مع قدر من التجاوز يحقق للذات المتفاعلة فاعليتها الخاصة التي تصطبغ بثقافة جوهرها؟.
لا نقول ذلك سعياً وحفاظاً على ذات نرجسية أو طمعاً في تطهرية خالصة، أو اجتراراً لخطاب الهوية المهدورة، أو علاجاً لاغتراب مُسْتحكِمٍ بل بخلافِ ذلك كله، إنه ناتجٌ عن وعي موضوعي محض بما عليه الدين في الإسلام من قيم جوهرية تمثلُ الشخصيةَ القاعديةَ للفرد ولعموم الأمة "المفترضة" والتي ستبقى تنازعُ الواقعَ حداثته المشوِّهة، أو تديُّنه الزائف، حتى يشعر بشيء من التحقُّق الممكن في نظام اجتماعي سياسي يضع الأمة في مرتَبَتِها المرجوة من المجال الداخلي الخاص، والنظام العالمي العام.
إن قيماً كأخوةِ الإيمانِ أو العقيدةِ، والوَلاء والبراء، والإيمان والشرك، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومفاهيم الأمة، والجماعة، والخلافة، والشرعية، والبيعة، هي قيم مأصولة في النص الديني المهيمن، يستحيلُ انتزاعها أو زحزحتها بسهولة وهي مركوزة في الكتاب المؤسس، النص المقدس الذي تواطأت الأمةُ على حفظه.
إن مشكلةَ الفكر الديني مع الحداثة والحداثة البعدية ليست في اقتباس طرائق العيش ونظم السياسة وأساليب التصنيع ووسائل الحرب وفنون الإدارة، وتنظيم المدن، إنها مشكلةٌ قيميةٌ تنهضُ وفقَها نظمٌ قانونية ودستورية، إنها مشكلةٌ مع التحول الجوهري عن القيم الأخروية إلى القيم الأرضية، مع نصب الكائن الإنساني معياراً للأشياءِ جميعاً (كلها) سيداً للوجود وغايته المبتغاة، ومع العقل المطلق وعقلنة الوجود بالاستقراء وللتجريب فحسب، مع الإيمان بكل الإيديولوجيات القومية والسياسية والثقافية وحدة انتظام سياسي واجتماعي إلا الدين.
وهي ذات المشكلة مع الحداثة البعدية، إذ لا يتوهم البعضُ أن النقدَ الحاد الذي مارَسَتْهُ وتمارسُه الحداثةُ البعديةُ لتطرف القيم الحداثية قد يسوي العلاقة معها ـ رغم أهميتها الاستثماريةِ الهائلةِ والمتفجرة في النقدِ والتجاوزِ والتفكيكِ ـ إذ نحن أمام اللاوضوح، وأمام النسبيةِ المطلقةِ، وأمام نفي الحقائق الموضوعية لصالح تعدد المعاني وتعدد الأصوات، وحيث لا استقرار لشيء، وحيث التأويلية ـ النرجسية المنفلتة من أي عقال، إننا ننتقل من هيمنة العقلانية المطلقة إلى النسبية المطلقة، وإلى هيمنة المعنى الذي يسبغُ على الشيء وجوده ومن ثم يحدد مكانته ووضعه. إنها «نوع من هستيريا الذاتانية،» كما يصفها رابينو. إنها تحول من الشيء إلى المعنى، من الموضوع إلى الذات.... لا شيء قابل للقياس لا شيء قابل للتحديد.
أستدرك هنا لأقول: إن توهين المعطى الحداثي مدخلٌ لإصلاح التعليم الديني في الإسلام لا يفضي بنا إلى طمأنينة جوَّانية بأن الفكرَ الإسلامي المُنْشَأ حولَ النصَّ قادرٌ على حل مشكلة الإعاقة البنوية في هذا التعليم، والمعيقةِ لكلِّ تقدمٍ أو فاعلية تاريخية إنتاجية. فالتعليم الإسلامي وكما هو مخترقٌ بالحداثة، فهو مخترقٌ بالفقاهَةِ المدرسيّةِ، وهو اختراقٌ مزدوجٌ عطّلَ وما يزالُ طاقةَ الإسلامِ التجديدية. وأبقى هذا التعليمَ قائماً على التدريب لا التعليم، على التلقين لا الإقناع، على القمع لا الحوار.
ولا نتوهم أن تجديداً مدرسياً يناظرُ في مفهومِهِ الاجتهادَ التقليدي قادرٌ على حل مشكلة التعليم، بعدما يتم إضعاف الإصلاح الحداثي مدخلاً، ذلك أن الحداثة التي صنعت مؤسسة التعليم؟ الحديث التي سلَّط عليها الفيلسوف الفرنسي فوكو سهام نقده، لا نضمن أن لا يتم إنتاجها في المجال الإسلامي وبالمواصفات والمقاييس والخصائص نفسِها، من عنفٍ رمزي وقمعٍ وتلقينٍ وتدريب.
ثالثاً: جدليةُ الأزمة والإصلاح في التعليم الديني
في مدخل أزمة التعليم الديني وإصلاحه([13])، يجدر بنا الإشارة إلى أننا لن نتجاوز التعليم الديني إلى التعليم العام، كما ونتمنى أن نوفق في إدراج مقاربتنا هذه ضمن هدف معرفي استراتيجي تجاوزاً لاتجاهين:
الأولُ: اتجاهُ التسيسِ الذي يريدُ افتتاح أزمنةٍ جديدةٍ للسيطرةِ وشل قدرة الآخر (الخصم) عن المناورة والمدافعة.
والثاني: اتجاه التبسيط والشكلانية الذي يسترخي عند تخوم أوهام يظنُّها معتقداتٍ وجوهرَ معتقدَه معطَّلاً.
كما وسنجتهدُ أن نتجاوز الوصفَ الكمي والظاهري صوب الاشتغال النقدي بأزمة التعليم الديني من مفاهيم وتوجهات ومناهج وآثار، طمعاً في تحقيق شرط الوعي المؤسس لمشروع تربوي تعليمي جديد.
نسأل بداية: أي القطاعات والمراكز تلك التي تنهضُ بدور ما في عملية التعليم الديني؟ تلك العملية التي تنتج ذواتنا وتمنحنا هويتنا وتحدد لنا قيمنا ورموزنا.
يمكننا أن نحدد تلك القطاعات على النحو التالي:
ـ تياراتُ التدين الشعبي التقليدي التي تقومُ على توريث الشائع من الأفكار والقيم وإدامة التبجيل للمشاهير من أنبياءَ، وأولياءَ، وشهداءَ وقديسين، وحراسة حدود الحلال والحرام والعيب والواجب والأصول.
وتعتبر ثقافة هذه التيارات الأكثر شيوعاً، والأعمق بنية في العامة من الجمهور، وتزداد رقعتها في الأرياف والضواحي والبادية عنها في المدينة والحواضر، وسيلتها المشافهة والتلاوة والحكاية والذكر، وسبيلها التقليد، والالتزام الحاد،والتضحية، والحفاظ على التقاليد. تجمعاتها عضوية غالباً. وهي محط اشتغال ما عداها من قطاعات وجماعات أخرى لأكثريتها وسهولة انقيادها عند إيمانها وإخلاصها المميز. وهذه التيارات أقلها تسيساً وأكثرها تأنيساً.
ـ حركات الإحياء الديني التي تتنوع وتتوزع على حركات سياسية كفاحية، وحركات اجتماعية دعوية، وحركات وعظية إرشادية.
وتقوم كافة هذه الحركات على إشاعة ثقافتها العالِمَة التي تمتلكها، وهي أكثر القطاعات تنظيماً وانضباطاً، وتتوحَّد على هدف رفع وتيرة الالتزام الديني عقائدياً وعبادياً وثقافياً وسياسياً عند العامة من الناس. إضافة إلى هدف تغيير الانتظام الاجتماعي السياسي للمجتمع وفق برامجها وسياساتها ومثالها القيمي. وتحوز هذه الحركات على إعجاب القطاع الأول كلما زادت نضاليتها ضد الظلم والفساد، وكلما كانت أهدافها مباشرة وتمسُّ حياةَ الجمهور وقضاياهم.
ـ المؤسسات الدينية الرسمية، كالمؤسسات التعليمية كالأزهر([14])، والزيتونة([15])،والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض وغيرهما، والنجف([16])، ومؤسسات الوقف الشرعي، إضافة إلى برامج التعليم الديني في المدارس والجامعات ذات التعليم العام([17]). وقد تعرضت هذه المؤسسات القديم منها والجديد إلى بسط سلطان الحكومات المحلية عليها لجهة الإنفاق، وتعيّن مسؤوليها، وسياسات التوظيف، وبرامج التعليم ومناهجه. وغدت مؤسساتٌ وظيفيةٌ تمنحُ حكوماتِ الدولِ ورؤسائها المشروعيةَ الدينيةَ. ولا تحظى هذه المؤسساتُ بثقة الغالبية لفقدانها حريتها واستقلالها ودورها الذي كانت تضطلع به قبل تأميمها من قبل السلطات الرسمية.
ـ تيار المثقفين الإسلاميين ممَّن يحملون الثقافة العالِمَة ولا ينتمون إلى أيِّ من القطاعات السابقة، ويقومون بالكتابة والدعوة والتوجيه من على منابرهم المختلفة، وهذا التيار غير متجانسٍ فمنه التقليديُّ الفقهيُّ، ومنه السلفي، ومنه المُجَدِّدُ، ومنه فئة المتوائمين الجُدُد. ولكنه تيار أقرب في آرائه وتوجُّهاته إلى حركات الإحياء الديني، وإن اختلف عنها في طرق أدائه وبعض مواقفه. ويمتاز هذا التيارُ بتركيزِهِ على الشأن الثقافي المعرفي أكثر من الشأن السياسي. أي أنه أكثر ثقافوية من حركات الإحياء وأقل تسيّساً منها.
هذه القطاعات الأربعة كلَّها تمارسُ التعليمَ الديني بشكل وبطريقة ما، وحل إشكالية وأزمة التعليم الديني المؤسسي القائم في المؤسسات الرسمية لا يعالج الأزمة ولا يؤسس لإصلاح فاعل ومؤثِّر، لأن هذا القطاع أقل القطاعات تأثيراً في ثقافة المجتمع. كما ولا يشكِّل المرجعية الرسمية للشريعة والفتوى. وذلك لأن المرجعية الإسلامية وبخاصة في أوساط التيار السني من الأمة الإسلامية مرجعية لا مركزية لجهة المركز أو الفرد، بل ينازعها الشائع: من أن العلم الديني واجبٌ في حق كل فرد مسلم، وأن النص (القرآن والسنة) هو المرجع الأساس لكل سائل لا يحول دونَهُ فقيهٌ أو عالم، ولانتفاء المؤسسة الواسطة بين الله والناس، ولعدم اشتراط التحصيل الآكاديمي المدرسي الشرعي فيمن يريد تحصيل العلوم الشرعية([18]).
ومعلوم أنّ كبار علماء الإسلام في القرون الأولى كانوا من أصحاب المهن والحرَف كما تدل عليهم أواخر أسمائهم. وهو شأن قادة وزعماء حركات الإحياء والعديد من الوعّاظ والدعاة في عصرنا الراهن لجهة عدم التخصص([19]).
كلَّ ما تقدَّم يحرِّرُ سلطة العلم الديني من أن تقبض عليها مؤسسة أو جهة أو فرد، وتمنح مشروعية القول الشرعي لكل متعلم، ويبقى العلمُ الديني ينازعُ أية سلطة تمدُّ سلطانها إليه، لأنه لا يستمدُّ سلطانه إلا من سلطته الداخلية، ومفاعيل منطقه المعرفي الخاص.
إذا كان الأمر على هذا النحو فما سبيل الإصلاح؟ وهل بذلك يستغلق التعليم الديني على تجاوز أزمته؟
قبل الإجابة على هذا السؤال نودُّ البحثَ في مظاهرِ أزمةِ التعليمِ الديني، مع الإشارة إلى أن هذه المظاهرَ لا تختص بقطاع دون آخر، ولكنها تزداد قوةً وضعفاً، حضوراً وغياباً بحسب توجهات واشتغالات وجذور كل قطاع.
وأبرز هذه المظاهر هي:
هيمنة البلاغة والإنشاء:
إذ يزداد الاهتمام في التعليم الديني باللغة لجهة التحسينات اللفظية والشواهد البلاغية والشعرية، والأساليب الإنشائية. بل ويتعداه أيضاً إلى طرق الأداء الصوتي، ويغيب الاهتمام الكافي بالموضوع محل الدرس كساحة للتدبُّر والتفكير وإعادة الإنتاج المعرفي.
ومعلوم أن الذات هي مجموع العلاقات بالإله والناس والوجود والتاريخ والدين والحياة. وإذا كانت اللغة وبلاغتها وسيلة الذات لوعي هذه العلاقات وإقامتها، تصبح اللغة وعلومها من بلاغةٍ وبديعٍ وبيانٍ وقواعد نحوية سلطةً رمزيةً تتجاوزُ في مهمتها الإبداع والإخبار، إنها تحدد رؤيتَنا للعالم وتكوّن إطارنَا المرجعي الذي نتلقى عبره العالم، أي أنها تمثّلُ حاستَنا الثقافية التي تتذوق ونرى وندرك ونعي ونحكم ونميّز عبرها وبها([20]).
لاتاريخية التلقي:
أي تقديم النصوص المنتجة حول النص المقدس نصوصاً خالصة بمعزل عن سياقات تشكُّلِها التاريخي، وارتهاناتها واشتراطاتها المعرفية والاجتماعية.
إن تقديمَ النصوص ـ أثناء العملية التربوية ـ من فتاوى وشروحٍ وتفاسير وتبيين وتأويل مرتبطةٍ بزمنٍ ومكان صدورها يحيل المتلقي للتعامل معها بمنطق تاريخي نسبي يمنحُهُ سبلَ وأدوات المساءلة والحذف والإضافة والتفكيك والتركيب ويشجعه على ممارسة العملية الإبداعية بحرية([21]).
قصور الإنتاجية المعرفية:
وذلك لأن الطالبَ في العلوم الشرعية يتلقى دون أن ينتج، يستقبل دون أن يرسل، يتعلم ليعرّف لا ليكُون، ليقلِّد لا ليجتهد، لِيستَزيد لا لِيُزيد، ليوعظ لا ليتواصل، يكتسب العلم باتجاه واحد. هو وعاءٌ فيه المبعثر من النصوص والفتاوى الذي إن نَضَحَ أعاد أقوال وفتاوى من سبقوه.
وتتسمُ العملية التربوية في العلوم الشرعية بسمات بارزة تفسر قصور الإنتاجية، منها: التلقي، والتلقين، والتكرار، والاجترار، كما ويمكن تفسير عظم هذا القصور عمّا عليه في مؤسسات ذات تعليم مديني حديث بالإشارة إلى أن ساحةَ الاشتغالِ التعليمي في العملية التربوية الدينية تتم في مجال النص وعلومه الشرعية، والتي تم إضفاء هالات وتخوم من القدسي عليها ومن حولها، يجبن طالبُ العلم من أن يقتحمها متسائلاً أو ناقداً فضلاً أن يكون متمماً أو مضيفاً. وإن تجرأ وأقدمَ على ذلك صُودرَ بجرم أقلّه قلة الأدبِ والتأدُّب، وأوسطَهُ الابتداع، وأعلاه الزندقة والمروق من الدين.
والقصور في الإنتاجية يتوضح بارزاً في رسائل التخرج التي ينجزها الطالب في شتى مراحله التعليمية وأخصها مرحلتي الماجستير والدكتوره، إذ يغلب عليها تكرار المواضيع القديمة واجترار مباحثها وتحقيق مخطوطاتها وشرح متونها وحواشيها.
وإذا كانت علامة العلم الديني الإسلامي عبر العصور هي توليد ليست مباحث جديدة فحسب بل علوماً جديدة، فإن سمة هذا العصر التعليمي الراهن التكرار والاجترار وبطريقة تسيء إلى النص التراثي وعلوم التراث إذ تأتي البحوث حواشي معاصرة دون المتون القديمة.
ضعف الحجاج المقارن:
تركز كافة مراكز وتيارات ومؤسسات التعليم الديني في تدريسها العلوم الشرعية على ما يرفد حجة مدرستها الفكرية أو الفقهية وتمارس عمليتي التهميش أو الإقصاء تجاه المدارس والاتجاهات الأخرى.
فهي إن تورعت أن تقوم بالإقصاء خشية التهمة في "موضوعيتها" و"علميتها" فإنها تلجأ إلى التهميش، أي أن تستحضر نصوص "المختلف الإسلامي" على استحياء مفردة له مساحات إما ضيقة أو هامشية أو قَصِيَّة. وتستحضر في مواجهة هذا التهميش حججها وأدلتها، لتظهر على "المختلف" دونما نزال يذكر.
وعليه فإن كافة برامج ومتون التعليم الديني يكاد يخلو منها الحجاج المقارن بين المذاهب والاتجاهات الإسلامية، مما يضعف ملكة النظر في الدليل واستجلاء الحكم منه، فضلاً عن التفلسُف والبحث في بنية النصوص وعميق دلالاتها.
إن التعليم الديني يَفقدُ بهذه الصفة الشائعة فيه تقاليد معرفية إسلامية غاية في الأهمية لمن يروم الاجتهاد والإبداع والتجديد، وهي صفة "الاشتراك في طلب الصواب" "الجدال بالتي هي أحسن" و"الحوار" ونبذ "النظر المتفرد" الذي لا يفضي إلا إلى مدرسية منغلقة جامدة لا حياة فيها.
تحوّل سلطة النص:
ونقصد بذلك بروز أولوية الشارح والمفسِّر والفقيه واللغوي والمحدث لجهة التعامل مع النص "المؤسس"، وانقطاع الصلة المباشرة والتلقي الحي بين المتعلم والنص، ويحلُّ نَصُّ الفقيهِ سلطة مهيمنةً على النص المؤسس، وتنعدم قنوات العبور إلى النص إلا عبر معبر الفقيه وحكمه ورأيه وتأويله.
وأصبح مع التراخي الزمني قول الفقيه دليلاً شرعياً، وحكماً مُبْرماً. ووقف الخطاب الفقهي العام موقفاً سلبياً حين وقف عند قول الفقيه الذي تحوّل نصاً معتبراً تجاوزه دخولاً في دائرة الممنوع (المحظور شرعاً)، و«تنتقل خصائص نص الوحي إلى نص الفقيه، الأمر الذي استدعى ـ في الخطاب الفقهي ـ قواعد الأصول والحديث لتُطبق عليه كما طُبقت على نص الوحي تماماً، ويؤسِّس لهذا التطبيق كما أُسِّسَ له في نص الوحي من قبل»([22]).
ولا يخفى أنَّ هذا الأمرَ يزيدُ جملةَ العراقيل بل والإعاقات في وجه طالب العلم إذ تزداد الحجبُ دون حرية التعامل مع النص (الوحي) أولاً، وتمنحُ الأقوالَ التي هي نتاج بشري ثقافي تاريخي احتمالي سلطةَ الإلزامِ والإتباعِ والتقيّدِ والتقليدِ.
غلبة التسييس:
ونقصدُ به ما ذهبَ إليه العلاّمةُ المغربيُّ طه عبد الرحمن بالقول:
«هو إفرادُ الجانب السياسي بالقدرة على الإصلاح والتغيير، على اعتبار أن قيمةَ الفرد تنحصرُ في الفوائد والآثار السياسية التي يتركها أو يتلقاها في نطاق اجتماعي تتشابك فيه الاختيارات المذهبية والمصالح السلطوية والتنازعات على مراكز القوة»([23]).
وقد أوغلَت الإحيائيةُ الإسلاميةُ من الناحية العملية في تسييس العِلْم الديني، الأمر الذي دعا بعضَ قياداتِها إلى الاستدراك والمراجعة. وأَمْرُ التسيُّسِ لم ينجُ منه الفقه المدرسي السلفي.
وآفات التسييس متعددةٌ منها ما يذكره عبد الرحمن من ترك الأخذ بالمعاني الروحية، وتهميش العنصر الديني والروحي في مطالبها وبرامجها وسلوكها لحساب النضالية السياسية والتناصر السياسي. إضافة إلى «ترك العمل بالقواعد الأخلاقية» لصالح براغماتية ترتدي حلّة خطابية دينية، أورثت عدم الاستقامة وترك التوسط والوقوع في التطَّرف والركود([24]).
إزاحة المعارف الحداثية:
وذلك بعدم إدراج العلوم الإنسانية من فلسفة وعلم اجتماع وعلم نفس وتربية وإنثروبولوجيا، وكذلك العلوم اللسانية الحديثة، ضمن المقررات التعليمية والمناهج التربوية التي تطبَّق في الجامعات والمعاهد الدينية. وإن تمّ وأُقرَّت بعض المواد فتكون مدخلاً عاماً لهذه المادة أو تلك وتقرر كمتطلب جامعي، وليست كمتطلب خاص بحسب جهة الاختصاص الشرعي.
والملاحظ أن ما يقرَّر من هذه المواد لا تتم إزاحته برفضه فحسب، بل إن وُجِدَ قام جهاز الرقابة المدرسي سواء تمثل بالهيئة أو المعلّم الشيخ بتمرير هذه المعرفة الحداثية عبر جهازه المفاهيمي ليقوم بعمليات عدة منها الحذف والتحوير والتهميش والسكوت وإعادة الإنتاج، بحذف ما لا يتفق مع ثقافته، ويحوّر ما لا يستوعبه، ويهمش ما يزعجه، ويسكت عن ما لا يستسيغه، ويعيد بهذه العمليات إنتاج معرفة الآخر على طريقته. وتنعدم بذلك صورتها وهويتها فضلاً عن أهميتها كما هي في استفزاز العقل، ومساءلة الأحكام، ونقد المتون، ووضع المألوف على محك النظر، وطَرْقَ مباحث جدلية، وزوايا للمعرفة مغايرة.
اتساع دوائر المطلق والمقيد:
كلما تطاول الزمن وامتد زادت معه وطأة التقليد واتسعت مساحته في التعليم الديني، واتسعت معه دوائر المطلق والمقيد والثابت والحرام والبراء. وضاقت دوائر النسبي والحر والمتحرك والحلال. وانقلبت أصول التشريع والدين من الإباحة إلى الحرمة، ومن الإطلاق إلى التقيد، ومن المسالمة إلى المجاهدة، ومن الحوار إلى المنابذة، ومن الولاء إلى البراء، ومن التواصل إلى التفاصل.
وغدا طالب العلم الديني مشدِّداً لا ميسِّراً، صَعْبَاً لا سهلاً، متبرِّماً لا بشوشاً في حال من الكآبة([25]) والاغتراب عن هذا العالم.
غياب المساءلة والنقد:
يذكرنا حال التعليم الديني بالقاعدة الصوفية التي ترسم منهاج التلقي التربوي الصوفي وهي «اجتماع، فاستماع، فاتباع»، إذ تخلو هذه العبارة من أي دعوة إلى التأمل والتدبر فضلاً عن التساؤل أو النقد. وتم نقل صورة العلاقة في الطرق الصوفية بين المريد والشيخ المعلِّم إلى الرواق الجامعي والمؤسسي لترسم العلاقة بين الطالب والمعلم الجامعي على منوالها ولكن مع خلوها من المحبة والحرص والرعاية([26]).
إن جوهرَ اشتغال العقل في العلوم هو السؤال([27])، ومن لا يحسن صياغة السؤال تُحال دونه الإجابة، وأساس المعرفة النظر والتساؤل، فيه تقلِّب الحقائق على وجوهها، وتمحَّص الأفكار.
إن المساءلةَ لا تهدف هنا تعرية ما نسميه الواقع، بل تعرية ما نسميه المعرفة، أي معرفتنا التي تكوِّن خلفيَّتَنا التي تستقبل الأشياء، وتستوعبها ضمن نسقها الفكري، فقد اعتدنا أن نفسر التعثُّر والفشل، أو الخلل والإخفاق بالرجوع إلى الخارج مجنبين ذواتنا تَحَمُّلَ أعباء المساءلة والنقد([28]). والنهوض بالاستبصار الذاتي([29]) في شأننا كله وعلى رأسه ما نتلقاه من علوم وأحكام وقيم وتوجيهات.
أما الملكة النقدية فهي شرط الإبداع الأول، وأساس الإنتاج المعرفي الجديد، إذ بلا نقد يَسْتَمْرِءُ العقلُ التكرارَ والانصياعَ والتلقي ومن ثم طاعة ما حوله ومن حوله.
العنف الرمزي والإكراه:
وجوهر هذا المظهر من مظاهر الأزمة المبالغة في بيان آداب المتعلِّم، وما يجب أن يتحلى به من أخلاق بين يدي أستاذه، حتى يغدو الطالب مكبلاً بَدَنِيّاً قبل أن يكبل عقلياً فيحذر أن يبدر منه ما يعكّر مزاج أستاذه: وتتوسع عملية قمع الذات الداخلية فيما يمتهن الطالب القدرة على التكيُّف والاستجابة التلقائية لتوقعات الآخرين.
كما لا يخفى أثر الاستثمار السيئ لبنية السلطة التراتبية داخل المؤسسة الدينية أو أثناء تلقي العلم الديني في القمع.
والقمع مستبطن في كل مواجهة للطالب في حال سؤاله، وبحثه، واختياره لموضوع تخصصه، إلى ما هناك من عمليات الاختبار الحر، والاستقلال في التفكير.
المَأْسَسَة المَدْرسيَّة:
يشكو بعضُ الباحثين التربويين من غياب «المَأْسَسَة: Institutionnalisation» المنظِّمة للعلاقات، والتفاعلات المحرِّكة للاشتغال التعليمي، باعتبار أن ما يقابلها من ظواهر الفوضى والاضطراب والتفكك تخل بشروط الإنتاج المعرفي، مرجعين السبب في غياب المأسسة إلى «واقعة غياب الأطر الفكرية والثقافية والقيمية الواضحة الأهداف والمقاصد والتوجهات، وبالتالي غياب مشروع مجتمعي وثقافي شمولي، جلي المعالم، وموجِّه للمسار العام للمجتمع في إطار رشيد عقلاني ومنظم»([30]).
ولكن الأمر نراه على خلاف ذلك، إذ أن المَأْسَسَة التي يدعو إليها الباحث مصطفى حسن على سبيل المثال، هي مَأْسَسَة قاتلة للحرية وللإبداع ولفضاءات التفكير الرَحب، وإن "المَأْسَسَة المَدْرسيَّة" أثقل ما تكون في المؤسسات الدينية، وذواتنا مصاغَة ومكبلة بهذا الثقل المؤسسي في كل زاوية من زوايا المجتمع والدولة، ولا يُغني أن نَنْعَتَهَا بالرشد والعقلانية حتى تَسْتَحيل إلى مَأْسَسَة تمنح الحرية، إن كل مَأْسَسَة ضبط بطريقة ما، وعنف رمزي مباشر وغير مباشر بألف حال وحال.
ثم ما هو طبيعة الإنتاج المعرفي الحر والنافع الذي نصبو إليه في ظل الدعوة التي يريدها دعاة المَأْسَسَة وكما جاءت في العبارة السابقة التي أحاطت المتلقي «بالأُطر المحددة» و«القيم الواضحة» و«المشروع الشمولي» و«الإطار الرشيد المنظَّم».
إن الإمامَ محمد عبده في دعوته لإصلاح التعليم دعا إلى أن يترك الطالب حراً فمن حقه أن يحضر، ومن حقه أن يغيب، ولا يسأله الأستاذ عن سبب غيابه، كما لا يسأله عن تحصيله، ولا عن مقدار فهمه([31]). فأنظر أين دعوى مستنيري اليوم من إصلاحيي القرن الماضي.
تلك هي بعض ملامح أزمة التعليم الديني، وهي مظاهر لأزمة شائعة تشمل القطاعات الأربع التي افتتحنا ببيانها محور الأزمة والإصلاح، وهي مظاهر لأزمة كارثية لأنها تصيب العقل من الأمة، فإذا كان هذا هو حال العقل المعرفي الذي ينتج المعرفة وينتج ذواتَنا والذي يدعي المرجعية والمشروعية والهيمنة، فكيف يمكن للإنسان أن يُنْتِج أو يُحقق فاعليتَه في صناعة التاريخ أو يساهم في تشكيل المستقبل، إنها إعاقة وأية إعاقة، ولكن ما السبيل إلى تجاوزها؟
رابعاً: التجديد مدخلاً للإصلاح التربوي
ينهض النظام التربويُ الإسلامي في كافة علومه من توحيد وتشريع (فقه)، وتفسير وحديث على النص الديني المؤسِّس ممثَّلاً في القرآن الكريم والسنة النبوية، بل إن كافة هذه العلوم الشرعية مضافاً إليها علوم اللغة العربية، تشكَّلت وأخذت بُنيتها العامة بالتفاعل مع النص وآثار فعله في الفرد والمجتمع والعالم.
وإذا كانت مظاهر أزمة التعليم الديني هي مظاهر تتعلق من حيث الابتداء بهذه العلوم الشرعية إن لجهة تأسيسها، أو لجهة طرق أدائها وتلقيها، فإن الإصلاح التربوي لا بد وأن ينهض بهذه العلوم التي تشكّل بنية الوعي الإسلامي.
وعند تأملنا لفئات القطاعات الأربع التي تقوم بالتربية والتعليم الدينيين سواء بثقافتها العالِمَة أو الشعبية، فإنها ما من نص تنشأه أو خطاب تقدمه أو فكر تسعى لتعميمه إلا ويروم القَبُول والتصديق وإثبات الحجيَّة على صدقه ومنفعته.
ولذلك يتوسل عادة بما هو عند المتلقي مصدراً لشرعية هذا الخطاب وصوابيته، أي أنه يؤسس خطابه على مقتضى ما يجد.