سماحة الإسلام

سماحة الإسلام

محمد عمارة*

هلة واللين، في الأشياء والمعاملات، دونما انتظار مقابل أو ثمن، أو حاجة إلى جزاء.

فشارع الإسلام -سبحانه وتعالى- قد شرعه لهداية العالمين، ولتحقيق مصالحهم الشرعية المعتبرة، ومقاصد شريعة هذا الإسلام هي تحقيق ضرورات وحاجيات وتحسينات الاجتماع الإنساني، ومطلق الإنسانية، في المعاش والمعاد.. والله -سبحانه وتعالى- غني عن الخلق، الذين شرع لهم هذا الهدى الدائم، و أفاض عليهم هذه السماحة والجود بلا مقابل، وبلا حدود..

ولهذه الحقيقة خلا الإسلام من كهانة الأحبار والرهبان، الذين استغلوا أهل دياناتهم مقابل إرشادهم إلى التدين بتلك الديانات.. فالمسلم يأخذ دينه من الشارع مباشرة، ودون مقابل، وهو يؤوب ويتوب إلى بارئه، مباشرة ودون وساطات ولا إتاوات.

ولذلك كانت السماحة صفة لصيقة بالإسلام، ومميِّزة لهذا الإسلام.. كما كانت صفة واقعية، تجسدت في أمته وحضارته وتاريخه، ولم تكن مجرد "مثاليات" استعصت على التطبيق.. وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "إني أرسلت بحنيفية سمحة" -رواه الإمام أحمد-.. و"أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة" – رواه البخاري وأحمد-..

* * *

وليس جديدا أن يكتب كاتب عن سماحة الإسلام، ولا أن يقارن بين هذه السماحة الإسلامية ونظائرها في الأنساق الدينية والفلسفية والحضارية الأخرى..

لكن الذي تريد أن تقولة هذه الصفحات هو أمر متميز تَميزّا نوعيا في الكتابة حول هذا الموضوع.. فهي تريد أن تقول من خلال الأصول والمبادئ والقواعد الإسلامية.. ومن خلال تطبيقاتها العلمية في الحضارة الإسلامية وفي التاريخ الإسلامي: إِنَّ السماحة قد بدأت في التاريخ الإنساني بظهور الإسلام، وأنها قد بلغت فيه مستوى متميزا، لا نظير له خارج الإسلام..

لقد ظهر الإسلام على يد رسوله محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- وليس في العالم دين ولا حضارة تعترف بالآخر، أو تسالم الآخرين..

ولقد تجسد هذا الإنكار المتبادل للآخر في الواقع والممارسة والتطبيق ثورات واضطهادات طفحت بها كتب التاريخ..

* * *

إن هذا الإنكار للآخر، واحتقاره واضطهاده، وتجريده من الإنسانية وحقوقها، صنعته "الحضارة" الغربية في بدايتها الإغريقية وفي طورها الروماني..

ففي "أثينا" - التي ينسبون إليها ابتداء الديموقراطية- كانت هذه الديموقراطية احتكار القلة من الفرسان الأشراف الملاك، الذين يجتمعون في ميدان أثينا، يمارسون الديموقراطية ويتمتعون بجميع حقوقها.. أما غيرهم من البشر فإنهم كانوا –برأيهم– "برابرة وهمجا" لا حظ لهم في الديموقراطية، ولا نصيب لهم من أية حقوق للإنسان!..

وكذلك كان حال هذه "الحضارة" في طورها الروماني.. فعلى الرغم من إبداعها القانوني الذي تبلور في "مدونة" الإمبراطور "جستنيان" [527-665] إلا أن هذا القانون إِنَّمَا كان حقا من حقوق السادة الفرسان والأشراف الرومان.. أما الشعوب الأخرى، فلقد كانوا –برأيهم– "برابرة" لا حقَّ لهم في أن يطبق عليهم قانون السادة الرومان!..

* * *

* وإذا شئنا الإشارة إلى "دراسة حالة تطبيقية" لهذا الذي ساد العالم من إنكار للآخر، واضطهاد كُلّ طرف لكل آخر –قبل ظهور الإسلام وإبان ظهوره– فيكفي أن نشير إلى "حالة مصر".. فلقد شاع فيها اضطهاد أتباع "أخناتون" [1380-1362 ق.م] لاتباع المعبود "آمون" فَلَمَّا انتصر أتباع "آمون" بادلوا أتباع "أخناتون" إنكارا بإنكار، واضطهادا باضطهاد..

فَلَمَّا ظهرت النصرانية وعرفت طريقها إلى مصر حول منتصف القرن الميلادي الأَوَّل، لقيت هذه النصرانية إنكارا شديدا واضطهادا اقترب من الإبادة على يد وثنية الرومان المستعمرين والوثنية المصرية.. ولقد بلغ هذا الاضطهاد الذروة في عهد الإمبراطور "قلديانوس" [245-313 ق.م]، الذي حول النصارى إلى طعام للأسود والنيران وأسماك البحار! حتى لقد أرَّخ نصارى مصر – ولا يزالون – بعهده، وسموه "عصر الشهداء"(1)!..

فلما تدينت الدولة الرومانية بالنصرانية في عهد الإمبراطور "قسطنطين" [274-337م] مارست النصرانية – الرومانية والمصرية – الاضطهاد ضد الوثنية المصرية، فهدمت معابدها، وسحلت وذبحت فلاسفتها، وأحرقت مكاتبها، وعبثت بالآثار المصرية عندما حولت بعضا منها إلى كنائس وأديرة.. حتى لقد قاد الأسقف "تيوفيلوس" –الذي تولى البطريركية المصرية ما بين سنة 385 و412م – "حملة اضطهاد عنيفة ضد الوثنيين، واتجه للقضاء على مدرسة الإسكندرية، وتدمير مكتبتها و إشعال النار فيها.. وطالت هذه الإبادة مكتبات المعابد" وتم السحل والحرق لفيلسوفة الأفلاطونية الحديثة، وعالمة الفلك والرياضيات "إناتيه" [370- 415م] "وذلك فضلا عن تحطيم التماثيل"(2)..

ثُمَّ ما لبث الإنكار والاضطهاد أن أعملا قانونهما وسيوفهما – بعد اختلاف المجامع النصرانية حول طبيعة المسيح - --عليه السلام-- – فمارست النصرانية الرومانية –"الملكانية"– الإنكار والاضطهاد ضد النصرانية المصرية –"اليعقوبية"- فهرب النصارى المصريون إلى الصحارى والمغارات والكهوف.. وهرب رأس الكنيسة المصرية البطرك "بنيامين" [1-41هـ/ 623-662م] ثلاثة عشرة عاما، حتى استدعاه وأمنه وأكرمه، وحرر كنائسه وردها إليه قائد الفتح الإسلامي "عمرو بن العاص" [50 ق هـ-43هـ/ 574-664م] فاتحا بذلك أولى صفحات كتاب السماحة والتسامح في تاريخ مصر والمصريين!..

كان هذا هو حال الدنيا، وواقع العالم، وموقف أصحاب الديانات والحضارات من الآخر عندما ظهر الإسلام سنة 610م..

لم تكن هناك سماحة مع الآخر على الإطلاق.. بل لم يكن هناك اعتراف بالآخر على الإطلاق..

فماذا قدم الإسلام في هذا الميدان؟؟..

* * *

* لقد بدأ الإسلام بوضع "لبنات عالمية إنسانية جديدة" وغير مسبوقة.. بدأ بالتأكيد على أن الله -سبحانه وتعالى- هو رب العالمين ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ (الفاتحة:1).. وليس ربّ شعب دون شعب، ولا أمة دون غيرها من الأمم.. ثُمَّ أكّد على أن الإنسان الذي كرمه الله بأن نفخ فيه من روحه ليكون ربانيا هو آدم أبو البشر أجمعين ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين﴾ (الحجر 28-29).. ولذلك فإن التكريم الإلهي هو لمطلق الإنسان ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾ (الإسراء:70).. وليس هذا التكريم حكرا لشعب من الشعوب، ولا لأبناء دين من الأديان أو حضارة من الحضارات..

ونفى الإسلام أن يكون التفاوت في مراتب القرب من الله -سبحانه وتعالى- ثَمرة "للصفات اللصيقة" –[العنصرية]- وجعل هذا التفاوت والتفاضل ثمرة لمعايير متاحة ومفتوحة أبوابها أمام كُلّ إنسان.. فالتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي معايير الصلاح في المعاش والمعاد ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ (الحجرات: 13).. و﴿ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا﴾ (النساء: 123)..

ولم يحتكر الإسلام النجاة لأبناء شريعة دون الشرائع الأخرى التي جاءت بها الرسالات السماوية في إطار الدين الإلهي الواحد، وَإِنَّمَا أكَّد على أَنَّ ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره﴾ (الزلزلة:827).. و أشار إلى أن الذين آمنوا بوحدانية الذات الإلهية، وبالغيب واليوم الآخر والحساب والجزاء، وعملوا صالحا في حياتهم الدنيا، وفق أية شريعة من الشرائع الإلهية الحقة، لا يمكن أن يستووا بالذين جحدوا الْـحَقّ بعد أن عرفوه، فكفروا بالألوهية الواحدة و بالغيب، ولم يعملوا صالحا، وتنكبوا كل شرائع السماء ﴿إن الذين آمنوا والذين هادو والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ (البقرة:62)..

ورفض الإسلام كل الفلسفات والأنساق الفكرية التي زعمت واجتمعت على أن العنف والقتل وسفك الدماء هي "غريزة.. وجبلة" مركوزة في طبيعة الإنسان.. وقرَّر أن القتال استثناء، وليس القاعدة، وشذوذ عن طبيعة الفطرة السوية، وَأَنَّهُ مكتوب ومفروض على هذا الإنسان، بل ومكروه من الإنسان الذي يرتقى إلى المستوى الحقيقي للإنسان.. قرر القرآن هذه الحقيقة غير المسبوقة، عندما قال: ﴿كتب عليكم القتال وهو كره لكم﴾ (البقرة: 216).. وبينت السنة النبوية هذه الحقيقة القرآنية عندما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تمنَّوْا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، وأكثروا ذكر الله"(رواه الدارمي)..

بل وبلغ الإسلام على هذا الدرب غير المسبوق إلى الحدِّ الذي أوجب فيه العدل حتى مع من أنكره ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجر منكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون﴾ (المائدة: 8).. ﴿ولا يجر منكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا﴾ (المائدة: 2)..

بل والعدل حتى مع من نقاتل، واعتدى علينا ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم﴾ (البقرة:194)..

كما سنَّ الإسلام قواعد "للفروسية الإسلامية" غير مسبوقة ولا ملحوقة في تاريخ الحروب.. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قد "نهى عن قتل النساء والولدان"(رواه مالك في الموطأ).. وكان إذا بعث سرية قال لهم: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله، تقاتلون من كفر بالله، لا تغلّوا – [أي لا تخوِّفوا]، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا"(رواه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ)..

ولقد صاغ أبو بكر الصديق [51ق. هـ-13هـ/ 573-624م] -رضي الله عنه- وهو على رأس دولة الخلافة الراشدة هذه السنة النبوية "وثيقة لشمائل الفروسية الإسلامية" عندما أوصى "يزيد بن أبي سفيان" [18هـ/ 629م] وهو يودعه أميرا على الجيش الذاهب إلى الشام، فقال له: "إنك ستجد قوما زعموا أَنَّهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أَنَّهُم حبسوا أنفسهم له.. وإني أوصيك بعشر: لا تقتلنَّ امرأة، ولا صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجر مثمرا، ولا تخربنَّ عامرا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إِلاَّ لمأكلة، ولا تحرقن نخلا، ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن.."(رواه مالك في الموطأ)..

فشملت أخلاقيات الفروسية الإسلامية آداب التعامل مع الإنسان والحيوان والنبات والجماد؛ لأَنَّ "الخليقة – الطبيعة" كلها حية تسبح خالقها، وإن لم نفقه لغاتها في التسبيح، فالعلاقة الإسلامية بها علاقة تآخي ورفق وارتقاء، وليست علاقة قهر وتدمير واستغلال..

وفوق كُلّ ذلك حصر الإسلام أسباب استخدام هذه الضرورة ومبرراتها، وهذا الاستثناء –القتال- في أمرين اثنين، هما:

رد العدوان عن العقيدة ليتحرر الضمير، ويكون الدين كله لله..

ورد العدوان عن الوطن – الذي هو وعاء إقامة الدين–، وذلك بردع الذين يخرجوننا من ديارنا، أو يظاهرون على إخراجنا من الديار ﴿عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم. لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إِنَّمَا ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون﴾ (الممتحنة: 7 – 9).

بل وحتى هذا القتال -الاستثنائي.. المكروه.. والمفروض– قد جعله الإسلام "تدافعا" المقصد من ورائه تعديل المواقف، وتحقيق التوازن العادل، ليحل محل الخلل الفاحش، وصولا إلى التعايش بين الفرقاء المختلفين.. وليس "صراعا" يستهدف أن يصرع طرف الطرف الآخر فيلغيه.. فالتعددية والاختلاف والتمايز سنَّة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل.. وإذا كان "الصراع" ينتهي بإلغاء هذه التعددية والقضاء على الآخر ﴿فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجز نخل خاوية. فهل ترى لهم من باقية﴾ (الحاقة: 7-8). فإن المقصد الإسلامي هو الإبقاء على التعددية، وتحقيق التوازن والتعايش بين فرقائها –بالتدافع لا بالصراع– ﴿ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم﴾ (فصلت:41).

فالتدافع سبيل للحياة، ولإصلاح الحياة.. بينما الصراع هو طريق الفناء..

* * *

صنع الإسلام ذلك كله، حتى مع المشرك الذي يعبد الأوثان والأصنام من دون الله..

أما مع أصحاب الشرائع الدينية، الذين جاء الإسلام وكل منهم ينكر الآخر، ويلعنه في صلواته، ويصب عليه ألوان الاضطهادات والإباءات –بحسبان ذلك مما يقربه إلى الله!!-.. فإن الإسلام –في تعامله مع أهل هذه الشرائع– قد أضاف إلى تقريره وحدة الألوهية والربوبية لِكُلِّ العالمين، ولكل عوالم المخلوقات..

أضاف إليها عقيدة الإيمان بكل الكتب السماوية التي نزلت.. وجميع النبوات والرسالات التي سبقت.. وسائر الشرائع الإلهية التي توالت منذ آدم إلى محمد -عليهم الصلاة والسلام-.

فوحدة الدين والملة عبر التاريخ الإنساني تجعل جميع الأنبياء أبناء أب واحد – دين واحد – وتجعل شرائعهم المتعددة تنوعا في إطار الدين الواحد – فأمهاتهم – شتى، وأبوهم – دينهم – واحد.. وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما أكد هذه الحقيقة، فقال "الأنبياء أخوة من عَلاّت، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد"(رواه البخاري ومسلم وأبو داود).. ﴿لا نفرق بين أحد من رسله﴾ (البقرة: 285).

وبهذا الأفق الإسلامي في السماحة، احتضن الإسلام الكل، وجعل الإيمان فيه شاملا لِكُلِّ ما أوحت به السماء على مرّ تاريخ الوحي إلى كل الرسل والأنبياء..

وبذلك، ولأوَّل مَرَّة في التاريخ، جعل الإسلام "الآخر" جزءا من "الذات" فتجاوز بهذا المستوى غير المسبوق في السماحة، مجرد الاعتراف بالآخرين، والقبول بالآخرين.

ولهذا كان الحديث الإيجابي، والمنصف، والموضوعي عن ما لدى الآخرين.. فكتبهم، التي يعترف علماؤهم هم بتلفيقها، ووضعها، وتحريفها(3)، لم يعمم القرآن الكريم عليها هذا التحريف، وإنما تحدث عن هذه الكتب فقال: ﴿الله لا إله إلا هو الحي القيوم. نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان﴾ (آل عمران:2-4).. وقال: ﴿وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين﴾ (المائدة: 46).

ولم ينه الإسلام الذين آثروا الشرائع الأخرى عن الاحتكام إلى ما بأيديهم من الكتب، بل أمرهم بتحكيمها ﴿وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه﴾ (المائدة:47)، ﴿وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله﴾ المائدة 43).

ووجدنا تطبيقات هذا الموقف غير المسبوق في حوار الصحابي "حاطب بن أبي بلتعة" [35 ق.هـ- 30هـ/ 586-65م] مع "المقوقس" عظيم القبط بمصر، عندما حمل كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنه 7 هـ/ 628م، فقال له: "إننا ندعوك إلى الإسلام: الكافي به الله فقد ما سواه، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكننا نأمرك به"(4)!..

كذلك بلغ الإسلام على درب العدالة الموضوعية والإنصاف، الحد الذي جعله لا يهمل الفروق الدقيقة بين فصائل وتيارات أي "آخر" من الآخرين.. فلم يعمم الأحكام ولا الأوصاف على أهل الكتاب، وإنما رأينا قرأنه الكريم يقول: ﴿من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله﴾ (آل عمران:113)، ﴿وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب﴾ (آل عمران: 199)، ﴿ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون﴾ (آل عمران: 75)، فلا يسوي القرآن، ولا يعمم الأحكام والأوصاف على فصائل أهل الكتاب وتياراتهم وفرقهم.. ثم يقعد لقاعدة "عدم التعميم" هذه، فيقول: ﴿ليسوا سواء﴾ (آل عمران:113).

ولم يقف الإسلام بهذا الأفق غير المسبوق، في السماحة والتسامح عند "الآخر" المتدينين بديانات سماوية فقط – أهل الكتاب من يهود والنصارى – وإنما امتد به ليشمل المتدينين بالديانات الوضعية.. فتركهم هم أيضا وما يدينون، وعاملهم في الدولة الإسلامية معاملة أهل الكتاب.. فعندما فتح المسلمون فارس –وأهلها مجوس يعبدون النار ويقولون بإلهين أحدهما للخير والنور والثاني للشر والظلمة– عرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب [40ق.هـ-23هـ/ 584-644م] -رضي الله عنه- أمرهم على "مجلس الشورى" الذي كان يجتمع بمجلس المدينة، في مكان محدد، وأوقات محددة.. "وكان عمر يجلس معهم فيه، ويحدثهم على ما ينتهي إليه من أمر الآفاق" والولايات والأقاليم..

فقال لأعضاء مجلس الشورى: "كيف أصنع بالمجوس"؟

فوثب عبد الرحمن بن عوف [44ق.هـ–32 هـ/ 580-652م] فقال: "أشهد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قال: سنّوا فيهم سنة أهل الكتاب"(5)..

فعوملت الديانات الوضعية معاملة الكتابية.. وجاء الفقهاء فقعدوا هذه السنة النبوية، وهذا التطبيق الراشدي لها، فقالوا: لقد كانت لهذه الديانات كتب ثُمَّ ضاعت..

وحتى ندرك سمو هذا الأفق الإسلامي الجديد في السماحة والتسامح، والذي بدأ الإسلام به التاريخ الحقيقي للسماحة في مسيرة الإنسانية وشرائعها وفلسفتها وحضارتها، نلفت الأنظار إلى حقيقة أن الإسلام لم يصنع هذا الاعتراف "بالآخر" والقبول لهذا "الآخر" وتمكين "الآخر" من إقامة عقائده.. لم يصنع الإسلام كل ذلك باعتباره مجرد "مباح" وحق من حقوق هذا "الآخر"، وإنما جعل ذلك فريضة إسلامية، وشرطا لاكتمال الاعتقاد بعقائد الإسلام!..

وأكثر من هذا، وفوقه.. فإن الإسلام لم يقف بذلك الأفق السامي، عند "الآخر" الذي يبادل الإسلام اعترافا باعتراف، وقبولا بقبول، وَإِنَّمَا صنعه مع "الآخر" الذي ينكر الإسلام ويجحده ويكفر بمقوماته، وكل الآخرين، الذين ينكر كل واحد منهم صاحبه، ويجتمعون جميعا، حتى هذه اللحظة، على إنكار الإسلام ووجوده والكفران به.. فلا يؤمنون بأن قرآنه وحي سماوي، ولا بأن رسوله مبعوث إلهي، ولا بأن ما جاء به دين إلهي –ومع كل ذلك وبرغمه كان هذا هو موقف الإسلام– غير المسبوق وغير الملحوق في الاعتراف بكل الآخرين، الذين ينكرونه ويجحدونه.. بل لقد تجاوز الاعتراف بهم، والقبول لهم، ووصل إلى حدّ جعلهم جزاء من " الذات" ذات الدين الإلهي الواحد.. وذات الأمَّة الواحدة.. بل وجعل تمكينهم من حرية إقامة جحودهم بالإسلام شرطا من شروط اكتمال عقيدة الإسلام، وإسلامية دولة الإسلام!..

فهل في تاريخ الدنيا والأمم والحضارات والشرائع والثقافات والفلسفات – قبل الإسلام وبعده – سماحة شبيهة بهذه التي بدأت بالإسلام.. والتي تفرد بها الإسلام؟؟

* * *

ولم يكن هذا الذي قرَّره الإسلام وابتكره وأنجزه مجرد "فكر نظري" كتلك الوصايا "الصوفية – المثالية" التي تضمنتها كتب سابقة على القرآن الكريم، لم تعرف طريقها إلى أية تطبيقات في ممارسات ومجتمعات الذين "حملوها فلم يحملوها.. واستحفظوا عليها فلم يحفظوها"..

وَإِنَّمَا تحول هذا الذي قرره الإسلام وابتكره إلى "حياة.. ودولة.. وحضارة.. وتاريخ"..

ففي دولة المدينة التي رأس حكومتها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نصَّ "دستورها" –[الصحيفة – الكتاب]– على التعددية الدينية لرعية هذه الدولة الإسلامية الأولى، وعلى مساواة العدل والإنصاف في حقوق المواطنة بين هذه الرعية المختلفة والمتعددة في الدين..

لقد حول الإسلام "القبائل" إلى لبنات في بناء "الأمة" الجديدة، وجعل أبناء الشرائع الدينية المتعددة لبنات أصلية في هذه الأمة الواحدة، وفي رعية هذه الدولة الإسلامية الواحدة.. حتى أن التاريخ الفكر الإسلامي لم يعرف مصطلح "الأقلية" وَإِنَّمَا عرف "الأمة الواحدة"، التي جعل الإسلام تنوعها واختلافها – في الشرائع الدينية.. وفي الشعوب والقبائل.. وفي الألوان والأجناس.. وفي الفلسفة واللغات والأقوام.. وفي المناهج والعادات والتقاليد والأعراف – سنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل.. فنصّ "دستور" الدولة الإسلامية الأولى الذي وضعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عقب الهجرة إلى المدينة على أن "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.. ومن تبعنا من يهود فإن لهم النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم.. وأن بطانة يهود ومواليهم كأنفسهم.. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.. وأن بينهم النصح والنصيحة والبر المحض من أهل هذه الصحيفة دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه"(6)..

وهكذا أسس هذا "الدستور" – في الدولة الإسلامية الأولى – لكامل المساواة والإضافات في حقوق المواطنة وواجباتها، على نحو غير مسبوق وغير ملحوق في الإطار غير الإسلامي، منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا..

ويزيد من عظمة هذا الإنجاز لهذه التعددية وهذه المساواة، أَنَّهَا لم تتم على أنقاض الأديان المختلفة، وفي ظل استبعاد هذه الأديان، كما هو الحال مع حقوق المواطنة في الدول العلمانية، وإنما هي تعددية ومساواة بين فرقاء يحتفظون بتنوعهم الديني واختلافاتهم العقائدية.. كما أن هذه التعددية وهذه المساواة في حقوق المواطنة لم تتم على أنقاض المرجعية الإسلامية، وبسبب استبعادها – كما يريد العلمانيون – وإنما الذي أنجزها هو الإسلام، والتي حكمتها هي المرجعية الإسلامية، التي نصّ عليها هذا "الدستور" عندما قال: "وأنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"(7).

* وفي أوَّل احتكاك بين هذه الدولة الإسلامية الأولى وبين النصارى، عندما اتسعت دائرة حدودها فشملت رعية نصرانية – هم نصارى "نجران"- كتب لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهدا وتعاقدا دستوريا قنن فيه هذه التعددية الدينية في رعية الدولة، وكامل المساواة والإنصاف في حقوق المواطنة وواجباتها، جاء في هذا العهد: "ولنجران وحاشيتها، ولأهل ملتها، ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية في شرق الأرض وغربها، قريبها وبعيدها، فصيحها وأعجمها، جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله، على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم، وبيعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير. لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا يحشرون [أي لا يكلفون بالقتال]، ولا يعشرون [أي لا يدفعون العشر الذي يدفعه التجار الأجانب] ولا يطأ أرضهم جيش. ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين.. وأن أحمي جانبهم، وأذب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم، ومواضع الرهبان، ومواطن السياح، حيث كانوا من جبل أو واد أو مغار أو عمران أو سهل أو رمل، وأن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا، من بر أو بحر، شرقا وغربا، بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الإسلام من ملتي (...) ولا يدخل شيء من بنائهم في شيء من أبنية المساجد ولا منازل المسلمين...

ولا خراج ولا جزية إِلاَّ على من يكون في يده ميراث الأرض مِـمَّن يجب عليه فيه للسلطان حق، فيؤدي ذلك على ما يؤديه مثله، ولا يجار عليه، ولا يحمل منه إِلاَّ قدر طاقته وقوته على عمل الأرض وعمرتها وإقبال ثمرتها، ولا يكلف شططا، ولا يتجاوز به حد أصحاب الخراج من نظرائه.

ولا يكلف أحد من أهل الذمة منهم الخروج مع المسلمين إلى عدوهم لملاقاة الحروب ومكاشفة الأقران، فإنه ليس على أهل الذمة مباشرة القتال، وإنما أعطوا الذمة على أن لا يكلفوا ذلك، وأن يكون المسلمون ذبابا عنهم، وجوارا من دونهم، ولا يكرهوا على تجهيز أحد من المسلمين إلى الحرب الذي يلقون فيه عدوهم، بقوة وسلاح أو خيل، إلا أن يتبرعوا تلقاء أنفسهم، فيكون من فعل ذلك منهم وتبرع به حمد عليه، وعرف له، وكوفئ به. ولا يجبر أحد مِـمَّن كان على ملة النصرانية كرها على الإسلام ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن﴾، ويخفض لهم جناح الرحمة، ويكف عنهم أذى المكروه حيث كانوا وأين كانوا من البلاد.

ولا يحملوا من النكاح [الزواج] شططا لا يريدونه، ولا يكره أهل البيت على تزويج المسلمين، ولا يضاروا في ذلك إن منعوا خطابا و أبوا تزويجا؛ لأنَّ ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم، ومساحة أهوائهم، إن أحبوه ورضوا به. وإذا صارت النصرانية عند المسلم [زوجة] فعليه أن يرضى بنصرانيتها، ويتبع هو هواها في الافتداء برؤسائها، والأخذ بمعالم دينها، ولا يمنعها ذلك، فمن خالف ذلك وأكرهها على شيء من أمر دينها فقد خالف عهد الله، وعصى ميثاق رسوله، وهو عند الله من الكاذبين.

ولهم إن احتاجوا في مرمَّة بيعهم وصوامعهم أو شيء من مصالح أمورهم ودينهم، إلى رفد [مساعدة] من المسلمين وتقوية لهم على مرتها، أن يرفدوا على ذلك ويعانوا، ولا يكون ذلك دينا عليهم، بل تقوية لهم على مصلحة دينهم، ووفاء بعهد رسول الله، وموهبة لهم، ومنة لله رسوله عليهم.

لأني أعطيتهم عهد الله أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم، بالعهد الذي استوجبوا حق الذمام، والذب عن الحرمة، واستوجبوا أن يذب عنهم كل مكروه، حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم..".

وإذا كانت الدهشة تملك قلوب أهل هذا العصر الحاضر وعقولهم من هذا السخاء في المساواة والعدل والإنصاف الذي أعطاه الإسلام ودولته "للآخر الديني" قبل أربعة عشر قرنا، فإن هذه الدهشة – دهشة الذين لا يعرفون حقيقة الإسلام – ستزداد وتتعاظم عندما يعلمون – وتعلم الدنيا – أن الإسلام لم يطلب من هذا "الآخر الديني" مقابل كل هذا السخاء في "الحقوق" سوى "واجب واحد" هو أن يكون هذا "الآخر" لبنة في جدار الأمن الوطني والحضاري للدولة الإسلامية، وأن يكون ولاؤه كاملا للدولة والوطن، وانتماؤه خالصا للأمة، التي هو جزء أصيل فيها، وألا يكون ثغرة اختراق لحساب أي من الأعداء..

فنص ذلك العهد والميثاق الدستوري – الذي عقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع نصارى "نجران" على هذا الواجب، عندما جاء فيه:"... واشترط عليهم أمورا يجب عليهم في دينهم التمسك بها والوفاء بما عاهدهم عليه، منها: ألا يكون أحد منهم عينا ولا رقيبا من أهل الحرب على أحد من المسلمين في سره وعلانيته، ولا يأوي منازلهم عدو للمسلمين، يريد به أخذ الفرصة وانتهاء الوثنية، ولا ينزلوا أوطانهم ولا ضياعهم ولا شيء من مساكن عباداتهم ولا غيرهم من أهل الملة، ولا يرفدوا [يساعدوا] أحدا من أهل الحرب على المسلمين بتقوية لهم بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غيرهم، ولا يصانعوهم.. وإن احتيج إلى إخفاء أحد من المسلمين عندهم، وعند منازلهم، ومواطن عباداتهم، أن يؤووهم ويرفدوهم ويواسوهم فيما يعيشوا به ما كانوا مجتمعين، وأن يكتموا عليهم، ولا يظهروا العدو على عوراتهم، ولا يخلوا شيئا من الواجب عليهم"(8)..

هكذا بلغ الإسلام القمة – غير مسبوق ولا ملحوق – عندما جعل "الآخر" يحافظ على اختلافه ومغايرته، وحرس هذه المغايرة وهذا الاختلاف، وحماهما مع جعل هذا "الآخر" جزءا من "الذات" أي الأمة الواحدة، ورعية الدولة الواحدة.. وعندما جعل كل ذلك جزءا من الاعتقاد الإسلامي، والتكليف الإلهي، والسنة النبوية، والسياسة الشرعية، وعهد الله وميثاقه، وليس مجرد حق من حقوق الإنسان يمنحه حاكم ويمنعه آخرون!

* * *

* ولقد استمرت هذه السنَّة الإسلامية مرعية في الدولة الإسلامية والحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، على امتداد هذا التاريخ..

فجميع الفتوحات الإسلامية قد دارت معاركها ضد جيوش القوى العظمى الباغية والغازية التي استعمرت الشرق لعدة قرون – الفرس والروم -، ولم تحدث معركة واحدة بين جيوش الفتح الإسلامي وبين أهل البلاد التي فتحها المسلمون.. بل إن أهل هذه البلاد قد ساعدوا الجيوش الإسلامية بالدعم المادي والمعنوي، أحيانا بالقتال ضد الفرس وضد الروم، مع بقائهم على دياناتهم المغايرة للإسلام، والموافقة لديانات الفرس والروم!.. صنع ذلك أهل العراق ونصارى الشام.. وأقباط مصر..
وعندما حررت الجيوش الإسلامية بلادهم، حررت كذلك ضمائرهم من الاضطهاد الديني الذي عانوا منه عدة قرون، فتركوا –لأول مَرَّة في تاريخهم– وما يدينون، وأصبحوا جزءا من رعية الدولة الإسلامية، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وظلوا أغلبية غير مسلمة في بلادهم لعدة قرون، حتى دخل منهم من دخل في الإسلام دون إكراه، بل ودون ترهيب وفي أحيان كثيرة دون ترغيب!.. وبقي منهم على نصرانيته أو يهوديته أو زرادشتيته، شاهدين بذلك على هذه السماحة غير المسبوقة التي جاء بها الإسلام، والتي وضعتها دولته وحضارته في الممارسة والتطبيق..
وكما جعل الإسلام هذا "الآخر الديني" جزءا أصيلا من الأمَّة الواحدة، والرعية الواحدة للدولة الإسلامية، فتح أمام هذا "الآخر" باب الإسهام في بناء الحضارة الإسلامية الجديدة، وذلك بعد أن استوعب الإسلام كل المواريث الحضارية السابقة التي قهرها الغزاة – الإغريق والرومان – فأحياها الإسلام، وترجم المسلمون علومها وفنونها، فدخلت تلك المواريث في النسيج الجديد للحضارة الإسلامية الجديدة، فكان الإحياء الإسلامي لعلوم وفنون وفلسفات مدارس "الإسكندرية" و"أنطاكية" و"جند يسابور" وغيرها، الإنقاذ الإسلامي للتراث الحضاري الإنساني من القهر والضياع، الأمر الذي جعل الحضارة الإسلامية الجديدة، بالنسبة لشعوب البلاد التي دخلت في الدولة الإسلامية، الطور الجديد لحضاراتهم الوطنية والقومية التي بنوها مع المسلمين في ظلال مرجعية الإسلام.. فأصبح هذا "الآخر الديني" جزءا من "الذات " الوطنية والقومية والحضارية، مع بقاء التنوع الديني حقا مقدسا من حقوق الضمير، لا سلطان عليه إِلاَّ لله؛ لأنَّ الدين لله وحده، ولا يمكن أن يتأتى تدين حق مع أي لون من ألوان الإكراه..
* * *
وكما فتح الإسلام الأبواب أمام هذا "الآخر الديني" للإسهام في بناء الحضارة الإسلامية الجديدة، ترك هذا "الآخر" ليدير دولاب "الدولة" ودواوينها، حتى وجدنا مستشرقا ألمانيا حجة -هو "آدم متز"(1869-1917)- يشهد هذه الشهادة التي تقول: "لقد كان النصارى هم الذين يحكمون بلاد الإسلام"!(9).

ووجدنا المستشرق الإنجليزي "سير توماس أرنولد"(1864-1930م) يعلن عن سماحة الإسلام عندما يقول –وهو شديد التمسك بالنصرانية -:" إِنَّهُ من الْـحَقّ أَن نقول: إن غير المسلمين قد نعموا بوجه الإجمال في ظلِّ الحكم الإسلامي بدرجة من التسامح لا نجد لها معادلا في أوروبا قبل الأزمنة الحديثة، وإن دوام الطوائف المسيحية في وسط إسلامي يَدُلُّ على أن الاضطهادات التي قاست منها بين الحين والآخر على أيدي المتزمتين والمتعصبين كانت من صنع الظروف المحلية، أكثر مِـمَّا كانت عاقبة مبادئ التعصب وعدم التسامح"(10).

ولقد صدق على هذه الشهادة، وفصل مجملها الكاتب والمؤرخ اللبناني "جورج قرم" عندما حصر أسباب التوتر الطائفي، التي عرضت لفترات قليلة وعابرة في تاريخ المجتمعات الإسلامية في ثلاثة أسباب، فكتب يقول: "إن فترات التوتر والاضطهاد لغير المسلمين في الحضارة الإسلامية كانت قصيرة، وكان يحكمها ثلاثة عوامل:

العامل الأول: هو مزاج الخلفاء الشخصي، فأخطر اضطهادين تعرض لهما الذميون وقعا في عهد المتوكل (206-247هـ/ 821–861م) الخليفة الميال بطبعه إلى التعصب والقسوة، وفي عهد الخليفة الحاكم بأمر الله (275-411هـ/ 985-1021م) الذي غالى في التصرف معهم بشدة.

العامل الثاني: هو تردي الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية لسواد المسلمين، والظلم الذي يمارسه بعض الذميين المعتلين لمناصب إدارية عالية، فلا يعسر أن ندرك صلتهما المباشرة بالاضطهادات التي وقعت في عدد من الأمصار.

أما العامل الثالث: فهو مرتبط بفترات التدخل الأجنبي في البلدان الإسلامية، وقيام الحكام الأجانب بإغراء واستدراج الأقليات الدينية غير المسلمة إلى التعاون معهم ضد الأغلبية المسلمة.. إن الحكام الأجانب -بمن فيهم الإنجليز- لم يحجموا عن استخدام الأقلية القبطية في أغلب الأحيان ليحكموا الشعب وليستنزفوه بالضرائب –وهذه ظاهرة نلاحظها في سوريا أيضا، حيث أظهرت أبحاث "جب" و"بولياك" كيف أن هيمنة أبناء الأقليات في المجال الاقتصادي أدت إِلَى إثارة قلاقل دينية خطيرة بين النصارى والمسلمين في دمشق 1860م، وبين الموارنة والدروز في جبال لبنان 1840م و1860م.. ونهاية الحملات الصليبية قد أعقبتها في أماكن عدة أعمال ثأر وانتقام ضد الأقليات المسيحية –ولا سيما الأرمن- التي تعاونت مع الغازي.

بل إنه كثيرا ما كان موقف أبناء الأقليات أنفسهم من الحكم الإسلامي، حتى عندما كان يعاملهم بأكبر قدر من التسامح، سببا في نشوب قلاقل طائفية، فعلاوة على غلوِّ الموظفين في الابتزاز، وفي مراعاتهم وتحيزهم، إِلَى حدِّ الصفاقة أحيانا لأبناء دينهم، ما كان يندر أن تصدر منهم استفزازات طائفية بكل معنى الكلمة..."(11).

تلك هي شهادة الباحث النصراني اللبناني التي ثنَّى على شهادة المستشرق النصراني الإنجليزي.. حول أسباب التوترات الطائفية العابرة في تاريخنا الإسلامي..

وإذا شئنا وقائع من التاريخ غير ما أشار إليه "جورج قرم " شاهدة على صدق هذا التحليل والتعليل، فما علينا إِلاَّ أن ننظر فيما كتبه "المقريزي "(766-845هـ/ 1365-1441م) عن استعلاء النصارى واليهود الذين تولوا الوزارة والجباية والإداره في العصر الفاطمي(12).. وما كتبه" المقريزي " أيضا عن استقواء نصارى دمشق "بهولاكو" والتتار، وقائد التتار –النصراني الأسطوري– "كتبغا" إبان الاجتياح التتري للمشرق العربي والإسلامي.. وما أثارته هذه الخيانة من رد فعل جعل السلطان "قطز"(658هـ/ 1260م) يوقع بهم عقابا شديدا عقب الانتصار على التتار في "عين جالوت"(658هـ/ 1260م)(13).

وأن نقرأ -أيضا- ما كتبه "الجبرتي"(1167-1237هـ/ 1754-1822م) عن خيانة "المعلم يعقوب حنا"(1745-1801م) – والذي يسميه ا"الجبرتي" "يعقوب اللعين"– والفيلق القبطي الذي جنده وقاده وحارب به الشعب المصري لحساب الحملة الفرنسية التي قادها "بونابرت"(1769-1821م) ضد مصر (1213هـ/ 1798م)، وكيف "عهد الجنرال "كليبر"(1753-1800م) إلى الجنرال يعقوب أن يفعل بالمسلمين ما يشاء.. حتى تطاول هو وأنصاره على المسلمين بالسب والضرب، ونالوا منهم أغراضهم، وأظهروا حقدهم، ولم يبقوا للصلح مكانا! وصرحوا بانقضاء ملة المسلمين وأيام الموحدين!.."(14).

وما أحدثته هذه الاستجابات لغوايات الغزاة والمستعمرين من توترات طائفية في النسيج الوطني والقومي والحضاري في تلك الفترات من التاريخ..

لكنها ظلت في إطار "التوترات العابرة "، التي ارتبطت بفترات الغزو، وبالاستجابات المحدودة من قطاعات محدودة لغوايات الغزاة.. بينما ظل النسيج الوطني والقومي والحضاري مجسدا للتنوع في إطار الوحدة، وللاختلاف في إطار الأمة الواحدة، والحضارة الواحدة، والقومية الواحدة، والدولة الواحدة، تلك الجوامع التي أنجزتها سماحة الإسلام..

* * *

وإذا كان الشيء يظهر حسنه الضد.. وبضدِّها تتميز الأشياء.. فما علينا إِلاَّ أن نقارن بين هذه الأمثلة:

- مثال: انتصار الإسلام على الشرك الوثني، ذلك الذي فتن المسلمين في دينهم، وأخرجهم من ديارهم.. وعلى الخيانة اليهودية التي تحالفت مع الشرك الوثني ضد التوحيد الإسلامي.. انتصار الإسلام عليهم، في عشرين موقعة – هي التي دار فيها قتال.. ما بين سنة 2هـ وسنة 9هـ - هذا الانتصار الذي غير وجه الدنيا والحضارة والتاريخ، وكيف أن ضحايا كل هذه المعارك من الفريقين لم تتجاوز 386 قتيلا – 183 هم مجموع شهداء المسلمين و203 هم كل قتلى المشركين-!(15)..

بينما نجد الحرب الدينية – التي دامت أكثر من قرنين – داخل النصرانية ذاتها، بين الكاثوليك والبروتستانت، في القرنين السادس عشر والسابع عشر قد أبيد فيها 40 % من شعوب وسط أوروبا.. ووفق إحصاء "فولتير" [1694- 1778م] بلغ ضحاياها عشرة ملايين نصراني!(16)..

- ومثال ثان: نقارن فيه بين ترك الإسلام الناس وما يدينون به؛ لأنَّه ﴿لا إكراه في الدين﴾ (البقرة:256)، ﴿وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾ (الكهف 29)، و﴿لكم دينكم ولي دين﴾ (الكافرون 6)، و﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنها جاء ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة﴾ (المائدة: 48)، وهي المبادئ والقواعد والتشريعاَت القرآنية التي جسدتها عهود ومواثيقه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود والنصارى..

نقارن بين هذا المثال الإسلامي وبين اغتيال الكنيسة الأوروبية لحرية الاعتقاد الديني بمحاكم التفتيش التي أعملت التعذيب والسجن والإحراق والإغراق والإعدامات على الخوازيق لأكثر من ثلاثة قرون!(17)..

وكذلك، ما صنعه الملوك والأمراء والقساوسة عندما فرضوا على الناس بحد السيف ديانة النصرانية – رغم صوفيتها المسالمة وسلامها المتصوف ووصاياها بحب الأعداء ومباركة اللاعنين!-.. وبشهادة "السيرتوماس أرنولد"، فإن "شارلمان" [742-814] قد فرض المسيحية في السكسونيين بحد السيف.. وكذلك صنع الملك "كنوت" في الدانمارك.. وجماعة إخوان السيف في بروسيا.. والملك "أولاف ترايجفيسو" في جنوب النرويج.. والأمير "فلاديمير" في روسيا سنة 988م.. والأسقف "دانيال بيروفتس" في الجبل الأسود.. والملك "شارل روبرت" في المجر.. والملك "سيف الرعد" في الحبشة.. وَكُلّ هؤلاء استأصلوا المخالفين لمسيحيتهم، وقطعوا أيديهم و أرجلهم، وذبحوهم ونفوهم وشردوهم، بمجرد تدين هؤلاء الملوك والأمراء بالنصرانية!(18)..

- ومثال ثالث: نقارن فيه بين سماحة الإسلام التي جعلت الدولة الإسلامية "منتدى" تتعدد فيه الديانات والمذاهب واللغات والقوميات والأجناس والألوان، على امتداد تاريخ الإسلام، منذ دولة النبوة في المدينة المنورة وحتى هذه اللحظات.. وبين ضيق الغرب بالتعددية حتى داخل النصرانية – أي بالتعددية المذهبية – حتى أنه لم يعرف التعددية إِلاَّ على أنقاض سلطان النصرانية، وفي ظل العلمانية، ثم رأيناه – حتى في ظل هذه العلمانية، ودعاوى الحرية وحقوق الإنسان – لا يزال ضيق الصدر "بالآخر الإسلامي"(19)..

* * *

هكذا بدأت السماحة في تاريخ الإنسانية بظهور الإسلام.. وهكذا وضعت الدولة الإسلامية والحضارة الإسلامية هذه السماحة في الممارسة والتطبيق، عبر تاريخ الإسلام والمسلمين.. ومن حق المسلمين أن يباهو الدنيا بهذا المستوى الإسلامي غير المسبوق، والمنقطع النظير، في السماحة التي تجاوزت الاعتراف بالآخر – الذي يبادل الإسلام اعترافا باعتراف- إلى مستوى الاعتراف بالآخر الذي لا يعترف بالإسلام، وَإِنَّمَا يجحده وينكره ويكفر به.. والتي جعلت تمكين هذا الآخر من إقامة كفره بالإسلام جزءا من عقيدة الإسلام، وواجبا من واجبات الدولة الإسلامية.. حتى لقد بلغ الإسلام – على هذا الدرب– الحد الذي جعل فيه هذا "الآخر" جزءا لا يتجزأ من "الذات" الوطنية والقومية والحضارية، كما جعل الأقوام والأمم والشعوب والقبائل والحضارات تنوعا في إطار الإنسانية، التي أراد الله -سبحانه وتعالى- لها هذا التنوع وهذه التعددية سنة دائمة وقائمة إلى يوم الدين..

وإذا كان الضدّ يظهر حسنه الضد.. وبضدها تتميز الأشياء؛ فإن عظمة هذه السماحة الإسلامية تزداد بهاء وجلالا عندما نراها في ضوء هذا "البؤس" الذي صنعه ولا يزال يصنعه الآخرون.

وإذا كان من حق المسلمين أن يباهوا بهذه السماحة الإسلامية، فإن من شيم العقلاء وواجباتهم فقه هذه السماحة، والتعلم منها، والاستجابة إلى كلمتها الإسلامية السواء.. وذلك بدلا من شن الحروب الصليبية.. والدينية.. والحديث عن صدام الحضارات وحروب الثقافات..

وآخر دعوانا أن الحمد لله على نعمة الإسلام، وسماحة الإسلام؟

*****************************

الهوامش:

*) باحث ومفكر إسلامي من جمهورية مصر العربية.

(1) يوحنا النقيوس [تاريخ نصر ليوحينا النقيوس] ص90-95. ترجمة ودراسة وتعليق: د. عمر صابر عبد الجليل. طبعة القاهرة، سنة 2000م.

(2) المصدر السابق. ص122، 125 –130.و:د. صبري أبو الخير سليم [تاريخ مصر في العصر البيزنطى] ص40، 41، 49، 126، 163، 168. طبعة القاهرة سنة 2000م.

(3) انظر كتاب [تاريخ نقد العهد القديم من أقدم العصور حتى الآن] تحرير زلمان شازار، ص31، 33 – 35، 37- 39، 44، 50- 52، 59، 06، 65 – 68، 70- 74، 79، 80، 88، 89، 93 – 96، 98- 101، 105، 107، 111، 117، 131، 144، 145 ن 156 – 160، 162، 165، 166، 174، 186، 187، 190 – 192، 194 – 196، 205 – 207، 214، 215، 220، 222 ن 226. ترجمة: أحمد محمد هويدى. مراجعة: محمد خليفة حسن. طبعة القاهرة سنة 2000م.

(4) ابن عبد الحكم [فتوح مصر وأخبارها] ص46. طبعة ليدن سنة 1920م.

(5) البلاذري [فتوح البلدان] ص327. تحقيق: د. صلاح الدين المنجد. طبعة القاهرة سنة 1956م.

(6) [مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة] ص17-21 جمعها وحققها: د.محمد حميد الله الحيدر آبادي، طبعة القاهرة سنة 1956م.

(7) المصدر السابق: ص20.

(8) المصدر السابق: ص112، 123- 127.

(9) آدم متز [الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري] ج1 ص105. ترجمة: د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، طبعة بيروت سنة 1967م.

(10) سير توماس أرنولد [الدعوة إلى الإسلام] ص792، 730. ترجمة: د.حسن إبراهيم حسن، د.عبد المجيد عابدين، إسماعيل النحراوي، طبعة القاهرة سنة 1970م.

(11) جورج قرم [تعدد الأديان ونظم الحكم: دراسة سوسيولوجية وقانونية مقارنة] ص211 – 224. طبعة بيروت سنة 1979م – والنقل عن: د. سعد الدين إبراهيم [الملل والنحل والأعراق] ص729، 730. مطبعة القاهرة سنة 1990م.

(12) المقريزي [اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا] ص297، 298 طبعة القاهرة سنة 1967م. و [الخطط] ج2 ص123. طبعة دار التحرير – القاهرة.

(13) المقريزي [كتاب السلوك إلى دول الملوك] ج1 ق2 ص425، 432. تحقيق: د.محمد مصطفى زيادة. طبعة القاهرة 1956م.

(14) الجبرتي [عجائب الآثار في التراجم والأخبار] ج5 ص136. تحقيق: حسن محمد جوهر، عمر الدسوقي، السيد إبراهيم سالم. طبعة القاهرة 1965م.

(15) انظر: ابن عبد البر [الدرر في اختصار المغازي والسير] تحقيق: د.شوقي ضيف. طبعة القاهرة 1966م. وانظر كتابنا [الإسلام والآخر] ص65 طبعة القاهرة 2001م.

(16) انظر في هذه الحرب الدينية: ول ديورانت [قصة الحضارة] مجلد ج6 3، 4. ترجمة: د. عبد الحميد يونس. طبعة القاهرة 1971م، 1972 م، وسيروتوماس أرنولد [الدعوة إلى الإسلام] ص30- 32، 72، 73، 122 – 124، 135، 136، 141، 142، 154- 156، 223، 226، 274، 276. وبطرس البستاني [دائرة المعارف]- مادة "حروب دينية" – طبعة القاهرة الأولى. وهاشم صالح- صحيفة الشرق الأوسط – لندن- في 26- 2-2000م.

(17) د. توفيق الطويل [قصة الاضطهاد الديني في المسيحية والإسلام] ص7، 70، 73، 76، 80، 81- 83 طبعة القاهرة 1991م.

(18) [الدعوة إلى الإسلام] ص30، 32، 72، 73، 122، 144، 135، 136، 143، 154، 156، 223، 226، 274، 276.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=3

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك