التحديات التي تواجه الحوار بين المسلمين
عبد الله أحمد النعيم
أرجو أن تسمحوا لي بأن ألتزم الصراحة والتحديد المباشر في حديثي، حيث أن جدول أعمال المؤتمر والهدف الذي يرمي إليه ينطويان على درجة من الأهمية والإلحاح لا تدع لي مجالاً للتلطف في الحديث أو الدبلوماسية عندما أتناول القضايا التي يناقشها المؤتمر. وحيث أن السبب الأساسي لانعقاد هذا المؤتمر هو تطوير سبل يمكن من خلالها للحوار العربي أن يستفيد من خبرات المجتمعات الإسلامية غير العربية، فسوف ينصب تركيزي هنا على التحديات التي يجب علينا جميعاً أن نناضل من أجل التغلب عليها وصولاً إلى هذا الهدف. وعلى الرغم من اختلاف المسميات التي سأتناول من خلالها هذه التحديات، فإنها شديدة الصلة بعضها ببعض، ليس ذلك فحسب، بل إنها كذلك تتصل بقضايا أخرى يمنعني ضيق الوقت من الخوض فيها. وأود أن أوضح أيضاً أنني سأعتمد فيما أذكره من أحكام عامة على خبرتي الشخصية، ولن أستشهد بأي سند علمي أو تجريبي لإثبات ما أقول، ولست أسعى من استخدام تلك الأحكام العامة إلى تقرير أو تقييم نهائي للترابط المنطقي للقضايا التي سأذكرها فيما بعد أو مدى فاعليتها أو تأثيرها على موضوعنا. وإنما أعني بالتأكيد على قضايا معينة والربط بينها في البنود الثلاثة الأولى من هذه الورقة لأغراض المناقشة فقط،، ولكم الحق في تصحيحي إذا وجدتم أني بالغت في تقديري لهذه القضايا التي اقترحتها أو أسأت تفسيرها. أما البند الأخير من الورقة، فسوف أعرض عليكم فيه بعضاً من آرائي وتقييماتي.
1) تطبيق نظرية المركز والهامش على العرب وغير العرب:
من أخطر التحديات التي تواجه الحوار بين المسلمين ذلك الموقف الراسخ الذي يتبناه كل أطراف الحوار الإسلامي، حيث يرون أن المنطقة العربية هي المركز "الطبيعي" و"التاريخي" للحوار الإسلامي، لأنه منذ بداية التوسع الإسلامي خارج حدود الجزيرة العربية، عندما كان مقر الخلافة في المدينة، كان هناك إحساساً سائداً بأن العرب هم الأقرب لأصل الإسلام، ليس بسبب لغتهم وثقافتهم فحسب، بل لسبب أكثر عمقاً وغموضاً وهو علاقة شديدة الخصوصية بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم. وقد انعكس ذلك على المؤهلات التي أصبح من المتعارف عليه اشتراط توافرها في الإمام أو الخليفة، كما انعكس أيضاً على توتر العلاقات بين العرب والموالي في أوائل الحكم العباسي وعلى سيطرة اللغة والممارسات الثقافية العربية في تطور مفاهيم الشريعة ومؤسساتها. والغريب أن نظرية المركز والهامش أصبحت تطبق داخلياً بين المسلمين غير العرب الذين أصبحوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم ملتقين للثقافة الإسلامية التي يضعها الناطقين باللغة العربية بدلاً من أن يضعوا هم بأنفسهم فهماً جديداً للثقافة الإسلامية دع عنك أن يحاولوا التأثير على فهم العرب للشريعة الإسلامية.
أما أهمية هذا التاريخ بالنسبة لموضوعنا فهي تمتد لشقين متباينين، أولاً أن العرب عموماً ليس لديهم أي توجهات لتقصي المعارف الإسلامية خارج المنطقة العربية سواء كان ذلك في جنوب الصحراء الأفريقية أو في المناطق الآسيوية الممتدة وراء العراق، وهذا ينطبق على جميع العرب المسلمين سواءً كانوا متحفظين أو متحررين محدثين. وثانياً، أن غير العرب في المقابل لا يتوقعون الحصول على أي اهتمام من العرب في الحوار الإسلامي، ولكنهم بدلاً من ذلك ينظرون إلى العرب بعين التلميذ للأستاذ. وهذه المواقف تخدم أ÷داف الإسلاميين المتحفظين في البلدان غير العربية الذين يستغلون تلك الميزة التي يحظى بها العرب ويستقدمون خطباءً من علماء العرب أو يرسلون كوادرهم الشابة لتلقي العلم في المنطقة العربية. يضاف إلى ذلك أيضاً الانقسام بين السنة والشيعة والذي يؤدي بدوره إلى مضاعفة عامل الانقسام بين العرب وغير العرب في الحوار وما ينتج عنه من عواقب انعزالية بين الإصلاحيين والمحدثين من الشيعة.
2) تطبيق نظرية المركز والهامش في مرحلة ما بعد الاستعمار:
وهناك شكل آخر من نظرية المركز والهامش أسهم في تعميق انقسام الحوار الإسلامي في مرحلة ما بعد الاستعمار، حيث حول معظم المسلمون الذين تلقوا تعليماً غربياً تركيزهم العلمي نحو أوروبا وأمريكا الشمالية. ونظراً لأن هذا التحول حدث في شطري العالم الإسلامي العربي وغير العربي فقد كانت النتيجة المثيرة للسخرية لهذا التحول الجماعي نحو بؤرة تركيز جديدة أن أصبحت بؤرة التركيز العربية القديمة بمثابة الهامش لتلك المناطق غير الإسلامية. ومع ذلك فقد ظل العرب يتمتعون بنفس الميزة في مجال الحوار الإسلامي، بالرغم من أنها لا تتصل بالمعضلات السياسية والاقتصادية التي تواجهها المجتمعات الإسلامية في مرحلة ما بعد الاستعمار. وأدى التمزق الناتج عن هذا الانقسام الجديد إلى عواقب عديدة وواسعة الأثر في صالح المبادئ الأوروبية المعرفية والنظرية واللغوية وفي صالح المنظور الأوروبي للعالم وأسلوب الحياة الأوروبي، بعيداً عن المفاهيم التي سبق أن كانت تسود الحوار الإسلامي التقليدي.
ومن المفارقات الأخرى أن الناشطين في المجالات الفكرية والاجتماعية في مجتمعات ما بعد الاستعمار في البلاد الإسلامية تتأرجح علاقتهم بين القوى الاستعمارية الأوروبية وبين الأثر الاستعماري الجديد للإمبريالية الأمريكية على بلادهم أو الأقاليم التي ينتموا إليها. ويظهر ذلك في التوجه الكامل لمسلمي غرب أفريقيا نحو فرنسا حتى بعد عقود من نيلهم الاستقلال، وفي توجهات منطقة جنوب آسيا نحو بريطانيا والإندونيسيين نحو هولندا. ولكن كل تلك الجماعات بدأت الآن في توجيه تركيزها نحو الولايات المتحدة وأوروبا عموماً.
3) الحواجز اللغوية:
تمثل المشكلات اللغوية أحد العواقب المترتبة على الانقسام الأول للمركز والهامش الذي ذكرناه آنفاً، وذلك من منطلقين على الأقل: أولهما أن العرب لا يميلون إلى تعلم لغات المجتمعات الإسلامية غير العربية (البنغالية والأردية والإندونيسية مثلا)، بينما يميل العلماء المحافظين أو التقليديين في تلك المجتمعات إلى تعلم العربية. ثانياً أن الإصلاحيين أو التحرريين من المسلمين الذين ينتمون للمجتمعات غير العربية لا يتجنبون تعلم العربية فحسب، بل يقاومون أي تشابه بين لغتهم وبين المصطلحات العربية والمعرفة العلمية العربية، لأنهم يعتبرون ذلك بمثابة قبول التفوق والسلطوية العربية في الحوار.
أما الأثر اللغوي الثاني للانقسام ما بعد الاستعمار، فهو يقود نحو الاتجاه المعاكس، ويشجع على تعلم اللغات والمعرفة الأوروبية ويؤيد نظرة الأوروبيين للعالم وأسلوبهم في الحياة. وكلما قوت الروابط اللغوية والنظرية بين المفكرين والناشطين الاجتماعيين المسلمين وبين أوروبا وأمريكا الشمالية، كلما انحسر اهتمامهم ومعرفتهم بالحوار العربي الإسلامي لدرجة قد تصل إلى العداء الصريح في بعض الأحيان.
4) لِم وكيف تكون الوساطة حول الانقسامات في الحوار؟
حديثي عن الوساطة هنا يرجع إلى وجود توتر دائم لا يمكن حله بطريقة نهائية وحاسمة؛ فمن ناحية، هناك صلة وثيقة بين الحوار الإسلامي الذي يتناول حقوق الإنسان وما يتعلق بهذه الحقوق من قضايا، وبين اللغة العربية وثقافة النبوة والمسلمين الأوائل بشكل يجعل من المستحيل تجاهل تلك الثقافة أو تجاوزها في أي حوار إسلامي يتسم بالمعاصرة والاستقلالية. وبمعنى آخر، من الصعب أن نتخيل حواراً إسلامياً لا يُطرح موضوعه – ولو لدرجة محدودة – باللغة العربية ودون أن يتناول تاريخ المسلمين الأوائل في المنطقة العربية. ومن الناحية الأخرى، نظراً لأن الروابط التاريخية عملت على تشجيع نزعات الإمبريالية والهيمنة من جانب العرب تجاه المسلمين غير العرب، فإن هؤلاء المسلمين غير العرب أصبح لديهم رغبة – وهي رغبة مشروعة – في تقرير مصيرهم ثقافياً.
وفي غمار هذا التوتر، أصبح استخدام هذا النوع من التوسيط يستلزم تطويراً لحوار إسلامي قادر على الترابط مع اللغة العربية وتاريخ صدر الإسلام دون أن ينحدر به المستوى إلى التحول إلى مفاهيم أو حقائق تتصل بالإمبريالية العربية أو الاستقلالية الدينية. وبالرغم من أن هذه القضية تثير مشكلات فقهية ودينية لا يسعني المقام لتناولها الآن، فإني أرى من المناسب أن نلقى نظرة على تجربة أوروبا المسيحية في علاقتها باللغتين اللاتينية واليونانية التي كانت تهيمن على علوم الإنجيل، وسوف نرى أن التغير اللاهوتي والديني المطلوب هناك جاء تابعاً للتحول الاقتصادي والاجتماعي ولم يكن قائداً له. وأنا لا أطالب بتقليد هذه التجربة، لأن الإسلام يختلف عن المسيحية كما أن العالم الإسلامي يختلف عن العالم الأوروبي، ولكني أرى أنه من الممكن أن نستشف بعض الدروس ونعمل على تكييفها، واضعين في اعتبارنا أوجه التماثل والاختلاف بين الثقافتين. وقد أصبحت هذه العملية الآن أكثر واقعية من ذي قبل وذلك لشرعة التطور في عولمة المعرفة والتواصل وفي ظل إمكانية توجيه الخطط وتنسيق الجهود التي يمكننا القيام بها من خلال هذا المؤتمر.
وقد أصبح هذا القول شديد الأهمية الآن، خاصة وأن الثقافات الإسلامية غير العربية يمكنها القيام بدور تثقيفي كبير في أي حوار يتناول قضية حقوق الإنسان في الثقافات العربية الإسلامية الحالية. كما أن قضية تعلم العرب للثقافات الأخرى أصبح أكثر إلحاحاً لكلا الجانبين بسبب التفوق الذي يحظى به العرب عادة في الحوار الإسلامي على عمومه. وبمعنى آخر، فإن غياب الوساطة التي أناقشها في هذه الورقة، سيعرض المجتمعات الإسلامية لخطر الجمود الناتج عن الحوار الإسلامي السلفي المتخلف في العالم العربي، وهو ما فعله الفكر الوهابي الذي ظهر في منطقة جنوب الصحراء الآسيوية في المجتمعات الإسلامية الموجودة في جنوب وجنوب شرق آسيا، خاصة إبان النصف الثاني من القرن العشرين. بل إن العواقب السلبية للحوار الإسلامي الحالي أخطر من تلك المترتبة على الفكر الوهابي السلفي، وهذه العواقب أخذت الآن في الظهور في بعض شبكات الحوار الإسلامي مثل حزب التحرير وتنظيم القاعدة والتي زاد أثرها المدمر في مجتمعاتنا الإسلامية على أثرها المدمر في دول أوروبا وأمريكا.
أما بالنسبة لموضوع هذا المؤتمر، فإني أرى أن المجتمعات الإسلامية غير العربية ينبغي عليها أن تستثمر جهودها في تحسين نوعية الحوار الإسلامي الذي يتناول قضايا حقوق الإنسان في المجتمعات العربية الإسلامية نظراً للأهمية الحتمية لذلك الحوار على تلك المجتمعات غير العربية. وفي المقابل، فإن المجتمعات العربية في حاجة إلى التعلم من المجتمعات الإسلامية غير العربية في الحوارات المتعلقة بقضايا حقوق الإنسان بهدف تحسين هذا الحوار لديهم. وإذا قام طرفي المعادلة بدورهما على خير وجه فسوف يسهم ذلك في تعزيز الحوار الإسلامي لحقوق الإنسان بالنسبة لكلا الطرفين، حيث أن المجتمعات الإسلامية غير العربية ستتولى مساعدة نظرائها في المنطقة العربية على تحسين مستوى حقوق الإنسان لديهم، والذي سيعود في المقابل على تعزيز حماية حقوق الإنسان عندهم أيضاً. أما لو حدث العكس، وفشلت حوارات حقوق الإنسان بين المسلمين العرب وغير العرب في التواصل على النحو المذكور، فسوف يكون ذلك بمثابة سباقاً نحو الهاوية لكلاهما. وسوف تؤدي السلطة الدينية المفترضة، والتي تسيطر على الحوار العربي الإسلامي السلفي المتخلف في معظم المجتمعات الإسلامية غير العربية، إلى تقويض حقوق الإنسان في تلك المجتمعات، مما يسهم في نهاية المطاف في اضمحلال أي فرصة لأي حوار إسلامي يتناول حقوق الإنسان في المجتمعات العربية كذلك.