التجديد الإسلامي والإصلاح السياسي: أية علاقة؟
عبد الرحمن الحاج
ينظر إلى الفكر الديني في العالم الإسلامي في كثير من الأحيان باعتباره مسؤولاً عن إعاقة التحول الديمقراطي، بل ويُحمّل مسؤولية التخلف فيه، فلا يستطيع المرء أن يحصي الكتابات التي تجعل الفكر الديني والثقافة الإسلامية مسؤولة عن الاستبداد، استناداً إلى أن الفكر السني التقليدي يقوم على فكرة الخضوع و"الطاعة" شبه المطلقة للإمام، لكن هذه الرؤية "العقدية" تتسلل خارج منطق الوقائع التاريخية، فمعظم الدكتاتوريات العنيدة قامت على انقلابات "ثورية" يسارية، وحتى الفكر الانقلابي الذي تبنته الحركات الإسلامية ولد تاريخياً بعد الفكر الثوري الانقلابي اليساري والماركسي!
لقد بقي الفكر الحداثي العربي يسم الفكر لإسلامي بالتخلف لأنه يؤسس للطاعة والخضوع حتى سنوات قريبة، والطريف في هذا الأمر الآن الانقلاب من وسم الفكر الإسلامي من الطاعة إلى نقيضها، أعني التمرد والانقلاب والإرهاب، وذلك على إيقاع أحداث 11 أيلول 2001. لا نريد الخوض في تفسير هذا الانقلاب الغريب على أسس عقدة الهزيمة التي مني بها الفكر الماركسي، وتأثير "خطف" الإسلاميين الراديكاليين للروح الثورية التي كانت "يحتكرها" اليسار لنفسه.
هذان التفسيران في الحالتين للتخلف السياسي الذي يلقي المسؤولية على الفكر الديني الإسلامي هما بالضبط تفسيران أيديولوجيان، لكنهما شاعا إلى درجة بدا كل تفسير منهما ـ في وقته ـ كما لو أنه وجهة نظر "علمية".
على كل حال يقودنا هذان التفسيران إلى سؤال: هل الفكر يؤسس للتطور السياسي؟ أم أن الممارسة السياسية هي التي تؤسس للفكر؟ ذلك أن كلاً من التفسيرين السابقين مؤسس على مسلمة مفادها أن الفكر أسبق من الممارسة السياسية.
يبدو للكثيرين أن الفكر يسبق الممارسة؛ إذ يفترضون أن الترتيب المنطقي أن يكون الفكر سابق للعمل، وهكذا يذهب البعض منهم إلى أن الثورة الإيرانية مثلاً لم تكن لتأت لولا أن تراكماً فكرياً حصل قبلها، غير أن هذا التفسير الثقافوي للمسألة لا يفسر لِمَ لم تحدث حركة الإصلاح الديني منذ القرن التاسع عشر وإلى اليوم تحولاًَ ملموساً على أرض الواقع؟ أين ذهب هذا التراكم التاريخي للفكر الإصلاحي؟ صحيح أن نظرية "ماكس فيبر" تتجه إلى ارتباط ظاهرة التقدم بالتحول الفكري، لكن رؤية فيبر لا تجعل التقدم مبنياً على تراكم فكري، فقط تجد أن التقدم المادي والاقتصادي على وجه التحديد أكبر وأسرع مع وجود تحولات فكرية جديدة تتركز أساساً في فكر الإصلاح الديني.
الواقع أن الفكر الديني بوصفه فكراً شمولياً (لا أقصد المعنى السياسي للشمولية بالتأكيد) عندما يقع في حالة حصار سياسي، يبدأ بإعادة تكييف نفسه، بمعنى أنه يعيد تقييم نفسه، بحثاً عن مخارج للأزمة، وعادة ما يتنازع مفكريه نظريتان: المؤامرة، والعلة الذاتية. وبطبيعة الحال تسود فكرة المؤامرة وتلقى قبولاً واسعاً في حالة كهذه، ولهذا السبب فإن الفكر الديني السائد يتحول برمته نحو الدفاع عن الهوية، وينكمش فكر الإصلاح الديني إلى حدوده الدنيا، بل إن الفكر الإصلاحي على الرغم من أن الظروف إياها تجعله أحرص على إعادة التفكير في منحى نخبوي، ويتحول مفكروه إلى أقلية، وكتاباتهم ونصوصهم مكاناً للشبهات من قبل مفكري الهوية التقليديين. في ظروف كهذه سيكون من السذاجة الحديث عن تطور في الفكر الديني يخلق بتراكمه انفتاحاً سياسياً، أو القول بأن ردَّات الفعل السياسية الجذرية للمتدينين متمثلة في حركات إسلامية عنيفة هي ممثل لجوهر الفكر الديني، فنحن في كلا الحالتين أمام أفكار أزمات لا أكثر.
الحقيقة أن الفكر الإسلامي وثقافته وقعا في أوقات كثيرة ضحية حصارين: سياسي، وأيديولوجي متوسل بالسياسي، جعلاه خلال عقود طويلة محشوراً في زاوية الدفاع عن الهوية، إلى حد الوسواس بها، وأفقداه النمو والتطور، وما تزال آثار ذلك فاعلة حتى اليوم، وإلا كيف نفسر انطلاق الفكر الإصلاحي في فترتين متميزتين: قبل الدولة الوطنية، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي؟
في فترة ما قبل قيام الدولة الوطنية كانت مسألة الحريات السياسية متوفرة، وكانت مسألة الإصلاح الديني بمنزلة الإجابة عن تحديات التقدم الأوربي مقابل التخلف الإسلامي، وعند قيام الدولة الوطنية العلمانية والانهيار القاسي للخلافة؛ تطابقت استعادة الخلافة مع استعادة الإسلام، فثمة انهيار سياسي وإقصاء أيديولوجي للدين تراكبا في الدولة الحديثة، ومنذ ذلك الحين بدأ الفكر الديني الإصلاحي بالانحسار، وإنه لمن الملفت للانتباه أن يكون كل إرث الفكر الإصلاحي الديني منذ ذلك الوقت وإلى مطلع التسعينيات لا يعادل ما تم إنجازه في حقبة ما قبل الدولة الوطنية، وأن تكون الراديكالية الإسلامية وليدة هذه الحقبة، وتحديداً في ذروة يُسرويتها ودكتاتورياتها العنيفة في السبعينيات.. لقد شهدت حقبة السبعينيات قحطاً واضحاً في الفكر الإسلامي الإصلاحي لم يشهده في عقود قبلها.
لقد مثل سقوط لاتحاد السوفيتي سقوطاً وهزيمة منكرة للماركسية، التي كانت قد حصرت معركتها الدينية مع الفكر الإسلامي، وبسقوطها انفرجت أمام الإسلاميين معركة الهوية، لكنها لم تنفرج بشكل نهائي، فالمسألة السياسية ما تزال مستعصية على الإصلاح الجدِّي، صحيح أنه أتيح لإسلاميين في عدد كبير من البلدان الإسلامية التعبير عن تصوراتهم وقناعاتهم السياسية، لكن بقي ينظر إليهم بتوجس وريبة، ومع ذلك بدا واضحاً أن ثمة حركة ولدت من جديد في حقبة التسعينيات وهي الآن تسير بوتيرة متصاعدة، فهي تستند إلى معرفة جيدة بالفكر الحداثي الغربي ونتاجه المعرفي الجديد (بسبب موجة الترجمة للفكر الليبرالي الفلسفي والاجتماعي) كل ذلك يعني أن الانفراج السياسي والأيديولوجي لهما الدور الرئيس في نمو الفكر الإصلاحي والتجديدي الإسلامي، وإلا كيف نفسر أن الفكر الإسلامي الأكثر ليبرالية وانفتاحاً في المجال السياسي والفلسفي يتطور الآن؟.